يوبيل ألماس
الشكر على النعمة فرض، وله أساليب شتى تعلو شأنًا بارتقاء الحضارة فلا تبلغ أسماها إلا عند أرقى الشعوب، لكن هؤلاء لا تخلو أساليب شكرهم مما هو فطري محض تشاركهم فيه العجماوات جريًا على كل الأفعال التي تشترك فيها القوى العقلية والعواطف النفسية، فيظهرون شكرهم بأسمى الأعمال الأدبية ويظهرونه أيضًا بالطرب والجذل، والعيد الذي عيَّده الإنكليز في الصيف الماضي لمرور ستين سنة منذ رقيت ملكتهم سرير الملك وهو المسمى بيوبيل ألماس إنما هو شكر نفوسهم على ما نالوه في عهدها من الراحة والرفاهة والمجد والسؤدد، وقد أبدوه على أساليب شتى من إقامة المدارس والمستشفيات وإطعام الجياع وإكساء العراة وإنشاء المقالات الضافية في الصحف والمجلات إلى الرقص والطرب وإيقاد الأنوار والنيران، واشترك فيه خاصتهم وعامتهم في مشارق الأرض ومغاربها، وبين كل الشعوب والألسنة فأعربوا عن شكرهم قولًا وفعلًا، وشهدت لهم أمم الأرض كلها أنهم محقون فيما أبدوا من ضروب البهجة ومظاهر الافتخار.
قال أحد كُتَّاب العربية القدماء وأجاد: «لقد سمعت تغريد الأطيار بالأسحار في فروع الأشجار، وسمعت خفوق أوتار العيدان وترجيع أصوات القيان، فما طربت من صوت قط طربي من ثناء حسن بلسان حسن على رجل قد أحسن، وما سمعت أحسن من شكر حرٍّ لرجل حرٍّ.»
ومن يُنكر على الأمة الإنكليزية ما أبدته من مظاهر الشكر في عيد ملكتها وقد بلغت في عهدها شأوًا لم يبلغه الرومان في عهدهم، فملكت خُمس الكرة الأرضية ودان لها ربع سكانها، بل من ينكر على أولئك السكان المستظلين بالعلَم البريطاني مشاركتهم للأمة الإنكليزية في عيد ملكتها وكلهم حُر مطلق؛ ليتمتع بثمار عقله وجني يديه، وكيفما اتجه وحيثما سار رافقته الحماية البريطانية.
وقد شرع الإنكليز في الاهتمام بهذا اليوبيل من أول السنة الماضية، وجاهر سكان مستعمراتهم برغبتهم في مشاركة الأمة الإنكليزية في هذا الاحتفال، وطلبت دول الأرض كلها أن تشترك فيه، خمسون دولة مستقلة لم تحجم واحدة منها عن إنابة من ينوب عنها في المجيء إلى مدينة لندن والاشتراك في هذا الاحتفال؛ لأنه ليس بين دولة منها والدولة الإنكليزية عداء يمنع هذا الاشتراك. وأول خاطر خطر للإنكليز في بلادهم ومستعمراتهم وكل البلدان التي يقيم فيها جمهور منهم أن يُظهروا شكرهم وولاءهم لملكتهم بعمل نافع وأثر ثابت، كمستشفى يقيمونه لتطبيب المرضى وتخفيف الآلام، أو مدرسة ينشئونها لتثقيف العقول وتهذيب الأخلاق، أو وليمة يولمونها للفقراء والمساكين الذين حُرموا من أطايب الحياة، وقام شعراؤهم وكُتَّابهم يتغنون بفضائلها ويصفون مزايا ملكها لتبقى نفثات أقلامهم أثرًا راسخًا لا تمحوه كرور الأيام.
وزُينت المدينة تلك الليلة زينة باهرة لم يسبق لها مثيل، اشتركت فيها أنوار الغاز والكهربائية والأكسجين والهيدروجين، وأُوقدت النيران الكبيرة في ألفين وخمسمائة مكان في إنكلترا وسكتلندا وأرلندا.
ويوم الأربعاء جاء نواب الأمة من مجلس الأعيان ومجلس النواب ورفعوا إلى الملكة عريضتي الشكر المشار إليهما آنفًا، ثم استقبلت رؤساء المجالس البلدية وحكام الأقاليم، وعادت إلى وندزور واستعرضت عشرة آلاف ولد من تلامذة المدارس الابتدائية.
ويوم الخميس استقبلت أمراء الأساطيل البحرية التي حضرت للاحتفال باليوبيل، وكانت زوجة ولي العهد قد سعت في جمع مالٍ تولم به وليمة فاخرة لفقراء مدينة لندن، فدفع واحد من المحسنين خمسة وعشرين ألف جنيه لهذا الغرض، وبعثت بلاد أستراليا عشرين ألف خروف وأكل في هذه الوليمة ٣١٠٠٠٠ نفس، وقُضيَ يوم الجمعة بالولائم والأفراح، واستُعرضت البوارج الحربية يوم السبت فكان استعراضها أعظم ما جرى في هذا الاحتفال، وهي ٦٥ بارجة ثمنها ٣٥ مليون جنيه ومحمولها ٥٤٩٨٨٥ طنًّا، وقوة آلاتها البخارية مليون حصان، وفيها من الرجال والضباط ٣٨٥٧٧، وكل بارجة منها مجهزة بكل ما يلزم لها لتسير حالًا إلى أي مكان قريبًا كان أو بعيدًا، بل سار بعضها فعلًا إلى أبعد الأقطار حالما تم الاستعراض.
ولما استُعرضت وقفت في خمسة صفوف طول كل صف منها نحو خمسة أميال، وما هي إلا قسم من البوارج الإنكليزية المنتشرة في كل البحار، ولم تُدعَ واحدة منها للاشتراك في ذلك الاستعراض بل بقيت في أماكنها لتقضي ما يُطلب منها من حماية المستعمرات الإنكليزية والتجارة الإنكليزية وهي ١٢٥ بارجة كبيرة وبعضها من أكبر البوارج وأسرعها، وما أحسن ما قاله الفيكونت ده فوغوي في جريدة الفيغارو الفرنسوية في وصف البوارج التي استعرضت حينئذ وهو: «إن البحر وطنها، وهو الدار التي تسير فيها على هُدًى ولو كانت مغمضة العينين، والمادة التي تتصرف فيها كيف شاءت، ووراء هذه البوارج التي تصل إليها أبصارنا يرى الإنكليز بوارج أخرى كحلقات كثيرة متصلة من سلسلة تحيط بالكرة الأرضية، فإن البوارج التي كنا نراها حينئذ هي الأولاد المقيمة في البيت، أما أخواتها المنتشرة في كل البحار فلم تتحرك عن أماكنها وهي اليوم رابضة في بحار آسيا وإفريقيا والبحر المحيط كما كانت أمس وما قبله، منتظرة أمرًا من إنكلترا لتعمل به، والأمر يبلغها في لحظة من الزمان يجري في قاع البحر على الأسلاك الإنكليزية وسطح البحر وقاعه شبكتان من الحديد: شبكة تجري عليها الأوامر، وشبكة تقوم بها الأعمال وكلتاهما محيطة بالأرض. الدنيا كلها في شبكة الأمة الإنكليزية، سلطنة لا تعد سلطنة الرومان في جنبها إلا ولاية، وقد تُخطِّئونني وتقولون شبهها بقرطاجنة لا برومية، نعم هي مثل قرطاجنة من بعض الوجوه بتفضيلها المصالح المادية ورغبتها الشديدة في الكسب، ولكن الإنصاف يجبرنا على أن نشبهها برومية أيضًا، برومية في الحزم والشجاعة وسمو المدارك وشرف المبادئ.»
ولم تحضر الملكة هذا الاستعراض، بل حضره ولي عهدها بالنيابة عنها في السفينة المسماة فكتوريا وألبرت تتبعها السفينة قرطاجنة وعليها أمراء الهند، ثم سفن أخرى تُقل أمراء البحرية ووزراء المستعمرات وسفراء الدول وأعضاء مجلس الأعيان وأعضاء مجلس النواب، وكانت البوارج تُطلق مدافع التحية كلما مرت بها هذه السفن، وفي المساء بزغت فيها كلها الأنوار الكهربائية في لحظة واحدة، وكانت مصفوفة على جوانبها وسواريها فترسم أشكالها بالنور الساطع على صفحات ذلك الليل البهيم.
ولقد شارك العثمانيون الأمة الإنكليزية في أفراحها، فبعث مولانا السلطان الأعظم سفيره في باريس إلى لندن مندوبًا خاصًّا لحضور الاحتفال باليوبيل، وبعث سمو الخديوي المعظم أخاه البرنس محمد علي لهذه الغاية، وظهرت الجرائد العربية والتركية كلها مدبَّجة بالمديح ناشرة فضائل الملكة فكتوريا مهنئة الأمة الإنكليزية بما حازته في عهدها من المجد ورفعة الشأن.
هذا ما أردنا جمعه ونشره من تاريخ الملكة فكتوريا إفادةً للقرَّاء وتذكرة لأرباب السيادة منهم، وقد اقتصرنا على ما قل ودل لضيق نطاق المقتطف؛ حيث نشرنا هذه الفصول أولًا، أما تاريخ الملكة فكتوريا بالتفصيل فلا تستوفيه المجلدات الكبيرة، والله مالك الأرض وما عليها.