بناؤنا لشخصية العالِم الممارس المتفكِّر
أي شيء في هذه الدنيا قد يبعث شخصًا على قضاء حياته المهنية بأكملها يَستمع لقصص حزينة أو يُحاول فهم الصراعات الداخلية في صدور الآخَرين، بدلًا من أن يعمل في وظيفة أخرى، ولتكن في تعظيم أرباح شركةٍ ما أو تعليم الأطفال السباحة أو تصميم ملابس أو مبانٍ راقية على أحدث صيحة.
أغلب الاختصاصيِّين النفسيِّين الإكلينيكيِّين يُجيبون عن ذلك بأنهم يشعرون برغبة متجذرة داخلهم في مساعدة الناس (لا سيما الأقل حظًّا منهم والمهمَّشين) حتى يعيشوا حياة أطيب، إضافةً إلى تطلعهم لفهم تنوُّع البشر وعزمهم على إحداث تغيير في حياتهم. ويضيف مُعظمهم أن لديهم شعورًا ملحًّا بالفُضول، وأنهم مفتونون بالنفس البشرية، ويودُّون اكتساب فهمٍ أفضلَ لسلوك البشر ومشاعرهم. لدى هؤلاء الكثير من الأسئلة: لماذا يشعر الناس بما يشعرون به؟ لماذا يكرر بعض الأشخاص على ما يبدو نفس السلوكيات التي تُسبِّب لهم التعاسة؟ كيف يُمكننا مساعدة الأطفال المضطربين نفسيًّا بشكلٍ أفضل؟ ماذا يمكن أن يفعل المرء لمساعدة الناجين من صدمات أو حوادث اعتداء؟ لماذا نرى أشخاصًا يُجوِّعون أنفسهم لدرجة الموت، وآخرين يُفرِطون في الشراب للدرجة نفسها، وماذا يمكن أن نفعل لنساعدهم في تطوير طريقة أكثر صحية في التعامل مع ما يشقُّ عليهم؟
وقد يحدثنا اختصاصيون نفسيون آخَرون عن مدى استمتاعهم بالتحدِّي الذهني الذي يَنطوي عليه التعامل مع تعقيدات البشر؛ باستكشاف طبقات ومعاني وأسباب مختلفة للعيش مع تحديات متعددة وتجارب مُركَّبة ودوافع معقَّدة. وقد قال أحد مُشرفينا يومًا إنه مُغرم بعمله بسبب ما يَنطوي عليه من تعقيد. فقد وصفه بأنه «لغز مُستمِر ليس له حلٌّ قاطع ولا إجابة نموذجية تُناسب الجميع».
وبعض الاختصاصيين النفسيين يجدون بطبيعتهم مُتعة في الإنصات للقصص والمُشكلات، ويجدُون سرورًا عندما يتمكَّنون من سماع تجارب الآخَرين الشخصية. فهم يُولون قدرًا كبيرًا للقُرب الحقيقي من الآخرين وتكوين علاقات حميمة قائمة على الثقة وتعلم احترام نظرات الناس المتفاوتة والمتفردة للحياة، وإيلائها قدرَها. فأن يُؤتى أحدٌ الفرصة لدخول الحياة الخاصة لبعض الأفراد هو ولا شك شرف عظيم. فنحن نعرف من تجربتنا الشخصية، أنَّ المرء يشعر بامتياز هائل عندما يُوليه الناس ثقتَهم؛ أي عندما يسمحون لك بمعرفة مكنوناتهم ويشاركون معك جوانب ضعفهم، بما فيها من أشياء يَعتقدُون أنها مدعاة للخِزي. وفوق ذلك، يمكن للتعلم من شجاعة الكثير من العملاء وصمودهم أن يكون مصدر إلهام كبير، لا سيما فيما يتعلق بتعرضهم لصدمات كبيرة في حياتهم أو نجاتهم منها.
في المقابل، يتطوَّر لدى بعض الناس اهتمام بعلم النفس الإكلينيكي من خلال تجاربهم الشخصية، حيث تكون قد واجهتهم أمراض عقلية أو مشكلات نفسية داخل عائلتهم نفسها، فيكونون قد اضطروا لاستيعاب عالم معقَّد منذ فترة مبكرة. والبعض يُصبح مشغوفًا بالمهنة بعد أن يخوض تجربة العلاج كعميل أو كنتيجة لبعض الصعوبات الشخصية. أو ربما يتَّقد عندهم اهتمام مبدئي بسبب رغبتهم في فهم أنفسهم أو المقرَّبين لهم فهمًا أفضل.
كما يُؤكد الكثير من الاختصاصيين النفسيين الإكلينيكيين فوق ذلك على التنوع والتفاوت داخل هذا الدور، وعلى الإثارة والمتعة في دمج العلم والنظرية والممارسة الإكلينيكية في مهنة واحدة. فالتبادل بين إنشاء علاقة قريبة مع العملاء من جهة وبين بِناء تفسيرات مُستقاة من العلم والنظرية من الجهة الأخرى يجعل كل يوم تحديًا لكنَّه تحدٍّ مُثير. فالقبعات العديدة التي نَرتديها باعتبارنا اختصاصيين ممارسين وباحثين ومُعلمين ومشرفين وقادة فريق وخاضعين للإشراف تجعل المَلَل شبه مُستحيل.
على الرغم من ذلك، فمن الضروري القول إنَّ علم النفس الإكلينيكي لا يُناسب الجميع، وإن كان جذابًا. فقد يكون من الأيسر أن تُصبح مُدربًا حياتيًّا أو معلمًا، إن كنت تَستمتِع بإسداء النصح للناس أو مدِّهم بالمعلومات. وإذا كنتَ تريد أن تُصبح معالجًا في الأساس، فقد يكون من الأسرع لك أن تتلقَّى تدريبات في الإرشاد النفسي أو في نموذج علاجي مُعيَّن. وإن كان حصولك على لقب رسمي مهم لك (كأن تلقب ﺑ «الدكتور» على الدوام)، فقد يكون الطب أنسب لك. وإن كانت الحقائق والمنطق و«الواقع» مُهمين بالنسبة إليك، فقد يكون الالتحاق بعمل في القانون أو الخدمات الأمنية أفضل لك من التعامل بشكل يومي مع القرارات التي تبدو عاطفية وغير منطقية التي يتَّخذها الناس عندما يكونون تحت ضغط. فوق ذلك، إن كنت تريد أن تجني مالًا وفيرًا فقد يكون من الأفضل لك أن تعمل في الاقتصاد أو القانون: فما لم تكن محظوظًا فستظلُّ تحيا على القُروض أو المنح حتى الثلاثينيات من عمرك، وربما تعمل بعدها في قطاع الخدمات العامة حيث تتفاوَت مستويات الدخل والظروف. أو ربما تعمل في عيادة نفسية خاصة مما يستدعي أن تتولى نفقات مكتبك وتأمينك ومُشرفك والدعم الإداري، إلى جانب غياب الأمان في التوظيف الذاتي.
وعلى الصعيد الشخصي، يُمكن لهذه المهنة أن تكون مليئة بالتحديات. ذلك أنها تستلزم من ممارسيها أن يكونوا مُستعدِّين للتفكر والتساؤل واستقبال التعليقات من عملائهم وزملائهم وأن يكونوا قادرين على تحمُّل المشاعر الشاقة. فالكثير من العملاء لا يُعبرون عن الشكر أو العرفان أو التقدير لجهودك ووقتك، وقد يرجع هذا جزئيًّا إلى تجاربهم السابقة. فعادةً ما يتواصَل الناس مع الاختصاصي النفسي الإكلينيكي عندما يكونون في أسوأ حالاتهم: في غمرة من المشاعر، أو في أزمة، أو على حافة انهيار علاقاتهم. لهذا السبب، قد لا يكون بَمقدورهم مراعاة مشاعرك أو احتياجاتك. وفي بعض الأحيان، قد يتملك العملاء غضب شديد وقد يعبرون عن هذا تجاهك، بصرف النظر عن أفعالك أو كلماتك.
ليس عمل الاختصاصي النفسي الإكلينيكي مجرَّد وظيفة بالنسبة إلى مُعظمنا بالطبع (فهناك طرق أخرى أبسط لكسب لقمة العيش). وإنما يُعَد مِن نواحٍ كثيرة طريقة للعيش: تلك الرغبة العميقة المتجذِّرة في مساعدة الآخرين، والافتتان بالبشر، والفضول بشأن ما يختبره البشر من صعوبات وتجارب وأشكال للهشاشة واختلافات، والإشباع الناتج من التحدِّي الفكري والوجداني اليومي للعمل مع الأشخاص المُكتئبين.
التدريب في علم النفس الإكلينيكي
في الولايات المتحدة الأمريكية، تُؤدي بعض البرامج الدراسية في علم النفس الإكلينيكي إلى نيل درجة الدكتوراه في الفلسفة بتركيز كبير على البحث العلمي، وغالبًا ما تُدرس داخل الجامعات. بعض برامج الدكتوراه الأخرى في علم النفس الإكلينيكي تُركِّز على الممارسة العلاجية بدرجة أكبر، وتُؤدي إلى منح درجة الدكتوراه في علم النفس. تكون هذه البرامج عادةً داخل الكليات الخاصة والمدارس المهَنية. كلا النوعين من البرامج يَستغرِق ٥ سنوات من الدوام الجُزئي ويحتاج تمويلًا ذاتيًّا. هذا يعني أن أغلب الطلبة يَقترضون قروضًا تُحمِّلهم بديون تبلغ ١٠٠ ألف دولار أو أكثر على مدى فترة تعليمِهم.
في المملكة المتحدة، يتطلَّب العمل كاختصاصي نفسي إكلينيكي إتمام درجة دكتوراه علم النفس الإكلينيكي، وهي درجة دكتوراه للمُمارسين تجمع بين العناصر الإكلينيكية والتعليمية وعناصر البحث العلمي. وعلى خلاف الولايات المتحدة الأمريكية، تكون هذه الدرجة في المعتاد برنامجًا جامعيًّا بدوام كلي يستغرق ثلاث سنوات يتبع خدمة الصحة الوطنية. في الوقت الحالي يَحصُل المُتدرِّبون على تمويل لأغراض تعليمهم وتدريبهم الأكاديمي بينَما يقومون بأعمال إكلينيكية لصالح الخدمات التي تُقدمها خدمة الصحة الوطنية لمدة ثلاثة أيام في الأسبوع أو أربعة. (لاحِظ أن لفظة «طالب» تُستخدَم أكثر في الولايات المتحدة، بينَما تُستخدَم «متدرب» أكثر في المملكة المتَّحدة؛ وهما يُستخدَمان بالتبادل داخل هذا الكتاب.)
في أغلب الدول الغربية، بما فيها الولايات المتحدة وكندا والمملكة المتحدة، تتطلَّب ممارسة علم النفس الإكلينيكي الحصول على ترخيصٍ أو قيد. وفي أغلب الدول يكون لقب «اختصاصي نفسي إكلينيكي» حصرًا على الاختصاصيِّين الذين أنهوا أحد مُؤهِّلات الدراسات العليا بنجاح ولديهم رخصة لمزاولة المهنة في مكانهم، ومُقيَّدون داخل هيئة مهنية معيَّنة. ورغم أن الأمر يتفاوت بين الدول والولايات، فثمة متطلبات ثلاثة شائعة: شهادة من برنامج تعليمي مُعتمَد، وحدٌّ أدنى من الخبرة الإكلينيكية الخاضعة للإشراف، والنجاح في امتحانٍ ما.
أن تُصبح عالمًا
صحيحٌ أن الموضوعات المحددة قد تختلف وفقًا للجامعة أو طاقم التدريس، لكن من المتوقَّع أن تتناول برامج الدكتوراه في علم النفس موضوعات كالموضَّحة في مربع ٢٠.
مربع ٢٠: البرنامج الأكاديمي المعتاد لدرجات الدكتوراه في علم النفس الإكلينيكي
-
التواصُل الإكلينيكي.
-
مهارات الإرشاد العامة.
-
مهارات التقييم والتوصيف.
-
أساليب البحث الكمية والكيفية.
-
نظريات العلاج النفسي (مثل العلاج المعرفي، والعلاج المعرفي السلوكي).
-
علم الأمراض النفسية (مثل اضطرابات الشخصية، الذُّهان، القلق، الاكتئاب).
-
علم الأمراض النفسية النمائية (مثل التوحُّد).
-
إساءة استخدام المواد والإدمان.
-
الصدمات النفسية والإجهاد النفسي والمرونة النفسية.
-
علم النفس في مجال الصحة الإكلينيكية.
-
المنظور النفسي على مدى مراحل الحياة؛ تطوُّر الأطفال والبالغين.
-
علم نفس الأسرة والطفل.
-
علم نفس المجتمع.
-
علم النفس الجنائي.
-
تقييم البرامج/الخدمات.
-
أخلاق المِهنة.
-
الوعي الثقافي والاجتماعي.
-
الإشراف والاستشارة والتدريس.
غالبًا ما يكون أعضاء هيئة التدريس في الجامعة هم من يتولون أدوار التدريس بشكل أساسي، ويُكمِّلهم في ذلك ممارسون إكلينيكيون وباحثون يقدمون محاضرات الزوار. فالعديد من كبار الاختصاصيين النفسيِّين الإكلينيكيين يستمرُّون في التدريس داخل جامعتهم المحلية، ويستمتعون بمشاركة شغفِهم مع الأجيال المُقبلة من الاختصاصيِّين النفسيين الإكلينيكيين. بهذه الطريقة يقابل المتدربون العديد من الخبراء المحليين في هذا المجال ويَبنون شبكة علاقات مهنية، ويحتكُّون بمنهجيات وأساليب عمل مختلفة، ويَكتسبون تصورًا عن مختلف الخدمات وخيارات المسلك الوظيفي. تشمل أشكال التدريس المحاضرات، وورش العمل، والدورات التفاعُلية، وفرص التعلم التجريبي مثل تمثيل الأدوار والمجموعات التأملية.
وكجزء من التدريب الأكاديمي، يخضع المُتدربون باستمرار لتقييم مهاراتهم الكتابية، ويَنبغي عليهم أن يُقدِّموا الكثير من تقارير الحالات، وتوصيفات الحالات، والتقييمات، وخطط العلاج، والمقالات النظرية، وكتابة مراجعات للمؤلَّفات والدراسات السابقة والمشاريع البحثية الصغيرة. كما تتطلَّب برامج الدكتوراه عمل مشروع بحثي تجريبي أو أطروحة مُستقلة مُبتكَرة. يستغرق إجراء أُطروحة الدكتوراه وقتًا طويلًا؛ إذ تبدأ بمراجعة الدراسات السابقة، ثم تحديد السؤال البحثي، وإيجاد مُشرِفٍ بحثي، وبناء مُقترَحٍ بحثي، وتصميمٍ بحثي مُناسب، والحصول على الموافقة الأخلاقية، وجمع البيانات والتحليل، والتفكر في النتائج، وكتابة النتائج في صورة احترافية مُناسِبة للنشر، وفي النهاية، مناقشة الأطروحة أمام اختصاصيِّين كبار في هذا المجال. إنَّ هذه المتطلبات الأكاديمية من مراجعةٍ للحالات والدراسات السابقة، وكتابة المقالات، وإجراء المشاريع البحثية والأطروحة، تعني أنه مع العمل الإكلينيكي لثلاثة أيام في الأسبوع أو أربعة، وحُضور محاضرات ليوم أو اثنين؛ تُنفَق أغلب الليالي وإجازات نهاية الأسبوع إما في قراءة المؤلفات البحثية، أو الكتابة الأكاديمية، أو التحضير للعمل الإكلينيكي. فليس التدريب لذوي القُلوب الضعيفة!
أن تُصبح ممارسًا
سواء أسمَيناه الامتياز أو الدراسة العمَلية أو التدريب الميداني، لا بدَّ أن تشتمل جميع برامج الدكتوراه للتأهيل في علم النفس الإكلينيكي على خبرات إكلينيكية خاضعة للإشراف. في الولايات المتحدة، يختار الطلبة فئة الخدمات أو العملاء التي يودُّون العمل معها من بين تشكيلة مِن التدريبات العمَلية المعتمَدة، والتي تخضع بشكلٍ أساسي لسُلطةِ جمعية مراكز التدريبات الميدانية وما بعد الدكتوراه في علم النفس. هذا يعني أن الطلبة يحتاجون لأن يقومُوا بعملية مطوَّلة من التقديم على التدريبات الميدانية (وما تشمله من كتابة السير الذاتية والمقابلات الشخصية … إلخ)، وقد لا يعملون في المكان الذي يُفضلونه في النهاية. لكن هذه العملية برغم أنها قد تُرى أحيانًا شاقة ومرهقة، فإنها تساعد الطلاب على بناء خبرة في مساحات معيَّنة وتعزز من معارفهم ومهاراتهم، وتُمثِّل لهم جولة تدريبية قيِّمة على عمليات التقديم (وهي مُفيدة لهم عند البحث عن عمل بعد الحصول على المؤهل).
في المقابل، يختلف الأمر في برامج التأهيل في علم النفس الإكلينيكي داخل المملكة المتَّحدة والدول الأوروبية الأخرى؛ إذ غالبًا ما تكون التدريبات الميدانية/الدراسة العمَلية من تنظيم برنامج الدكتوراه نفسه، فيُوزَّع الدارسون على التدريبات العملية في خدمات محلية مُختلفة، وفقًا للاحتياجات المهنية للخدمة أو المتدرِّب. ليس للمُتدربين رأي كبير في اختيار المكان (وقد يحتاجون لأن يتنقَّلوا مسافات طويلة يوميًّا لحضور عدة تدريبات) ولا فئة العملاء ولا الخدمة والمُشرف. وصحيحٌ أن مساحة اختيارهم أقل، لكن هذا النظام يُقلِّل الوقت المبذول في عمليات التقديم الرسمية، كما يَضمن أن المتدرب سيَكتسِب خبرات إكلينيكية كثيرة في العمل مع الأطفال والبالغين وكبار السنِّ وذوي الإعاقات التعليمية.
الاختبارات والقيد
جميع برامج علم النفس الإكلينيكي تُقيِّم طلابها لضمانِ أنهم حصَّلوا المُستويات المِهَنية المطلوبة ويُمكنهم أن يُقدِّموا خدماتهم للعملاء بشكلٍ آمن. تستخدم بعض البرامج امتحانات كتابية قياسية رسمية مثل اختبار الممارسة المِهَنية لعلم النفس في أمريكا. وتوفِّر هذه الاختبارات تقييمًا شاملًا لمعرفة المتقدم وممارساته ومهاراته التطبيقية. ورغم أنَّ المحتوى قد يختلف قليلًا بين البلدان والولايات والبرامج التدريبية، فإنَّ بِنيَتَه تَشمل مزيجًا من المكوِّنات الكلامية (مُقابَلة شخصية وعرض تقديمي) والكتابية. لا أحد يَستمتِع بخوض الامتحانات لكن لا أحد تقريبًا يختلف مع أن وجود نوع من الرقابة ضروري حتى نحمي العملاء ونُحافظ على المستوى.
الإشراف: مساحة للتفكُّر المهني
إنَّ الاختصاصيِّين النفسيِّين الإكلينيكيِّين لا يتلقون التدريب ليُصبحوا علماء ممارسين فحسب، بل ليصبحوا علماء ممارسين مُتفكِّرين. ويشتمل التفكر، كما أوضحنا في الفصل الأول، على مراعاة احتياجات مختلف العملاء وعائلاتهم، وكذلك رغباتهم وآرائهم، وتحديد النهج الأفضل لمساعدة كل فرد. رغم أن التفكُّر قد يكون مسألة طبيعية للبعض، فإنَّ التأهيل يستلزم أيضًا التفكر المنهجي في الدمج بين العلم والممارسة الإكلينيكية من خلال الإشراف. وعادةً ما تتضمَّن جلسة الإشراف اجتماعَ اثنَين أو أكثر من المتخصصين بانتظام لمدة ساعة في المرة لمناقشة الحالات وتخوُّفات مُتلقِّي الإشراف. ينبغي على الطلاب أن يخضعوا للإشراف الإكلينيكي الفردي مع المُتخصِّصين الكبار في الجامعة أو الخدمة الإكلينيكية المحلية، إضافة إلى الانضمام إلى مجموعات الإشراف المتبادَل بين الأقران بانتظام.
يهدف الإشراف إلى أن يوفر للمتدرب خبرة تشكيلية معيارية تصحيحية. فمن خلال تدارس العمل المبذول مع العميل يُعزِّز الإشراف التعلم وتطوير المهارات الإكلينيكية (الخبرة التشكيلية)، ويوفر فرصة لاستكشاف النتائج المتوقَّعة والأسئلة الأخلاقية والإدارية المرتبطة بالعمل مع العميل بما يتوافق مع إرشادات مؤسسة معينة (الخبرة المعيارية)، ويستكشف التأثيرات الوجدانية لعمل العميل على متلقي الإشراف (الخبرة التصحيحية).
لا يقتصر الإشراف على سنوات التدريب. أغلب الاختصاصيين الإكلينيكيِّين يستمرون في تلقي الإشراف على عملهم الإكلينيكي أو البحثي أو كليهما طوال مسيرتهم المهنية. الفارق بين تلقي الإشراف وأنت اختصاصي إكلينيكي حاصل على المؤهل وبين فترة التدريب يكمن بشكلٍ أساسي في المعدل (فالمتدربون يتلقَّون ساعات إشراف أكثر في مقابل كل عميل). وفي أثناء التدريب أيضًا، يشمل الإشراف عادةً هدفًا رابعًا؛ وهو تقييم كفاءة المتدرب الخاضع للإشراف.
في أفضل الحالات، يَخلق الإشراف بيئة تعلُّم رائعة؛ حيث يُمكن لمُتلقِّي الإشراف أن يستفيد من خبرة اختصاصيٍّ مُخضرم ذي خبرة في العمل الإكلينيكي/البحث العِلمي في المجال، بحيث يُوفر له مكانًا آمنًا للتفكُّر وتجربة تقنيات مختلفة، والقيام بأخطاء واستقبال تعليقات. ويُمكن أن تكون العلاقة بين المُشرف ومُتلقِّي الإشراف عملية مشابهة للعلاقة بين المُعالِج والعميل، أو العلاقة بين الوالد وولده، مما يكشف عن جوانب من العمليات العلاجية التي قد تحدُث خلال العمل الإكلينيكي. وتتمثَّل هذه العملية الشبيهة بوضوح في تجربة إشراف إيجابية مَرَّ بها أحد زملائنا وصفها بعبارته:
«إنه ذلك الشعور بأنك تستطيع طرح أي شيء أمام مُشرفتك وأنت واثق من أنها لن تخرج عن طورها … وهذا يَبني لديك ذاك الإحساس الحقيقي بالثِّقة.»
وإني لأرجو أن هذا الإحساس بالأمان وبأنَّ هناك من «يدعمك» هو نفسه إحساس العملاء في العلاج.
لكن في أسوأ الحالات، قد يشعر مُتلقِّي الإشراف بأنه يتعرَّض للنقد والتقييم والمُراقبة وانعدام الأمان، حيث يكون الإشراف مجرَّد مكانٍ لإرضاء المُشرف، ويُعبر عنها أحد المعالجين في العبارة التالية:
«إنها لعلاقة صعبة حقًّا … فهي علاقة سلطة، ومُشرفتي تُقيِّمني: إنها مؤهَّلة وذات سلطة أكبر … وهذا أمر صعب مع شخص يفترض بك أن تتفكَّر معه وتكون مُنفتحًا وصادقًا تمامًا بشأن ما تشعر به.»
التفكُّر الشخصي في العلاج النفسي
إلى جانب التفكُّر المِهَني، ثمَّة جانب آخر في أن تكون عالِمًا مُمارسًا مُتفكِّرًا، وهو التفكُّر الشخصي. ففهم الذات مُهم لأن الاختصاصي النفسي ينبغي عليه ألا يفرض «أعباءه» الشخصية أو انحيازاته أو تخوُّفاته على عملائه. ولهذا تُشجع الكثير من البرامج التدريبية متدربيها تشجيعًا إيجابيًّا على المرور بتجربة العلاج الشخصي باعتباره جزءًا من تطورهم المهني (انظر الفصل السادس). لكن ثمة برامج أخرى لا تُركز على الفوائد المحتملة للعلاج الشخصي، وتُولي تركيزًا أكبر لتطوير المتدرب مهنيًّا. وبعض البرامج تُقدم مجموعات تفكر أو مجموعات مُعالَجة، يُتوقَّع فيها من المتدرِّبين وطاقم التدريس أن يُشاركوا تجارب شخصية (مثل الخلفية العائلية، والعلاقات)، بينما تُؤكِّد برامج أخرى بصراحة على أن طاقم التدريس يحترم الحدود بين حياة المتدرِّبين الشخصية والمهنية، وأن المسائل الشخصية لا تُشارَك على الملأ.
الشخص الكامن خلف المتخصِّص
إنَّ العمل اختصاصيًّا إكلينيكيًّا مع عملاء يُعانون من مُشكلات لأوقاتٍ طويلة ومع زملاء مجهدين لا يُناسب الجميع. فالأمر لا يُصبح سهلًا أبدًا، وإن كنتَ تتعلَّم عادةً إدارة الأمور بشكل أفضل بمرور السنين. لكن بعض الصعوبات ستظلُّ أصيلة في دور الاختصاصي النفسي الإكلينيكي طوال مساره المِهَني، وهي ببساطة جزء من مِهنة المتخصِّصين في الصحة النفسية ببساطة.
غالبًا ما تكون الأعوام الأُولى هي الأصعب. ومن الصعوبات الشائعة خلالها إخبار عميلك بأنك مُتدرِّب، أو أن يقول لك عملاؤك إنك حديث السن وقليل الخبرة، أو الشعور بالافتقار إلى الثقة في النفس عند العمل مع أناس من مُختلف الخلفيات. فمن المعضلات التي تُواجهك كثيرًا على سبيل المثال: ما الذي يُمكنني، وأنا شخص حديث السن، أن أُقدِّمه لهذا الشخص الأكبر والأكثر خبرة؟ كيف يُمكنني أنا أساعد والدَين رغم أني ليس لديَّ أولاد؟ لماذا لم يَرجع إليَّ العميل بعد أول جلسة أو طلب الحديث مع مُشرفي؟ ماذا أفعل عندما يعتمد عملائي عليَّ أو يُعبرون عن أفكار ومشاعر بشأن إيذاء أنفسهم أو إيذاء آخَرين؟ متى يتعيَّن عليَّ أن أشرك/أستشير مُختصين آخَرين؟ هل يُمكنني فعلًا أن آخُذ إجازة دون أن أشعر بالذنب؟
أغلب الاختصاصيِّين النفسيِّين الإكلينيكيِّين يجدون طريقة لتسوية هذه المسائل مع الوقت، مُضيفين أنهم يَسترشدون ويطمئنُّون من خلال قراءة نتائج الأبحاث العلمية أو الإرشادات المهنية وتطبيقها في مُمارستهم الإكلينيكية. ومن الأمور الشائعة تعلم استيعاب تعقيدات اتخاذ القرارات الإكلينيكية وتقبلها تدريجيًّا. فغالبًا ما يتوجَّب على الاختصاصيين النفسيين الإكلينيكيين التدخل في مواقف معقَّدة تكون فيها الأدلة التي يستندون إليها غير واضحة، مما قد يُشعرهم بمخاطرة كبيرة. ومن غير السهل تقسيم العملاء بسهولة لفئات وأصناف؛ فغالبًا ما تكون تجارب العملاء في أرض الواقع أكثر فوضوية مما نتوقَّعه عند قراءة تقارير حالات مرتبة ومنسَّقة في الكتب والدلائل الإرشادية.
ويَندرج ضمن العناصر الأساسية للتفكُّر الشخصي، التفكير في كل عميل على حدة وفقًا لسياقه وثقافته المحدَّدة. فقد ورَد على سبيل المثال، عن اختصاصيٍّ إكلينيكيٍّ حصل على مؤهِّله حديثًا، ما يلي:
«لم أتوقَّع يومًا أن تكون هذه الرحلة مليئة بالتحديات على الصعيد الشخصي إلى هذا الحد. لقد ترك التدريب لديَّ من الأسئلة أكثر ممَّا أعطاني من إجابات. ها أنا أتخرج من هذا البرنامج الدراسي مُدركًا أن ثمة حيزًا للتقنيات والنماذج النفسية في غرفة العلاج لكنها لا تشغل حيزًا هائلًا. فالأشخاص الذين يَدخُلون غرفة العلاج هم الأهم بالنسبة إليَّ الآن، تَليهم المشكلة الماثلة أمامهم وكل شيء آخر. سأنتظر لأرى ما سيحدث.»
قد تتفاجَأ عندما تسمع هذا عن مجال يدور بأكمله حول الناس، لكن العمل كاختصاصي نفسي إكلينيكي يُسبِّب شعورًا بالوحدة أحيانًا. ففي بعض أماكن الممارسة الإكلينيكية قد تكون أنت الاختصاصي النَّفسي الإكلينيكي الوحيد الذي يعمل مع خدمة معيَّنة أو فئة معيَّنة من العملاء؛ فلا أحد آخَر قد يكون له تعامل مع مُشرفيك وزملائك، وقد تُشعِرك الساعات الطويلة التي تقضيها في المذاكرة والكتابة وحل المسائل الإحصائية في البيت بالوحدة. لذا قد يكون استقبال الدعم من اختصاصيٍّ نفسيٍّ إكلينيكي زميل مفيدًا جدًّا إن تسنَّى لك ذلك. هذا الدعم قد يتفاوَت بين اجتماعات إشراف مُتبادَل بين الأقران تُنسِّق رسميًّا، ولقاءات عفوية في كافيتيريا مكان الممارسة الإكلينيكية عندما يبدو كل شيء مُرهقًا للغاية. وقد أضاف هذا الاختصاصي النفسي الإكلينيكي الجديد أيضًا:
«بصفتي اختصاصيًّا إكلينيكيًّا مبتدئًا، أقدر حقًّا الدعم الذي أختبره عندما أَلتقي بزملائي المبتدئين الآخرين في أيام التدريس العادية في القِسم؛ لأفرغ بعضًا من الضغط، وأتذمَّر من تنقُّلاتي اليومية الطويلة، وأُشارك تجاربي مع العملاء والمُشرفين وقلقي بشأنها.»
ماذا عن الاختصاصيِّين النفسيِّين الإكلينيكيِّين الأكثر خبرة؟ صحيحٌ أننا مُتخصِّصون نتلقَّى مالًا لقاء عملنا، لكننا أيضًا بشر، وقد نُواجه في بعض الأحيان صعوبات في الحفاظ على مسافة مناسبة بين أنفسنا وبين تجارب عملائنا الشعورية المريرة في الفترة المتاحة لذلك بين الجلسات. وقد تكون لهذا تبعات جيِّدة وأخرى سيئة. وهنا أقتبس من كارل يونج قوله: «التلاقي بين شخصيتَين يُشبه التلاقي بين مادتَين كيميائيتَين: إن حدَث أيُّ تفاعُل بينهما، فلا بد أنه يُغيِّرهما كليها.»
وقد يكون من الصعوبة بمكانٍ أن تُصبح اختصاصيًّا نفسيًّا قادرًا على الإنصات باهتمامٍ عندما يتكلم العملاء عن تاريخهم الشخصي المأساوي (والذي قد يمسُّ بعض منه ذاتك أيضًا). على سبيل المثال، قد يكون من الصعب أن تسمع سردًا تصويريًّا عن اعتداء جنسي أثناء الطفولة إن كان لديك طفل في نفس السن، أو إن كنتَ أنت نفسك تعرَّضت لأحداث مأساوية مُشابهة أثناء طفولتك. بصفتك متخصصًا يعمل بمهنية، يجب أن ينصبَّ اهتمامك الأكبر على عميلك بالطبع، لكن هذا يظلُّ مُرهقًا شعوريًّا أحيانًا.
وبالمثل، قد يكون من الصعب أن تتمسَّك بشُعورك بالأمل عندما يكون عميلك في حضيض اليأس، وليكن مثلًا بسبب تعرُّضه لإصابة أو مرض خطير، أو أن تعرف على وجه التحديد متى ينبغي عليك أن تطلب مُساعَدة إضافية إن كان العميل يُفكِّر في الانتحار.
ومن المُؤسف أنَّ حوالي ٥٪ من الاختصاصيِّين النفسيين الإكلينيكيين الذين يعملون مع عملاء يعانون من أزمات كبيرة من ضغطٍ بالغ يُؤدِّي إلى ما يُعرف ﺑ «إنهاك فرط التعاطف»، والذي يشكِّل خطرًا على الاختصاصي النفسي وعملائه. قد يُطلق على هذا مصطلحات بديلة مثل الصدمة «المتعدية» أو «الثانوية»، أو «غير المباشرة». ينجم إنهاك فرط التعاطف عن قلق الاختصاصي النفسي الإكلينيكي المُفرط على عملائه، وقد يظهر في صورة أعراضِ إجهادٍ مثل صعوبات النوم، والكوابيس، والتنبُّه المُفرط والتحفز، والتوتر، وأن تستحوذ صدمة معينة على تركيزه.
نستطيع، على سبيل المثال، أن نتذكَّر زميلةً كبيرة كانت تدير مجموعة علاجية بكفاءة، لكنها صارت مُنزوية فاقدة للإحساس، مغمورة بالشعور بالذَّنب والمسئولية؛ عندما انتحر أحد عملائها الذين تابعوا معها لمدة طويلة، وبدأت عائلة العميل في رفع قضية ضدَّها. هذا الانتحار المفاجئ استدعى من زميلتنا أن تُولي أولوية كبيرة لإدارة مشاعر العملاء الآخرين المشاركين في المجموعة وأفراد عائلة العميل وفريق العاملين. لكن مشاعرها الشخصية مِن فقدٍ وغضبٍ وفشلٍ وقلق بشأن فقدان شخص كانت تدعمه لسنوات طويلة كانت في قاع قائمة أولوياتها. وكانت النتيجة بالنِّسبة إليها إنهاكًا عاطفيًّا شديدًا، مما دفعها إلى التفكير في الاستقالة من مهنتِها ومسارها المهني الذي اختارتْه بعناية.
ثمة مفهوم ذو صلة بهذا وهو «الاحتراق النفسي». يظهر الاحتراق النفسي جليًّا في عدد من المهن، بما فيها مَن يعملون مع مشكلات المعاناة النفسية. هذا المفهوم مُرتبط بنقصِ الإشباع في الوظيفة وفي الغالب يتطور تدريجيًّا مع مرور الوقت لا يطرأ فجأة. ينشأ الاحتراق النفسي في الغالب، على خلاف إنهاك فرط التعاطف، عندما لا تتوافَق احتياجات الفرد مع متطلبات مكان العمل. في مجالنا، قد تتضمَّن مُتطلبات مكان العمل مثلًا الضغط الناتج عن قوائم الانتظار الطويلة، ونقص الموارد أو الوقت المكرَّس للأبحاث، وتحمُّل مسئولية عدد كبير من العملاء، والتعامل مع قلق زملاء العمل، جنبًا إلى جنب مع المتطلبات البيروقراطية من كتابة الملاحظات اليومية والتسجيل والتقييمات وكتابة الرسائل.
إن بدأ المرء يشعر بالاحتراق النفسي فقد يبدأ التعامُل مع عملائه بتعاطُف أقل أو يشعر باليأس أو يولي اعتبارًا أقل لمشاعره ومشاعر الآخرين كذلك. في استبيانٍ حديث، قال ثلث الاختصاصيين النفسيين الإكلينيكيين إنهم يشعرون أنهم مُغرَقون بالمهام البيروقراطية غير المهمَّة في ممارستهم، وأنهم يشعرون بالإجهاد من مهامِّهم الإدارية أكثر مما يشعرون بذلك من العملاء. كما قد عبَّر اختصاصي نفسي كبير عن مروره بالاحتراق النفسي بعد سنين طويلة من الممارسة الإكلينيكية، عندما أصبح المتنفَّس الشعوري لزملائه الصغار والمُديرين إلى جانب عملائه.
الاعتناء بالذات
ليس من المُمكن أن نتجنَّب جميع أشكال الإجهاد المرتبط بالعمل، لكن الوعي بالعوامل المنذرة بحدوث إنهاك فرط التعاطُف والاحتراق النفسي خطوة أولية مهمَّة. فنحن نعلم أن هناك عدة عوامل تزيد من احتمالية حدوث إنهاك فرط التعاطف؛ فهي تزيد مثلًا لدى الإناث، وتزيد مع صغر السن، ووجود شيء من المعاناة الشخصية، وقلة الخبرة، إضافة إلى عدم الحصول على تدريب متخصِّص في التعامل مع الصدمات، والعمل في خدمة المرضى المُقيمين، وتولي أعباء كبيرة في العمل، والعمل مع ضحايا الصدمات. عندما يكون المرء واعيًا بهذه العوامل المُنذِرة، قد تُؤدي زيادة درجة الاعتناء بالذات دورًا حقيقيًّا في الحماية. فمن المُحتمَل مثلًا أن يحميَ تلقِّي العلاج الشخصي (سواء كان ذلك في الماضي أو الحاضر) مِن الإجهاد النفسي الناجم عن العمل، وكذلك الخضوع لإشراف مُستمر، والعمل ضمن فريق. فالشعور بالدعم من مجموعة من الزملاء الذين يفهمون تجربتك يُمكن أن يكون بالغ الأهمية.
إلى جانب ذلك، يُقلل استخدام التقنيات المؤيدة بالأدلة من حدوث الاحتراق النفسي وإنهاك فرط التعاطف، ويزيد من الشعور بالرضا، وربما يكون ذلك لأنه يُساعد الاختصاصي النفسي الإكلينيكي على الشعور بدرجة أكبر من الاستعداد والثِّقة. إلى جانب ذلك، من الممكن أن يوفر القيام بمجموعة متنوعة من الأدوار أو المهام الحماية كذلك؛ ففُرص الشعور بالإنهاك أو الاحتراق النَّفسي بسبب العمل مع عملاء مُتطلبين وجدانيًّا تقلُّ بشكلٍ كبير عندما لا تجمع كل البيض في سلَّة واحدة. هذا يعني أنه في الأيام التي يكون فيها العمل مع العملاء مجهدًا، قد يكون التركيز على مشروع بحثي أو اجتماع مع فريق أمرًا مريحًا. أو ربما تجني الإشباع من خلال مُشاركة علمك سواء بالتدريس أو الإشراف.
عمل الاختصاصي النفسي الإكلينيكي لا يتوقَّف أبدًا
رغم متطلبات هذه الوظيفة ومَخاطرها، لا يُعاني معظم الاختصاصيِّين النفسيين الإكلينيكيِّين في حقيقة الأمر من إنهاك فرطِ التعاطُف أو الاحتراق النفسي في حياتهم المهنية. فبعد تلقِّي التدريبات، تظل مهنة الاختصاصي النفسي الإكلينيكي بالنِّسبة إلى مُعظم الناس مُرضية ومُشبعة ومُحفزة باستمرار. فالأغلبية يظلُّون يُمارسون العمل الإكلينيكي طوال حياتهم المهنية. وثمَّة طرق عديدة ومتنوعة لكسب العيش من خلال العمل كاختصاصي نفسي إكلينيكي، بدءًا من العمل في المؤسسات الكبيرة الممولة من الدولة وحتى العيادات الخاصة. وقد يتراوح التركيز من العلاج الفردي إلى قادات الصناعة الكبار، ومن العمل مع الأطفال حديثي الولادة إلى كبار السن.
إنَّ الاستمرار في هذا العمل يستلزم الانتباه الذهني، والمُرونة الوجدانية، والاهتمام المستمر بفهم معاناة الآخرين وتخفيفِها. في الوقت الحالي، يعمل العديد من الاختصاصيين النفسيين الإكلينيكيين لما بعد سن التقاعُد التقليدي بفترة طويلة. وتُظهر قاعدة بيانات دولية كبيرة تضمُّ آلاف الاختصاصيِّين النفسيين الإكلينيكيين أن البعض يستمرُّون في عملهم حتى التسعينيات من عمرهم. وعن هذا عبَّر اختصاصي نفسي إكلينيكي قدير ذو خبرة طويلة، وهو أيضًا أستاذ متفرغ، قائلًا:
«لطالما كانت عندي رغبة قوية في أن أظلَّ ناشطًا في العمل الإكلينيكي، وإن كان بعض وقتي الآن يُبذَل في المهام الإدارية والإشراف على مُتخصِّصين آخَرين وزملاء مُبتدئين. وكالعديد من زملائي، ظللت أطور مَهاراتي المهنية والشخصية من خلال خُضوعي للإشراف وعلاجي الشخصي ومتابعة أحدث التطورات في المجال من الأبحاث وقراءة الدوريات.»
هذا الحسُّ المُستمر بالتعلم والنمو على مدى المسيرة المهنية مدعوم أيضًا بالشروط المهنية التي تَقتضي من كل الاختصاصيين النفسيين الإكلينيكيين حضور فعاليات للتعلُّم المستمر كل عام، كورش العمل والمؤتمرات. بهذه الطريقة، تتعاوَن المهنة يدًا بيدٍ مع الهيئات التي تنظم عمل المتخصصين لحماية الحماس والالتزام المستمرَّين اللذَين يُبديهما الاختصاصيُّون النفسيون الإكلينيكيون؛ ومن ثَم حماية الجمهور الذي يستفيد من هذه الخدمات.