روح الثورة١
أيها السادة والسيدات
كنت منذ أسبوعين في الكورة فتحققت ما طالما سمعناه بطرق الانتخابات في لبنان وبالأخص في ذاك القضاء، حدثت الوجيه هناك والكاهن والفلاح فأدهشني من الكل جهرهم بما هم فيه من المفاسد السياسية جهرًا لا يقيده أدب ولا حياء.
يرشون ويرتشون ولا يخشون أمرًا، بل يفاخر الفريق منهم أن زعيمهم يبذل الأموال الطائلة في سبيل انتخابه ويضربون الأمثال تزكيةً واستبراء. وما سمعنا قبل اليوم بقوم يقترفون المآثم المدنية ويبرئون أنفسهم بالأمثال السائرة. حدثت كاهنًا في إحدى القرى فقال مجيزًا أعمال المرشحين: «اللي بِدُّو يعمل جَمَّالْ لازم يِعَلِّي بابْ دارُه.» وحدثت فلاحًا فقال مدافعًا عن صاحبه: «زعيمنا رجل الشعب، ومحبوب من الشعب، زعيمنا عدو المشايخ.»
فقلت: «ولكني سمعت أنْ بلغ من أمر زعيمكم أنه اشترى المندوب من الشعب بخمسين ليرة.»
– وأكثر يا سيدي.
– وأنه بذل ثلاثة آلاف ليرة في انتخابه.
– وأكثر يا سيدي.
– وقد قلت لي: إن الشعب يحبه كثيرًا وينصره.
– هذا مؤكد يا سيدي.
– فيا للعجب إذا كان الشعب يُحبه وينصره وقد كلفه إلى بذل ثلاثة آلاف ليرة، فكم يضطر المرشح المسكين أن يبذل من المال يا ترى لو كان الشعب يبغضه ويناهضه؟
– أوه، شيء كثير، شيء كثير.
قال هذا وهو يلف سيكارته ولم يُبالِ بما قال، كأن الرشوة عنده مثل فلاحة الأرض أمرٌ لازمٌ لا بد منه.
ثم سألته قائلًا: ألا تعلم يا رجل أن الرشوة ذنب قصاصه الحبس؟
فأجاب الفلاح الذكي: «على رأسي يا سيدي، ولكن فرجيني الحبس بالأول والحكومة اللي بتقدر تحبسني.»
فقلت في نفسي كأن هذا الفلاح قرأ السياسة على أستاذ أوروبي، الحق للقوة، إن كان في برلين أو في الكوره، ولئن أحزنني استهتاره وتحجُّر ضميره فقد سرني منه طَعْنُهُ الحكومة اللبنانية هذه الطعنة النجلاء. ولم أتمالك أن سألته سؤالًا آخر، وكان قد عمد إلى محراسه ليستأنف عمله، فقلت: إذا كنت لا تنصر زعيمك الذي تحبه كثيرًا إلا إذا رشاك فما الفضل في حبك؟
فأجاب على الفور: «هذا كلام يا سيدي، لَمَّا بيصير في فلوس ما بيعود في حب.»
وكبس على السكة برجله، ووكز الفدان بمساسه، ترح هُهُ! وعاد إلى فلاحة أرضه.
أيتها الأرض المباركة! ليت قلوب أبنائك كقلبك حية محيية، وليت ضمائر أبنائك كضميرك الذي لم يزل — والحمد لله — طيبًا متنبِّهًا متيقِّظًا، نعطيه الحبة فيُعيدها إلينا عشرين حبة وخمسين.
ولكن في الكوره فضيلةٌ جميلة غير فضيلة الأرض لا ينبغي أن أُغفل ذكرها: الكوره، على ما فيها من جهل وطغي وفساد، ترفع اليوم علم التعليم الوطني الحر في لبنان، هناك إلى جنب المفسدات السياسية عثرت على شيء من دواء أمراضنا الاجتماعية والأدبية، إذا أُحسن استعماله كان الدواءَ الشافيَ لها كلها. عرجت في عودتي على أنفه وزرت تلك الزاوية الصغيرة المقدسة فيها، القائمة فوق الصخور، على شاطئ البحر، حيث تزرع اليوم آمال الأُمَّة في الناشئة الجديدة. هناك حسنة من حسنات التعليم لم أر مثلها في لبنان، مدرسة لا طائفية ولا إكليريكية ولا أجنبية، مدرسة وطنية صغيرة في ظاهرها، كبيرة في مقاصدها، يؤمها البنات والصبيان من سائر الطوائف والملل ويتلقنون فيها تحت سقف واحد مبادئ الإخاء الحقيقي، والعلم الصحيح، والحرية الصافية، وحب الوطن المقدس، يتشربون فيها روح الألفة وروح المعرفة معا.
لست يا سادتي بماسوني، ولكن مدرسة صديقي جبران المكاري، وإن كنت لا أستحسن بعض الجزئيات في طرق التعليم فيها، إنما هي من طلائع الكلية اللادينية الوطنية الحرة التي ننشدها، والتي يتوقف عليها وعلى أمثالها إحياء المبادئ الشريفة في هذه الأُمَّة، بل إحياء روحها الوطنية المائتة، وبعث ما دفن من آمالنا، نحن الأحياء القلائل، نحن أبناؤها المبشرين ببعث مجدها، المرشدين إلى سبل الهداية فيها.
هناك فوق تلك الصخور على شاطئ البحر شاهدت طلائع ثورة في التعليم نبهتني إلى موضوعي الليلة، ولا غرو، فنحن في زمن ثوراته أكبر ما فيه، وإن لم يمسسنا الله اليوم بغير الضر منها فذلك لأن أولياء الأمر فينا لم يدركوا من مبادئها غير القشور، وأن في لبها إذا ظفرنا به لمنافع جمة وخيرًا عميمًا، لذلك اتخذتُ «روح الثورة» موضوعًا أُحدثكم به الليلة علنا نخترق القشور فنغذي بلب الحقائق عقولًا أوهنتْها الترهات، ونقوِّي بها أنفسًا أقعدها الجهل والخمول.
أيها السادة والسيدات
من فضائل أجدادنا أرباب النبابيت ما يعدُّ اليوم رذيلة، ومن وحوش الماضي الهائلة لم يبق غير هياكل في متاحف العلم والتاريخ. ومن مواعين الأسلاف أصحاب الأناقة ما لا يصلح اليوم لبيت الفلاح، ومن أديان الأقدمين الإلهية والحيوانية لم يبق غير المتهدم من أنصابها والطامس من رموزها ورسومها، إن آلهة الإنسان لَمثل مواعينه لا تصلح مدى الدهر، نشعل النار يومًا أمامها، ويومًا تحتها، ويومًا فيها. نقدم المحرقات اليوم، ونحرق المعبودات غدًا، الثابت في الحياة ثابت إلى حين، وأما الانقلاب فثابت إلى الأبد، أجل إن يدًا سرية علوية تعمل أبدًا في الأُمُور وفي الأشياء فتحولها وتغيرها وتبدل منها.
التطوُّر سنة الحياة في الجزئيات منها والكليات، في العلوم وفي الأديان في السياسة وفي الأمم، في الطبيعة وفي الناس. خذ شيئًا واحدًا من أشياء الأقدمين وقَابِلْهُ بما نشأ منه وقام اليوم مقامه فتكاد تجهل الأصل، وتدهشك درجات التحسين فيه والارتقاء، وقفتُ مرة في أحد المتاحف الأوربية أمام معرض من السلاح، فرأيت أدوات الحرب والقتال كلها مصفوفة بحسب تاريخها ورقيها، أولها النبوت الشوكي الذي قطع من الغاب لقتل وحوشها، وآخرها البارودة الحديثة التي يطلق بها عشرين مرة في الدقيقة، وقد اخترعها الإنسان لقتل الإنسان، فقلت في نفسي: وفي المستقبل تمسي البارودة هذه مثل نبوت الأولين أثرًا من الآثار، بيتها المتحف وبارودها الصدأ.
ولا شك عندي أننا وإن كنا ابتدأنا بالنبوت الشوكي وتدرجنا منه إلى الغواصات والطيارات الحربية سنتدرج أيضًا إلى الحجة والبرهان، إلى التشريع والسلم العام. ولكن الانقلابات في زمن السلم أعظمُ منها في زمن الحرب، وروح الثورة حيةٌ ثابتة أبدًا، روح الثورة كائنة في كل الأُمَم وفي كل الأماكن وفي كل الأزمنة، وهي في الناس وفي الطبيعة عاملة دائمًا، إما خفيةً وإما ظاهرة، إما هادئة وإما هائجة، إما بانية وإما هادمة.
كان الحديد جمادًا فصار في الكور حيًّا، وساعة يدخل النار يبتدئ فيه تاريخ الثورة الطبيعي، وساعة يضعه الحداد على السندان ويرفع فوقه المطرقة يبتدئ فيها تاريخها العملي، فنراه بعدها حربة، أو مدفعًا، أو معولًا، أو سندانًا. وكذلك الحجارة التي تصير كلسًا، والكلس الذي يصير طينًا، والطين الذي يصير جدرانًا، والجدران التي تصير سجنًا، والسجن الذي يصير عاملًا حسيًّا بين الطبيعة والإنسان. كيف لا وهو الحلقة الأخيرة من سلسلة الثورة الطبيعية، والفصل الأول من تاريخ الثورة المدنية، وقس على ذلك في حوادث الاجتماع وفي مظاهر الطبيعة والأكوان.
إن الزلزال أقرب نتيجة إلينا من نتائج عناصر تحت الأرض ثائرة بعضها على بعض، وإن تفجر البراكين وتساقط الشهب وفيضان الأنهار نتائج ظاهرة حسية لسلسلة حوادث بعيدة الأسباب خفية. ولا أظن حادثًا واحدًا اجتماعيًّا أو طبيعيًّا أثر في تاريخ الأُمَم أو تاريخ الأرض تأثيرًا كبيرًا وكان منفردًا في مفعولاته وعوامله عن بقية الحوادث أو منفصلًا عن السابق واللاحق من مجاري النواميس الكلية الشاملة. في تاريخ الأرض مثلًا أزمان بائدة تعرف بأزمنة الحجر والجليد والنحاس وغيرها، يفصل بعضها عن بعض حادث في الطبيعة خطير، ولكنه لا يفصلها — على ما أظن — تمامَ الانفصال. وإني لَأجسر أن أقول — وإن كنت قصير الباع في هذا العلم — إن حوادث هذه الأزمنة سلسلةٌ بعض حلقاتها خفية لا مفقودة، وقد أخفاها الحادث العظيم كما تُخفي المرجانة في السلك مكانَها. وقد يكون الحادث الخطير همزةَ وصل محيية لا همزة قطع مهلكة، فيحمل بذور الحياة من زمن إلى زمن، وينقل مبادئ الرقي من جيل إلى جيل.
وإنَّ ناموسًا كليًّا أزليًّا يغير في ماهية الحوادث إلى حد محدود ولا يتغير قطعًا، تتفجر البراكين فتقذف بحِمَمِها خارجًا فتغير تربة الأرض حولها، وقد تغير شكلها أيضًا فتجعل السهول جبالًا والجبال سهولًا، ولكنها تقف عند هذا الحد ولا تتعداه، فلا تستطيع أن تجعل البحر أرضًا أو الأرض ماءً. والطوفان كالبركان لا يخرج عن ناموسه ولا يتعداه، فالمياه إذا طمت هدمت ودمرت، فتستحيل الأرض بحرًا إلى حين، وقد تتغير تربتها وعمرانها، ولكن مركزها تحت الشمس لا يتغير.
والذي يصح في تاريخ الأرض والكائنات يصح في تاريخ الأُمَم والحكومات، فللثورة ناموسٌ، وللناموس طريقٌ، وللطريق منصات فيها عرائسُ تحمل شموعًا يوقدها الله للناس وهي شموع الزعامة والهدى. والزعامة بدونها صوت ولا عين، وسيف ولا يد، والزعيم الكبير الصادق من سار إلى غرضه في نور تلك المنصات، فيحق أن يدعى — إذ ذاك — زعيم الناس ولا يجوز أن يدعى زعيم الثورة؛ ذلك لأن الثورة سنة والزعماء مسوقون بها عاملون لها، حاملون بنودها، مستمدون من أنوارها، كل على قدر طاقته. وإذا استطاع أكبرُ تمساح في النهر أن يوقف سيره أو يغير مجراه، وإذا استطاعت النسور أن تسد فوهة البركان أو تخمد ناره؛ يستطيع الزعماء في الثورة التأثيرَ على ناموسها الذي هو روحها الحية الإلهية الأزلية.
في الأمس خطب اللورد مورلي في مجمع المؤرخين الذي التأم بلندرا — واللورد مورلي من نوادر أرباب السياسة والأدب والفكر في العالم اليوم — فقال إن للبداهة في السياسة تأثيرًا كبيرًا في تاريخ الأُمَم أي: أن رجلًا عظيمًا في كلمة يرتجلها أو في عمل يعمله بداهةً وعفو القريحة، يُغيِّر مجرى الحوادث التاريخية المهمة، قد يصح هذا في فُرُوع الحوادث لا في أُصُولِهَا، مَنْ مِنَ الزعماء كان أعظم في الارتجال من ميرابو؟ ومَن مِن أرباب السياسة كان في البداهة والإقدام أعظم من بزمرك؟ أما ميرابو فلو شاء إيقاف الثورة أو تحويل مجراها لما استطاع إلى ذلك سبيلًا، ولو خدم بزمرك غير الوحدة الألمانية لما كان فيها سريًّا عبقريًّا. لو عمر ميرابو لاستطاع — في الأكثر — تلطيف فظائع الثورة الإفرنسية، ولو مات بزمرك قبل أن يتمم عمله لتممه بعده سواه.
في الحياة ناموس يعلو به النوابغ، ولكنهم لا يعلون عليه، وإن شجاعة الرجال، وفصاحة الزعماء، وبداهة السياسيين، تؤثر بظواهر الحوادث لا بجوهرها، وعندنا من تاريخ الدولة العثمانية برهان على ذلك قريب. هذه الثورة الأخيرة — وقد تسمونها دسيسة — أسقطت الوزارة الكاملية وأودت بحياة أحد زعمائها، فهل غيرت شجاعة أنور وأصحابه شيئًا من جواهر الأمور؟ هل عززت شأن الجند؟ هل صانت شرف الأُمَّة؟ هل فازت برد غارات العدو؟ هل خلصت أدرنه؟ هل ظفرت في الأقل بصلحٍ شروطُه أحسن للدولة من الشروط التي عُرضت على الوزارة السابقة؟ ولو نهض صباح الدين وأنصاره غدًا ودكوا الوزارة الحاضرة دكًّا أيتغير يا ترى من روح الحركة الفكرية الثورية شيء جوهري؟ لا لعمري! لو وفق العثمانيون إلى أكبر زعيم في العالم لَمَا استطاع اليوم رد الطوفان، ولما استطاع اليوم سد فوهة البركان.
•••
بعد هذه الإشارة الخصوصية التي ساقني البحث إليها أعود إلى عموميات الموضوع، قلت: إن للثورة ناموسًا ثابتًا في كل الأُمَم وفي كل الأزمنة، عوامله أكثرُها خفية وبالأخص في أوقات السلم. ولا تنحصر هذه العوامل في الحكومة وفي السياسة فقط، بل هي حية محيية في كل دائرة من دوائر الحياة، بل في كل نفس بشرية راقية. ففي كل امرئ تحدث ثورات منه وعليه في ساعات من الحياة بوادهها أجمل ما فيها، فتلجُّ في النفس أصواتٌ تزعزع فيها المألوف، وتنزع منها شكيمة العادات، فتنقلها من فكر إلى فكر، ومن حال إلى حال. وهذا قسم من الحقيقة في سنة التطور؛ لأن الثورة لا تنحصر في الرجال بل نراها عاملة حتى في الأطفال، فالطفل الجائع يثور على أُمِّه عندما تُمسك عنه اللبن، حتى إذا أصاخت الأم لصراخه وأجابت طلبته يستحيل الجوع فيه شبعًا، والصراخ غناءً، هذه ثورة الطفل الطبيعية، وقد كللها النصر، أما إذا تغلبتْ شهوته على حكمة أُمِّهِ فتثور عليه معدته فيدعى الطبيب — أي: الأجنبي — لينظر في أمره، وهذه ثورة أُخرى طبيعية، سببها التفريط ونتيجتها التورط والفشل.
وما يصح في الأطفال من هذا القبيل يصح في الرجال، على أن الطبيعة أُمُّنا لا ترحمنا ولا ترثي لحالنا، ولا تتساهل بتنفيذ شرائعها فينا. إن بثورًا تظهر في جسم الإنسان لَدليل ثورة في دمه، فقد حمل الدم ما لا يستطيع حمله فرفضه ثائرًا فظهرت آثار الثورة في جلد صاحبه. وما يصح في المادة يصح في النفس، توبة الجاني ثورةٌ في نفسه كُلِّلَتْ بالفوز. الانتحار نتيجة ثورة في قلب المرء أفسد اليأس قصدها وغير الفشل نتيجتها. الراهب إذا تزوج فلثورة فيه على نذوره، والخليع إذا ترهب فلثورة فيه على شهواته. والنفس الأثيمة إذا ارتدعت واهتدت فلثورة فيها على الشر والضلال، وإذا تَسَامَتْ فلثورة فيها على الخسة والسفالة والجهالة، وقس على ذلك في كُلِّ أطوار النفس وتَقَلُّبَاتِهَا ارتقاءً وانحطاطًا.
قلت: إن روح الثورة حيةٌ عاملة في دوائر الحياة كلها، وفي كل فترة من الزمن تتجسم نتائجها فيبصرها الناس ويدركونها. خذ التجارة مثلًا، إن طرائقها وأساليبها وأدواتها اليوم غيرها منذ مائة سنة، وفروعها الجديدة المتعددة لم تخطر للفينيقيين ولا مَنْ سبقهم من التجار في بال. تدخل بيت شركة من الشركات في أُوروبا أو في أميركا اليوم فلا تجد فيه غير المكاتب والدفاتر والآلات الكاتبة والأوراق وبينها وإليها مئات من الشبان والبنات واقفين وجالسين يكتبون ويحسبون، فتظن نفسك في دائرة من دوائر الحكومة، فتسأل: ما هي تجارة هذه الشركة، فيقال لك أنْ لا تجارة لها.
وبعد أن تطلع على حقيقتها يدهشك أمرها وتستغرب ماهيتها، فتقول في نفسك: وكيف يمكنها أن تدفع رواتب عمالها الكثيرين وهي مؤسسة لفحص دفاتر التجار أو لتقدير أرباحهم، أو لنشر الإعلانات، أو لمطالعة الجرائد فتَقُص منها ما يهم عملاءها من الأخبار. وهنالك أبواب أُخرى عديدة للارتزاق ما حلم بها الإنس في الماضي ولا الجن، وهذا التفريع والتخصيص في العمل إنما هو نتيجة ثورات سلمية في طرائق التجارة القديمة. وإننا لَنشاهد أكبر مظاهرها في الولايات المتحدة، هنالك عند إشرافنا على نيويورك نرى أعلام الثورة قائمة أمامنا مجسمة في تلك الصروح الشامخة، وإن ثورة الأميركيين على الهندسة المعروفة في فن البناء القديم لَمن أظهر ثورات السلم والتجارة.
ولا أخص الأُمَّة الأميركية بكل ما نشاهده اليوم من أدلة الانقلاب ومظاهره الخطيرة، نحن في زمن عظمت فيه أعمال العقل كما عظم البناء عند الأقدمين، ففي مدنية الغرب أشكال معنوية وحسية من ضخامة الأهرام وغرابتها. هذه أبنية الأميركان وقد فاقت قلل الجبال علوًّا، وهذه اختراعات العلماء واكتشافاتهم ملأت أعلامها الأرض بحرًا وبرًّا وجوًّا. فأين منها الأهرام وأبو الهول وأين منها هياكل المصريين ومعاهد الرومان؟ أيفاخرنا الماضي بقبور أبطاله وبما تجسم من مجد ملوكه وخرافات كهانه؟
هذه معاهد العلوم ومجد أربابها مجدها، وهذه صروح لملوك الثروة ومعاهد الخير والإحسان تشفع بهم وبها، بل هذه مساعي أبطال العلم والعمل، إن آثارهم تدل عليهم. وإننا لَنراها اليوم في الشرق وفي الغرب، في أقاليم الأرض كلها وفي قطبيها، في صحاري الجنوب وفي ثلوج الشمال، في السهول قائمة وفي الجبال، في البحار ماخرة وفي الأنهار، فوق المياه تعج وتحتها، في الأثير تضجُّ وفي الفضاء، تحت المعادن تهدر وفوق السحاب. وهي كلها من فضائل الثورة العظيمة ثورة السلم والعلم، ثورة الفكر والعمل.
أجل سادتي، إن مساعيَ الإنسان في هذا الزمان عقمت أو أثمرت لجسيمة كلها عظيمة، بل هي كلها ثوروية، ومثلما تكثر فيها أسباب الرقي والمجد والسعادة تتعدد فيها أسباب البؤس أيضًا والفقر والشقاء. جئني من الماضي بحسنة أُريك من مثلها في الحاضر حسنات، جئني بسيئة أُعدِّد من شكلها سيئات. البؤس عندنا مثل النعيم كلاهما جسيم، والخير مثل الشر كلاهما عظيم. والقبيح في هذه الحياة المادية الجديدة مثل الجميل تتصل أسبابه بمساعي الإنسان العقلية المحضة، فيفسد الطمع نتائجها، وتشوه الأنانية جمال مقاصدها.
على أن ذلك لا يدعو إلى اليأس عند من يفكر في الأُمُور ويطلع على شيء من تاريخ الثورة الاجتماعية السلمية، ثورة العلم والعمل في الغرب، فإن هي إلا حديثة النشأة كثيرة المحن، وإن ما تضمره لنا الأيام من فوائدها لَأضعاف ما نشاهده منها اليوم. ولو لم تكن روح الثورة — أي: سُنَّة التطور — حية في هذه الحياة ثابتة دائمة لَما قبل الحكيم مدنية الغرب وأكبرها. كيف لا ولم تزل للعبودية فيها آثارٌ ظاهرة وأشراكٌ مهلكة، وفيها في أحياء البؤساء ظلماتٌ لا تُولِّد غير المنكرات.
كيف لا وفقر اليوم عبودية لا تقاس بعبودية الماضي، والعبد الراضي بسوء حاله غير العبد المدرك لبؤسه المتمرد على أسياده، المُطالب بما لغيره من وسائل العيش والرقي والسعادة. وهذه من حسنات مدنيتنا التي تنبه كل من عاش في ظلها ونورها وتستنهضه ليطالب — في الأقل — بما له من الحقوق المدنية والطبيعية، نعم إن روح الثورة فيها لا تقعد، وعينها لا تنام وعقلها لا يقف، ويدها لا تكلُّ أبدًا.
أما الثورة السياسية فلي كلمة وجيزة في طرق الفوز والفشل فيها، من استقرَى التاريخَ يعلم أن الثورة الحقيقية العظيمة نتائجها العميم خيرها؛ إنما تبدأ فكرًا وشعورًا، ولا يبقى من آثارها بعد أن تحدث فعلًا إلا ما كان منطبقًا على ما نضج في الأنفس والعقول، بل لا ينمو من بذورها إلا ما وافق التربة التي تُزرع فيها. مثال ذلك الجمهوريات في مدن إيطاليا في الأعصر الغابرة كجمهوريتَي فلورنسا والبندقية، وحكومة كرومويل في إنكلترا، وعروش نابوليون في أُوروبا، فإنها لم تدم طويلًا، عززها السيف حقبًا من الزمن، ثم قلبتها الفوضى، وأبادتها التقاليد الوطنية. وقد يكون نصيب جمهورية الصين اليوم نصيب تلك الحكومات القصيرة الأجل.
فالثورة الحقيقية ذات النتائج الثابتة إنما هي بنت التعاليم السديدة والمبادئ السامية لا بنت المدافع والحراب، على أن السلاح يعززها عند نشأتها، إذا جرد السيف في سبيلها مَنْ كان عارفًا ماهيتها، مدركًا بعض أسرارها، محترمًا ناموسها، مستأصلًا من التقاليد والخزعبلات ما يعترض سيرها ونجاحها.
فالانقلاب الأدبيُّ الذي يحدث أولًا في النفس ثم يتدرج منها إلى البيت، فمعاهد العلم، فدوائر الاجتماع، يولد ثورة نحتاج فيها اليوم إلى سلاح يؤيدها ويعززها، وإلا عدنا إلى ما كنا فيه. إن انقلابًا في الأخلاق والعقول، وفي طرائق التعليم والتربية، وفي دوائر الأدب والاجتماع لَيحدث الثورة الصالحة التي لا يتبعها ردُّ فعل خبيث، ولا تأتي إلا بالإصلاح الثابت الناضج المفيد.
ولكن هذا الإصلاح لا يتم بلا انقلابٍ في الأحكام، ولا يتم انقلابٌ بلا ثورة سياسية، ولا تنجح الثورة السياسية بلا ضحية، ولا تصح الضحية إن لم يكن صاحبها عالمًا بأهمية ما هو فاعل، ثابتًا بما يؤمن، مدركًا شيئًا من المذهب السياسي الاجتماعي الذي ينبغي أن ينصره بلسانه ويده، وبماله ودمه. تيقنوا هذا: إن المفاداة بالنفس لا بدَّ منها في تأسيس الأديان أو في نشر المذاهب الاجتماعية، أو في تأييد الحقائق العلمية، أو في تعزيز النهضات السياسية. إن في دم الشهيد مكروبَ الثورة، ولكنه لا ينتشر إلا إذا كانت الأجسام مستعدة له، ولا تكون كذلك إلا بعد أن تظهر فيها آثار الثورة الداخلية الهادئة، وهذه — كما قلت — تظهر في حينها ولا يمكنا أن نعجل حدوثها أو نؤجله. وقد تنمو الثورة السياسية في فساد الماضي والحاضر كما ينمو النبات في الأقذار، والاستشهاد في سبيلها يزيد بنموها لا بنمو ثمارها.
أما روح الثورة فهي واحدة في الأُمَم المتمدنة، لكن أساليبها تختلف باختلاف طبائع الأُمَم، وقد تتنوع أدواتها بحسب تقاليدهم وعاداتهم. ففي أميركا مثلًا تعمل الثورة اليوم بالفأس والمعول، وفي فرنسا بالريشة والقلم، وفي إنكلترا بالقياس والميزان، وفي ألمانيا بالمجهر، وفي إيطاليا بالخنجر، وفي روسيا بالديناميت. أما في الشرق فالثورة لم تهتدِ بعدُ إلى أدوات العمل ولم تُحسن استخدام واحدة مما ذكرت. جربنا الريشة والقلم فكنا فيهما مقلدين، جربنا القياس والميزان فكنا فيهما عابثين، لجأنا في الأستانة وفي مصر إلى الرصاص، وفي الهند إلى الديناميت، فكنا فيهما مجرمين، جربنا الثورة السلمية فكنا مخطئين، جربنا السيف والمدافع فكنا فيهما ضالين مضلين، والحق يقال: إن سلاح الثورة عندنا لم يُصقَل بعد ولم يطهر.
ولا يفوتنكم أن البادئ بالثورة السياسية يكون غالبًا إما فريستها وإما تاجرها، وقد يكون تاجرها وفريستها معًا، يأكل من مالها ثم تأكله، وقد يذهب ضحية على مذبحها، فيكون «كالتربيل» الذي يرميه الصياد في البحر فيدفع السمك إلى سطحه فيصطاده إذ ذاك قوم أشبه بالصيادين منهم بالزعماء.
الزعماء! عممت في ما قلته فيهم فأخصص. إن الهيئة الاجتماعية كالجبل، الخيرات عند قدميه، والصحة في وسطه، والمحل في رأسه، في أسفل الهيئة الاجتماعية الجهل في العمل والذل، وفي وسطها شيءٌ من التهذيب والدهاء، وفي رأسها السيادة والأثرة، يستثمر القاعدون عند أسفل الجبل الأرض فيبعثون بالغلة — ما خلا أجورهم — إلى من في رأسه، فيأخذ من في وسطه قسمًا منها لقاء دفاعهم عن حقوق الإنسان كما يزعمون.
وفي أيام الثورة السياسية يكثر في هذه الطبقة الزعماء الأدعياء طلاب السيادة والمال، فيهضمون حقوقًا يزعمون أنهم يدافعون عنها، ويسلبون من تحتهم ومن فوقهم، ويتآمرون مع السادة أصحاب النفوذ الخبيث فيتبوءون مجالسهم، مجالس الظلم والاستبداد والإثم والفساد، ويسكتونهم بشيء مما يكسبون، وفي مضايق الخداع والنفاق يتقاسمون ما يغنمون. هؤلاء الزعماء — وقد أمسوا في قمة السيادة — يصدرون أوامر هي كالصخور التي يدحرجها الصبيان من أعالي الجبال، فتحطم الأشجار في طريقها، وتسحق الأزهار، وتدمر ما غرسه الإنسان وتهدم ما بناه.
يدمرون ويفسدون، ومن فسادهم يكسبون، فهم تجار لا زعماء، يتاجرون بالسياسة وبالحرب وبالدستور، يتاجرون بأدوات الجند ومعداته، برتبه وجهالته ودينه وكسائه، بخبز يومه. يتاجرون بآمال الأُمَّة وأملاكها، يتاجرون بويلاتها وولاياتها، يتاجرون بدمها ودموعها، يتاجرون بأقدس الأشياء لديها. عفوًا سادتي فقد أحسنت إليهم في ما قلت، فلو أحسنوا التجارة في الأقل لانتفعت الأُمَّة بعض النفع بتجارتهم، ولكن دأبهم أن ينهبوا ويبيعوا ويخزنوا وكلٌّ في قلبه يقول: بعدي الطوفان.
أيُستغرب الفشل في ثورتنا، والانخذال في حزبنا اليوم، وهؤلاء السفهاء الأغمار زعماء الأُمَّة؟ ربي أَتُهلكُنا بما فعل السفهاء منا؟ أَوَتتبع الظلمة أُمَّة خرجت منها، تتلمس إلى باب النور طريقها؟ لا لعمري، فإنها وإن فسدت في أيادي الطغاة المفسدين لا تلبث أن تنتقل إلى مَنْ يُصلحها من المصلحين الصالحين، فيعززونها فتعززهم، ثم يُشعلون منها مصباحًا نيرًا صافيًا في الأُمَم.
فإنها إذا وقفت هناك وجدت مَنْ يأخذ بيدها ويهديها سواء السبيل، هناك طائفةُ الأدباء الحقيقيين العاملين بِجِدٍّ وإخلاص في سبيل الرقي والعدل والحرية، وفي سبيل العلم والحكمة والجمال. فعليهم وحدهم يتوقف تحرير الإنسان.
واعلموا أن الإنسان لا يتحرر تحررًا حقيقيًّا تامًّا إذا لم تشرب روحه الثوروية روح المعرفة والشعر والحكمة، وأن الأدباء الحقيقيين من شعراء وفلاسفة — أصحاب الفنون الجميلة وأرباب العلم والحكمة — لا ينتمون إلا إلى حزب واحد في العالم هو حزب الحق والحرية والحقيقة والجمال، ولا يكبرون ويجلون إلا فئة قليلة من الناس، روَّاد المدنية الجديدة، دعاة الثورة السلمية الاجتماعية، المهذبين المعززين المرشدين المعزين، أرباب الفنون الصادقين، النوابغ الهادين.
هؤلاء نُجلُّهم ونُكبرهم، ولا نجل من الناس سواهم، ولا يهمنا من الطوائف والملل غير المتساهلة الراقية منها، تلك التي يقف رؤساؤها عند واجباتهم فلا يَتَعَدَّونها، ويزرعون في قلوب الناس حب الحرية الأدبية والروحية قبل كل شيء، ولا يناهضون روح الثورة — أي: سنة الارتقاء المقدسة — وإنما يهمنا ويهم كل ذي شعور حي شريف أن ينتصر الهدى على الضلال، وأن تكلل الحقيقة في الفنون والجمال، يهمنا أن تُعزَّز الحرية الشخصية في كل مكان، يهمنا أن يتمتع بحق المساواة تجاه الأحكام كلٌّ من بني الإنسان، نهتم لما كان سديدًا من التعاليم، سليمًا من العقائد، ساميًا من الآراء.
أجل، إن التعاليم السديدة السامية لا تُفسد أحدًا من البشر، وهي لا تَفسد مدى الدهر، وإنَّ رُوحَ الثورة التي تتغذى دائمًا بها لا تخمد ولا تضمحلُّ، وإنما لها هجعات ولها يقظات، ومتى أنار الله مصباحها في دوائر الأدب والدين والسياسة، وشعرت الأُمَّة شعورًا حقيقيًّا صافيًا أن العدل أساس الملك، وأن العمل به واجب مقدس، وأن طلب الحقيقة وحب الجمال في الحقيقة ضرورة من ضرورات حياتها، وأن الحرية نور يومها والشجاعة هواؤها وسماؤها؛ متى أصبحت الأُمَّة تدرك هذه الجوهريات، وتَجِدُّ في طلبها وتسعى لتحقيقها، بَشِّرْها بفوز مبين في مضمار الرقي والمجد والعمران.