من المهد إلى اللحد
يعمل الاختصاصيون النفسيون الإكلينيكيُّون مع تنويعات لا حصرَ لها من البشر، وسنَعرِض في هذا الفصل أمثلةً منها. فقد ينتمي العملاء إلى مختلف الأعمار، من الولادة وحتى الموت، ومن مختلف مشارب الحياة ومَراحلها. فمِن فئات العملاء الأطفال والأسر، والبالغين الذين يُعانون من صعوبات نفسية، وكبار السن، وذوي الإعاقات الفِكرية، ومَن يُواجهون تحديات في صحَّتهم الجسدية (كالإعاقات أو الأمراض المزمنة)، وبعض المجموعات ذات الاحتياجات المُعيَّنة (كالسجناء وأفراد القوات المسلَّحة واللاجئين). لا يوجد توصيف لما يمكن أن نُسمِّيَه «العميل النمطي»، لكن أكثر من يستفيدون من التدخُّلات النفسية هم على الأرجح مَن يحضرون طوعًا ويكونون على استعداد للتفكُّر في حالهم النفسي. ما نقصده بهذا أنهم مُستعدُّون لقضاء بعضٍ من وقتهم في استكشاف أنفسهم وسلوكياتهم ومشاعرهم ومعتقداتهم الشخصية، ولا يَبحثُون ببساطة عن حلٍّ طبي مباشر أو حيلة سريعة تُصلح مَشاكلهم وتُجيب عن أسئلتهم.
بدءًا من الطفولة فما بعدها، يتعلَّم الناس ويتطورون بينما يشقُّون طريقهم في الحياة، ويتغيرون نفسيًّا مع تقدُّمهم الفعلي في السن. ويفسر الاختصاصيون النفسيون الإكلينيكيون تجارب عملائهم من خلال منهجية تَنظر إلى مدى عمرهم بأكمله. ما نَعنيه بهذا أن ما يحدث الآن يُمكن فهمُه ولو جزئيًّا باعتباره نتيجةً لما حدث في الماضي، وأنَّ التغيرات العادية المتعلقة بالسن (كولادة أشقاء مثلًا، أو تغيير المدرسة، أو مُغادَرة البيت، أو الحصول على وظيفة (أو خسارة أخرى)، أو أن يُصبح الشخص أبًا أو أمًّا، أو التقاعُد أو تجربة الفقد) سيكون لها أثر كبير على الأرجح في التطور الحالي للفرد وصحته ودرجة الإشباع لدَيه.
يعمل الاختصاصيون النفسيون الإكلينيكيون على الدوام من خلال النقاش أو التعاون ويحصلون على الموافَقة من عملائهم مباشرة، لكنهم يحصلون على هذه الموافقة عن طريقٍ غير مُباشر في بعض الحالات كأن يكون العملاء من (الأطفال الصغار أو المُصابين بالخرف المتقدِّم أو الإعاقة الفكرية الشديدة) فتكون الموافقة حينئذٍ من أشخاص آخرين (أي العائلات ومقدمي الرعاية). مُعظم العمل يجري مباشرةً مع العميل، وإن كانت بعض التدخُّلات تحدث بشكل غير مباشر أحيانًا كما ذكرنا في الفصل الأول، من خلال تقديم المشورة لطاقم عمل يُساعدون العميل أو التدريس لهم أو الإشراف عليهم، أو تقديم جزءٍ من هذا أو كله لأشخاص آخرين. فكثير من علاجات الأطفال أو كبار السن تتم بالتعاون مع الوالدَين أو الأُسَر أو مُقدِّمي الرعاية، وهم الأقدر في واقع الأمر على تحقيق تغييرات مُستدامة من مجرد اختصاصي نفسي إكلينيكي يعمل بمُفرده مع العميل.
الأطفال وحديثو السن والأسر
الطفولة هي الفترة التي يشهد البشر فيها أكبر قدر من التغيرات النفسية، وسيكون للتعلم وأنماط التعلق وآليات التكيف التي تُكتسَب فيها تبعات على مدى الحياة بأكملها، سواء أكان ذلك جيدًا أم سيئًا. وسيمر الأطفال جميعهم لا محالة بقَدرٍ من العناء في مرحلة ما، بينما يتعلَّمون الانفصال عن والديهم والتعامل مع عقبات الحياة التي لا مفرَّ منها. غير أن أغلب الأطفال لديهم قُدرة على التكيف، وقلَّة منهم فقط هم مَن سيُواجهُون مشكلات كبيرة. تكون هذه المشكلات عادةً (ولكن ليس دومًا) نتاج اضطراب تربية الوالدَين لهم أو تقلُّبها، أو المرور بظروف عسيرة. لا تُوجد تربية مثالية، لكن بعض الأطفال يمرُّون بتجارب سيئة جدًّا كالإهمال، سواء أكان عاطفيًّا أم جسديًّا، أو الصدمات. وتأتي بعد ذلك أعوام المراهقة التي تمثل مرحلة انتقالية، وبينما يتأقلم أغلب المراهقين على نحو جيد ويُحافظون على علاقات جيدة مع والديهم وأقرانهم ومُعلميهم خلال هذه الفترة، يواجه بعضهم صعوبات وتحديات. فقد تَجتمع توليفة من التغيُّرات الاجتماعية والنمائية والاقتصادية والجسَدية والهرمونية؛ فينتج عنها عدم الاستقرار النفسي أو المعاناة.
تُوجد أنواع خمسة رئيسية من الصعوبات التي عادةً ما تكون هي السبب في إحالة الأطفال وحديثي السن إلى علم النفس الإكلينيكي أو لجُوئهم إليه للمساعدة: الاضطرابات السلوكية، والوجدانية، واضطرابات الأكل، والذُّهان، والاضطرابات الجسدية/النمائية.
من أمثلة المُشكلات السلوكية صعوبات النوم والمعارَضة المُفرطة، أو الصعوبة الشديدة في التحكم في سلوكهم. وبالنسبة إلى المشكلتين الأخيرتين تحديدًا، فتُشير الدراسات إلى وجودهما بين ١٠٪ و٢٠٪ من المُراهِقِين في أيِّ وقت. ويفضل معالجة هذه المشكلات بشكل مشترك مع الوالدَين، من خلال تدريبهما على سبيل المثال. أما إن تُركت دون علاج، فإننا نخاطر بحدوث إساءة استخدام للعقاقير أو التورُّط في أنشطة غير قانونية فيما بعد.
أما المشكلات الوجدانية، بما فيها القلق، والسلوكيات القَهرية أو الوسواسية، وتدنِّي الحالة المزاجية والاكتئاب؛ فقد تُصيب في مرحلةٍ ما واحدًا من بين كل ثلاثة مُراهِقين لا يستطيع معظمهم الحصول على مساعدة احترافية فعَّالة. يمكن للعلاج المعرفي السلوكي أن يكون مفيدًا في هذه الحالة (انظر الفصل الرابع)، لكن كلًّا من العلاج الأسري والعلاج النفسي المرتكز على العلاقات قد يكونان مُفيدَين كذلك.
بالنسبة إلى اضطرابات الأكل (ومنها اضطراب فقدان الشهية العصَبي، والنهام العصبي، واضطراب الشره)، فهي تَحدُث في حوالي ١-٢٪ من حديثي السن، وغالبًا ما تظهر لأول مرة في سن المراهقة. يمكن أن يكون اضطراب فقدان الشهية العصبي على وجه التحديد خطيرًا للغاية لدرجة أن يهدد الحياة. وفي العموم يتضمَّن العلاج تنويعة من العلاج المعرفي السلوكي أو العلاج الأسري (انظر مربع ٥).
أما الذُّهان (وهو التفكير والتصرف والشعور بطُرقٍ غير مُتوافِقة مع الواقع كما يتصوَّره مُعظمُنا وتختلف تمامًا عنه) فهو نادر في الأطفال، لكن قد تظهَر علامات تحذيرية مُبكِّرة في مُنتصَف سنوات المراهَقة. عادةً ما يعتمد العلاج على الأدوية، لكنَّ تشكيل فرق للتدخل المبكر بات في تزايد مستمر في الآونة الأخيرة، وتعمل هذه الفرق باستخدام العلاجات النفسية وتقديم الدعم للعائلات.
مربع ٥: اختصاصي نفسي إكلينيكي يَعمل مع فتاة تُعاني من مشكلات مع الأكل
بولي فتاة ودودة وهادئة تبلغ من العمر ١٣ عامًا، كانت فيما مضى تَستمتِع بالمدرسة وممارسة عدد من الأنشطة بعد المدرسة. أخذتها والدتها إلى الطبيب وقالت إنَّ بولي صارت مُفرطة القلق بشأن مظهرها فجأة. كانت بولي قد أخبَرَت والدَيها أنها تعرَّضت للمضايقات في المدرسة لأنها «سمينة»، وبدأت في الحد من تناول الطعام وفي مُمارسة التمارين الرياضية بانتظام. وقالت أيضًا إنها تَشعُر بأنها غبية ولا فائدة لوجودها وقبيحة. مع مرور الوقت، فقدت بولي قدرًا كبيرًا من الوزن، وأُحيلت إلى الخدمة المحلية لتُساعدها في مشكلة اضطرابات الأكل، لكنَّها رفضت الحضور إليها في البداية. فنظمت لها الخدمة سلسلة قصيرة من الجلسات مع الاختصاصي النفسي الإكلينيكي لمحاولة بناء تقديرِ بولي لذاتها وتشجيعها على زيارة اختصاصيِّ التغذية حتى تبني عادات غذائية أصح. خلال هذه الجلسات، ساعد الاختصاصي النفسي بولي في رؤية دَور الطعام في حياتها وما قد يُعبِّر عنه تناولنا للطعام (أو عدم تناوله) بشأن نموِّنا وشعورنا بالحب والاعتراف.
وأخيرًا، قد تطرأ صعوبات نفسية لدى حديثي السن عندما يَحتاجون لأن يتعلَّموا التكيُّف مع الإعاقات الجسدية أو المشكلات الصحة الجسَدية المزمنة (انظر المثال المذكور في مربع ٦ بشأن مراهق يُعاني من داء السكَّري). وتظهر المشكلات النمائية مثل صعوبات التعلُّم والتوحُّد (أو اضطراب طيف التوحد) عادةً في الطفولة (يُصيب الأول حوالي ٤٪ من الأطفال في سن المدرسة، وتبلغ نسبة إصابة الثاني بين هذه الفئة ١٪ تقريبًا). تحتاج المشكلات النمائية إلى تقييم نفسي دقيق باستخدام مجموعة متنوعة من اختبارات القياس المعرفية والسلوكية والجسَدية والعصبية، وغالبًا ما يتم التعامل معها من خلال فرق متعدِّدة التخصُّصات تضمُّ أطباءً وممرِّضين واختصاصيين نفسيين إكلينيكيين ومعلمين واختصاصيين اجتماعيِّين ومعالجين مهنيِّين واختصاصيي العلاج الطبيعي والأسر نفسها.
ورغم أن سبب إحالة الطفل أو الشاب إلى هذه الخدمات يتمثَّل عادةً في سلوكه، لكن العلاج غالبًا ما يَشمل الآباء، أو المُعلِّمين، أو القائمين على رعايته، ولا يُركز على المُراهق أو الطفل فحسب. وللتدخُّل المبكر أهمية كبيرة في مثل هذه المشكلات؛ لأنها قد تستمر إن لم تُعالَج وتكونُ لها تداعيات على مسار حياة هؤلاء الصغار وصحَّتهم على المدى الطويل.
مربع ٦: اختصاصيٌّ نفسي إكلينيكي يعمل مع صغير مُصاب بداء السكري
بوبي الذي يَبلغ من العمر الآن خمسة عشر عامًا، تلقَّى المساعدة من علم النفسي الإكلينيكي للمرة الأولى في عمر السادسة حين شُخِّص بداء السُّكري من النوع الأول. كان بوبي خائفًا للغاية من الإجراءات الطبية المتعلِّقة بالتعامل مع مرضه؛ ولهذا طُلِب من الاختصاصي النفسي أن يُساعِدَه على التحدُّث عن مخاوفه وتقليل قلقه مِن الحقن وفحوصات الدم. وقد كان هذا مفيدًا، لكن للاستجابة إلى جميع احتياجات بوبي، كان العمل مع إلاين، أم بوبي، ضروريًّا للغاية؛ إذ كانت هي نفسها شديدة القلق وغير قادِرة على طمأنته بفاعلية. واتَّضح في أثناء العمل معها، أن ولادة بوبي كانت عسيرة — رغم تطلعها إليها — وأنها عانت إثرها من مُضاعفات طبية؛ ممَّا أدى إلى تكوين ذكريات مؤلمة متكررة. ظهرت هذه الذكريات مجددًا عند تشخيص بوبي بداء السكري، وشعرت إلاين بطريقة ما، بأنها مسئولة عن مشكلات بوبي الصحية. رتبت المستشفى لمتابعة إلاين مع اختصاصي نفسي آخر ليوفر لها دعمًا إضافيًّا ويُساعدها على التعامُل مع ذِكرياتها المُؤلمة، ولدعم الأسرة بأكملها في تعلمها للاستجابة بفاعلية لاحتياجات بوبي الطبية المستمرَّة.
على مدى السنوات التالية، واجه بوبي صعوبات في اضطراره إلى التحكُّم في نظامه الغذائي بعناية، لا سيما حين لم يكن يرغب وهو مراهق في أن يبدو مختلفًا عن أصدقائه لتجنبه أطعمة أو مشروبات كحولية معيَّنة قد تُؤذي مُستويات الجلوكوز لديه. وقد أدَّى هذا إلى خلافات عديدة مع والدته. ومجددًا، طُلِب من اختصاصيٍّ نفسي إكلينيكي مساعدة بوبي في صراعه بين حاجاته المتعارضة متمثلة في الاعتناء بصحته، ورغبته في التمتع بقدر أكبر من الاستقلالية، والحفاظ على علاقته مع أمه، والتناغم مع أقرانه.
الأشخاص في سن العمل
ربما يُشكِّل الأشخاص في سن العمل (من ١٨ إلى ٦٥ سنة) غالبية مَن يَستشيرون اختصاصيًّا نفسيًّا. غير أنَّ أسبابهم للقيام بذلك تتفاوَت تفاوُتًا كبيرًا. لدينا أولًا من يرغبون في تحسين علاقاتهم مع الآخَرين اجتماعيًّا ومهنيًّا، أو مَن يَرغبون في فهم ذواتهم، وقد يكون هذا لأنهم يتلقُّون تدريبًا ليُصبحُوا اختصاصيِّين في مجال الصحة النفسية كذلك.
ثانيًا، هناك مَن يمرُّون بمشاعر جارفة مِن الاكتئاب أو القلق أو الارتباك أو الغضَب، وقد يعُود هذا أحيانًا إلى تغيُّرات في الحياة مثل إنجاب طفل أو عدم القدرة على إنجاب طفل، أو بدء وظيفة أو مغادرة أخرى، أو بدء العلاقات وانتهائها، أو الانتقال إلى منزل جديد، وغير ذلك. وفي أحيان أخرى، تظهر مثل هذه المشاعر «بلا سابق إنذار». وقد تُعيق استمتاع الشخص بالحياة والعلاقات (وإن كان الأشخاص يظلُّون قادرين على التكيف بدرجة جيدة مع المنزل والعمل في العديد من الحالات).
وثمة مجموعة ثالثة تشمل مَن تعرَّضوا لمشكلة نفسية كبرى، كالذُّهان أو الصدمات النفسية المركَّبة، مما يؤثر على جميع جوانب حياتهم. وأخيرًا، قد تكون لبعض الفئات من الناس احتياجات خاصة في المساعدة النفسية ترتبط بظروف حياتهم الخاصة، شديدة الاختلاف، مثل التورط في قضايا جنائية، أو المشاركة في قوات عسكرية، أو اللاجئين وطالبي اللجوء. وغالبًا ما يسعى الاختصاصيُّون النفسيون الإكلينيكيون الذين يعملون مع هذه الفئات إلى تلقِّي تدريبات إضافية حرصًا منهم على تكوين فهم دقيق للاحتياجات الخاصة للأشخاص في مثل هذه البيئات.
ينبغي مراعاة أنَّ هذه التقسيمات الفرعية اعتباطية إلى حدٍّ كبير، ويتبايَن عدد الأشخاص الذين يلتمسون المساعدة في كل فِئة منها من ثقافة لأخرى. على سبيل المثال، في بعض البلدان النامية حيث يُوجد نقص في عدد الاختصاصيِّين النفسيين الإكلينيكيِّين الذين يعملون تحت مظلة الحكومة، وتكاليفُ العلاج مُرتفعة، يكون عمل مُعظم الاختصاصيين النفسيين الإكلينيكيين مع عملاء يُعانون من مشكلات نفسية خطيرة ومُستديمة، لا المشكلات النفسية الأكثر شيوعًا. والعكس هو ما يحدث على الأرجح في بعض البلدان الأغنى؛ حيث يتلقَّى معظم العملاء الخدمة في كيانات خاصة.
التحلي بالفضول: الرغبة في فهم نفسك وتطويرها أكثر
إنَّ زيارة الاختصاصي النفسي الإكلينيكي تُمثل لبعض الأشخاص إمكانيةً للوصول إلى فهم أعمق لذواتهم. وهذا أمر مُهم لكل العاملين في تخصُّصات الصحة النفسية باعتباره جزءًا من تطورهم المهني الشخصي. وقد يَستشير آخَرُون اختصاصيًّا نفسيًّا إكلينيكيًّا لاستكشاف مساحات تشككهم أو حيرتهم الشخصية وإيجاد طريقة لتسويتها. فالعميل ليس «مريضًا» بالمعنى الطبي للكلمة، ولكنه يرى أن أموره يُمكن أن تصبح أفضل مما هي عليه في العمل أو البيت أو في علاقاته (انظر المثال المذكور في مربع ٧). على سبيل المثال، قد يكون العميل مهتمًّا بالتساؤل عن تأثير تنشئته عليه ويُريد مكانًا آمنًا يتقصَّى فيه تجاربه السابقة؛ حتى يُحاول (على سبيل المثال) فهم السبب في تمسُّكه بأنماطٍ سُلوكية معيَّنة يَبدُو أنه لا يستطيع التخلُّص منها، وربما يحسِّن ثقتَه بنفسِه كذلك.
وتُعَد زيارة الاختصاصي النَّفسي الإكلينيكي بدون مواجَهة العميل لمُشكلة وجدانية كبيرة أمر شائع في بعض البلدان أكثر مِن غيرها. ففي بعض أجزاء أمريكا الجنوبية مثلًا، يَنتشِر منذ فترة طويلة تقليد تقديم العلاج النفسي لعُملاء يَرغبون في فهم أنفسهم فهمًا أفضل أو إيجاد غاية لحياتِهم وتحسين جودة حياتهم أو ربما أحد الأمرَين فقط؛ أي يسعون إلى تحقيق تغييرات إيجابية تُعزِّز نموَّهم الشخصي ونجاحهم. وبذلك يُنظَر إلى العلاج النفسي على أنه أحد أنشطة الاعتناء بالذات، كالاستعانة بمدرب شخصي يعمل معك على تحسين صحَّتك البدنية.
مربع ٧: نيكي تطلُب المساعدة في مشاكل علاقاتها
لجأَت نيكي، وهي أمٌّ عزباء في أواخر الثلاثينيات من عمرها، إلى اختصاصيٍّ نفسيٍّ إكلينيكي طلبًا للمساعدة؛ لأنها كانت تشعر بأنها عاجزة وعالقة في مُشكِلات علاقاتها الشخصية. حبلت نيكي في بداية العشرينيات من عمرها، وظلَّت تعيش مع والد طفلها لبعض الوقت، لكن علاقتَهما لم تَنجح وانتهت عندما تطور الأمر إلى عنفٍ جسَدي. كانت نيكي تعمل في وظيفة جيدة في الحكومة المحلية، وكانت قادرةً على الانتقال مع ابنتها إلى شقة صغيرة خاصَّة بهما؛ حيث كانت تدير أمورها بشكل جيد وكوَّنت دائرة مِن الصداقات النسائية. على الرغم من ذلك، كانت علاقاتها مع الرجال تُسبِّب لها القلق: فكل رجل تُواعده يبدو مثاليًّا في البداية ثم يخذلها أو يستغلُّها، بأن يأخُذ منها مبلغًا كبيرًا من المال ولا يردُّه على سبيل المثال. صارت نيكي متأكِّدة من أنها كانت تَختار النوعية الخاطئة من الشركاء أو تقوم بشيء خاطِئ دائمًا، وترغب في فهمِ هذا؛ أمكتوبٌ على كل علاقاتِها الفشَل دومًا؟ صحيحٌ أنها لم تَكُن تَشعُر حينئذٍ بانزعاج مُفرِط من هذا الأمر، لكنَّها قرَّرت استِشارة اختصاصي نفسي إكلينيكي خاصٍّ لمُحاولة فهم ما يَحدُث معها، وفهم السبب في أنها كانت تشعر وكأنها عالقة في حلقة مُفرَغة تتكرر، وفهم كيف يُمكنها أن تُغيِّر من هذا في المستقبل.
عندما تُفاجئك الحياة وتُفقدُك اتِّزانك
المجموعة الثانية (والأكبر على الأرجح) من الأشخاص في سنِّ العمل الذين يَستشِيرُون الاختصاصيِّين النفسيِّين الإكلينكيِّين، هم من يمرون بصعوبات نفسية قد تكون شائعة لكنها تسبب الكثير من المعاناة على أيِّ حال. يَندرِج تحت هذه المشكلات ما يُؤدي إلى اضطراب وجداني من المشاعر أو السلوكيات أو الأفكار والتي تُعيق استمتاع الناس بالحياة بدرجة كبيرة، حتى إنها تحيل بعضًا من جوانب حياتهم إلى شقاء يومي أو مأساة سرِّية أو دوامة من الخوف تبدو وكأن لا نهاية لها. وقد بتنا الآن نعلم أنَّ أعدادًا هائلة ممَّن يعيشون حياة عادية ويُقيمون علاقات ويتعاملون مع متطلبات عملهم أو تنشئة أسرتهم، يمرُّون أيضًا بدرجات عالية من المعاناة الشخصية. ربما يتَّجه بعض هؤلاء إلى المواد المخدرة والكحول للتعامل مع هذه المشاعر أو تجنُّبها. يهدف الاختصاصيون النفسيون الإكلينكيون إلى مساعدة من يعيشون هذه المشاعر على استكشاف وسائل تكيُّف بديلة أقل ضررًا، وتطوير استراتيجيات أفضل للتعامل مع المشاعر الجارفة.
غالبًا ما تَندرِج هذه النوعية من المعاناة تحت واحد من الأسماء التالية: الهلَع، القلق العام، الرهاب، كرب ما بعدَ الصدمة، السلوكيات أو الأفكار الوسواسية القَهرية، الاكتئاب، اضطرابات الأكل، إساءة استخدام العقاقير، صعوبات في العلاقات العائلية والاجتماعية، أو الصعوبات الجنسية. وقد توجد لدى الشخص نفسه أكثر من مشكلة في الوقت عينه بالطبع. يضمُّ هذا الكتاب أمثلة عديدة على الاضطرابات النفسية الشائعة، مثل باربرا التي تُعاني رهابًا من الكلاب، وخوف عبد الله من الضوضاء (والذي قد يكون مُرتبطًا بحدوث صدمة) وهما مِثالان سنَتناوَلهما في الفصل الثالث، وستيوارت الذي يُعاني من مشاعر القلق وسنَتناوَله في مربع ٨ في هذا الفصل.
مربع ٨: ستيوارت يطلب المساعدة لأعراضه المتعلِّقة بالقلق
كان ستيوارت يحب ابنتيه الصغيرتين، ويُطلق عليهما لقب «الجوهرتين المتلألئتين» في حياته المثالية. ومع ذلك، كانت حياته الداخلية كابوسًا؛ كانت تُطارده فكرة أنه قد يتسبَّب في إيذاء ابنتَيه يومًا ما بصدمهما بسيارته سواءٌ عمدًا أو عن غير قصد. وليَحولَ دون ذلك، اتبع ستيوارت مجموعة طقوس معقَّدة، مثل أن يَذكُر لنفسه سلسلة من العبارات المعيَّنة بصوت عالٍ في أثناء قيادته للسيارة، ومتابعة تقارير حركة المرور المحلية، والعودة إلى حيث قاد سيارته ذاك اليوم ليتأكَّد من عدم تعرض أي أطفال لحوادثَ في تلك المنطقة. لكن هذه الطقوس والأفعال التي كان يشعر أنه يجب القيام بها بانتظام لتحييد أفكاره والحُئول دون وقوع حوادث فظيعة، اكتسحَت حياته تدريجيًّا. وفي خضمِّ يأسه، استشار ستيوارت اختصاصيًّا نفسيًّا إكلينيكيًّا والذي، بعد تقديره أنَّ المَخاطر الفِعلية لإيذاء الأطفال مُتدنية للغاية بالفعل، ساعَدَ ستيوارت في نهاية المطاف على استيعاب الفارق بين الأفكار والأفعال؛ إذ إن وجود الفكرة لا يتسبَّب فعليًّا في حدوثها.
عندما يبدو وكأن المُشكلات تُهيمن على كل شيء
المجموعة الثالثة تتألف من الأشخاص الذين يُعانون من أمراض نفسية مُستديمة، والذين يُطلَق عليهم تقليديًّا «مرضى نفسيون». ولسنوات طويلة، لم يكن للاختصاصيِّين النفسيِّين الإكلينيكيين دور مؤثر في علاج الأشخاص الذين يشخصهم الأطباء النفسيون بأنهم يُعانون من أمراض نفسية حرجة مثل الفصام، واضطراب ثنائي القطب، واضطرابات الشخصية، والذُّهان (وإن كان لهم دور كبير في تقييم حالتِهم). فقد كان يُعتقد أن هذه الأمراض النفسية تَنجم عن أعطاب في الدماغ، وكانت تُعتبر إما غير قابلة للعلاج بالمرة أو لا يُمكن علاجها إلا بالأدوية في مُستشفيات الصحة النفسية.
على الرغم من ذلك، صار الاختصاصيُّون النفسيُّون الإكلينيكيون يُساهمون مُؤخرًا في التعامل مع الأعراض والصعوبات الشائعة التي تَنجم من وجود هذه المُشكلات النفسية (صعوبات كسرعة الانفِعال عند التعامُل مع الشريك/العائلة/الرئيس في العمل، والعزلة، والإهمال في الاعتناء بالذات، والإقدام على السلوكيات المحفوفة بالخطر). وبدأ الاختصاصيُّون النفسيُّون أيضًا في الاستماع بعناية إلى إفادات المرضى عن أفكارهم وتجربتِهم، واكتشفوا أن بعض الأعراض التي قد تبدُو بلا معنى، مثل البارانويا (الشعور بأنك شخص مُختلف أو مُميز عن الآخَرين بصورة ما) قد تكون لها بعض الدلالة وفقًا لظروف الشخص. إضافةً إلى ذلك، أظهرت أبحاث الاختصاصيِّين النفسيِّين الإكلينيكيين أنَّ العديد ممَّن يعتبرون أشخاصًا «طبيعيِّين» قد يمرُّون هم أيضًا بأشياء غير طبيعية (مثل الهلاوس السمعية)، وأنَّ هذا لا يَقتصِر على مَن سبق تسميتُهم «مرضى نفسيين». وبهذا أعاد الاختصاصيون النفسيون الإكلينيكيون رسم خريطة العلاج؛ فالتدخُّل المبكر، والعلاج الكلامي (انظر مربع ٩ لتجد مثالًا إكلينيكيًّا)، وإرشاد العائلات بشأن كيفية تقليل الضغوطات، كلها من المُمارسات التي أحدثت فارقًا كبيرًا للكثيرين ممَّن يُعانون من مُشكلات نفسية كبيرة. وقد ساعدت هذه الجهود الكثيرين على الوصول للاستقرار وعدم تطوُّر حالتِهم، بل أدَّت للتَّعافي في بعض الأحيان.
مربع ٩: ستيف يختبر هلاوس سمعية ويَحصُل على المساعَدة من الاختصاصي النفسي الإكلينيكي
قبل بضع سنوات شَخَّص الأطباء النفسيون ستيف على أنه يُعاني من مُشكلات نفسية شديدة، قد تكون فصامًا. كان ستيف عاطلًا عن العمل ويعيش مع والدَيه، عندما بدآ يُلاحظان تدريجيًّا أنه توقف عن الخروج أو مُقابلة أصدقائه. وتوقف أيضًا عن الاستِحمام، وصار لا يَنام كثيرًا ويَقضي وقتًا أطول وأطول مُستيقظًا في الليل يَستخدِم الكمبيوتر. كان يقول لوالدَيه إنه يجب أن يعمل على أسئلة فلسفية معقَّدة، وأن الحل الذي كان واثقًا من أنه سينجَح في إثباته سيكون طفرةً كبرى في اللاهوت ذات تأثير هائل على العالم. جرَت إعادتُه إلى المُستشفى النَّفسي عقب بضعة أحداث تصرَّف فيها بشكل غريب جدًّا، بلَغَت ذروتَها عندما حاوَلَ الصعود إلى سطح المنزل بِناءً على تعليمات من الشياطين على ما يبدو.
بعد قَضاء بضعة أسابيع في المستشفى وتغيير الدواء، وافق ستيف على مقابلة الاختصاصية النفسية الإكلينيكية المسئولة عن جناح إقامتِه وأخبرها بأنه مُضطرٌّ للانصياع إلى أوامر الأصوات التي يَسمعُها وأنه أيضًا كان يَرهبها للغاية؛ إذ كان مُقتنعًا بأنها أثبتَت له أنه مجنون لدرجة لا يُمكن علاجها. بَنَت الاختصاصية النفسية الإكلينيكية مع ستيف علاقة قائمة على التعاون، وحثَّته على التفكير في الأصوات بطرق أقل تهديدًا، بهدف تقليل معاناته بسببها. وبالتعاون مع فريق العمل في هذا الجناح، ساعدت الاختصاصية النفسية الإكلينيكية ستيف في تحقيق تقدُّم نحو أهدافه الشخصية، بما في ذلك الحصول على وظيفة مجددًا واستعادة تواصُلِه مع أصدقائه، مما أتاح له مغادرة المستشفى في النهاية.
تجاوز الصدمات والظروف المريرة
الصنف الأخير يَشمل أقليةً من الأشخاص الذين تتعلَّق تحدياتهم تعلُّقًا وثيقًا بالنِّظام الحكومي أو القانوني أو بالمُشكلات الاجتماعية بصورتها الأوسَع. يَندرِج ضمن هذه الفِئة، المسجونون أو المُحتجَزون للرعاية في بعض المؤسَّسات أو القوات المسلَّحة، أو اللاجئون أو طالبو اللجوء؛ وجميعهم قد يمرون بصعوبات شعورية ونفسية خاصة. فالدخول تحت قبضة نظام العَدالة الجنائية أو الخضوع للتضييقات أو التعسُّف كثيرًا ما يُساهم للأسف في المُعاناة النفسية لهؤلاء الأشخاص.
فأولًا، هؤلاء المُحتَجزون في الأماكن الجنائية مثل السجون أو المُستشفيات المخصوصة عالية التأمين لربما تعرَّضوا هم أنفسهم للصدمات أو الأذى أو الإهمال أو كانوا ضحايا لجرائم، والأرجح أنهم شاركوا سابقًا في أفعال أو مواقف عنيفة خطيرة ومُعادية للمُجتمَع أو تعرَّضوا لها. ويُمكن للسجن نفسه أو المُستشفى عالي التأمين أن يكون مكانًا خطيرًا مروعًا، حيث السجناء محاطون بأشخاص مُضطربين آخَرين وموظَّفين تحت ضغط، وبدون أن يكون لهم تواصُل مع عائلتهم وأصدقائهم بانتظام. لا مفر إذن من أن يُواجه هؤلاء الناس مُستويات عالية من المُعاناة النفسية. على سبيل المثال، تُظهر الإحصاءات في المملكة المتَّحدة أن أكثر من ٧٠٪ من المساجين يُعانون من اضطرابَين نفسيين يُمكن تشخيصهما أو أكثر.
ومن المشكلات الشائعة في هذه الفِئة، سوء إدارة الغضب وتعاطي العقاقير وصعوبات في العلاقات الشخصية. ويَصِل الأمر أحيانًا إلى أنَّ بعضهم يَنبغي احتجازه في مُستشفيات عالية التأمين بسبب الخطر الذي يشكلونه على أنفسهم وعلى الآخرين، ولهذه المجموعة مُتطلبات إضافية كثيرة. كما أن المشكلات النَّفسية المُستديمة كالذُّهان أو الصدمات المركبة شائعة نسبيًّا بين مُرتكبي الجرائم؛ فنصف السجناء يُعانون من مرض نفسي حَرِج (وفقًا للإحصائيات الأمريكية). وعادة ما تكون الجُهود العلاجية النفسية لحلِّ أيٍ من المشكلات النفسية المرتبطة بالبيئة الجنائية معقَّدةً وطويلةً وتستهدف حماية المجتمع من خلال تقليل فرصة تكرار السلوك الجنائي للشخص، مع دعم إعادة دمجه في المجتمع.
ثانيًا، صار تقديم الخدمات النَّفسية الإكلينيكية في القوات المسلحة الآن في تزايد مستمر: فإدارة شئون المُحاربين القُدامى هي الآن أكثر جهة تُوظِّف اختصاصيِّين نفسيِّين إكلينيكيِّين في الولايات المتحدة. وذلك لأنَّ أفراد القوات المسلَّحة غالبًا ما يتعرَّضون لضُغوط وصدمات شديدة خلال العمليات. يُمكن لهذا أن يتسبَّب في ظهور أعراض اضطراب كربِ ما بعد الصَّدمة مثل سُرعة الانفعال والغضب والعنف. وقد يُحاول الأشخاص الذين يُعانون من اضطرابِ كرب ما بعد الصَّدمة أحيانًا تخدير مَشاعرهم من خلال تعاطي العقاقير والكُحول، أو من خلال الإفراط في الانخراط في العمل أو ألعاب الفيديو. يُمكن للاختصاصيِّين النفسيِّين هنا تقديم العلاج الزَّواجي أو الأسري بهدف تقليل النزاعات في العلاقات الشخصية وتعزيز التفاهُم والدَّعم الاجتماعي. كما يعمل اختصاصيُّون نفسيُّون إكلينيكيون آخرون على جوانب أخرى من الحياة العسكرية مثل الانتقاء والتدريب.
ثالثًا، لقد بِتنا نعي الآن على نحو مُتزايد ضرورة العلاج النفسي الإكلينيكي للاجئين وطالبي اللُّجوء؛ فكثيرون منهم نجوا على الأرجح من تحديات جسَدية ونفسية هائلة، قد تشمل العنف، وصدمات تتعلق بالحروب، والتهجير، وتجارب فقْد عديدة. وغالبًا ما يُصبح الأمر أكثر تعقيدًا بسبب تحديات الاندماج في ثقافة ومجتمَع جديدَين. فاللاجئون يُضطرُّون لمواجهة الكثير من الأمور الجديدة عليهم كاللغة والقواعد الاجتماعية والتوقُّعات في حين يعيشُون في عُزلةٍ وبدون دعم العائلة والأصدقاء. ومن صور المعاناة الشائعة في هذه الفئة تَعاطي العقاقير، وانهيار العلاقات، والاكتئاب، إضافة إلى أعراض اضطراب كرب ما بعد الصدمة (خاصة إعادة مُعايَشة الأحداث الصدمية السابقة في الحاضر، والخدر الشعوري، والكوابيس، وتجنُّب أي شيء قد يُذكِّرهم بالهجرة أو بالصدمات الأخرى). العلاجات التي قد تُفيدهم هي العلاجات نفسها التي تستخدم مع غيرهم من الأشخاص المكروبين نفسيًّا، مع التركيز الخاص على الاندماج الاجتماعي وإعادة بناء حياتهم.
كبار السن
مُعظمنا يعلم أننا نعيش الآن أعمارًا أطول كثيرًا مقارنةً بالقرون السابقة، وأن نسبة كبار السن من التعداد السكاني زادَت زيادة كبيرة. ينبغي أن يكون هذا أمرًا نحتفي به. غير أنَّ كبار السن لا ينالون من التقدير في الغالب ما يناله الأصغر منهم سنًّا ولا سيما في المجتمعات الغربية؛ فيجدون درجة أكبر من التدني في مستوى الخدمات المقدمة لهم، وتعكس السلوكيات العامة والتوجهات درجة أقل من الاستبشار لهم. ومن المؤسف أنَّ هذه المرحلة من العمر عادةً ما تجلب خسائر عديدة مثل خسارة العمل والمكانة الاجتماعية التي كانوا يحظون بها، وانفصالهم عن الأبناء أو تركهم لبيت العائلة، والحزن على وفاة زوج أو أصدقاء أو أقارب (انظر مربع ١٠ لترى مثالًا إكلينيكيًّا). وتتزايد أيضًا الصعوبات الصحية الجسَدية سواء المزمنة أو الحادة، مثل التهاب المَفاصِل وداء السُّكري والسكتة الدماغية والسرطان وأمراض القلب، وجميعها قد يُؤدِّي إلى الاعتماد على الآخرين. والكثير من كبار السن يشاركون في رعاية أشخاص آخَرين يُعانون من مشاكل صحية لا سيَّما أزواجهم. من السهل أن نتوقع أن هذه الضُّغوطات الحياتية تستدعي تدخُّلًا علاجيًّا نفسيًّا، لكنَّنا لاحظنا خلال عملنا الإكلينيكي أن العديد من كبار السن ليسوا مُعتادين على طلب المساعَدة أو التعامل مع تجربتهم الشعورية؛ إذ يَرون مشاكلَهم نتيجةً متوقعةً لكبر السن. والأخطر من ذلك أنهم قد يكونون مُؤمنين بأهمية الاعتماد على النفس والعمل بجدٍّ والحاجة إلى الإقدام والجَلد.
مربع ١٠: اختصاصي نفسي إكلينيكي يُساعد امرأة مسنَّة لتصبح أقل انعزالًا
كانت ماري مُعلِّمةً مُتقاعدة في أواخر الستينيات من عمرها، مات زوجها، ولدَيها ابنان بالغان: أولهما بيتر وكان في خضمِّ طلاق مُضطرِب، وثانيهما هيلين، وكانت تعيش خارج البلاد. طُلب من هذا الاختصاصي النفسي الإكلينيكي أن يُقابل ماري؛ لأنها لم تكن تستطيع التعامل جيدًا مع مشاعر القلق والاكتئاب. وقبل هذا بعدَّة أشهُر، كانت ماري تقود سيارتها عائدةً إلى البيت بعد زيارة بيتر، وكان ذهنها مشغولًا بالتفكير فيه فحدَث لها حادث صغير بالسيارة (لكن لم يُصَب أحد في الحادث). نتيجةً لذلك، تجنَّبت ماري العودة للبلدة التي كان بيتر يعيش فيها، فكانت حزينة لحالها وشاعرة بالذنب لعدم تقديمها مساعدة أكبر لبيتر. وقد قالت للاختصاصي النفسي الإكلينيكي إنها تخلَّت كليًّا تقريبًا عن القيادة والخُروج، وكانت تقضي مُعظم وقتها جالسة في البيت تعاني من القلق. طلب الاختصاصي النفسي منها أن تصفَ تجربتها ومشاعرها، وتُحدِّد ما ترغب فيه من العلاج. قالت ماري إن ما تُريده أولًا هو أن تعود إلى قيادة سيارتها مجددًا كي تتمكَّن من مساعدة بيتر؛ وترغب ثانيًا في أن تقلَّ لديها مشاعر الاكتئاب والقلق. عملت ماري مع الاختصاصي النفسي الإكلينيكي على تطوير خطة لمُساعَدة في تخفيف معاناتها. كان الاختصاصي النفسي يُدرك النزعة البشرية الطبيعية بعد أي تجربة غير سارة (مثل عمل حادث) لتجنُّب احتمالية تكرار ما حدث مجددًا، وليكن بتجنُّب الذهاب إلى أماكن مُشابهة؛ حيث وقَع الحادث على سبيل المثال. غير أنَّ أبحاث علم النفس الإكلينيكي بيَّنت أن هذه النزعة للتجنُّب تُضاعف من صعوبة الأمر على عكس ما قد يكون مُتوقَّعًا. وذلك لأنه على الرغم مما يُشعِرك به التجنُّب من تحسُّن مؤقَّت، فإنه لن يسمح لك أبدًا بأن تتعلَّم أن هذا المكان أو النشاط ليس خطيرًا بالقَدر الذي تخشاه. لذلك بدأ علاج ماري بمساعدتها في وصف الحادث تفصيلًا، ثم مِن خلال خطوات صغيرة للغاية، بدأت في القيادة مُجددًا؛ حيث بدأت بمسافات صغيرة في البداية لكن تدريجيًّا بدأت تبني ثِقةً في قُدرتها على التعامل مع المسافات الأطول. عندما اكتسبت ماري ثقةً في الاختصاصي النفسي الإكلينيكي، بدأت تتكلَّم عن وحدتها وإحساسها غير المنطقي بالذنب تجاه مَشاكل أسرة بيتر أيضًا. من ثَم عمل الاختصاصي النفسي مع ماري على أخذ خطوات تُخفِّف من عُزلتها، على سبيل المثال من خلال الاشتراك في دروس لتعليم مَهارات تكنولوجيا المعلومات حتى تتمكَّن من التواصُل مع هيلين (ابنتها التي تعيش في الخارج) عبر الإنترنت؛ وأن تبدأ في التواصُل مع زملائها القدامى من أيام التدريس. تدريجيًّا صارت ماري أكثر ثقةً في نفسها وبدأت تخرج مجددًا، سواء لترى بيتر أو للعمل التطوُّعي في مدرسة محلية.
يُوجد في المعتاد صنفان رئيسيان من الأمراض النفسية شائعان في كبار السن: أمراض «عضوية»، وأمراض «وظيفية». تتضمَّن المشكلات العضوية عددًا من التغيُّرات الإدراكية (الدماغية) التصاعدية التي تتراوَح من الاختلالات الإدراكية الخفيفة وحتى الخرف (انظر مربع ١١ للاطلاع على مثال إكلينيكي)، أما الوظيفية فمنها القلق والاكتئاب وكرب ما بعد الصدمة والذُّهان واضطرابات الأكل؛ وجميعها قد ينتج عن التغيرات الحياتية. وتتضمَّن خدمات علم النفس الإكلينيكي للتعامل مع المشكلات العُضوية التقييمَ النفسي العصبي الدقيق، والذي يَتبعه تدخلات علاجية مباشرة أو غير مباشرة مع الشخص المسن وعائلته. وقد يُؤسِّس الاختصاصيُّون النفسيون الإكلينيكيون برامج علاج متخصصة؛ كعيادات الذاكرة لفقدان الذاكرة الخفيف، أو قد يديرون مجموعات دعم لمقدمي الرعاية للمصابين بالخرف.
مربع ١١: زوجان مُسنان يعانيان من مشاكل الذاكرة والارتباك
كان السيد سبنسر وزوجته يَعيشان في قرية صغيرة على مسافة غير بعيدة من أولادهم البالغين، وكانا يتمتَّعان بصحة لا بأس بها حتى أواخر السبعينيات من عمرهم. لكن السيدة سبنسر بدأت تلاحظ أن زوجها صار مُتكرِّر النِّسيان وبدأ يَفقِد اهتمامه بالأنشطة التي كان شغوفًا بها سابقًا، كحديقتِه ونادي كرة القدَم المحلي. وبعد الوفاة المفاجئة لأقدم أصدقاء السيد سبنسر، صار يميل إلى الانعزال بدرجة أكبر وبدَت عليه علامات التشوُّش أحيانًا.
وبطلب من الخدمة الصحية المحلية لكبار السن، أجرى له الاختِصاصي النفسي الإكلينيكي اختبارات القياس النَّفسي لتقييم إذا ما كان السيد سبنسر يُعاني من الاكتئاب أو أنه في بداية عملية الخرف. بدا جليًّا أنه يُعاني من الاكتئاب، لذا أعدَّ الفريق معه برنامجًا من الأنشطة حتى يُحاولوا إعادة بناء علاقته بالأشياء التي كان يُحبها. لكن قُدراته استمرَّت في التراجع رغم ذلك، لذا استنتج الفريق في النهاية أنه يُعاني من الخرف أيضًا بالفعل. كانت زوجته عازمة على الاعتناء به في المنزل، وقامت بهذا لبضعة أشهر، لكنَّها صارَت مُنهَكة وبائسة بمرور الوقت، ورفضت كل عروض الرعاية المؤقتة.
وبعد ذلك قدَّم لها عضو آخر من فريق علم النفس الإكلينيكي عددًا من الجلسات ليُساعدَها على الحديث عن ضغوطاتها بسبب التغيُّرات التي طرأت على زوجِها، ويشجعها على قبول المساعدة من الخدمات النفسية المحلية من أجل نفسها. كما قابل الاختصاصي النفسي أبناء الزوجين، الذين لم يكونوا مُدركين لمدى الصعوبات التي يمرُّ بها السيد سبنسر، ثم بدآ بزيارته أكثر. في النهاية وصلت السيدة سبنسر والأسرة لقَرار بأن يَنتقِل السيد سبنسر إلى دار رعاية محلية ليَحصُل على رعاية متخصِّصة.
أما الخدمات النفسية للتعامل مع المشكلات الوظيفية، فهي تُشبه ما يُقدَّم للبالغين الأصغر سنًّا، لكن مع الحاجة إلى مراعاة الاحتمالية المتزايدة لضعف الصحة الجسدية والوهن، بالإضافة إلى مرور كبار السن بأحداث حياتية أكثر قد تكون ذات أثر كبير عليهم. إلى جانب ذلك، قد تنشأ الحاجة إلى إشراك المؤسسات والمنظومات الموجودة في محيط المريض، كمُوظَّفي دور الرعاية والجيران وشريك حياتهم أو أفراد عائلاتهم، بأن يكون لهم دَور في تدخُّل علاجي ما.
الأشخاص ذوو الإعاقات الذهنية
يُعاني بعض الأشخاص من صعوبات في المهام اليومية منذ سِنيهم المبكِّرة. فثمَّة نسبة من السكان في جميع أنحاء العالم تتراوح بين ١٪ و٢٪ يُعانون من إعاقات ذهنية بدأت قبل سن ١٨ عامًا. معنى هذا أن لدَيهم محدودية كبيرة في القُدرات الذهنية (كمعدَّل الذكاء) والسلوكيات التكيفية (كالمهارات الاجتماعية والعمَلية اليومية اللازمة لكي تتواكَب مع المُجتمع). تشير الأبحاث أيضًا إلى أنهم أكثر عرضة من غيرهم للتنمُّر والأذى ولضعف الصحة البدنية أو الإصابة بإعاقاتها. رغم أنَّ الاختصاصيِّين النفسيين الإكلينيكيِّين في بعض أنحاء العالم يُقدِّمون خدمات مخصَّصة لذوي الإعاقات الذهنية (المعروفة أحيانًا ﺑ «التخلُّف العقلي» أو «إعاقات التعلم»)، لكن ذلك لا يَنطبِق على جميع الاختصاصيِّين النفسيين الإكلينيكيين في جميع البلدان. ففي المملكة المتحدة، على سبيل المثال، يُعدُّ هذا جزءًا أساسيًّا من تدريبهم وخدماتهم المقدمة، لكن الحال ليس كذلك في الولايات المتحدة.
غالبًا ما يُقلِّل مجتمعنا من قيمة ذوي الإعاقات الذهنية ولا يُتيح لهم فُرصًا كافية لتطوير مَهاراتهم. غير أنَّ العديد من الاختصاصيين النفسيين الإكلينيكيين يُقدِّرون قيمتهم بصفتهم بشرًا لهم الحق في اتخاذ قرارات تخصُّ حياتهم. والكثيرون من ذوي الإعاقات الذهنية البسيطة يعيشون في المجتمع بنجاح بالفعل، ويتعاملون مع التحديات الروتينية في حياتهم بشكل جيد جدًّا، وإن كانوا قد يَجدون صعوبة أكثر في المشكلات المعقدة أو غير المتوقَّعة وقد يحتاجون مساعدة من وقتٍ لآخَر. أما المصابون بإعاقات أخطر فيجدُون صعوبة في التواصُل أو الاعتناء بأنفسهم على الإطلاق؛ وهذه المجموعة غالبًا ما تحتاج إلى مساعَدة من الآخرين لمُعظَم حيواتهم.
في كثير من الحالات، يَكمُن دَور الاختصاصيين النفسيِّين الإكلينيكيِّين في العمل مع مَن يعتنُون بذوي الإعاقة الذِّهنية، سواء في عائلاتهم أو دور الرعاية أو المؤسَّسات (انظر المثال الإكلينيكي المذكور في مربع ١٢). فمن المُمكن على سبيل المثال أن يُساعِد الاختصاصي النفسي طاقم العمل على استخدام تقنيات إدارة السلوك في التعامُل مع السُّلوكيات التي تُمثل تحديًا، مثل سلوك شخص يتعامل مع الموظَّفين بشكل غير لائق أو يعيق الأنشطة الاجتماعية للآخَرين. ومن الطرق التي تُستخدَم في كثير من الأحيان لتحقيق هذا الغرض، التحليل الوظيفي، وهو إجراء يحاول كشف ما يناله الشخص من سلوك ما في سياق اجتماعي معيَّن سبَّب استمراره في ذلك.
مربع ١٢: دعم اختصاصي نفسي للموظَّفين العاملين مع شاب ذي إعاقة ذهنية
كان رامون شابًّا يُعاني من إعاقة ذهنية شديدة بدأ فجأة في التسبُّب في الكثير من الضجيج في دار إقامته. زاد ضيق الموظَّفين من ضجيجه تدريجيًّا، وبدءوا «يلومون» رامون لما يتسبَّب فيه من إزعاج، وقد طلبوا المساعَدة من الاختصاصي النفسي الإكلينيكي للسيطرة على سلوك رامون. وبعد قضاء الاختصاصي النَّفسي الإكلينيكي بعض الوقت في دار الإقامة، لاحظ اختلافًا في الأوقات التي يكون فيها رامون مصدر إزعاج. تمثَّل هذا الاختلاف في وجود نزيل آخر أكثر احتياجًا (نُقِل للدار للتو) يَستحَوِذ على اهتمام طاقم العمل؛ ومن ثَم يقلُّ انتباههم لرامون الذي كان يَنال انتباهًا أكبر فيما سبق. بدا أن الصراخ كان الطريقة الوحيدة التي يستعيد بها رامون انتباه الموظفين.
نبَّه الاختصاصي النفسي الإكلينيكي طاقم العمل لهذا النمط المتكرر، وعملوا معًا على إيجاد طرق بديلة للتصرف تجاه رامون لا تُقلِّل من ثقتِه فيهم، ولكنَّها تسمَح لهم أيضًا بإيلاء الاهتمام لكلا النزيلَين كما تَقتضي الحاجة. تضمن ذلك أن يعملُوا مع النَّزيل الآخَر بعيدًا عن مجال رؤية رامون، ويُعطُوا رامون جدولًا زمنيًّا مُصورًا وساعة مبسطة تشرحان متى سيأتي دوره كي يَطمئنَّ إلى أنهم لن ينسوه. كما قدَّم الاختصاصي النفسي الإكلينيكي لطاقم العمل برنامجًا تدريبيًّا عن موضوع «السلوك بصفته وسيلة للتواصُل»، يشرح كيفية تأويل السلوك المُشكِل في هذه المجموعة من العملاء. نتيجةً لهذه الخطوات، قال طاقم العمل إنهم يَستطيعُون أن يتفهَّموا أنَّ رامون لم يَفعل ما قام به «ليزعجنا فحسب»، وصاروا يتحلون بفُضول أكثر بشأن ما يُحاول النزلاء التعبير عنه من خلال سلوكهم.
ثمَّة أشكال أخرى عديدة من العلاج النفسي يُمكن تقديمها لذوي الإعاقات الذهنية، لكنَّها قد تخضع لتعديلات لأنهم يجدُون صعوبة فهم الأفكار المجرَّدة. وقد يكون هناك محدودية في الذاكرة واحتمالية للخلط فيما يتعلَّق بالحُدود بين الأشخاص (مَن مِن الأصدقاء؟ ومَن مِن طاقم العمل؟ ما الذي يُمكنني أن أفصح به ولمَن؟ ومَن بإمكاني اللعب معه أو لمسُه؟)، وهذا يتطلَّب حُسنَ إدارة للمَواقف. كما يُمكن استخدام العلاج الأسري، لمساعدة أفراد العائلة الذين يشعرون بالعجز أمام تغيير حالة الفرد المُصاب على سبيل المثال؛ أو في تغيير بعض نظراتهم إلى فرد العائلة ذي الإعاقة بطريقة غير مفيدة، أو لمُساعدة العائلة في تقدير إمكانية تطوير هذا الشخص لمَهارات إضافية.
الأشخاص ذوو المشكلات الصحية الجسَدية أو العصبية
نشهد تزايُدًا سريعًا في عدد من يتلقون مُساعدة من الاختصاصي النفسي الإكلينيكي ممَّن تنجم مشاكلهم الأساسية من حالتهم الصحية الجسَدية أو العصَبية، ومَن يحتاجون إلى علاج طبي كثيف أو مطول. يَندرج تحت هذا مَن يُعانون من آلام مزمنة، ومن يُعانون من أمراض خطيرة تُهدِّد الحياة مثل السرطان أو أمراض القلب، ومن تعرَّضوا لسكتة دماغية أو أحد الاضطرابات العصبية التنكُّسية، ومن تعرَّضوا لحادث أدَّى إلى تضرُّر العمود الفقري أو أي إعاقة كبيرة أخرى. فمع تحسُّن العلاجات الطبية ونجاة المزيد من الناس من حالات كانت تُعدُّ مُميتة فيما مضى، نشأت تحديات جديدة أمام المرضى وعائلاتهم. فيَنتقِل التركيز من عملية التعافي إلى إعادة التأهيل: أي التكيُّف مع واقع العيش الجديد بما يحمله مِن إعاقات كبيرة أو آلام مُزمنة أو فقدان للقُدرات الجسَدية أو العقلية.
ربما يكون النهج الأكثر استخدامًا مع هؤلاء المرضى هو «النهج العُضوي النفسي الاجتماعي». ويتضمَّن هذا النهج إيلاء الاهتمام لصحَّتهم الجسدية (بما في ذلك الوظائف الهرمونية والفسيولوجية والدماغية) وسياقهم الاجتماعي (أي عائلتهم وعملهم ووقت فراغهم ومجتمعهم)، وأي مُشكلات نفسية تُواجههم. لا شك أنَّ إدراك هذه المسائل مُهمٌّ لجَميع الاختصاصيين النفسيين الإكلينيكيين، لكنه بالغ الأهمية بالنِّسبة إلى من يَعملُون مع ذوي أعراض الاضطرابات العصبية أو المشكلات الصحية؛ حيث يَنال التشخيص الطبي أغلب التركيز لأسباب مفهومة، وحيث قد يكون الأشخاص على درجة كبيرة من المرض أو الإعاقة.
أظهرت الأبحاث من المنظُور العُضوي النفسي الاجتماعي أن تجربة المرضى الشخصية مع حالتِهم الصحية، وسُرعة تعافيهم أيضًا، يُمكن أن يتأثَّرا بشكل كبير بحالتِهم الشُّعورية وقناعاتهم. ومِن الواضح أنَّ معرفة الشخص بتشخيصه بمرض جسدي مثل السرطان أو أمراض القلب، ستُؤثِّر عليه نفسيًّا خلال مُحاولته التكيُّف مع هذه المعلومات الجديدة.
يُمكن أن يؤدي هذا إلى درجات عالية من القلق والاكتئاب في بعض الأحيان، غالبًا ما يَنجم ذلك عن ترقُّب متاعب مُقبلة. وإلى جانب المعاناة النفسية، قد تُقلِّل هذه الأفكار من استعداد الشخص للالتزام بأنظمة العلاج. لكن الاختصاصيِّين النفسيين الإكلينيكيين يستطيعون العمل مع هؤلاء المرضى، ومساعدتهم في اكتشاف أن تقديرَهم الأوَّلي للوضع (المُستقبَل كئيب لا أمل فيه) قد يكون مختزلًا ضيق النَّظرة، وأنه ثمَّة موارد كثيرة مُتاحة في الحقيقة لتُساعد في التعامل مع كل من الألم النفسي والمرض. قد تَشمل هذه الموارد العلاقات والمهارات الموجودة لدى الشخص، فضلًا عن الدعم المتاح من المستشفى وأسرة الشخص أو مجتمعه.
من أمثلة تلك الحالات التي نتحدَّث عنها، امرأة شابة شُخِّصت حديثًا بالسرطان، وربما تشعر باليأس وانقطاع الأمل لدرجة الانعزال عن عائلتها وأصدقائها والغرق في الخُمود والاكتئاب. لكن من خلال مساعدتها على التركيز على طرق فعَّالة للتأقلُم واستخدام تقنيات حلِّ المشكلات، يمكن للاختصاصي النفسي الإكلينيكي مساعدة الشابة وعائلتها على إيجاد طريقة جديدة للتكيُّف والازدهار نفسيًّا، جنبًا إلى جنب مع العلاج الطبي. يمكن لهذه العلاجات النفسية أن تكون طوق نجاتهم فعلًا؛ حيث تُساعد الناس على التحوُّل من حالة اليأس وانقِطاع الأمل إلى عيش حياتهم على أكمل وجه مُمكن.
قد يحتاج الناس أيضًا إلى مساعدة في التعامل مع الآثار الجانبية للأدوية أو العلاج الكيميائي، كالإنهاك وصعوبة النوم على سبيل المثال. يُمكن لهذا أن يُحسن من السلامة النفسية للشخص وصحَّته وقُدرته على التحمُّل، مما يُعزِّز الفاعلية المحتمَلة للعلاج في النهاية. كما يَعمل بعض الاختصاصيِّين النفسيين الإكلينيكيِّين مع المرضى الذين يتلقون الرعاية التلطيفية في نهاية حياتهم. هنا يكون الهدف تحسين جودة من تبقى من حياة الشخص، وتخفيف الألم، وتعظيم فرص أن ينال المريض ميتة مُرضية من وجهة نظر كل من المريض وأسرته.
وبخلاف العمل مع الأمراض المزمنة التي تُهدد الحياة مثل السرطان، قد يختار بعض الاختصاصيِّين النفسيين الإكلينيكيين العمل في علم النفس العصبي مع أناس حدثت لهم إصابة دماغية، كأن تكون ناتجة عن حادث أو مرض كالتهاب السحايا، أو من أحد الأمراض النمائية كالسكتة الدماغية أو ورم في الدماغ. يُمكن لتضرر الدماغ بهذا الشكل أن يسبب اضطرابات ضخمة في حياة الشخص، وغالبًا ما تُصاحبها إعاقات جسدية أو تأثيرات عصبية شاقة، مثل فقدان التنسيق والتشنجات والإنهاك. يَندرج تحت الإعاقات المعرفية التي قد يمرُّون بها نقصُ الانتباه والتركيز وفقدان الذاكرة وصعوبات في التخطيط وحل المشكلات. كما يُمكن أن تحدث لهم اضطرابات مزاجية أيضًا مثل الاكتئاب والغضب والإحباط وفقدان الثِّقة في النفس. وفوق ذلك، قد يكون الشخص خسر وظيفته أو مرَّ بانهيارٍ أسري أو زواجي كنتيجة لإصابته.
يتفاوَت الدور الذي يَلعبه علم النفس الإكلينيكي في علم النفس العصبي حسب احتياجات الفرد. بصورة عامة، يَعمل الاختصاصيُّون النفسانيُّون إما في حالات حادة، حيث يتمثَّل مُعظَم دورهم في المساهمة في تقييم الإصابة الدماغية وإدراك تبعاتها، أو يكون في العلاج التأهيلي؛ حيث يكون مُعظم دَورهم تعزيز عملية التعافي ومساعدة المرضى وعائلاتهم في التعامل مع تأثير المشكلات الإدراكية والسلوكية. بعض الإصابات تطرأ فجأة (مثل الإصابة في الرأس نتيجةً لحادث سيارة) وقد تتبَعُه فترة تأهيلٍ وتعافٍ، في حين تتطوَّر الحالات الأخرى تدريجيًّا (مثل التصلُّب المُتعدِّد) وتتطلَّب مُستويات مُتزايدة من الدعم. يُعاني المرضى في الحالات الحادَّة من اعتلال جسدي كبير في مُعظم الأحيان، ويخضعون لإجراءات طبية أخرى عديدة في نفس الوقت الذي يتمُّ فيه التقييم النفسي.
من المفترض أن يُوفر التقييم النفسي (والذي قد يَستغرِق وقتًا طويلًا) مزيدًا من المعلومات بشأن مدى تضرُّر الدماغ، ومدى انتشار الضرر، ونقاط قوة الشخص ونقاط ضعفه، والعوامل الأخرى السابقة على الإصابة التي قد يكون لها تأثير (كالاكتئاب مثلًا). ذلك أنَّ الغرض من التقييم يتمثَّل في تحديد مدى إصابة الدماغ، وهو ما لا يُمكن تقديره غالبًا من خلال المسح الدماغي. وقد يُقدم العلاج النفسي للمريض في بعض الحالات، مثل مُساعدة الشخص في التعامل مع القلق الحاد الذي يطرأ خلال خضوعه لإجراءات طبية معقَّدة أو مسح دماغي كالأشعَّة المقطعية أو أشعَّة الرنين المغناطيسي.
وفي سياق إعادة التأهيل، يكون الهدف الرئيسي للاختصاصي النَّفسي الإكلينيكي هو زيادة فرصة الشخص في الحِفاظ على استقلاليتِه، وتعزيز قُدرته على الاستمرار في القيام بدوره كاملًا في الأسرة والعمل والمجتمع. يركز العمل في هذه الحالة على توضيح مدى الإعاقة، وتحديد مَواطن القوة المُمكنة، والعثور على طرق مُحتملة للعمل البناء نحو تمكين المريض من التعامُل مع التغيُّرات طويلة الأمد في قدراته الوظيفية. على سبيل المثال، يُمكن للاختصاصي النفسي الإكلينيكي مُساعدة المريض في استخدام أجهزة إلكترونية مُساعدة للتعامُل مع ضعف الذاكرة الشديد (انظر مربع ١٣ للاطلاع على مثال إكلينيكي).
مربع ١٣: اختصاصي نفسي إكلينيكي يُساعد زوجين على التأقلم بعد تعرض الزوج لسكتة دماغية
كان روجر مدير مدرسة أُحيل إلى التقاعُد يبلغ من العمر ٦٣ عامًا، وله نشاط كبير اجتماعيًّا ومهنيًّا بعد التقاعُد، فكان أمين الصندوق في نادي بولينج محلي. في إحدى الليالي، وفي أثناء تناوُل مشروب في النادي، تعرَّض لسكتة دماغية. استدعى الموظَّفُون سيارة الإسعاف، ثم عاد روجر إلى منزله بعد إقامة قصيرة في المستشفى. وكجزء من المتابعة الروتينية، أحاله الأطباء للحُصول على تقييم نفسي عصبي يُساعد في تعيين تأثير السكتة الدماغية على قُدراته الوظيفية الإدراكية. حضَر روجر وزوجته ثلاثة لقاءات، لعرض الصعوبات التي تُواجهه حاليًّا بالتفصيل. وقد صار من الواضح أنَّ كليهما يُعانيان بسبب تدهور روجر الفجائي. فقد صار روجر سريع الاهتياج، حتى إنه دفَع زوجته بعنف عدة مرات.
كشفت الاختبارات الشاملة لذاكرته ووظائفِه المعرفية والشُّعورية عن وجود ضعف في تذكره للمعلومات اللفظية الجديدة، وبطء في معالجة المعلومات. وكان يعاني من صعوبة في إيجاد الكلمات. أشارت اختبارات القياس المتعلِّقة بالاكتئاب والقلق إلى أنه كان يَعاني من تدنِّي حالته المزاجية وقلق شديد في المواقف الاجتماعية. كوَّن الاختصاصي النفسي الإكلينيكي فرضية بأن قلق روجر مرتبط بالخوف من حدوث سكتة دماغية أخرى، واعتقاده أن الآخرين سيرونه غبيًّا بسبب ضعف ذاكرته ومشكلته في إيجاد الكلمات. كما ساهم ضعف قُدرته على تذكر المحادثات في زيادة قلقه في المواقف الاجتماعية. وقد وُجِّهَت سرعة اهتياجه نحو زوجته لأنها عادةً ما تتكلَّم بسرعة وتُقاطعه وتتحدَّث نيابةً عنه. كانت حالته المزاجية مُتدنية بسبب ضعف ذاكرته وخسارته لمكانته في مدرسته، وخسارته لدوره كمعيل للأسرة، وخسارته لهواياته. لكن بالتعاون مع الاختصاصي النفسي الإكلينيكي، وضع روجر الأهداف التالية: (١) أن يُقلل من شعوره بالقلق من خلال زيادة الوقت الذي يقضيه خارج المنزل في الأسواق أو المتاجر تدريجيًّا. (٢) أن يتعامل مع ضعف ذاكرته بأن يطلب من الناس إبطاء حديثِهم، ويدون الأشياء المهمَّة في مُفكرته الإلكترونية، وينظر في مذكرته في وقت الفطور كل يوم. (٣) أن يُقلل من شعوره بالحنَق على زوجته من خلال «تذكيرها» بألَّا تُقاطعه أو تتحدَّث نيابةً عنه، ومن خلال محادثتها عن مشاعرِه. (٤) أن يُقلِّل شعوره بالاكتئاب من خلال الانضمام إلى مجموعة المصابين بسكتة دماغية في مركز الصحة المحلي مرتَين في الأسبوع، والعودة إلى لجنة إدارة نادي البولينج كعضو عادي. (٥) أن يُقوِّي ذراعَيه وساقيه من خلال ممارسة التمارين مرتين يوميًّا.
بعد عدة أشهر، أصبح روجر قادرًا على الذهاب إلى السوبر ماركت المحلِّي مع زوجتِه بدون قلق، وقال إنَّ نسيانه للمهامِّ المهمة صار أقل؛ إذ يُفيده استخدام مُفكِّرته الإلكترونية. وذكرت زوجة روجر أنها أصبحَت أكثر وعيًا بمسألة التدخُّل، وأن خلافاتهما خلال الشهر السابق كانت أقل. كما كان روجر يُمارس تمارينه البدنية بانتظام ويبدو راضيًا عن تحسُّن قوة ذراعيه وساقيه.
من المرجَّح أيضًا أن تُعاني عائلة الشخص المُصاب من التوتُّر والاضطراب، وأن تحتاج إلى المساعدة بينما يتعلَّمون كيف يتعايشُون مع قريبهم الذي قد تظهر عليه تغيرات كبيرة في الشخصية والقُدرات نتيجة لإصابته.
ليس ما عرضناه سوى نبذة من السيناريوهات العديدة التي يُمكن أن يستفيد فيها الأشخاص بمُختلف مراحل تطوُّرهم من مساعدة الاختصاصي النفسي الإكلينيكي؛ وذلك بمُختلف مُستويات أدائهم العقلي والجسَدي. وفي الفصول التالية، سنُوضِّح النظريات والوسائل التي يتبناها الاختصاصيُّون النفسيون الإكلينيكيون في مُحاولتهم لمساعدة عملائهم.