جرجي ديمتري سرسق
على ضريحك أزهار من جنات الحب والبر جميلة، وفوق جثمانك نور من أنوار الله المقدسة الجليلة، وحولك قلوب تحترق اليوم بخورًا فيتصاعد إلى السماء أمامك ويضمخ أعلامًا أنارت لياليك وأيامك، كنت في الأمس للناس زعيمًا فأصبحت اليوم لربك كليمًا، قُرْبُك منه تعالى جهادٌ في سبيل الحق والبر والحرية، يندر مثله في بلادنا السورية.
أيها السادة
عاش فقيدنا حرًّا لا يعرف إلا الواجب سيدًا، ومات حرًّا لا يعرف غير الله عميدًا، عاش شريفًا صادقًا أبيًّا، ومات شريفًا صادقًا أبيًّا، عاش شجاعًا ومات شجاعًا؛ فقد رأيناه يبش لأصحابه ويحدثهم ضاحكًا حتى في الساعة الأخيرة الرهيبة، وقد سمعناه في اليوم الأخير من حياته الدنيا يقول لطبيبه: يا حكيم في مكتبتي رسائلُ عديدة ينبغي النظر بها فقم أنت فيها مقامي.
وليست الرسائل هذه من أشغاله الرسمية بل هي مما كان يتوارد عليه دائمًا من المظلومين والبائسين، من اللاجئين إلى رحمة في فؤاده جمة، وعدل في صدره عميم، وأريحية لا تعرف التجهيم، أجل فقد كان قلبه بحرًا تجري إليه أَنْهُرٌ من هموم الناس وشئونهم، وما رد يومًا سائلًا، وما كان إلى غير الحق والعدل مائلًا.
فيا له من خَطْب جلل أفقدنا رجلًا حقًّا قديرًا، وصديقًا صدوقًا غيورًا، وعاملًا في سبيل الحق عزومًا جسورًا، وأميرًا من أمراء الإحسان كبيرًا، وفيلسوفًا في الشدائد صبورًا شكورًا. وإن خسارة آله فيه وأصحابه لَجُزْءٌ من خسارة الأُمَّة والوطن، فلتبكه الأُمَّةُ وليبكه الوطن.
كلنا نعلم أن جرجي ديمتري سرسق لم يكن في سبيل الإنسانية قوَّالًا، بل كان فعالًا، لا يمل العمل، كان جنديًّا لا يسكره الفوز، ولا يُقعده الفشلُ، كان من الزعماء المجاهدين الذين تُكسبهم النزاهةُ والإخلاص احترام الناس أجمعين، الأصدقاء منهم والأعداء. كان خصمًا أديبًا حليمًا شريفًا، ولم يكن كخصومه حقودًا لدودًا عنيفًا، وقد نال في طريقته هذه القويمة الجميلة ما يعجز دونه أصحابُ المكايد والدسائس والأضاليل، وقد أخبرني مرة أنه رافق القنصل يومًا في زيارةٍ إلى أحد المعاهد العلمية في الثغر، فلما رآه رئيسُ ذلك المعهد بادره قائلًا: لسنا على ما أرجو بأعداء. فأجابه فقيدنا العزيز: لا أعرف غير الضلال عدوًّا.
إذا كانت هذه منزلته عند الخصوم فماذا عساها تكون عند الأنصار والأصحاب، حبذا الرجال مثله وحبذا الزعماء، وحبذا الأصدقاء — أصدقاء الإنسانية والأدب، أنصار المبادئ الشريفة الحرة السامية.
فلو جاء اليوم مَنْ أحبوه واحترموه وأكبروه كلٌّ بزهرة واحدة إلى ضريحه لَباتَ فقيدنا وحوله رُبًى من الأزهار جميلة.
ولو رفع إلى الله الدعاء له كلُّ من أحسن إليه لملأت كلمات الدعاء أرجاء السماء.
ومهما كان القبر — أيها السادة — مقرًّا أبديًّا أو جادة إلهية فإن فقيدنا لَمِمَّنْ يُقَدِّسُون القبورَ ويُنيرونها.
ومهما كانت عقيدة المرء الدينية أو العقلية في هذه العاجلة الفانية، فإن تقديسه الواجب، وتفانيَه في سبيله المجيد، لَيجعلانه من الأتقياء الأطهار، والمقربين الأبرار، ولا خوف على هؤلاء في الآخرة ولا هم يحزنون.