مقدمة في التعريف بالجغرافيا السياسية والجيوبوليتيكا
تشكِّل الجغرافيا السياسية واحدًا من الموضوعات الشائكة في الدراسات الجغرافية، ذلك أنها مضطرة إلى ربط وتحليل تفاعلات بشرية سريعة الإيقاع — الاتجاهات السياسية الداخلية والخارجية والأحداث العسكرية — مع العوامل الجغرافية الأرضية شبه الثابتة، وهي في ذلك تشبه الجغرافيا الاقتصادية أو جغرافية السكان وجغرافية العمران، لكن التشابه يقف عند هذا الحد.
ذلك أنه يوجد اختلاف كبير بين منطلق الدراسة في الجغرافيا السياسية وبين منطلقه في الدراسات الجغرافية عامة، بما في ذلك فروع الجغرافيا البشرية والاقتصادية؛ فالإقليم هو وحدة الدراسة في الفروع الجغرافية، والإقليم عبارة عن تركيب نظري ينتج عن تجميع عدد من المقومات والصفات المتشابهة طبيعيًّا واقتصاديًّا وبشريًّا في منطقة جغرافية محددة يصبح لها تميزها وتفردها عن المناطق المجاورة، وبذلك فإن الإقليم الجغرافي وحدة دراسة لها شيء كبير من الثبات الذي يستمده من التوافق التدريجي الذي يحدث بين المكونات الطبيعية للأرض، والإمكانات البشرية التنظيمية والتكنيكية — مع تغيرات كمية تطرأ نتيجة زيادة السكان أو تغير نمط استخدام الأرض.
أما في الجغرافيا السياسية فإن وحدة الدراسة هي الدولة، وهي في حد ذاتها اصطناع بشري موقوت الثبات نتيجة تغيرات سريعة داخلية وخارجية. وفي خلال فترة حياة الدولة — طالت أم قصرت — فإن الدولة قد تتكون من إقليم جغرافي واحد أو جزء منه، إذا كانت دولة صغيرة المساحة، مثال ذلك هولندا التي تحتل إقليمًا سهليًّا في دلتا الراين، أو سويسرا التي تحتل جزءًا من إقليم جبال الألب الأوروبية، أو نبال التي تحتل جزءًا من بيدمونت جبال الهملايا. وقد تمتد سيادة الدولة على عدة أقاليم طبيعية وبشرية مختلفة، إذا كانت من الدول الكبيرة الحجم، كالاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة وكندا وأستراليا والسودان والبرازيل، ومع ذلك فإن بعض الدول — صغيرة المساحة أو متوسطة — تشتمل على أقاليم جغرافية متعددة، وخاصة في المناطق التي تتخذ فيها التضاريس أشكالًا مفاجئة مثل العراق أو رومانيا أو إيطاليا أو لبنان أو فيتنام؛ ففي هذه الدول وغيرها تقف أقاليم الجبال والسهول أو السهول العليا في تناقض واضح جنبًا إلى جنب.
وليس هذا هو كل الاختلاف، فالمفروض في الجغرافيا السياسية أن تدرس أداء كل المواطنين، بغض النظر عن خلفياتهم الإقليمية المحددة، في اتجاه موحد هو مصلحة الدولة، وبذلك تفرض الوحدة السياسية تكاملًا أعلى مستوًى من التكامل الإقليمي الطبيعي، وقد أدى ذلك إلى موضوعين حيويين في جغرافية الدولة، أولهما وجوب نشأة تنظيمات مختلفة داخل الدولة لإيجاد أو اصطناع هذا التكامل في شتى نواحيه الاقتصادية والبشرية والسلالية والطائفية والثقافية والحضارية، ووجوب نشأة سلطات مركزية ومحلية لإرساء قواعد التكامل، ولكن ذلك لا يحدث دائمًا وتظل أقاليم في الدولة متميزة بقواها الذاتية وثقلها السكاني والحضاري والاقتصادي، كإيطاليا الشمالية؛ ومن ثم تشعر الأقاليم الفقيرة بعقدة نقص أبدية داخل حدود الدولة السياسية، وربما كان هذا — بالإضافة إلى عوامل اختلاف أخرى، سلالية أو لغوية، أو مجرد البعد المكاني عن مركز الحكم — أحد أسباب القلق أو القلقلة داخل بناء الدولة، وقد يؤدي في أقصى حالاته إلى نشأة رغبات انفصالية. والموضوع الثاني أن الدولة — كخلق بشري — قابلة للنشأة والنمو والازدهار والاضمحلال والبقاء والزوال، وكم من دولة كانت ثم لم تكن، لكن الشعوب والأقاليم تظل قائمة؛ لأنها تجمعات طبيعية واعتيادية، سواء بقيت وحدتها السياسية أو زالت، وإلى جانب ذلك فإن الدولة — بغض النظر عن الكينونة والزوال — معرضة للانكماش أو التمدد، ومن ثم تظهر تغيرات مستمرة على خريطة العالم السياسية.
وهذا هو جوهر الصعوبة في الجغرافيا السياسية، لهذا فإن هذا العلم يحاول أن يصبح موضوعيًّا بقصر مهامه على رسم صورة معاصرة للوحدات السياسية مع أضواء على الخلفيات الطبيعية والبشرية والتاريخية، وخاصة في موضوع الحدود السياسية، الذي تكون دراسته واحدًا من أهم منطلقات الدراسة في الجغرافيا السياسية — وذلك باعتبار أن الحدود السياسية هي «مقياس» الحركة في الوحدة السياسية — ومؤشرًا على صحة الأداء السياسي.
وإذا كانت هذه صعوبة الجغرافيا السياسية، فالجيوبوليتيكا أكثر صعوبة؛ لأنها تقوم برسم تصورات سياسية مستقبلية على ضوء تفاعلات المكان الجغرافي والشكل السائد من الاستراتيجية العسكرية، ولهذا يتردد دائمًا مصطلح القوة البرية أو البحرية أو الجوية. وبما أن الجيوبوليتيكيا في أساسها خطة للمستقبل السياسي لإقليم أو قارة أو العالم، فإنها أقل موضوعية من الجغرافيا السياسية، لكنها ضرورة متلازمة مع الفكر السياسي في عصر القوميات والاستراتيجيات العسكرية للسيطرة على العالم أو جزء منه، وبرغم قدم الفكر الجيوبوليتيكي وتلازمه مع السياسات الإمبراطورية المختلفة في الماضي، إلا أنه أصبح أكثر تكاملًا كموضوع للدراسة منذ القرن الماضي وخلال القرن الحالي، وهو في الحقيقة يشابه الخطط الاقتصادية أو العمرانية في الوقت الحاضر، وذلك من أجل معرفة المكان الذي تحتله دولة ما من خطط السياسة العالمية، والدور الذي يمكن أن تؤديه، ومن أجل مواجهة هذه الخطط بالقبول أو الرفض، ولا شك في أن تطور الفكر الجيوبوليتيكي وضرورته المعاصرة مرتبط باقتراب العالم من بعضه نتيجة التسهيلات التي حدثت في وسائل النقل والاتصال الفكري والإعلامي والتشابك الاقتصادي.