حياة الملكة السياسية
لا نجد بين الألوف الذين سادوا الممالك وقاموا بمهام المُلك إلا قليلًا من النساء، كأن المرأة لم تولد لتسود بل لتُساد ولو كانت سيدة في بيتها، لكن النساء القليلات اللواتي أُدليت الأحكام إليهن كزينوبيا ملكة تدمر، وكاترينا ملكة الروس، وأليصابات ملكة الإنكليز؛ قبضن على أزمَّتها بأيدٍ من حديد وسُسنَ ممالكهن بالحكمة والسداد، والملكة فكتوريا أطولهن حكمًا وأوفرهن حكمة بإجماع كل الذين انتقدوا أعمال الملوك، وسر نجاحها في حكمها جريها على إرادة شعبها ووزرائها، فإنها لم تترك شعبها ليختار له النواب الذين يريدهم، فتسلم مقاليد الأحكام لزعيم الحزب الأكبر من هؤلاء النواب، ولا تقف عند هذا الحد ولا تكف عن الاهتمام بشئون المملكة، بل تساعد وزراءها في أعمالهم كأنها تصب عليها زيتًا وبلسمًا حتى يقلَّ، الاحتكاك بين مصالح العباد ويصحب كل سهم نافذ بمرهم يداوي الجراح ويزيل الآلام، فتاريخها السياسي هو تاريخ وزرائها الذين ولَّتهم الأحكام من حين تربعت في سرير الملك إلى الآن، وسنقتصر على ذكر أشهرهم.
لورد ملبرن
لما دُعيت الملكة فكتوريا من المدرسة إلى سرير الملك كان لورد ملبرن رئيسًا للوزراء، فجعل غرضه الأول اطلاعها على أسرار السياسة وأساليبها، فنجح في ذلك نجاحًا تامًّا؛ لأنه كان ينظر إليها نظر الوالد إلى ولده، فاعتبرته والدًا رءوفًا وصديقًا حميمًا، لكن تعليمه لها لم يقتصر على شرح أساليب السياسة وغوامضها بل تناول تعويدها الصفح والتغاضي عن الذين يُسيئون إليها، وكان هو أول مسيء في أمر الراتب الذي عُين لزوجها وفي أمر تقدمه على غيره في الاحتفالات الرسمية، فإنه جعل الراتب أولًا خمسين ألف جنيه في السنة، ولكنه لم يُذاكر زعماء المحافظين فيه قبل أن يعرضه على المجلس كما هو الواجب عليه، فعارضوه فيه لمَّا عرضه، وجعلوه ثلاثين ألف جنيه فقط، ثم جعل منزلة زوجها بعدها تمامًا ولم يذاكر زعماء الأشراف قبل أن يعرض عليهم هذا الأمر فأغضوا عنه، وبقي البرنس كأحد العامة، ولا يخفى ما في ذلك من الإهانة للملكة والغضِّ من كرامة زوجها، لكنها تحملته بالصبر الجميل وأغضت عنه إغضاء الكرام، ولم ينقص اعتبار لورد ملبرن في عينيها لعلمها أن الإساءة غير مقصودة وأن الحسنات يذهبن السيئات.
وكان لورد ملبرن شيخًا واسع الرواية عارفًا بأساليب السياسة وأخبار الأيام، قوي الحافظة يستحضر ما يشاء من الأخبار والأشعار فيرويها على صحتها، وكان السر روبرت بيل نِدَّه في السياسة يقول إن ليس للملكة سبيل أفضل من اتباع مشورة لورد ملبرن في كل ما يشور به عليها، وكذلك دوق ولنتن زعيم حزب المحافظين في مجلس الأعيان قال جِهارًا في ذلك المجلس إن لورد ملبرن قد خدم الملكة أعظم خدمة ممكنة بإطلاعها على أساليب السياسة وتدريبها على الحكومة الدستورية وتعليمها كيف تسوس شعبها بموجبها.
وكان خالها ملك البلجيك ومشيره البارون ستكمار يبذلان الجهد في تدريبها على الجري، بموجب مطالب الحكومة الدستورية وترفُّعها عن الأحزاب السياسية؛ حتى لا تنقاد إلى حزب من حزبي بلادها فتغضب الحزب الآخر وتصبح زعيمة حزب لا ملكة البلاد كلها، بل تبقى فوق الحزبين وتُراعي مصالحهما على حد سوى، ولو كان لورد ملبرن قليل الولاء لمولاته أو مُفضِّلًا مصلحة حزبه على مصلحتها؛ لسهل عليه أن يقودها إلى حزبه ويجعلها منه لكنه لم يفعل ذلك ولا تركها تنقاد إلى حزبه من تلقاء نفسها، بل قاوم ميلها الطبيعي وعلمها أن تكون ملكة على البلاد كلها لا أن تكون رئيسة حزب من حزبيها.
ولما سقطت وزارة ملبرن حزنت على فراقه، ثم لمَّا فارق الحياة الدنيا سنة ١٨٤٨ لم يحزن عليه أحد قدر ما حزنت، بعد أن بذلت هي وزوجها جهدها ليَسُرَّاه ويُحليا مرارة حياته في السنين الأخيرة من عمره، وكتبت في يوميتها تقول: «إني أندب الآن، فقد الصديق الصادق والخِل الوفي الذي كان يَودُّني ويسعى في مصلحتي بكل جهده عن إخلاص تام وحب صادق، الذي كان صديقي الوحيد تقريبًا في السنتين الأوليين من ملكي.»
وحدثت حوادث سياسية ذات شأن مدة وزارته، فثار أهالي كندا ونهض محمد علي باشا في مصر على الدولة العلية، فاتفقت إنكلترا والنمسا مع تركيا على إخراج إبراهيم باشا من سورية، وأخذت بيروت وهدمت حصون عكاء وردت العمارة التركية إلى الدولة العلية، وكادت تنشب الحرب بين إنكلترا وفرنسا بسبب ذلك؛ لأن فرنسا كانت عازمة على مظاهرة محمد علي باشا لكي يكون لها الشأن الأعلى في مصر فتنضم عمارة مصر إلى عمارتها في البحر المتوسط وتصير قادرة على مقاومة إنكلترا، فأُحبطت مساعي فرنسا بالمحالفة التي عقدت في ١٥ يوليو سنة ١٨٤٠ بين إنكلترا والنمسا وبروسيا وروسيا وتركيا؛ لحماية القُطر المصري، وكان تيرس وزيرًا لفرنسا فدُهِش لما سمع بهذه المحالفة وأخذ منه الغيظ كل مأخذ، وعزم الفرنسويون على محاربة الإنكليز لو لم يصرفهم ملك البلجيك عن ذلك، وكان قد اقترن بابنة الملك لويس فيليب ملك فرنسا، ونشبت الحرب بين إنكلترا والصين بسبب تجارة الأفيون، وعُقد الصلح سنة ١٨٤٢ على أن تدفع الصين ٢١ مليون ريال وتتنازل لإنكلترا عن هنغ كنغ.
ووُلد لورد ملبرن سنة ١٧٧٩ وتُوفي سنة ١٨٤٨.
السر روبرت بيل
تولى الوزارة سنة ١٨٤١بحكم الشعب؛ لأن أكثرية النواب كان من المحافظين، فاضطرت الملكة أن تسند الوزارة إلى زعيمهم، وكان قد طلب منها أن تُبدل نساء بلاطها بغيرهن على ما تقدم فساءها ذلك جدًّا، ثم كرر الإساءة إليها بطلبه تخفيض المال الذي قُطع لزوجها لكن لورد ملبرن علَّمها مدة وزارته أن أول واجب عليها الخضوع لمطالب الأمة، فلم ترَ بُدًّا من إسناد الوزارة إلى السر روبرت بيل حينما فاز حزبه في الانتخابات العمومية، فأخذت الختوم من الوزراء المعزولين وسلَّمتها له وللوزراء الذين اختارهم معه، ولم تكن قد فعلت ذلك قبلًا، فعلت وجهها حُمرة الخجل لكنها ملكت نفسها، وأظهرت الحزم الشديد ورأست مجلس الوزراء بعزيمة صادقة، واضطرب السر روبرت بيل في أمره أكثر منها مع ما هو مشهور عنه من الهمة والإقدام؛ لأنه شعر من نفسه أنه كان السبب في الإساءة إليها لكنه لم يرَ منها إلا كل دعة ولطف، فسكن جأشه ولا سيما لما رآها تكلمه كما كانت تكلم وزيرها السابق كأنها صفحت عمَّا مضى وقصرت نظرها على مصلحة البلاد. ولما اعتزل الوزارة بعد خمس سنوات كتبت إلى خالها ملك البلجيك تقول: «لقد كان أمس يومًا عبوسًا؛ إذ اضطررت أن أفارق السر روبرت بيل ولورد إبردين وفراقهما خسارة لا مثيل لها علينا وعلى البلاد، فإنهما كانا صديقين مخلصين وكنا في أشد الأمن والاطمئنان معهما، وفي كل هذه السنوات الخمس التي توليا فيها الوزارة لم يشيرا بشيء إلا وفيه المصلحة لي ولبلادي.»
وفي مدة وزارته قُهرِت الحامية الإنكليزية في مدينة كابول وأوقع الأفغان بها وهي عائدة، وكان فيها ٤٥٠٠ من الجنود و١٢ ألفًا من القديديِّين فلم يسلم منهم سوى رجل واحد تُرك حيًّا ليبلغ حامية جلال آباد ما حلَّ برفاقه، لكن الإنكليز أخذوا بثأر إخوانهم وفتحوا كابول عنوة.
وتُوفي السر روبرت بيل سنة ١٨٥٠ فحزنت الملكة عليه حزنًا شديدًا، وقالت: «إنه كان صديقنا الأصدق ومشيرنا الأحكم.» وكأنها تتكلم بصيغة الجمع؛ لأن زوجها كان قد صار شريكًا لها في الملك.
اللورد جون رسل
لما سقطت وزارة السر روبرت بيل استدعت الملكة اللورد جون رسل وطلبت منه أن يُشكل وزارة جديدة ففشل في أول الأمر، وعاد بيل إلى الوزارة، ثم اضطر إلى الاستعفاء ثانية، فشكل اللورد رسل وزارة سنة ١٨٤٦ واضطر أن يستعفي سنة ١٨٥٢ كما سيجيء، وتلاه لورد دربي ولورد إبردين، وأخذ نِظارة الخارجية في وزارة لورد إبردين وعاد إليها في وزارة بامرستون الثانية، ثم عاد إلى الوزارة بعد موت بامرستون سنة ١٨٦٥ ولم يَقُم فيها طويلًا، وأوقع المملكة في اضطراب شديد مدة وزارته، فاغتاظت الملكة منه لكنها صفحت عنه حالًا، ولما تُوفي سنة ١٨٧٨ كتبت إلى زوجته تقول: إني أسيفة على صديقي الذي أخلص لي الولاء أربعين سنة، وزيري الأول والأشهر الذي لا أنسى لطفه لي في أوقات الشدة والضيق.
وهذا شأنها مع كل وزرائها، فإنها تنظر إلى الكبير منهم نظر الابنة إلى أبيها، وإلى الصغير نظر الأخت إلى أخيها، وإلى الجميع نظر الصديق إلى صديقه.
لورد بامرستون
لما استعفى السر روبرت بيل وسَلمَت الملكة مقاليد الوزارة للورد جون رسل جعل اللورد بامرستون وزيرًا للخارجية، وكان بامرستون شديد العزيمة في السياسة الخارجية يقتحم مخاطرها غير هيَّاب، فلُقِّب بالشعلة النارية، ولما اعتُرض على سياسته في مجلس النواب دافع عنها بخطبة طويلة دامت خمس ساعات، ففاز على خصومه.
ولما أراد لويس نبوليون الارتقاء إلى عرش عمه نبوليون الأول كتبت الملكة إلى وزيرها اللورد جون رسل تقول: إنها استغربت جدًّا الحوادث التي حدثت في باريس، واهتمت بها أشد الاهتمام، ولكنها تحسب أنه يجب أن يخبر سفيرها في باريس؛ لكي يبقى على الحياد ولا يشترك فيما هو جار فيها بوجه من الوجوه؛ لأن كل كلمة يقولها يمكن أن تفسر على غير مراده. ولا يخفى أن رأي الملكة هذا عين الصواب، لكن بامرستون لم يعمل به، بل سبق فأخبر سفير فرنسا في إنكلترا أنه مستحسن لما فعله لويس نبوليون، ولم يستشر اللورد جون رسل ولا الملكة، فأشار عليه اللورد رسل أن يستعفي من منصبه، فاستعفى ثم اعترض على وزارة اللورد رسل فأسقطها، وقامت بعدها وزارة لورد دربي، فلم يشترك فيها مع أن لورد دربي عرض عليه أحد مناصبها، ثم سقطت وزارة لورد دربي، وأتت بعدها وزارة أرل إبردين سنة ١٨٥٢، فجُعل فيها وزيرًا للداخلية، وسقطت هذه الوزارة سنة ١٨٥٤، فسلمت الملكة مقاليدها للورد بامرستون، وكان حينئذ في الحادية والسبعين من عمره، وكانت نار حرب القرم مستعرة، فأذكى نارها إلى أن انقضت بأخذ سباستوبول وعقد الصلح.
وحدثت في مدة وزارته الحرب الأهلية في أميركا، والحرب بين فرنسا والنمسا، وبين النمسا وبروسيا والدنمارك، وتُوفي سنة ١٨٦٥.
وقد يُظَّن لأول وهلة أن الحوادث تحدث والملكة غافلة عنها لعلمها أن وزراءها يديرون دفة السياسة على ما يرام، والواقع على الضد من ذلك؛ لأنها تراقب سياسة بلادها وسياسة البلدان الأخرى بعين ساهرة، وتشارك وزراءها في آرائهم، وإذا أصروا على عمل شيء مخالف لإرادتها جارَتْهم فيه ولو رغمًا عنها؛ لأنها تعلم أن ذلك واجبٌ عليها لا مفر لها منه ما دامت حكومة بلادها دستورية.
ومما يذكر لها مشفوعًا بشكر شعبها أنها تشاركهم دائمًا في السراء والضراء، فلما اشتدت الفاقة عليهم سنة ١٨٤٧ بمحْل الغلال حثت أهالي البِر على جمع الصدقات للمحتاجين، وتصدَّقت عليهم بجانب كبير من مالها الخاص، وأمرت ألا يستعمل الدقيق الجيد في قصرها، واقتدى بها عظماء المملكة فحرموا أنفسهم الملاذ لكي يطعموا الفقراء.
وعقبت سني الشدة سنو الرخاء، وكانت الجنود الإنكليزية تلاقي الأهوال في بلاد الهند، فاستتب النصر لها أخيرًا، وتغلبت على مملكة بنجاب وضمتها إلى السلطنة الهندية.
وخافت إنكلترا أن يقفو نبوليون الثالث خطوات عمه نبوليون الأول، أما هو فأكَّد لأوروبا أن السلم غرضه الذي يرمي إليه، فاعترفت به إنكلترا وبروسيا والنمسا ثم روسيا، وعلم أن ملوك أوروبا لا يرغبون في مصاهرته، فاختار له زوجة أميرة إسبانية، وزار معها إنكلترا فرحَّبت بهما الملكة والشعب الإنكليزي، وأقامت له ليلة راقصة في غرفة ووترلو، وكتبت إلى خالها تقول «من أغرب ما حدث الآن أني أنا حفيدة جورج الثالث رقصت مع الإمبراطور نبوليون ابن أخ عدو إنكلترا الألد في غرفة ووترلو وهو الآن حليفي الأقرب.»
وردت له الزيارة في باريس مع زوجها وولي عهدها فرحب بهم الفرنسويون أعظم ترحيب، وزارت قبر نبوليون الأول متكئة على ذراع نبوليون الثالث، وكتبت في هذا الصدد تقول: «إنها وقفت أمام قبر عدو إنكلترا الألد وأرغن الكنيسة يضرب سلامها، وكأن هذه الزيارة وتقديم هذا الإكرام لرفات العدو الميت مَحَيا العداوة القديمة.»
وكان قيصر الروس نقولا الأول قد كاشف وزراء إنكلترا بغرضه في تركيا، وأشار عليهم أن يأخذوا مصر وكريت ويتركوه وشأنه، ثم حدث خلاف في أورشليم بين الأرثوذكس واللاتين نشبت بسببه حرب القرم بين روسيا والدولة العلية، فبذلت إنكلترا جهدها لمنع هذه الحرب، ولما رأت أنها لم تُفلح اتحدت مع فرنسا لمعاونة الدولة العلية على الروس، فألقت الحرب أوزارها، وتُوفي القيصر نقولا الأول في ٢ مارس «آذار» سنة ١٨٥٥، وخلفه ابنه إسكندر الثاني فسار في خطة أبيه، واهتمت الملكة فكتوريا في غضون هذه الحرب بصحة جنودها ومؤاساة جراحهم، وكانت تصنع الأحرمة بيديها، وتُرسل بها إلى الجنود فاقتدى بها نساء المملكة في هذا العمل المبرور، ولما بلغها ما حل بالجنود من الشدة والضنك كتبت إلى قائدهم تقول لا يمكنك أن تتصور مقدار ألمنا وشدته من جرَّاء ذلك، وعادت الجرحى الذين أعيدوا إلى بلادهم فلم تُسر برؤية المستشفى الذي كانوا فيه لضيق غرفِه وعلو كُواه فطلبت من وزير الحربية أن يبني غيره.
ورأت في زيارة أخرى أحد الجرحى، وكانت يده اليمنى قد قُطِعت في الحرب، فسألته عمَّا إذا كان يشعر بألم، فقال: نعم إني أشعر بألم ها هنا. وأراد أن يضع يده السليمة على قلبه فدلت على كتفه، فنظرت إلى الطبيب وقالت: سمعت أن الإنسان قد يفقد عضوًا من أعضائه فيشعر بألم في مكان آخر، ولكنني لم أتحقق ذلك قبلًا. فقال الجندي: كلا يا مولاتي، بل لما كانت ذراعي سليمة كنت أحارب بها في خدمتك، ولو كان لي خمسون ذراعًا لوقفتها كلها لك ولبلادي، أما الآن ففقد ذراعي يؤلم فؤادي. ففهمت الملكة مراده وشكرته شكرًا جزيلًا.
وسنة ١٨٥٧ اتقدت نار الثورة في بلاد الهند، وكانت تحت سلطة شركة الهند الشرقية، فأشارت الملكة بإرسال المدد إلى الجنود التي فيها حالًا وصوَّبت رأي القائلين بزيادة الجنود الإنكليزية في تلك البلاد، وأشارت بأن يُرسل المدد فيالق كاملة لا فصائل متفرقة، لكي يبقى القوَّاد مع جنودهم الذين عرفوهم، وأن يُزاد عدد الجنود في البلاد الإنكليزية إلى الحد الذي سمح به البرلمنت بدل الجنود التي تُرسل إلى الهند خوفًا من أمر يأتي فجأة، فأجابها لورد بامرستون أنه تلقَّى إشارتها وعلم ما فيها مما كانت تقوله لو كانت في مجلس النواب. وقال: إن الذين يخالفونها في ذلك يشكرون الله؛ لأنها ليست في ذلك المجلس وإلا للقوا منها خصمًا عنيدًا قوي الحجة سديد البرهان، أما الذين يوافقونها فيرون فيها أعظم نصير لهم لو كانت في مجلس النواب. أما من حيث ما تستدعيه أحوال الهند الحاضرة فقال: إن وزارته لا تأْلو جهدًا عن عمل ما تقتضيه الأحوال، ولكن لا بد من أن يكون ذلك رويدًا رويدًا. فلم ترتضِ الملكة بهذا الجواب ولا بهذه السياسة، سياسة الإمهال والتسويف، فكتبت إليه تقول: «إنها تريد أن يُرسِّخ في نفوس وزرائها أنه لا بد من الاهتمام حالًا بمركز إنكلترا الحربي بنوع عام، والجري على خطة تكفُل راحتها في المستقبل بدلًا من الجري على مقتضى الحال ومداواة الحاضر بالحاضر، والأسلوب الذي تحسب أن لا بد من اتِّباعه هو أن يرسل إلى بلاد الهند كل الجنود التي تحتاج إليهم، ثم يعوض عنهم حالًا بجنود أخرى تجمع بدلًا منهم، وذلك لا يكلف الخزينة شيئًا، بل يرفع عنها بعض الكلفة الحاضرة؛ لأن شركة الهند الشرقية تدفع كل نفقات الجنود التي ترسل إليها، فالنفقات التي كانت الخزينة تدفعها لهم تدفعها للجنود التي تجمع بدلًا منهم وترد الضباط الذين تدفع لهم معاشات الآن إلى الخدمة فتقتصد الخزينة المعاشات التي كانت تدفعها لهم. وإن قيل: إن جمع الجنود ليس بالأمر السهل، قلت امتحنوا ذلك قبل أن تحكموا فيه، وإن قيل إن شركة الهند لا ترغب في استخدام الجنود الإنكليزية، قلت يجب أن تُجبَر على ذلك.» فعملت الحكومة برأي الملكة ونجحت وأخمدت الثورة في بلاد الهند، ولكن بعد عناء شديد، وسفك دماء كثيرة، وانتقلت سلطنة الهند الوسيعة من يد شركة الهند إلى يد الدولة الإنكليزية وكان ذلك سنة ١٨٥٩.
وتُوفي اللورد بامرستون في الثامن عشر من أكتوبر سنة ١٨٦٥، وهو في الحادية والثمانين من عمره، ودُفن في وستمنستر مدفن عظماء الإنكليز، وكان أشهر وزراء عصره، محبوبًا في بلاده مرهوبًا في سائر البلدان، وبقيت فيه همة الشباب إلى حين وفاته.
لورد إبردين
وُلد سنة ١٧٧٤ ودرس في مدرسة كمبردج الجامعة شأن غيره من أولاد الأشراف في بلاد الإنكليز فإنهم يدرسون في أكبر المدارس، ويأخذون العلم عن أكبر العلماء، وقد يشاركون فيه حتى يبلغوا منزلة رفيعة منه، فإن لورد إبردين هذا نال رتبة مُعلم في الفنون في العشرين من عمره، وهي لا تُعطى إلا لمن قرن العلم بالعمل، ثم دخل مجلس الأشراف وجلس مع حزب المحافظين ثم جُعل سفيرًا في بلاد النمسا سنة ١٨١٣ فأتم عقد المحالفة بين إنكلترا والنمسا، وانتظم في وزارة دوق ولنتون وزيرًا للخارجية وفي وزارة السر روبرت بيل واستعفى معه سنة ١٨٤٦. وتألَّفت وزارة ممتزجة من المحافظين والأحرار سنة ١٨٥٢ فقبل أن يكون رئيسًا لها إجابة لطلب الملكة، فإن أحوال الملكة كانت في اضطراب شديد، واشتد الخلاف بين حزبيها فرأت الملكة أن تُصلح بينهما بتأليف وزارة رجالها منهما كليهما، فتألفت تلك الوزارة وكان ذلك غاية ما تمنته الملكة كما صرحت مرارًا.
ومرت الأيام ووزارة لورد إبردين مفلحة في سياستها ناجحة في أعمالها إلى أن نشبت حرب القرم واحتدمت نارها فلم يقوَ على احتمال شدائدها وهياج الأمة الإنكليزية بسبب ما أصاب أبناءها، واستعفى اللورد جون رسل أحد أعضاء الوزارة فأضعف ذلك عزائم اللورد إبردين فسقطت وزارته وخلفه لورد بامرستون كما تقدم، وذلك في سنة ١٨٥٥، وتُوفي لورد إبردين في مدينة لندن في ١٣ ديسمبر سنة ١٨٦٠.
لورد بيكنسفيلد
هو بنيامين بن إسحاق دزرائيلي من يهود إسبانيا الذين هجروها في أواخر القرن الخامس عشر فرارًا من ديوان التفتيش، لجأت عائلته إلى البندقية فأثَّرت فيها، ثم هاجرت إلى إنكلترا ووُلد فيها بمدينة لندن في أواخر سنة ١٨٠٤ وخُتن حسب شريعة اليهود، ثم نُصِّر ودرس علم الحقوق ليتعاطى المحاماة، وألف كثيرًا من الروايات فاشتُهر بها بين رجال الأدب ومال إلى السياسة، فدخل البرلمنت سنة ١٨٣٧ بعد عناء شديد، ولما خطب أول خطبة فيه قابله الأعضاء بالضحك والهزء حتى إذا فرغ صبره قال لهم: «لقد شرعت في أمور كثيرة مرارًا مختلفة، وكنت في الغالب أنجح فيها أخيرًا، نعم إني أصمت الآن، لكنه سيأتي وقت تُصغون فيه إليَّ.» وفي أقل من تسع سنوات جاء ذلك الوقت فأصغت البلاد كلها إلى أقواله وقاد حزب المحافظين في مجلس النواب ضد وزارة الأحرار سبع سنوات، ثم جُعل رئيسًا للوزراء سنة ١٨٦٨ واستعفى في آخر تلك السنة، وأعطته الملكة لقب لورد بيكنسفيلد، فاعتذر عن قبوله لكي لا يُحرم من الجلوس في مجلس النواب ومناضلة الوزارة، ولكنه أبقاه لزوجته وأخذ رئاسة الوزراء ثانية سنة ١٨٧٤ وبقي فيها إلى سنة ١٨٨٠، وهو الذي ابتاع أسهم ترعة السويس من مصر فجعل لإنكلترا المصلحة الكبرى في هذه الترعة والشأن الأعظم في القطر المصري، وهو الذي أعطى الملكة فكتوريا لقب إمبراطورة الهند، ونُودي بها بلقب قيصر الهند في دلهى عاصمة ملوك المغول في غرة سنة ١٨٧٧، ونودي كذلك في بمباي وكلكتا ومدراس. ولم تكن الملكة تسمع عنه في أول أمره ما يسرها؛ لأنه كان شديد الوطأة على مناظريه في مجلس النواب، وكان أولئك المناظرون من المقربين إليها، ولكن لما رأت حسن سياسته نسيت السيئات ونظرت إلى الحسنات على جاري عادتها، ولا سيما لأنه أظهر ولاءه لها على أسلوب يُؤثر في النفوس وفي أوقات يصل تأثير المؤاساة فيها إلى أعماق الفؤاد، ذلك أنه لما تُوفيت دوقة كنت أم الملكة تكلم في مجلس النواب في صدد كتاب التعزية الذي أراد المجلس أن يبعث به إليها، فقال: «إن الفاجعة الشديدة التي فُجعت بها الملكة ليس لها عندنا إلا سبيل واحد للعزاء، وهو ذكر أمانتنا للفقيدة وحبنا لها، وإن الملكة لحَرِية بأن ترى منا هذا الذكر المعزي المسلي، ولقد يُقال إن حزن الناس يقل بارتفاع مناصبهم ولكن ذلك لا يصدق على هذه الحال؛ لأن الملكة التي تملك علينا اختارت من نفسها أن يكون بيتها مثل بيوت شعبها مع ما هي محفوفة به من مظاهر الملك والعظمة.»
ولما نشبت الحرب الأخيرة بين الدولة العلية وروسيا أخذ يُناصر الدولة العلية، وبعث الأسطول الإنكليزي إلى الدردنيل لصد الروس واستدعى الجنود الهندية إلى مالطة، وطلب من مجلس النواب ستة ملايين من الجنيهات تأهُّبًا للحرب، وحضر مؤتمر برلين مع اللورد سلسبري وعقد معاهدة برلين المشهورة واحتل قبرص. ثم نشبت حرب الأفغان وحرب الزولو، ولا يسعنا المقام لوصف ما حدث في هاتين الحربين من الويلات، وإنما نكتفي بالإلماع إلى حرب الزولو وقتل البرنس إمبريال ولي عهد نبوليون الثالث لما ظهر فيه من عواطف الملكة، فإن هذا البرنس كان يدرس في المدرسة الحربية الإنكليزية بولج، فلما نشبت حرب الزولو ذهب إليها متطوعًا وأُمر رؤساؤه ألا يدعوه يقتحم المخاطر، وذهب يومًا للاستطلاع مع قليل من الجنود، وبينا كانوا جالسين يُطعمون خيلهم، ويرسمون شكل البلاد فاجأهم الزولو وقتلوه، وكان ذلك في غرة يونيو سنة ١٨٧٩، ولما بلغ نعيه الملكة انقضَّ عليها كالصاعقة، وقد كتبت في هذا الصدد تقول: «قرع برون الباب ودخل، فسألته: ما الخبر؟ قال: شرٌّ. قلت: وما هو؟ قال: قُتل البرنس الفرنسوي. فلم أفهم مراده، وكررت السؤال عليه، وحيئنذ دخلت بيترس (ابنتها) وبيدها تلغراف وهي تقول: وا حسرتاه! فقد قُتل البرنس إمبريال، وإني أكتب هذه الكلمات الآن وأعضائي ترتعش، وللحال مسكت رأسي بيديَّ وقلت: كلا كلا! ذلك ضرب من المُحال وأعولتُ في البكاء، وكانت بيترس تبكي بجانبي والتلغراف بيدها فأعطتني إياه.
وا حسرتاه عليك! وا لهفتاه عليكِ أيتها الإمبراطورة العزيزة! ولدكِ الوحيد الوحيد يا للمصيبة! ضاع رُشدي ولم أعد أفتكر بأمر آخر، وا مصيبتاه! كلما فكَّرت في هذا المصاب زادني همًّا وغمًّا، وقد شملتنا الدهشة كلنا فلم أنم حتى الفجر.»
ويُقال إن الحكومة الإنكليزية أخطأت في قبول هذا البرنس بين جنودها، ولكن إذا وقع القدر بطُل الحذر.
واشتدت المجاعة في بلاد الهند وساءت أحوال التجارة، فعلت شكوى الناس ونقموا على الوزارة حتى إذا جرت الانتخابات العمومية سنة ١٨٨٠، كانت الأكثرية من حزب الأحرار فاستعفى اللورد بيكنسفيلد وجلس في مجلس الأعيان، وتُوفي في السنة التالية في التاسع عشر من أبريل، فحزنت عليه الملكة حزنًا شديدًا وسار أولادها الثلاثة؛ برنس أوف ويلس ودوق كنوت والبرنس ليوبولد في جنازته، ووضعوا على نعشه إكليلين من الأزهار بعثت بهما الملكة أولهما من زهر البرمروز وكان مُولعًا به، وكتبت عليه «جزية المحبة من الملكة فكتوريا.» ثم زارت قبره هي وابنتها البرنسس بيترس ووضعتا عليها إكليلًا آخر، واشتركت البلاد الإنكليزية كلها في الحزن على هذا الوزير العظيم، وحتى الآن يُغطَّي تمثاله بأزهار البرمروز في التاسع عشر من أبريل تذكارًا لوفاته، ويلبس الناس أزهار هذا النبات يومئذ تَذكارًا لذلك، وأُلفت جمعية سياسية سميت باسم هذا الزهر تَذكارًا له أيضًا.
لورد روزبري
هو من بيت اسكتلندي قديم عريق في المجد، وُلد بمدينة لندن سنة ١٨٤٧، وأبوه لورد دلمني وأمه ابنة أرل ستنهوب الرابع وأخت أرل ستنهوب الخامس المعروف بلورد ماهون، تُوفي أبوه سنة ١٨٥١ فتزوجت أمه بدوق كلفلند وهي المعروفة الآن بدوقة كلفلند المشهورة بمؤلفاتها التاريخية.
درس في مدرسة أكسفرد الجامعة حيث درس غلادستون، واشتهر بالاعتدال من حداثته، وحُسب بين رجال السياسة قبل أن يناهز الرابعة والعشرين من عمره، حتى إنه لما خطب خطبته الأولى اعترف له زعيم الحزب المضاد لحزبه بالمقدرة وقوة المعارضة.
وجُعل وزيرًا للخارجية في وزارة غلادستون التي تألفت سنة ١٨٨٥، ولم تعِش إلا بضعة أشهر ثم عاد إلى وزارة الخارجية سنة ١٨٩٢ فاقتفى فيها خطوات سلفه لورد سلسبري كما يعلم سكان هذا القطر، وخلف غلادستون في رئاسة الوزارة — كما سيجيء — وهو في السابعة والأربعين من عمره، وبقي فيها إلى أن انحلت وزارته بسبب مسألة طفيفة وأعيدت الانتخابات ففاز المحافظون وصارت الوزارة منهم إلى الآن.
وتزوج لورد روزبري بابنة البارون مايرده رشيلد، وهي وريثة أبيها الوحيدة، وتُوفيت سنة ١٨٩٠ بعد أن أقامت معه اثنتي عشرة سنة، وكتب تاريخ الوزير بت الشهير وأتمه سنة ١٨٩١ بعد وفاة زوجته فقال في مقدمته «ألَّفت هذا الكتاب الصغير والعوائق كثيرة، وما غرضي منه سوى تقرير الحقائق، ولقد كان غاية مناي أن أتمه وأهديه إلى زوجتي، أما الآن فإني أجعله تَذكارًا لها.» وقد أظهر في هذا الكتاب تضلعه من السياسة كما أظهر امتلاكه ناصية الإنشاء.
غلادستون
هو وليم أورت غلادستون، وُلد بلفربول في ٢٩ سبتمبر سنة ١٨٠٩ ودرس في مدرسة أكسفرد الجامعة، وقد رأينا تمثاله فيها يباهي به أساتذتها كما يباهون بجميع العظماء الذين تلقوا الدروس فيها، واشتُهر وهو في المدرسة بقوة العارضة في الخطابة، وكان يكره المتطرفين في السياسة ويقول قول المحافظين، فتوسم المحافظون فيه سمات الخبر، وقالوا إنه سيكون من زعمائهم ولا سيما لأن ظِل سلطتهم كان قد تقلَّص في ذلك الحين، وخِيف من نزع مقاليد السياسة من الأمراء والوجهاء وإعطائها لعامة الشعب.
وترشَّح لعضوية مجلس النواب فانتُخب عضوًا من المحافظين سنة ١٨٣٢، وأول خطبة ألقاها كانت دفاعًا عن أبيه في معاملة العبيد، فإنه كان ذا أملاك واسعة في الهند الغربية، واتُّهم بامتهان العبيد الذين فيها، فدافع عنه دفاعًا مُفحِمًا اختلب الألباب ببلاغته وحسن بيانه، وجاهر حينئذ بكراهة الرق وبوجوب تحرير الأرقاء، ولكنه عارض الإسراع في تحريرهم كلهم دفعة واحدة لما في ذلك من الضرر عليهم وعلى أسيادهم فأُعجب السامعون بفصاحته، والظاهر أن كبار رجال النقد وأصحاب الحل والعقد رأوا من ذلك الحين جوهره وأُنبئوا بما سوف يكون منه، فلقَّبه كبيرهم ماكولي برجاء المحافظين.
ولما أدليت الوزارة إلى السر روبرت بيل في آخر سنة ١٨٣٤ عيَّن غلادستون في نظارة المالية، وبعد شهرين عيَّنه وكيلًا لوزارة المستعمرات، وتقلبت الشئون السياسية حينئذ بسبب موت الملك وتنصيب الملكة فكتوريا وإعادة انتخاب مجلس النواب، فلم يُعيَّن له منصب سياسي حتى سنة ١٨٤١ فأُقيم نائبًا لرئيس ديوان التجارة، ورئيسًا لدار الضرابة ثم رئيسًا لديوان التجارة ثم وزيرًا للمستعمرات، ولكنه اضطر أن يستعفي من النيابة عن البلاد التي كانت تنيبه عنها؛ لأنه رأى مذهبه السياسي لا ينطبق على مذهب الأمير الذي له الشأن الأكبر في تلك البلاد فانتخبته مدرسة أكسفرد الجامعة نائبًا عنها.
وامتاز من ذلك الحين على أكثر رجال السياسة بالشهامة والشفقة على المظلومين إلى حد ينسى معه غرضه السياسي، وزار نابلي سنة ١٨٥٠ ورأى سجونها والفظائع التي تجري فيها فوصفها وصفًا اهتزت له أوروبا كلها فطبقت شهرته آفاقها.
وفي تلك السنة مات السر روبرت بيل ففقد به صديقًا صدوقًا ومرشدًا أمينًا لكن موته لم يضرَّ به، بل كشف فضائله أمام الجمهور فعدَّته البلاد زعيمًا من أعظم الزعماء في مجلس نوابها، وأول خطبة أطارت شهرته في البلاد كانت ردًّا على دزريلي (لورد بيكنسفيلد)، فإن دزريلي يئس مرة من بقاء وزارته — وهو من الرجال الذين يُنهض اليأس همتهم ويقوي عزيمتهم — فخطب في مجلس النواب خطبة اختلبت الألباب ببلاغتها ومزقت الخصوم بأدلتها ونكتها، ولم يكد يجلس في كرسيه حتى انبرى له غلادستون وقاوم الحجة بالحجة والدليل بالدليل، واستخرج الدر من بحار الفصاحة، واستنزل السحر من سماء البيان حتى لم يُبقِ في النفوس أثرًا لخطبة دزريلي، ومن تلك الساعة عُدَّ خطيبًا من أبلغ الخطباء الذين نبغوا في البلاد الإنكليزية، وابتدأ حينئذ النضال بين هذين البطلين المجربين دزريلي وغلادستون ودام أربعًا وعشرين سنة بلا انقطاع، وكان غلادستون قد عَدَل عن آراء المحافظين واعتنق مبادئ الأحرار، فعُيِّن وزيرًا للمالية في وزارة اللورد بامرتسون، ولما قدَّم الميزانية للمجلس خطب فيه خطبة طويلة جدًّا دامت ساعات كثيرة، ولكن الحضور سمعوا كل كلمة منها بلهفة كأنهم يسمعون غناء أطرب المغنين. ويقال إن هذه الخطبة تستحق أن تُحفظ في دواوين الإنشاء والسياسة كما تُحفظ صور أشهر المصورين في متاحف الفنون.
وسنة ١٨٦٥ تُوفي اللورد بامرستون فشكَّل اللورد رسل وزارة وجعل غلادستون رئيسًا لمجلس النواب، واتفقا كلاهما على توسيع نطاق الانتخاب وأنشآ لائحة في ذلك قدماها إلى المجلس فقاومها المحافظون وجمٌّ غفير من الأحرار، فسقطت الوزارة بسبب ذلك ودُعي دزريلي لتأليف وزارة جديدة، ولكنه رأى أن لا بد له من السير في خطتهما من حيث توسيع نطاق الانتخابات.
ثم التفت غلادستون إلى أرلندا وما فيها من الضيق فاهتم بإصلاح شئونها وتعليم شعبها وتوسيع نطاق التعليم في البلاد الإنكليزية كلها، وغلب الوزارة في أمور كثيرة فحُل مجلس النواب وأعيدت الانتخابات فكانت الأكثرية من الأحرار، فجُعل رئيسًا للوزارة وذلك سنة ١٨٦٩، ومن ثَم أخذ الإصلاح يتسع نطاقه في أرلندا وإنكلترا كلها، ودامت وزارته إلى سنة ١٨٧٣ ثم غُلبت فاستعفى وأُعيدت الانتخابات فكان الفوز للمحافظين ورأسَ دزريلي الوزارة سنة ١٨٧٤.
وكثر اشتغال غلادستون حينئذ بالتأليف والتصنيف في المواضيع الأدبية والتاريخية، ثم حدثت حوادث البلغار فرمى الأقلام والدفاتر وهاج خواطر أوروبا كلها ضد الدولة العثمانية، وحُلَّ مجلس النواب الإنكليزي سنة ١٨٨٠ وأعيد الانتخاب، ففاز الأحرار ورأس الوزارة والمشاكل كثيرة في كل مكان لكنه نجح في توسيع نطاق الانتخاب حتى كاد يكون عامًّا. ولم يصفُ لوزارته الزمان فحدثت في أيامها مشاكل كثيرة أهمها الثورة العرابية وسقوط الخرطوم، ثم قدم لائحة الاستقلال الإداري في أرلندا فانشق الأحرار بسبب ذلك وخرج كثيرون من مشاهيرهم واتحدوا مع المحافظين ضده فغلبوه، وما من أحد منهم يُنكر عليه خلوص النية وحسن الطوية فيما أراده لأرلندا ولو كان غير ما تقضي به مصلحة إنكلترا، وتربع المحافظون في الوزارة إلى سنة ١٨٩٢ وحينئذ أعيدت الانتخابات فأجلَت عن فوز الأحرار بأكثرية قليلة فأُدليت رئاسة الوزارة إليه وهي المرة الرابعة. وفي غرة مارس من سنة ١٨٩٤ خطب الخطبة الأخيرة في مجلس النواب، واستعفى في اليوم التالي؛ لأنه أصيب بالكتركتا في عينيه كلتيهما وعملت له عملية الكتركتا في شهر مايو، ولا يزال مُكبًّا على الأشغال العلمية والكتابات الجدلية في أشهر جرائد إنكلترا، وقد ناظر الأستاذ هكسلي مناظرة عنيفة في مجلة القرن التاسع عشر في العلم والوحي تدفقت فيها ينابيع البلاغة تدفقًا لا مثيل له؛ لأن الرجلين من أشهر كُتَّاب العصر وأرفعهم منزلة وأكثرهم اطلاعًا.
وتذهلنا خطبه في مجلس النواب؛ فإنها كلها مفعمة بالمعاني والأدلة العقلية والنقلية، ولو كانت ارتجالية لأمر يدعو إليه الحال أو الجدال بينه وبين الخصم أو لإيضاح مشكل أو للرد على منتقد، فقد يتكلم ساعة كاملة لا يكرر عبارة ولا يتردد في قول ولا تغيب عن ذاكرته حادثة تاريخية ولا تفوته نكتة أدبية، أما كتاباته الجدلية فلا تخلو من الضعف إذا كانت المواضيع علمية طبيعية؛ لأنه ليس ثقة في موضوع منها.
ولقد أجمع مشاهير الكُتَّاب على أنه لم يفقه أحد في الخطابة والجدل من وزراء الإنكليز، والمُرجَّح أيضًا أنه لم يبلغ أحد شأوه فيهما حتى الآن.
وسياسة غلادستون معروفة مشهورة، وهو مثل بامرستون في عزمه وحزمه، وينظر إلى الملكة كرقيبة على سياسة البلاد وممهِّدة لعقابها، وهي تصب على حدته زيتًا وبلسمًا، وتوفق بينه وبين خصومه بحكمة فائقة، كما يظهر من حوادث كثيرة نؤثر منها الحادثة التالية:
دخل الوزارة سنة ١٨٦٩ ومعه أكثرية عظيمة في مجلس النواب وهو عازم أن يُجري بواسطتها أمرًا للكنيسة الأرلندية لا توافق عليه الملكة ولا رئيس أساقفة كنتربري، فطلبت منه أن يقابل رئيس الأساقفة ويتفق معه على ما به المصلحة العامة، فقال لها: إن رئيس الأساقفة قد رفض كل اتفاق من هذا القبيل فلا سبيل له لمقابلته في ذلك، فكتبت من ساعتها إلى رئيس الأساقفة وقالت إنها قابلت غلادستون فرأته على تمام الاستعداد لمقابلته، وإنه راغب جدًّا في الاتفاق معه، وطلبت من رئيس الأساقفة أن يمهد السبيل لهذه المقابلة ولا يكون أقل رغبة منه في الاتفاق معه، فكتب رئيس الأساقفة إلى غلادستون فزاره غلادستون في اليوم التالي وشرح له مشروعه فاستحسنه وزالت أسباب الجفاء من بينهما.
قد كان يوافيها دائمًا بخلاصة الخطب التي تتلى في مجلس النواب والمناظرات التي تدور بين أعضائه، ونسب نجاحها ونجاح مملكتها في عهدها إلى أنها «تدرك إدراكًا تامًّا شروط العهد العظيم المعقود بينها وبين شعبها وتعمل به.»
سلسبري
هو روبرت آرثر تلبت غسكوين سسل مركيز سلسبري، ولد في الثالث عشر من فبراير سنة ١٨٣٠ من عائلة قديمة عريقة في المجد يتصل نسبها بداود سسل الذي كان في عصر الملك هنري السابع منذ أربعمائة سنة، وقد أُعطيت إمارة سلسبري لسلفائه سنة ١٦٠٥، أي منذ مائتين وثلاث وتسعين سنة، درس في مدينة أكسفرد — حيث درس غلادستون — باسم اللورد روبرت سسل، ونبغ في العلوم الرياضية، وكان يناضل عن حزب المحافظين، وانتخب عضوًا في مجلس النواب وهو في الثالثة والعشرين من عمره، واشتغل بالسياسة حالًا فنصر رجال الدين في مجلس النواب، وقاوم غلادستون في مسألة رسوم الورق بقوة وبلاغة، فعرف النواب قدره وأجلسوه على المقاعد الأمامية حيث يجلس زعماؤهم، واشتهر حينئذ بدقة البحث وقوة العارضة، ولكنه لم يكن قوي الحجة إلا إذا تكلم عن الكنائس والمدارس أو عن المسائل الخارجية.
وعُين سنة ١٨٦٦ وزيرًا للهند (وكان يلقب بلقب لورد كرنبورن بدل أخيه الأكبر الذي مات) ولكنه لم يقم في هذا المنصب طويلًا، بل استعفى وعارض غلادستون في مسألة كنائس أرلندا، وسنة ١٨٦٨ انتقل إليه لقب مركيز سلسبري بموت أبيه، فدخل مجلس الأعيان ولم يمضِ عليه سنتان حتى اعترف له الجميع أنه زعيم المحافظين في ذلك المجلس.
ولما غُلب الأحرار سنة ١٨٧٤ وصار دزريلي رئيسًا لوزارة المحافظين اختار سلسبري وزيرًا للهند، ولم تمضِ عليهما سنة حتى اختصما لكنهما لم يفترقا؛ لأن مصالح المملكة كانت تقضي اتحادهما، وأُنفذ حينئذ إلى الآستانة العلية لمنع الحرب الروسية فلم يُفلح.
ثم تُوفي لورد بيكنسفيلد فصار سلسبري زعيمًا للمحافظين بعده، ولما خُذل الأحرار سنة ١٨٨٥ دُعي لتأليف وزارة فألفها وأخذ نظارة الخارجية لكن وزارته لم تدم طويلًا؛ لأن الانتخابات العمومية التي حدثت تلك السنة رجحت جانب الأحرار، فعاد غلادستون إلى الوزارة ثم غُلبت وزارته في لائحة استقلال أرلندا الإداري، فخلفه سلسبري وحدث عيد الملكة الخمسيني في وزارته هذه، وقد زارته الملكة بنفسها في قصر هتفيلد وذلك فخر عندهم قلما يناله أحد، ثم زاره فيه إمبراطور ألمانيا، وغُلبت وزارته سنة ١٨٩٢ وتلتها وزارة غلادستون وروزبري ثم عادت الوزارة إليه سنة ١٨٩٥ ولم يزل رئيسًا لها.
وهو خطيب مُفلِق وسياسي محنك ولا سيما في المسائل الخارجية يحفظها سرًّا غامضًا لا يُكاشف بها إلا الذين يعنيهم أمرها.
وقد اشتُهر بكثرة البحث في المسائل الطبيعية ولا سيما فيما يتعلق منها بالكهربائية، وله الخطبة المشهورة في مجاهل العلم التي خطبها في مجمع ترقية العلوم البريطاني وأتينا عليها في المقتطف.
هذه فذلكة من تاريخ وزراء الملكة ومن تاريخ حياتها السياسية.
قال المستر ستد صاحب مجلة المجلات إنه زار بلاد الروس سنة ١٨٨٨، وقابل القيصر إسكندر الثالث وكلَّمه في بعض المهام ثم قص ما قاله له القيصر على السر روبرت مورير سفير إنكلترا في بطرسبرج، فكتب السفير ذلك في كتاب وتلاه على المستر ستد فسأله المستر ستد مُستغربًا: هل تقصد أن ترسل هذا الكتاب كبلاغ إلى الحكومة؟ فقال: «معاذ الله، بل إنما كتبته لأبعث به إلى الملكة، فهو كتابي لها خاصة لا يطبع في الكتاب الأزرق ولا يطَّلع عليه الجمهور، ونحن نكتب إليها دائمًا بكل المهام السياسية.»
وقد شبَّه المستر ستد الملكة بمحرر جريدة يكتب فيها ما يشاء ويُنقح ما يشاء مما يكتبه فيها المساعدون له، والجريدة هي إدارة شئون السلطنة، ووزراؤها ورجال السياسة فيها المحررون والملكة رئيسة التحرير تكتب ما تشاء وتُنقح ما تشاء، ولكن مشيئتها منطبقة على مشيئة شعبها ومصلحته؛ لأن الحكومة دستورية كما يتضح مما تقدم في الفصول السابقة ومما يأتي في الفقرات التالية.
لما استعفت وزارة لورد ملبرن الأولى سنة ١٨٣٩ — على ما تقدم — غلب الحزن على الملكة لحداثة سنها حينئذ، فإنها كانت في التاسعة عشرة حتى إذا جاءها اللورد جون رسل ليخبرها باستعفاء الوزارة قابلته وعيناها مغرورقتان بالدموع حزنًا على وزرائها، وخوفًا من السر روبرت بيل الذي كان لا بد لها من وضع مقاليد الوزارة في يده؛ لأنها حسبته رجلًا صعب المِراس ولأنها كانت حينئذ متشيعة لحزب الأحرار مثل زعيمه لورد ملبرن، فأثبتت اهتمامها الشديد بسياسة مملكتها وهي فتاة في التاسعة عشرة من العمر.
ولما اقترنت بالبرنس ألبرت أشركته في مهام المملكة، فقام بأعبائها أحسن قيام مدة حياته معها، قال الكونت فتزوم وزير سكسونيا: «إن البرنس ألبرت زوج الملكة كان الحاكم المطلق في بيته والعنصر الفعَّال في السلطنة الإنكليزية المنتشرة في أقطار المسكونة، ولقد كان يهتم بمصالح كل تلك الملايين الخاضعين لها ولو كان الأمر عظيمًا عليه لحداثة سنه، وفي يده كانت مقاليد المملكة مدة عشرين سنة حتى لم تخرج رسالة من وزارة الخارجية إلا بعد اطلاعه عليها وإمعانه النظر فيها وتنقيحها إذا رآها محتاجة إلى التنقيح، ولم يأتِ تقرير مهم من سفير من السفراء إلا اطلع عليه، وكان كل من وزير المستعمرات ووزير الحربية ووزير الداخلية ووزير البحرية يقدم له كل يوم رزمة من الأوراق لا تقل عن أوراق وزارة الخارجية، فيقرأ كل ورقة منها ويُعلِّق عليها ما يبدو له من الآراء، وكان فوق ذلك يكاتب الملوك والسفراء وحكام الولايات في الهند وكندا، ولم يجرِ شيء في بلاط الملكة إلا بأمره.»
وقد يكون في هذا الكلام شيء من المبالغة، ولكن لا مبالغة في أن الملكة قبضت على أزمَّة المملكة بيديها قبل اقترانها، وأشركت زوجها معها مدة حياته ثم استقلت بالمُلك بعد وفاته، وهي التي فضَّت كثيرًا من المشاكل الداخلية والخارجية، ولولاها لبلغ بسمارك مأربه من إنكلترا بمعاضدة روسيا، ولاشتركت إنكلترا في الحرب الأمريكية الأهلية سنة ١٨٦١ وفي الحرب الأوروبية سنة ١٨٦٤ فعادت منهما بالخزي والخسران، ولولاها ما بلغ مجد إنكلترا ما بلغه في مشارق الأرض ومغاربها، وكانت في كل ذلك محافظة على نظام البلاد الدستوري وجارية بحسب إرادة شعبها.