أدوات المهنة
يتمتَّع الاختصاصيون النفسيون الإكلينيكيون بمجموعة من المهارات أشبه بصندوق الأدوات الذي يَحملونه ويستخدمونه في عملِهم، وهي مهاراتٌ يتعلَّمونها في أثناء تدريبِهم ثم يُطوِّرونها أكثر خلال مسيرتهم المهنية. ويتضمَّن صندوق المهارات ما يلي: تقييم الحالة، والتوصيف، والتدخُّل، والبحث والتقييم، والاستشارة، والإشراف، والتدريس/التعليم، والقيادة/الإدارة. وعلى حسب المهمَّة، قد يستخدم الاختصاصيُّون النفسيون الإكلينيكيون هذه الأدوات بشَكل مُباشر (عندما يعملون كمُعالجين على سبيل المثال) أو بشكلٍ غير مُباشر (كمُدرِّسين أو باحثين أو مديرين أو مشرفين على سبيل المثال). ورغم أن أيًّا من هذه المهارات لا يقتصر على الاختصاصيين النفسيين الإكلينيكيين بحد ذاتهم، فإنَّ الاستخدام المنهجي المتعمق لهذه المجموعة الشاملة من المهارات هو ما يُميز علم النفس الإكلينيكي.
التقييم
أولى المهارات الأساسية هي تقييم المشكلة أو الصعوبة التي يُواجهها العميل تقييمًا دقيقًا. فمن المنطقي جدًّا أن نَقضي بعض الوقت في تعيين المشكلة بدقَّة قبل أن نبدأ في مُحاولة التعامل. يجب أن نفكر أيضًا فيما إن كانت المشكلة بحاجة للتعامُل معها في الوقت الراهن أم لا، وإن اتَّضح أنه ينبغي التعامل معها، فيَنبغي تحديد أنسب نوع من الدعم يُمكن تقديمه، وأقدر مَن يستطيع توفير هذا الدعم. فبعض الصعوبات يحلُّها مرور الوقت ببساطة، وليس طلب المُساعدة من المُتخصِّصين بالخيار الأمثل على الدوام. على سبيل المثال، قد يَقصد والدان المساعدة لأنَّ طفلهما يُبدي سلوكًا شديدَ التطلُّب والتعلُّق بهما، لكن التقييم قد يُشير إلى أن هذا رد فعل على التغيرات العائلية الأخيرة (كالانتقال إلى مدينة جديدة مثلًا)، والأرجح أنه سيقلُّ مع استقرار العائلة. ومن ثَم فقد لا تكون هناك حاجة للتدخل الفوري، رغم أن الآباء قد يشعرون بالقلق لبعض من الوقت بطبيعة الحال.
وقد أظهرت الأبحاث كذلك أنه من غير المحبَّذ للكثيرين بدء العلاج النفسي بعد حدوث حدث مُفجع مباشرة؛ لأنَّ مُحاولات التدخل من المتخصِّصين في الفترة الأولى بعد الصدمة تأتي بنَتائج عكسية في الواقع وقد تُعيق عملية التعافي الطبيعية. فمعظَم الناس (والمجتمعات) يجدون أن وقع الصدمة الطبيعي عليهم يتلاشى تدريجيًّا رغم ألمه؛ مجموعة صغيرة نسبيًّا فقط ستكون بحاجة إلى مساعَدة نفسية مُعمقة في وقتٍ ما.
كيف يبدو التقييم النفسي؟
ثمة العديد من الطرق المُختلفة التي يُمكن استخدامها لتقييم مشاكل العملاء، ومنها المقابلات الشخصية والملاحظة واختبارات القياس النَّفسي أو الشخصي (مثل المقاييس المُدرَّجة أو الاستبيانات) وإجراء «بطاريات اختبار» (سلسلة من التكليفات تُجرى بدقة وتفحص بعض الوظائف النفسية) وجمع المعلومات من العائلة والزملاء أو المذكِّرات العلاجية.
إذا حضرت تقييمًا أوليًّا ذات يوم، فستُلاحظ فورًا أن الاختصاصي النفسي الإكلينيكي يَبذل جهودًا كبيرة لتهدئتك وفهم ما دفعك إلى التماس المساعَدة النفسية أو لإحالتك إليها. مُعظم الناس يشعرون بالتوتر حيال خُضوعهم للتقييمات النفسية على يد المتخصِّصين، وقد يتردَّدون بشأن التحدث بصراحة عما يُزعجهم ما لم يتأكَّدوا من أنَّ جَدارة المُتخصِّص بثقتِهم وتعاطُفه معهم. عادةً ما يسألك الاختصاصي النَّفسي الإكلينيكي عن المَخاوف والتحديات الكبيرة بالنِّسبة إليك، وعن شُعورك ومدى سهولة تفكرك في الأمور من ناحية نفسية. سيسأل أيضًا عن أصول مَخاوفك وتطوُّرها وتبعاتها، وطريقة تعاملك معها حتى الآن، وأي مُشكلات صحية أو علاجات سابقة ذات صِلة بالأمر (بما فيها الأدوية)، وما تأمل في الوصول إليه من العلاج. وسيُحاول الاختصاصي النَّفسي فهم بقية ما يحدث في حياتك الشخصية، ووضعك الأسري والمُجتمعي، وما إذا كان هناك آخَرون يُمكن أن تُساعد نظرتهم في تسليط ضوء على المسألة.
ستكون المُقابلة الأولى في الغالب شاملة وموسَّعة إلى حدٍّ ما، وإن كان الأمر يَعتمِد على الشخص والمسألة الخاضعة للتقييم بكل تأكيد. والكثير من حالات التقييم تتطلَّب ملاحظة عن كثب: على سبيل المثال، إن قصد أبٌ ما مُساعدة طفله الخَجول جدًّا، فإنَّ الاختصاصي النفسي الإكلينيكي سيود أن يرى استجابة كلٍّ من الوالد والطفل للموقف الجديد المُتمثِّل في لقاء شخص غريب عنهما (أي الاختصاصي النفسي الإكلينيكي نفسه) للمرة الأولى. يُراقب الاختصاصي النفسي الإكلينيكي ردود فعله الشخصية أيضًا: هل يشعر مثلًا بعدم الارتياح أم بالحاجة لأن يكون مصدر حماية أم بالإطراء؟ فقد تكشف مثل هذه المشاعر في بعض الحالات جوانب مهمَّة من شخصية العميل ونمطه في العلاقات. وقد يرغب الاختصاصي النفسي الإكلينيكي أحيانًا في مراقبة العميل في المكان الذي يواجه فيه هذه الصعوبة في الغالب، كالمدرسة أو المستشفى. أو قد يطلب من العملاء التدوين، وليكن عن أفكارهم أو أنشطتهم اليومية الاعتيادية على سبيل المثال.
خلال المقابلة الأولى، يتحقَّق الاختصاصي النفسي الإكلينيكي عادةً من مُوافَقة العميل الإيجابية على إجراء الجلسة، ويقدم له معلومات عن مسألة السرية والحدود المفروضة عليها أيضًا. وهذا يعني في المعتاد شرح أن تفاصيل ما يقال في الجلسة لا يُشارك مع أحد، لكن نتائج بعض الاختبارات وبعض المعلومات العامة عن تقدُّم العلاج والمواضيع المغطاة قد تُبلَّغ إلى الطبيب أو الفريق الذي قام بإحالة العميل. وسيُوضِّح الاختصاصي النفسي الإكلينيكي كذلك أن «واجب الرعاية» المُلزم به تجاه العميل والمجتمع ككلٍّ يَقتضي بأن يَبلغ بأي شيء قد يُشير إلى أن وجود خطر جدي على العميل أو على شخص آخر، لا سيَّما إذا كان طفلًا. في النهاية، سيقوم الاختصاصي النفسي الإكلينيكي بتقييم المخاطر: هل يُمثل العميل خطرًا بإيذاء نفسه أو إيذاء الآخرين؟ إن كان الأمر كذلك، فسيَستلزم هذا اتخاذ إجراءات فورية كتوفير مجموعة من مَصادر المساعدة، أو إبلاغ الخدمات الطبية، أو حتى إبلاغ الشرطة. في مثل هذه الحالات، قد يُوصي المعالج النفسي السريري بأن الوقت ليس مناسبًا للتدخل النفسي على الأرجح. ويجب تقليل المخاطرة إلى مستوًى يُمكن التعامل معه أولًا، خاصةً ونحن نعلم أن بعض التدخُّلات قد تحفز من المشاعر أو السلوكيات ما يصعب التعامل معه.
يستخدم الكثير مِن الاختصاصيِّين النفسيين الإكلينيكيين اختبارات القياس النفسي للحصول على المزيد من المعلومات. وعادةً ما تكون هذه الاختبارات في صورة في استبيانات بسيطة بورقة وقلم أو بالكمبيوتر، بحيث تسأل الشخص عن تجاربه وأفكاره وعواطفه. تُتيح هذه الاختبارات للاختصاصي النفسي مقارنة النتائج التي حصل عليها العميل مع نتائج أشخاص آخرين يشبهونه في الجوانب الأخرى. ليسَت هناك إجابة صحيحة ولا خاطئة؛ فالإجابات تُعطي مُؤشرًا عن تجربة الشخص الخاصة لا أكثر. من الأمثلة على هذا قوائم تضم نوعية الأفكار الشائعة في المشكلات النفسية، مثل «كثيرًا ما أشعر برغبة عارمة في البكاء»؛ أو «أحتاج إلى التأكُّد من أنَّني أقفلتُ الباب الأمامي». تهتمُّ بعض اختبارات القياس الأخرى بالسلوكيات، كما قد يحدث على سبيل المثال مع الأطفال الذين يواجهون صعوبات: «يواجه ابني صعوبةً بالغة في السيطرة على غضبه».
بما إنَّنا جميعًا نكون بكَّائين أحيانًا، أو نعود لتفقُّد الأشياء من وقتٍ لآخر، أو نَفقد أعصابنا، لا بد أن يكون الاختبار دقيقًا بما يكفي لتحديد الحالات التي تُمثل اختلافًا مُعتبرًا، ولا بد أيضًا من أن يتميَّز بما يُعرف ﺑ «المصداقية» و«الموثوقية». يُقصَد بالمصداقية أن تُفرَّق أسئلة اختبار القياس بوضوح بين مَن يعانون من القلق (على سبيل المثال) ومَن يعانون من شيء آخر (كالاكتئاب مثلًا)، بينما «الموثوقية» يعني أن تكون نتائج اختبار القياس متَّسقةً بمرور الوقت.
يُجري بعض الاختصاصيين النفسيين الإكلينيكيين كذلك اختبارات تهدف إلى تصنيف شخصية الفرد. وهذه الاختبارات تسأل الشخص عن سلوكه أو مشاعره الاعتيادية، وليكن على سبيل المثال: «أستَمتِع بلقاء أشخاص جدد»؛ أو تطلب منه أن يصف شخصيةَ طفلِه: «يحتاج إلى طمأنة من الآخَرين في كثير من الأحيان». والمشكلة في كل هذه الاختبارات بالطبع أن الإجابات يُمكن أن تتأثر بسهولة بما يرغب الشخص في أن يعتقده الاختصاصي النفسي أو بما يشعر أنه يَنبغي عليه قوله (ما يُعرف بالسمات المطلوبة). ومن أدوات التقييم البديلة الاختبار الإسقاطي. في هذا الاختبار، يقدم الاختصاصي النَّفسي للعميل صورة غامضة، ولتكن على سبيل المثال صورة للَطخة حبر أو لتجمُّع عائلي صغير، ويطلب من العميل أن يصف ما يَراه في الصورة. تتجسد فكرة هذا الاختبار في أن العميل يرى في الصورة غامضة شيئًا مهمًّا بالنسبة، مما يمدُّ الاختصاصي بمعلومات مفيدة عن أفكاره ومشاعره اللاواعية. غير أنَّ هذه النوعية من اختبارات التقييم عُرضة لتحيُّزات وتصوُّرات الاختِصاصي النَّفسي ولم تَعُد تُستخدَم كثيرًا في الوقت الحاضر؛ حيث تُعتبَر أقلَّ التزامًا بالمعايير العِلمية من وسائل قياس الشخصية الأخرى.
في بعض الحالات، يُمكن أن يتكوَّن تقييم الحالة من بطارية اختبار (وقد سبق ذكرها) تفحص وظائف نفسية محدَّدة، مثل سرعة المعالجة المعرفية (التفكير) أو الطلاقة في الكلام. من المعروف أن هذه الوظائف تتفاوَت بشكلٍ كبير بين الأشخاص، وقد تتأثَّر كذلك بحدوث أي تضرر أو إصابة في الدماغ. قد تقيس هذه الاختبارات (على سبيل المثال) قُدرة الشخص على تسمية الأشياء، أو التعرف على الأشكال، أو تعديل التكوينات الشكلية وتحريكها خلال زمن معين. وفي بعض الأحيان، تعطي هذه الاختبارات نتائج معينة تُستخدَم لتصنيف الشخص، وليكن مثلًا «لديه ذكاء لفظي عالٍ» أو «مُعدَّل الذكاء العام مُتوسط» أو «مُعاق ذهنيًّا».
في حالات أخرى، يقوم الطبيب النفسي بفحص النمط الذي يَظهر في نتائج الاختبار لمعرفة ما إذا كان هناك نمطٌ متكررٌ مُعيَّنٌ يشير إلى وجود إصابة أو تغيُّرات في الدماغ (انظر المثال الإكلينيكي في مربع ١٤). ومن المعتاد في هذه الاختبارات أيضًا أن يقارن الطبيب النفسي نتائج الشخص مع نتائج غيره ليعرف ما إذا كان هناك نمط غير طبيعي أو غير صحِّي في الإجابات. يُقارن الاختصاصي النفسي الإكلينيكي نتائج الشخص اليوم مع النتائج التي حصل عليها سابقًا مما يُتيح له رؤية ما إذا كانت هناك تغييرات، ربما بسبب العلاج أو بسبب تدهور الحالة المرضية الأساسية.
مربع ١٤: إصابة بول وهو في الخارج يتناول شرابًا وخُضوعه لتقييم من اختصاصي نفسي إكلينيكي
بول شابٌّ سقط على سلَّم حجري شديد الانحدار عندما كان ثَمِلًا فأصيب إصابة خطيرة في الرأس وكُسرت ذراعُه. خرج بول من المستشفى بعد يومَين. ورغم قوله إنه بخير جسديًّا، لاحظَت حبيبتُه أنه لم يَعُد إلى طبيعته منذ الحادث؛ فصار أسرع غضبًا وأقلَّ مراعاةً لمشاعر الآخرين. ولهذا قابل بول اختصاصيًّا نفسيًّا لتقييم تأثير إصابة رأسِه على وظائفه الإدراكية. ولم تكن تلك في الواقع أول مرة يُصاب فيها بول خلال خروجه لتناول الشراب؛ ومن ثَم قارن الاختصاصي النفسي نتائج هذه المرة بنتائج عدة اختبارات أُجريَت له في مرات سابقة. بيَّنت النتيجة تدهور حالته، لذلك أحيل مرة أخرى إلى أطباء الأعصاب في المستشفى لإجراء المزيد من الفحوصات الطبية لحالته.
رغم أن العلاجات والتدخُّلات النفسية تُسبَق جميعها بتقييم للحالة، فليس لزامًا أن يُفضي تقييم الحالة إلى المزيد من العمل. ففي بعض الحالات (عندما يكون الغرض التحقق من احتمالية حدوث ضرر دماغي أو التحقُّق من نتيجة برنامج علاجي داخل المستشفى) يكون الهدف الوحيد للزيارة هو تقييم الحالة، وقد يَستغرق ذلك جلسة واحدة أو أكثر من جلسة. بعد ذلك يُبلَّغ الفريق الطبي بالنتائج ليتخذ الخطوات التالية. ورغم أن تقييم الحالة دائمًا ما يُمثل الخطوة الأولى للتدخل النفسي (بدءًا من العلاج وحتى مُبادرات التغيير المؤسسي) لكنه لا يتوقَّف عندما يبدأ التدخل النفسي. فأي فهم يتوصل إليه الاختصاصي النفسي يكون مؤقتًا دومًا، ويتأكَّد أو يُنفى بمرور الوقت وظهور معلومات جديدة. على سبيل المثال، قد نحتاج إلى تكرار التقييم مثلًا مع نمو الأطفال وتطوُّرهم، وبتغيُّر ظروف الحياة في المدرسة والبيت.
وختامًا، نجد أنَّ التقييم يسير في كلا الاتجاهين بالتأكيد. فالأمر لا يَقتصِر على تقييم الاختصاصي النفسي الإكلينيكي لاحتياجات العميل وملاءمته للعلاج النفسي، بل العملاء أيضًا يقيمون مسألة استشارة اختصاصي نفسي إكلينيكي وما إذا كانوا يرون أنَّ بإمكانهم العمل جيدًا مع اختصاصي نفسي بعينه تحديدًا.
التوصيف
المهارة الرئيسية الثانية هي التوصيف، وهي الخطوة الحيوية (وإن كانت غير مرئية في مُعظَم الأحيان) التي تحدث بين التقييم والتدخل (أي عند اتخاذ إجراء بشأن الصعوبة التي أدت إلى طلب المساعدة). رغم أنَّ هناك بعض التشابُهات بين هذه الخطوة وبين التشخيص في الطب، لكنَّ الفرق بينهما أن التشخيص يسعى إلى أن يَنسب الشخص إلى تصنيفاتٍ مرَضية موجودة مسبقًا، بينما يهدف التوصيف إلى تطوير نموذج فريد لكلِّ فرد أو حالة داخل سياقه الاجتماعي الخاص. غالبًا ما تعمل العمليتان معًا في الممارسة العمَلية، وقد يستخدم الاختصاصيون النفسيون الإكلينيكيون التصنيفات التشخيصية مثل «اضطراب كربِ ما بعد الصدمة» أو «التوحُّد»، كجزء من التوصيف الشامل للحالة، وإن كان مختزلًا.
يُعَد التوصيف أيضًا عنصرًا أساسيًّا في منهجية العالم الممارس المتفكِّر الموضحة في الفصل الأول. ونقطة البداية هي المعلومات المكتسبة من التقييم (لكن بإضافة أفكار من النظريات تسعى إلى تفسير السبب فيما يمتلكه الأشخاص من مشاعر وما يتصرفون به من سلوكيات)، إضافة إلى الأدلة المستقاة من الأبحاث. وهذه العوامل معًا تُؤدِّي إلى فهمٍ افتراضي لسبب هذه الصعوبة المعيَّنة التي يمر بها هذا الشخص (أو العائلة أو الفريق) في هذا الوقت المعين، وما يمكن القيام به، وما تُشير الأدلة إلى أنه لا بد أن يحسِّن الأمور في المستقبل (حسبما نأمل). من المهم التأكيد على أن التوصيف لا يمكن أن يكون دقيقًا ولا شاملًا تمامًا. فهو مجموعة من الفرضيات العملية التي قد تتغيَّر بمرور الوقت عندما تظهر معلومات جديدة عن تجارب العملاء وسياقهم واستجابتهم لأي تدخل نفسي بعينه. وعلى الرغم من أنه لا يمكن لأي توصيف أن يكون «صحيحًا» تمامًا أو «مثاليًّا» تمامًا، فإن وجود إطار للعمل أمر مهم لكلٍّ من الاختصاصي النفسي الإكلينيكي والعميل. فمن نواحٍ عديدة، يُمكن أن يعد التوصيف حجر الأساس الذي يقوم عليه عمل الاختصاصي النفسي الإكلينيكي.
وعلى عكس هذا النموذج، يركز المعالجون النفسيون الديناميون على إعادة تجسيد مشاعر من الماضي في العلاقة العلاجية الحالية. يُعدُّ التوصيف النفسي الدينامي في الأساس فرضية تصف أنماط العلاقات التي تتسبَّب في المعاناة، وتعقد الصلات بين: (١) وضع الحياة الحالي؛ (٢) علاقات الطفولة المبكرة؛ (٣) والعلاقة مع المعالج. لكن المعالج النفسي الدينامي لا يعمد في هذه الحالة إلى مشاركة المخطط فعليًّا مع العميل، بل يشارك معه كلاميًّا بعض أجزاء التوصيف، فيختبرها ويتحقَّق منها من خلال ملاحظة استجابات العميل وتوليد التفسيرات.
وثمة نهج آخر في التوصيف يعتمد على المعالج والعميل معًا، ويتمثَّل في بنائهما «قصة» أو سردية يتفقان عليها (إما كتابيًّا أو شفويًّا) تُفصل ما يُواجهه العميل حاليًّا من صعوبات ومُعاناة وتَقترح طريقة لتغيير هذا الوضع مُستقبلًا.
وبصرف النظر عن نوعية التوصيف المستخدم، فإنه يُؤدِّي دوره على أفضل وجه عندما يَعكس تعاطفًا مع العميل وتفهُّمًا لمشكلاته وأصلها وعوامل استمرارها وتداعياتها، على أن يكون ذلك بطرق تبدو فيها الصحة وتفتح بابًا للأمل والتغيير الإيجابي.
التدخل
المهارة الثالثة هي التدخل. في هذه المرحلة يختار الاختصاصي النفسي الإكلينيكي نهجًا أو تقنية أو علاجًا يهدف إلى مُساعدة العميل، ثم يطبقه بالتعاون معه. ولعلَّ أهم ما تَستلزمه هذه الخطوة هي ترجمة العلم النَّظري إلى ممارسة إكلينيكية: أي القُدرة على استخدام المعرفة العِلمية المدعَّمة بالدلائل ومجموعة واسعة من الأطر النظرية لحلِّ المشكلات الإكلينيكية الحالية.
يوجه التوصيف مع تفضيل العميل عملية اختيار التدخُّل، التي قد تضم العديد من الخيارات، بدءًا من العلاج النفسي الفردي إلى إمكانية الدعم من خلال الهاتف، أو تنظيم فعاليات لتدريب طاقم العمل، أو تعديل برنامج العلاج داخل المستشفى، أو حضور اجتماعات علاجية مع مجموعة من الأشخاص الذين يُعانون من مشاكل مُماثلة. قد يحدث التدخل بشكلٍ انفرادي بين العميل والمعالج، أو قد يُشارك فيه آخرون، كمُوظفي دار الرعاية أو أفراد العائلة أو مُعلمي المدرسة.
في بعض الأحيان، تكون التدخلات قصيرة المدى وقد تَستغرِق سنوات عدة في أحيان أخرى، غير أن العلاج في إطار الخدمات الصحية العامة يتعرَّض لضغوطات كبيرة لكي تكون التدخُّلات وجيزة وذات مردود عالٍ بالنِّسبة إلى التكلفة. على سبيل المثال، تستخدم الخدمة الوطنية للصحة في المملكة المتحدة نظامًا مُتدرجًا لتوفير العلاج النفسي لمن يحتاجونه. تبدأ الخطوة الأولى بالمساعدة الذاتية الموجَّهة، كما في أنظمة العلاج المتوفِّرة عبر البرامج الإلكترونية أو كتب المساعدة الذاتية.
إن لم تتحسَّن حالة الشخص، فيمكن حينها تقديم المستوى الثاني من الخدمات: عدد محدود من جلسات العلاج الفردي أو الجماعي، غالبًا ما يُستخدَم فيها دليل علاجي إرشادي (وهو مجموعة إجراءات مدوَّنة ومحددة مسبقًا). وأحيانًا يقدم هذه الجلسات اختصاصي نفسي حاصل على تدريب في نوع معيَّن من العلاجات كالعلاج المعرفي السلوكي مثلًا (انظر الفصل الرابع) على أن يكون ذلك تحت إشرافٍ اختصاصي نفسي إكلينيكي. وكثيرًا ما يُشارك الاختصاصيون النفسيون الإكلينيكيون بالفعل في تصميم هذين المستويين الأولين من الخدمات وإعدادهما وتقييمهما، واللذَين تظهر فعاليتهما بالنسبة إلى الكثيرين. لكن بعض العملاء سيحتاجون إلى علاج أكثر تكثيفًا، ولهذا يُوجد مستوى ثالث من الخدمات يتمثَّل عادةً في العلاج الفردي. وغالبًا ما تُستخدَم العلاجات المقدمة في هذا المستوى توصيفات تتَّسم بدرجة أكبر من الفردانية، وإن كان مُعظمها يظلُّ قائمًا على نموذج علاجي أو أكثر، كالعلاج المعرفي السلوكي.
يوجد العديد من التنويعات في هذه الطريقة العلاجية، إذ تتفاوت العلاجات التي يقدمها بعض الاختصاصيِّين النفسيين الإكلينيكيين في الطول والقِصَر. على الرغم من ذلك، يتألَّف العلاج النفسي المكثف للبالغين في المعتاد من سلسلة من الجلسات كل أسبوع أو أسبوعين، تستغرق الواحدة منها حوالي ساعة، ويستمر العلاج لفترةٍ تتراوَح بين ستة أسابيع وثلاثين أسبوعًا. لكن هذا الشكل يختلف عند العمل مع الأطفال؛ إذ تتضمَّن الجلسات اللعب والرسم غالبًا. ويكون التركيز على المتاعب التي تُواجه العميل، مع الحد الأدنى من المحادثات التمهيدية الاجتماعية. ولا يُسمح بالتلامس بين المعالج والعميل، باستثناء المصافَحة بالأيدي. وقد يدون الاختصاصي النفسي الإكلينيكي بعض الملاحظات أحيانًا، أو يفعل ذلك بعد الجلسة. يكون أغلب الحديث من جانب العميل فيتكلم عن تجاربه ومشاعره، ويتدخل الاختصاصي النفسي الإكلينيكي تدخُّلًا نشطًا فيطرح الأسئلة ويقترح طرقًا مختلفة لرؤية الأمر أو يبني خطة لمساعدة العميل في تغيير الوضع مستقبلًا.
تقييم الفعالية
بعد خضوع الشخص لتدخُّلٍ نفسيٍّ ما، من المُهم تقييم إذا ما كان التدخُّل فعَّالًا أم لا. ويجري هذا من خلال ملاحظة استجابة العميل، أو قياس مدى تغيُّر الأعراض، أو سؤال العميل عن رأيه، أو جميع ما سبق. ولعلَّ ما يعكس جوهر عملية تقييم الفعالية هو الفضول بشأن ما حدث نتيجة لتدخُّلٍ ما، تجمع ما يكفي من البيانات للوصول إلى استنتاجات عن تأثير التدخل. وهذه المعرفة هي ما يمكِّن الاختصاصيين النفسيين الإكلينيكيين بعد ذلك من إجراء تغييرات مستقبلية. ويجري هذا أثناء الممارسة الإكلينيكية الروتينية بسؤال الشخص أو عائلته إن كان وضعُه تحسَّنَ أم لا، وعن السبب في هذا، وكذلك بتكرار أيِّ اختبارات أُجريت قبل التدخل لمعرفة ما إذا كان قد أحدث فارقًا بعدها. ويُقيِّم مُعظم الأطباء النفسيين عملهم بانتظام ويشركون مرضاهم في هذا. كما يطلب بعض مقدمي الخدمات في مجال الصحة النفسية من العملاء تقديم ملاحظاتهم بعد كل جلسة، وهو ما قد يكون علامة مُبكِّرة على أن التدخل الحالي غير مفيد بما يكفي ومن الضروري اتخاذ نهج مختلف.
البحث والمراجعة
على الرغم من ضغوطات الوقت الدائمة، يُجري الكثير من الاختصاصيين النفسيين الإكلينيكيين صورًا أكثر تعقيدًا من التقييم مثل المراجعات الصغيرة النطاق. وتنطوي هذه المراجعات على فحص مجموعات البيانات التي جُمِعَت خلال ممارسات أو خدمات مُعينة. تصبُّ نتائج هذه المراجعات مباشرة في عملية الممارسة، ممَّا يضمن أن الخدمات الفعَّالة هي التي تلقى التمويل لتحل محلَّ الخدمات الأقل فعالية.
إضافةً إلى ذلك يُشارك بعض الاختصاصيين النفسيين الإكلينيكيين في البحث العلمي أيضًا، ويتعاوَنون مع المؤسسات الأكاديمية المحلية غالبًا. ومن بين الممارسات البحثية التي يشاركون فيها، الاستقصاء المنهجي لبعض الظواهر أو العلاجات الإكلينيكية باستخدام تشكيلة واسعة من اختبارات القياس والمسائل محل الملاحظة ونوعيات النتائج وأشكال التحليل. يُمكن للبحث العلمي أن يُساعد في تطوير فهمٍ أفضل لبعض الحالات المرضية الإكلينيكية (كالتوحُّد على سبيل المثال)، أو في تقييم أثر نوع معيَّن من العلاج (على سبيل المثال، هل يمكن أن يكون العلاج التفاعلي مفيدًا للمراهقين الذين يُفرِطون في تناول الكحوليات؟) أو في فهم المسائل الفعالة في العلاج (مثل جودة العلاقة بين الاختصاصي النفسي والمريض) وتأثيرها على نتائج العلاج.
تُساعد مثل هذه الدِّراسات أيضًا في بِناء فهم نظري للآليات البشرية، لا سيما عندما يكون الإنسان تحت ضغط. فهذه الأبحاث تُسهم في تطوير علم النفس الإكلينيكي بصفته تخصصًا تطبيقيًّا، ومن ثَم تساعد من سيَستشِيرون اختصاصيًّا نفسيًّا إكلينيكيًّا في المستقبل. كما يُحاول الكثير من الاختصاصيين النفسيين الإكلينيكيين الذين يعملون في البحث العلمي توسيعَ مدى تأثير بحوثهم أو مراجعاتهم من خلال مُشاركة النتائج التي توصَّلوا إليها بالنشر في الدوريات الأكاديمية، وتأليف الكتب، وتقديم الأوراق البحثية في المؤتمرات.
الاستشارة، والتدريس، والإشراف، والإدارة، والقيادة
لقد كان مُعظم تركيزنا في هذا الفصل على العمل مع العملاء الفُرادى، ولكن الاختصاصيين النفسيين الإكلينيكيين يعملون أيضًا مع المؤسسات، من خلال تقديم النصح والمشورة (بشأن أفضل طريقة لترسيخ العمل الجَماعي على سبيل المثال) وعن طريق تقديم خدمات التدريس والتعليم للموظفين. كما يُشكِّل الإشراف ركنًا رئيسيًّا في تدريب مجموعات عديدة من العاملين في مجال الرعاية الصحية والاجتماعية وفي الممارسة الإكلينيكية لهذه المجموعات، ويُسهم الاختصاصيون النفسيون الإكلينيكيُّون بشكل مُتزايد في ذلك، سواء عن طريق إجراء بحوث عن الطرق الفضلى للإشراف أو من خلال تقديم الإشراف مباشرةً. ومن العناصر الرئيسية في هذه العملية، إعداد عقود الإشراف الرسمية وإيلاء عناية كبيرة لجَودة العلاقة بين المُشرِف ومتلقِّي الإشراف.
علاوةً على ذلك، يتولَّى الكثير من الاختصاصيين النفسيين الإكلينيكيين أدوارًا إدارية وقيادية. فيُمكِن أن يشاركوا في قيادة المراكز الإكلينيكية؛ حيث يشجعون زملاءهم على الانتباه للمنظور النفسي (من خلال الإشراف عليهم وإمدادهم بالمعلومات)، أو قد يؤدُّون دورًا استشاريًّا أو إداريًّا في المؤسسات. فبفضل تدريبهم المتخصِّص على مهارات التواصُل وتشبُّعهم بثقافة تبنِّي منظور الآخَرين، يُمكن للاختصاصيين النفسيين الإكلينيكيين أن يقدموا إسهامًا قياديًّا قيِّمًا في المؤسسات التي يعملون بها (بالمشاركة في الاجتماعات والإدارة ووضع السياسات الرسمية على سبيل المثال).
لقد أعطانا هذا الفصل نظرةً عما يحمله الاختصاصيون النفسيون في جَعبتهم، بما في ذلك التقييم والتوصيف والتدخُّل والبحث وتقييم الفعالية، والاستشارة، والإشراف، والتدريس/التعليم، والقيادة/الإدارة. وفي الفصل التالي، سنَتناول كيفية ترجمة التوصيف إلى عمل فعلي، والطرق التي استخدم بها الاختصاصيون النفسيون الإكلينيكيون النظريات لتُساعدهم في تحديد خطواتهم التالية.