تتويجها
كان تاج الملك وليم الرابع عم الملكة فكتوريا كبيرًا ثقيلًا لا يَحسُن أن تُتوج به، فصنعوا لها تاجًا صغيرًا يصلح لرأسها ويُقدر ثمن ما فيه من الحجارة الكريمة بمائة وثلاثة عشر ألف جنيه، وتُوِّجت به بعد أن نودي بها ملكة بسنة وثمانية أيام، وكان لتتويجها احتفال لم يكن له مثيل اجتمعت له إنكلترا كلها.
قال المستر غرافل كاتب المجلس الخاص ما ترجمته: «لم تُرَ هذه العاصمة (لندن) في وقت من الأوقات كما تُرى الآن، فكأن عدد سكانها قد تضاعف خمسة أضعاف بغتة، والجلبة والضوضاء مما يفوق الوصف والفرسان والمشاة والمركبات تزدحم وتختبط، والناس يرقون السواري ويُنصبون الأعلام وأصوات المطارق تصم الآذان، والمدينة كلها ازدحام واضطراب، والناس كالبناء المرصوص يموجون كالبحر ويتلفتون يمنة ويسرة، والروض مملوء بالخيام والأعلام ولا تزال الطرق غاصَّة بالواردين إلى المدينة والمركبات مزدحمة بهم والمناظر كلها غريبة مدهشة، ولكن المرء يود أن ينقضي أمرها وتزول بأسرع ما يكون.»
وأصبح الصباح يوم الاحتفال والأمطار تهطل والمدافع تُطلق، وخرجت الملكة من قصر بكنهام الساعة العاشرة صباحًا بموكب يعز نظيره، وسارت سيرًا وئيدًا بين صفوف الجماهير وهم يحيونها بالهتاف ويحسبون أنها أول مرة صار فيها المَلِك للشعب لا الشعب للملك، إلى أن بلغت كنيسة وستمنستر حيث يُتوَّج ملوك الإنكليز، وكانت الكنيسة قد زُيِّنت زينة يعجز القلم عن وصفها؛ أفرغ فيها الصناع أقصى مهارتهم وجمعوا بين أبَّهة الملك وعظمة الديانة، وانتظم في ذلك البناء الفاخر نخبة رجال الإنكليز ونسائهم، رجال السيف ورجال القلم، رجال الحرب والسياسة، رجال الثروة والجاه، رجال الصناعة والتجارة، وكل حسناء فتَّانة، ولما وصلت الملكة إلى باب الكنيسة قابلها الأساقفة وقدمها رئيس أساقفة كنتربري إلى الشعب قائلًا: أقدم إليكم أيها السادة الملكة فكتوريا، ملكة هذه المملكة التي لا ريب في صحة دعواها، فهل تُعاهدونها عهد الطاعة؟ فأجابوه داعين لها بطول البقاء. ويُقال إنه فيما كان التاج يوضع على رأسها انكشفت غيوم السماء، وبان وجه الشمس، ودخلت أشعتها الكنيسة، وانعكست عن جواهر التاج فتلألأت تلألؤًا أبهر الأبصار وتفاءل به الناس أن مُلكها سيكون بهيجًا كنور الشمس.
وقال المستر غرافل بتاريخ ٢٩ يونيو: انقضى الاحتفال ولله الحمد ولم يكن الهواء حارًّا ولا باردًا، وكان الازدحام شديدًا في الشوارع ولكن النظام كان سائدًا فلم يحدث ما يكدِّر الصفاء. ثم وصف كيفية الاحتفال داخل الكنيسة، وقال إن القائمين به اضطربوا في أمرهم حتى لم يكونوا يدرون ما يعملون، مثال ذلك أن خاتم الياقوت الذي وُضع في أُصبع الملكة حينئذ صيغ لخنصرها فقال رئيس الأساقفة: إن الرسوم تقضي بوضعه في البنصر لا في الخنصر. فأدخله في بنصرها غصبًا فآلمها كثيرًا واضطرت بعد ذلك أن تغطس يدها في ماء مثلوج حتى أمكنها إخراجه.
وأولمت الملكة وليمة فاخرة تلك الليلة لمائة من رجالها، وأولم رجال الدولة ولائم عظيمة احتفالًا بتتويجها.
وبلغت النفقات التي أنفقتها الحكومة على تتويج الملكة سبعين ألف جنيه، ودفع الشعب مائتي ألف جنيه أجرة للأماكن التي وقفوا فيها لمشاهدة موكب الاحتفال.