ارتقاء بلادها في عهدها
ارتقاء بلاد كبيرة كالبلاد الإنكليزية عمل عظيم جدًّا يستدعي إعمال ألوف من العقول الكبيرة والآراء السديدة مدة سنين كثيرة، لكن هذه الآراء وتلك العقول قد تعجز عن ترقية البلاد إذا كان ملكها ظالمًا غشومًا أو خاملًا لا يسعى في مصلحة بلاده ولا يهتم بإصلاح شأنها، فالملك الحكيم الذي يشارك رجاله في سياسة بلاده ويختار الأكفاء منهم لتولي خططها ويقودهم بحكمته في مسالك الأمن الشأن الأعظم في إنجاح البلاد وتعزيز أركانها.
وغنيٌّ عن البيان أن للملكة فكتوريا اليد الطولى فيما بلغته البلاد الإنكليزية من الارتقاء في عهدها؛ لأنها اتصفت بكل صفات الملك الحكيم العادل المشارك لرجاله في كل ما يعود على بلاده بالخير والفلاح، وارتقاء بلادها لا يتَّضح مقداره إلا بالمقابلة بين حاضرها وماضيها، وهذه المقابلة لا تُوفَّى حقها في أقل من مجلد كبير، لكن الارتقاء عظيم وشامل لكل الأعمال والمعاملات مادية كانت أو أدبية حتى تكفي الإشارة إليها بالإيجاز إذا تعذر الإسهاب فنقول: جلست الملكة فكتوريا على سرير الملك والحواجز كبيرة والأسوار منيعة بين السوقة والأعيان، هؤلاء يتربعون في المناصب العالية ويتمتعون بأطايب الحياة، وأولئك يُقصون عنها ويمنعون من الدنو منها، نعم كانت قوانين البلاد تقضي بالمساواة وعدم المحاباة لكن كان فيها عوامل أخرى تخص النعم والمنافع بقوم دون غيرهم، فكانت خدمة الحكومة مباحة للجميع ولكن لم يكن يعيَّن فيها ولا ينتفع منها إلا أناس مخصوصون لقيود وروابط كثيرة يقضي بها ذوو المآرب مآربهم، وكذلك قل عن حق الانتخاب والدخول في مجلس النواب وفي المدارس العالية، فقام أنصار الحق في عهد الملكة فكتوريا وقطعوا تلك القيود ويسَّروا على الوضيع مجاراة الرفيع ولا يزال هذا دأبهم.
وسعى العلماء والأطباء في اكتشاف أسباب الأمراض والوقاية منها وساعدتهم المجالس البلدية على اتخاذ التدابير الصحية، فقلَّ معدل الوفيات وخفَّت وطأة الأوبئة، فزاد عدد السكان زيادة عظيمة حتى ملئوا الجزائر الإنكليزية، وهاجر أكثر من تسعة ملايين منهم لتعمير مستعمراتها الوسيعة، وللانضمام إلى إخوانهم في الولايات المتحدة الأميركية، وحيثما ذهبوا أخذوا معهم لغتهم وعلومهم ومبادئ الحرية والإنصاف التي نشئوا عليها، وهذا سر نجاحهم في مستعمراتهم، فإنهم لا يكتفون برفع رايتهم على البلدان التي يفتحونها بل يرتحلون إليها ويسكنون فيها ويشاركون أهلها في تعميرها.
وقد زادت مستعمراتهم في هذه الأثناء زيادة لا مثيل في تاريخ الممالك، فزادت مساحتها في بلاد الهند ٢٧٥ ألف ميل مربع؛ أي أكثر من مساحة بلاد النمسا، وفي سائر آسيا ٨٠ ألف ميل مربع؛ أي قدر مساحة بريطانيا نفسها، وفي جنوبي إفريقيا ٢٠٠ ألف ميل مربع، وفي شرقيها مليون ميل مربع، وكانت مساحة البلاد الإنكليزية ومستعمراتها حينما جلست الملكة على سرير المُلك ٨٣٢٩٠٠٠ ميل مربع، فبلغت الآن ١١٢٥٠٠٠٠ أي زادت ٢٩٢١٠٠٠ ميل مربع في ستين سنة، وكان عدد سكانها ١٦٨ مليونًا فبلغ الآن ٤٠٠ مليون، وكان عدد الإنكليز في جزائرهم ٢٥٧٥٠٠٠٠ وفي مستعمراتهم نحو ١٥٠٠٠٠٠ فبلغ عددهم الآن في جزائرهم ٣٩٥٠٠٠٠٠ وفي مستعمراتهم ١٠٥٠٠٠٠٠ أي زاد عددهم من ٢٧ مليونًا إلى خمسين مليونًا عدا الذين هاجروا منهم إلى الولايات المتحدة الأميركية، وكان دخل الحكومة الإنكليزية منذ ستين سنة نحو ٧٥ مليون جنيه ٥٠ منها في بريطانيا و٢٥ من الهند، وهو الآن ١١٠ ملايين جنيه من بريطانيا و٦٣ مليون جنيه من الهند و٣٠ مليون جنيه من أستراليا و٨ ملايين جنيه من كندا و٧ ملايين جنيه من بلاد الراس، و٧ ملايين من سائر المستعمرات الإنكليزية، وجملة ذلك ٢٢٥ مليون جنيه.
واتسع نطاق التعليم والتهذيب في الممالك الإنكليزية بنوع عام وفي البلاد الإنكليزية الأصلية بنوع خاص، فبلغ عدد تلامذتها اليوم ستة ملايين ونصف، وكانوا قبلًا ٢٥٠ ألفًا فقط، وبلغت الأموال التي تنفقها الحكومة على التعليم عشرة ملايين جنيه، وكانت لا تزيد على مليون جنيه.
بلغ الملكة أن المستر بيبدي عزم على العودة إلى أميركا، وهي لا تريد أن يترك بلادها من غير أن تثبت له شدة اعتبارها للعمل الشريف والهبة التي تفوق هبات الملوك التي أراد بها تخفيف المصايب عن الفقراء من رعاياها المقيمين في مدينة لندن، وفي اعتقاد الملكة أن هذا العمل الشريف لا مثيل له بين أعمال الناس، وأفضل جزاء له ما شعر به عامله من السرور حينما يعلم مقدار النفع العظيم الذي نفع به أولئك المساكين، ولم تكن الملكة لترضى بإظهار شكرها من غير أن تعطي المستر بيبدي علامة من علامات دولتها تدل على اعترافها بفضله العظيم، وكانت تُسرُّ لو منحته رتبة عالية أو نشانًا ساميًا ولكن بلغها أن المستر بيبدي ممنوع من قبول ذلك بقوانين بلاده، فلم يبقَ للملكة والحالة هذه سوى أن تقدم له هذه السطور المُعرِبة عمَّا تشعر به من الشكر وتطلب منه أن يقبل منها صورة من صورها تصور له خاصة، ومتى تم تصويرها تُرسل إليه إلى أميركا أو تعطى له حينما يعود إلى هذه البلاد؛ إذ بلغها ما سرها وهو أنه عازم على العودة إلى هذه البلاد المديونة له دينًا عظيمًا.
وصُنعت الصورة حسب إشارة الملكة، وهي أول مرة صُنعت فيها صورتها لتُهدى إلى غير الملوك، والصورة من المينا على لوح من الذهب يحيط بها برواز كبير من الذهب الإبريز وعليه التاج الملكي والملكة فيها لابسة الحُلة الملكية التي فتحت بها البارلمنت، وهي الحلة الملكية الوحيدة التي لبستها بعد ترملها.
ومنذ ثلاث سنوات احتفل أهل مدينة بيبدي بأميركا بعيد مائة سنة من يوم ميلاده، فبعثت إليهم الملكة رسالة برقية تقول فيها: «إن تذكار جورج بيبدي لم يزل يتجدد في قلبي وقلب شعبي بالشكر الجزيل لما له من المبرات المقرونة بالكرم والفضل.» فملكة مثل هذه تُنهض همم المحسنين وتُحيي آثارهم، توجدهم من العدم وتجعل المال في أيدي الأغنياء آلة للبر والإحسان بدلًا من أن يكون آلة للشر والفساد.
ومما يذكر في هذا الصدد أنه لما نشبت الحرب الأخيرة بين فرنسا وبروسيا جمع الإنكليز الصدقات والإعانات وبعثوا بها إلى فرنسا على جاري عادتهم، فكتب الفرنسيون ألف عريضة من عرائض الشكر، وأمضوها باثني عشر مليون إمضاء وجلَّدوها أربع مجلدات كبيرة وقدموها إلى الملكة مع وفد من عظمائهم، ولا يعرف الفضل إلا ذووه.
وأبلغ مِن تقدُّمها العقلي والمادي تقدمها الأدبي والاجتماعي، فأخص ما يمتاز به حكمها تعميم الحرية والمساواة حتى يشترك في خيرات ممالكها كل أحد من رعاياها كبيرًا كان أو صغيرًا، غنيًّا أو فقيرًا. وكل بلاد ارتفع فيها العَلم البريطاني صارت مقصدًا للناس على اختلاف أجناسهم يقصدونها للارتزاق والاتجار فتُساوي بينهم كأنهم من رعاياها. وقد منحت كندا وأستراليا وزيلندا الجديدة وبلاد الراس حكومة نيابية تكاد تكون مستقلة في كل شيء، بل صار النساء يُنتخبن أيضًا للنيابة في بعضها، ولا يبعد أن تشمل الحكومة النيابية أقسام بلاد الهند فتصير السلطنة الإنكليزية كلها مجموع ولايات مستقلة تربطها رابطة الحرية الشخصية والمصلحة العمومية.
وخلاصة الكلام أن الملكة فيكتوريا سادت على قلوب شعبها بمزايا حكمها، فإذا ذُكرت الفتوحات وضخامة الملك «كان الإسكندر وقيصر ونابوليون بونابرت دونها كثيرًا؛ لأنه لم يحكم أحد منهم على ربع أهل الأرض مثلها، ولا أنشأ سلطنة لا تغيب الشمس عنها مثل سلطنتها، وإن ذُكر المجد والغنى وعظمة الشأن لم يقُم في الأرض ملك بلغت مملكته ما بلغت مملكتها في ذلك كله، وإن ذُكرت العدالة والحرية ولا سيما الحرية الدينية، فأي ملك يشبه فكتوريا وهي الملكة المسيحية التي يخضع لها نيِّف وستون مليونًا من المسلمين ومعظم الإسرائيليين وأكثر من ٢٦٠ مليونًا من الوثنيين؟ فهي الأولى بين الملوك والسلاطين في كثرة رعاياها المسلمين، والثانية في كثرة رعاياها الوثنيين، والثالثة في كثرة رعاياها المسيحيين، وكلهم أحرار في ديانتهم وعبادتهم وعوائدهم وآرائهم وأقوالهم. وكل بلادها وممالكها مفتوحة الأبواب للغريب ليستوطنها ويتاجر فيها ويكسب منها بلا امتياز لأهلها عليه خلافًا لما تفعله الممالك الأخرى. وإذا ذُكرت الأريحية والمروءة لإغاثة الملهوف وإجارة المرهق والعطف على المنكوب، فإنكلترا بلاد الصدقات والمبرات والحسنات بلا خلاف.
فلا غرو إذا كانت هذه منزلتها عند قومها، ولا عجب إذا استعظمها كل محب للعدل والحرية والتمدن والتقدم، وودَّ أن يكون تقدم بلاده كتقدم بلادها وأحكام مملكته كأحكام مملكتها.»