جهل الإنسان لحكمة الخالق
في المثل الإنكليزي «الجهل سعادة» ولكن الكتَّاب والأدباء لا يكفون عن التنديد بالجهل والتقبيح بالجهلاء، ولو كان فيما يكتبونه شيء من العلم والذكاء أو شيء من دلائل البحث والعناء لاغتفرت لهم القساوة والعماية ولكن لأقاويلهم عند الناس شيء من القبول. ولكنهم يكرهون الجهل ويحبون أنفسهم وهم عن التناقض غافلون، أولئك الأُدباء يحتقرون الجهلة الأغبياء بقدر ما عندهم من التصلف والكبرياء، وهم إذا ذكر الحجى والأدب يفاخرون وإن قيل في حضرتهم فلان عالم يرفعون الحاجب وبشعرات أنوفهم يشولون.
نعم إن الجهل في كثير من الأُمور سعادةٌ، وما تنديد الأُدباء وتعنيفهم إلا من قبيل العادة أو هو ضربٌ من ضروب البلادة، كيف لا؟ وقد اعتاد أكثر كُتَّابنا اتهام الجهل بكل الرذائل والشرور، حتى لقد ينسبون كل جديد من القول إلى الغرور وكل خروج عن المألوف إلى التمرد والفجور، لنرفق بجهل الإنسان ولا سيما إذا كان من نوع الجهل الذي يولده العرفان، فلهذا الجهل حسناتٌ لا يُنكرها إلا الجهلاء والأدباء الأدعياء ولا يقدر حسناته إلا الذين سلكوا طريق المعرفة فأدركوا في المقابلة والمقارنة ما لا يُدرك في سواهما.
هذه آراء دونتها بعد أن قرأت بعض ردود القراء والأدباء على ما نشرته تحت عنوان الصلاة. فجاء في اعتراضاتهم العديدة ما لا تعبأ به الأفكار الجديدة، وقد قالوا إن البحث في نظام الكون جهل وحماقة ففاقوا بتطرفهم ما رموني به من التطرف والإلحاد، ولا أقول كلمة في شتائمهم العديدة وأهاجيهم البليدة؛ لأن ما هو خالٍ من الفكر والعلم والذكاء لا يستحق التفاتي، وما الفرق بيني وبينهم إلا أني من الذين لا يدرون ويدرون أنهم لا يدرون وهم ممن لا يدرون ولا يدرون أنهم لا يدرون.
إن مصائب الدهر لأكثر من نبات الأرض، فهل نحن في أحسن عالم من عوالم الله؟ إذا قلنا نعم فماذا يصير بالأشقياء والبؤساء، بأبناء الغم والحزن والبلاء، بورثة الفقر والأمراض والأسقام بالذين يعيشون تحت سقف العذاب وبين جدران الألم من عام إلى عام، ماذا يصير ببني المصائب والنكبات وبالملايين من عباد الله الذين يعيشون تحت رحمة فراعنة المغرب.
وإذا قلنا لا فلِمَ لا نخلق ونعيش من البدء في العالم الذي هو أحسن من عالمنا؟ هل تتراءى الحكمةُ الإلهية على ماجريات هذا الكون وتدبرها، لا نكاد نقول نعم قبل أن تتراكم علينا أسئلةٌ جمةٌ تطرحها نفسٌ آسفة على عقل مضطرب حائر. أقول نعم معك أيها القارئ المتدين التقي، ولكن ما هي الحكمة في تكوين جراثيم السل والسرطان والطاعون والهواء الأصفر؟ ما هي الحكمة في جعل هذه الجراثيم سريعة الانتشار؟ ما هي الحكمة في جعلها قابلة الوراثة فتنتقل من الآباء إلى البنين الأبرياء، أَلِيُحفظَ نوعها مدى الدهر؟ ما هي الحكمة في تفجُّر البراكين النارية وقتل الأُلوف من عباد الله بغتةً وهم يصلون في بيت الله؟
ما هي الحكمة في إطلاق الأعاصير الجوية على بُلدان آمنة فتبتلع وهي سائرةٌ أُلوفًا من النساء والرجال والأطفال، المذنبين والأبرياء يُمحقون على حد سواء، ما هي الحكمة من تلقيح الشر العام بجراثيم الخير، ألا تقدر القوة الإلهية أن توجد في العالم خيرًا خالصًا صافيًا نقيًّا؟ ما هي الحكمة في الطوفان التي لا تحدث غالبًا إلا في الأراضي المأهولة المزدحمة بالسكان، ما هي الحكمة في إطلاق حرية الزلازل والزوابع لتفترس مَنْ هم بالحرية أولى وبالحياة أحق؟ ما هي الحكمة أيها القارئ الحكيم في تواطؤ كل هذه العناصر التي لا تعقل على هذه النفس الحاسة؛ نفس الإنسان الذي من أجله خلق الله كل شيء ومن أجله سخر الليل والنهار، وهل لجهل الإنسان دخلٌ في هذه النوازل والنكبات والحوادث والضربات؟ وهل يعد البحث عنها كفرًا والسؤال إلحادًا؟
فليجرد القارئُ نفسه عن كل العقائد والخرافات ولو هنيهة من الزمن وليسألها هذه الأسئلة، ولا يجب عليه أن يهتم فيما إذا كنت أعتقد بإله أم لا، واللبيب الذي يؤلف من التلميح تعليمًا ومن الإشارة كتابًا. إن اعتقادي كامنٌ بل ظاهرٌ في سطور هذه الكتاب وبينها، فعلى القارئ أن يُعمل الفكرة قليلًا.