ماهية الجغرافيا السياسية
إن هناك فارقًا كبيرًا بين الجغرافيا السياسية وبين علم السياسية برغم أن الموضوع في أسسه العامة مشترك بالنسبة للدولة، فالدولة بالنسبة للجغرافيا السياسية عبارة عن عنصرين أساسيين هما الأرض والشعب، ينجم عنهما عنصر ثالث هو نتاج التفاعل بين الأرض والناس. وتشتمل دراسة الأرض على كثير من عناصر الدراسة الجغرافية الطبيعية على رأسها عنصر المكان الجغرافي والأقاليم الطبيعية للدولة، كما تشتمل دراسة الشعب على عناصر كثيرة من الدراسة للحياة البشرية، وهي تبدأ بالسكان والنشاط الاقتصادي وأنماط السكن والمدن والتكوين الحضاري للناس من حيث سلالاتهم ومجموعاتهم اللغوية وتنظيمهم الطبقي، أما العلاقة بين الأرض والناس فهي شديدة التعقيد والتشابك وتؤدي في النهاية إلى سلامة تكوين الدولة أو عناصر قوتها وضعفها، وفي هذا المجال يضع الجغرافي السياسي نصب عينيه حدود الدولة كإطار محدد للوحدة الأساسية في الجغرافيا السياسية، برغم ما تتعرض له الحدود من تغيرات، وبرغم أن خطوط الحدود في أحيان كثيرة إنما هي خطوط افتعالية ترتضى لزمن معين، ويؤدي هذا إلى عدم ثبات الوحدة الأساسية في علم الجغرافيا السياسية إلى الأبد، بل يعطي للجغرافيا السياسية دينامية دائمة، وفي هذا يقوم الجغرافي بدراسة الدولة داخل علاقاتها بالمجتمع الدولي المجاور والبعيد، ويعطي هذا بعدًا جديدًا في دراسة الجغرافيا السياسية. وواضح من هذا العرض القصير الفارق الكبير بين هذا العلم وعلم السياسة الذي يسعى إلى إيجاد التناسق بين علاقات الدول، بينما تحلل الجغرافيا السياسية العلاقة بين الظروف الجغرافية الطبيعية والبشرية داخل الدول.
- أولًا: إن العواطف والانتماءات القومية الوراثية — أو المكتسبة للمهاجرين من دولة إلى أخرى — تجعل الكاتب موضوعيًّا في الموضوعات البعيدة عن المكان الجغرافي لقوميته، أو البعيدة عن الاتصالات السياسية والتاريخية بقوميته، بينما يصبح غير موضوعي بدرجات متفاوتة فيما يختص بغالبية العناصر التي يدرسها في مشكلة سياسية تمس من قريب انتماءاته القومية، فالجغرافي السياسي الألماني لا ينظر إلى مشاكل ألمانيا السياسية بالنظرة نفسها التي ينظرها الفرنسي أو الإنجليزي أو الأمريكي.
- ثانيًا: هناك انتماءات ومشاعر عاطفية فوق القومية المحدودة وتتعداها إلى عواطف الارتباط بتجمع حضاري معين مثل الانتماء إلى حضارات العالم الصناعي أو الغربي أو إلى حضارات العالم الثالث أو المتخلف والنامي، فالكاتب السياسي الغربي ينظر من زاوية حضارته ومنجزاتها نظرة شاملة دون التوقف عند تفصيلات الأحداث الخاصة بهذين العالمين سواء كانت ضارة أو مجحفة بحق شعوب العالم الثالث، أو مفيدة ومربحة لأصحاب المستعمرات من دول الحضارة الغربية الصناعية، وفي الوقت نفسه يقف هذا الكاتب طويلًا أمام منجزات الحضارة الغربية في دول العالم الثالث الحالية، بينما يقف الكاتب السياسي الهندي أو العربي مثلًا وقفات طويلة أمام البربرية الاستعمارية في كثير من مواقفها، أو أمام الاستنزاف الاقتصادي الطويل، وينظر إلى تركيب الاقتصاد المزدهر في العالم الصناعي حاليًّا على أنه قد أُسِّس دون شك على أعمال ملايين العمال الجائعين من أبناء العالم الثالث التي قدموها كرهًا — أو طواعية غير مباشرة بواسطة إجبار حكام خاضعين للحكم الاستعماري — بالإضافة إلى استغلال الثروات الطبيعية من أجل أصحاب المستعمرات حكومات وشعوبًا.
- ثالثًا: تتعدى النظرة فوق القومية المشاعر العامة
لأصحاب الحضارات الغربية في أحيان كثيرة حد التطرف
وتصبح مشاعر عنصرية مرتبطة بالرجل الأبيض ككائن سام،
وعلى غيره من العناصر أن تخدمه دون محاسبة أو اعتراض
في مقابل أن يرعى بعض مصالحهم الضرورية في مجرد
البقاء على قيد الحياة، مثال ذلك الكُتَّاب
السياسيون في الدول العنصرية كجنوب أفريقيا وروديسيا
والكثير من الكُتَّاب السياسيين في أمريكا، وقد بلغت
مثل هذه المراحل من العنصرية أشدها في حالتين:
الأولى الكتابات العنصرية الجرمانية التي تمجد سيادة
الجرمان على كل البشر بما فيهم بقية السلالات
البيضاء، والثانية الكتابات السياسية العنصرية
الصهيونية التي تمجد سيادة ما يسمونه بالسلالة
اليهودية على العالم.
وقد كان من الطبيعي أن يقوم التناحر بين هاتين العنصريتين المتطرفتين لفترة طويلة من الزمن، وأن تخلف الثانية الأولى بعد هزيمتها؛ لأن كلًّا منهما اتخذ لنفسه تطبيقًا مختلفًا في محاولة تحقيق هدفه للسيطرة العالمية: فالجرمانية سخرت كل طاقات الشعب الألماني ضد العالم، وهي بدون شك طاقات محدودة بالمكان الجغرافي والعدد البشري مهما كانت أشكال التقدم التكنولوجي التي وصل إليها الألمان، بينما الثانية سخرت — ولا تزال تسخر — طاقات مختلفة من أماكن جغرافية كثيرة وشعوبًا عديدة لكي تخدم الإبقاء على الدولة الإسرائيلية في فلسطين، وفي نظري فإن هذه الدولة لا تمثل كل التجسيد الأهداف العنصرية الصهيونية، بل هي جزء من هذه الأهداف يمثل ركيزة مادية تمتد منها جسور على المستوى العالمي، ويربط اليهود ظاهريًّا وماديًّا كما يربط معه بالفعل أجزاء أخرى كثيرة موزعة في العالم.
- رابعًا: تختلف نظرة الكُتَّاب السياسيين إلى الأمور
باختلاف انتماءاتهم الأيديولوجية، فالكاتب
الاستعماري القديم يختلف عن الإمبريالي المعاصر،
وكلاهما يختلف عن الكاتب الماركسي في تحليل الأحداث
السياسية، ويتفق هؤلاء جميعًا في أن الاقتصاد
والتجارة بصورته العامة هو محرك أساسي للتخطيط
السياسي، ولكنهم يختلفون في تحليل كل الظواهر
الاجتماعية والاقتصادية المؤدية إلى تكوين الدولة،
وتشكيل الأحداث السياسية وقيام الثورات ونشأة
القوميات، ويختلفون نظريًّا في تحليل القوى التي
تساعد على بقاء النظام الاستعماري أو الإمبريالي أو
الاشتراكي.
فمثلًا الكاتب السياسي الأمريكي ينظر إلى مشكلات أوروبا فيما بين الحربين العالميتين نظرة مختلفة إلى مشكلاتها فيما بعد الحرب العالمية الثانية، والسبب في هذا راجع إلى أن أمريكا كانت قد انعزلت عن المشكلات الأوروبية حسب مبدأ مونرو في أعقاب الحرب الأولى، بينما نجدها منغمسة إلى أقصى حدود الانغماس في المشكلات الأوروبية فيما بعد الحرب الثانية.
فمبدأ مونرو كان ينظر إلى أن حدود أمريكا هي حدود الأطلنطي، وأن انتصار الحلفاء الغربيين على ألمانيا القيصرية قد أدى إلى تأمين أوروبا الغربية، وبالتالي تأمين المحيط الأطلنطي وتأمين حدودها، وكذلك كان يمكن أن يكون الحال بعد هزيمة القوى الجرمانية الهتلرية في الحرب العالمية الثانية لولا عاملان جديدان كل الجدة في التخطيط السياسي الأمريكي جعلاها تمد حدودها الآمنة عبر الأطلنطي إلى أوروبا، بل وعبر الباسيفيكي والهندي أيضًا، وهذان العاملان هما:- العامل الأول: أن مصدر الخطر على الأمن الأمريكي — الذي يطلق
عليه تعميمًا الأمن الغربي — لم يعد الرقعة المكانية
المحدودة الموارد الطبيعية والبشرية والتكنيكية التي
تحتلها ألمانيا، والتي زاد من ضعفها تقسيمها إلى
ألمانيا الشرقية والغربية كوحدتين متنافرتين تؤديان
إلى هدر جزء كبير من طاقتهما في الصراع الأيديولوجي
والاقتصادي، بل أصبح موضع الخطر على الأمن الأمريكي
هو الاتحاد السوفيتي في الرقعة المكانية الهائلة ذات
الطاقات الكبيرة مواردَ وسكانًا، والتي تتبرعم فيها
قوى تكنيكية ليس من السهل نضوبها متى بدأت تثبت
وتتعمق جذورها وتتأصل، وهي بذلك قوى مشابهة إلى حد
غريب لتبرعم القوى التكنيكية الأمريكية على سطحها
الأرضي الواسع ومواردها الطبيعية والبشرية الكبيرة،
فالفرق الكمي والكيفي والمكاني واضح بين دولتي
ألمانيا كقوة سياسية أوروبية والاتحاد السوفيتي كقوة
عالمية، ومن ثم كان لا بد للوجود الأمريكي من الظهور
في كل أجزاء العالم المحيطة بالاتحاد السوفيتي
قاطبة، وليس في أوروبا وحدها.
وعلى هذا الضوء يمكن أن نفسر سلسلة الأحلاف التي أنشأتها أمريكا لتطويق الاتحاد السوفيتي: حلف الأطلنطي في أوروبا الغربية والبحر المتوسط ومضايق البحر الأسود، والحلف المركزي في الشرق الأوسط، وحلف جنوب شرق آسيا من باكستان إلى الفلبين وأستراليا.
- العامل الثاني: أن مبدأ مونرو برغم ما يبدو ظاهريًّا من أنه
إخلاد أمريكا إلى الراحة بعيدًا عن ضجيج الصراع
السياسي الأوروبي وثورات المستعمرات ومشكلاتها في
أفريقيا وآسيا، إلا أنه في حقيقة الأمر لم يكن
كذلك.
فمبدأ مونرو وسياسة العزلة الأمريكية لم يكن إلا بمثابة ستار دولاري أقامته أمريكا حول الأمريكتين جميعًا، وقد منع هذا الستار المنافسة المالية والقدرة الاستثمارية الأوروبية الغربية إلى حدود بعيدة من الدخول إلى أمريكا الوسطى والجنوبية، وجعلها حقلًا احتكاريًّا مفتوحًا أمام الاستثمارات الأمريكية وحدها، فقد اشترت أمريكا الأراضي والمزارع، واحتكرت جانبًا كبيرًا من مقدرات الإنتاج الزراعي النقدي في كثير من دول أمريكا اللاتينية — الفواكه والبن والكاكاو والمطاط والسكر والكولا — وضمنت أمريكا لنفسها كافة الامتيازات في استغلال الثروات التعدينية في المكسيك وفنزويلا (البترول) وبيرو وشيلي (النحاس) وبوليفيا (القصدير)، ولا تزال الاحتكارات الأمريكية قوية في أمريكا اللاتينية، إلى جانب المواصلات والنقل والتجارة، وذلك رغم المعارضة الثورية (كوبا) والقوية (شيلي) والسرية (بقية أمريكا اللاتينية) في هذا الميدان الاحتكاري.
وفي الحقيقة إذن لم يكن مبدأ مونرو طوال العشرينيات والثلاثينيات من هذا القرن سوى فترة تدعيم للإمبريالية في «بيتها» الأمريكي الواسع، وبعدما اتَّخَمت أمريكا برأس المال بدأت تنطلق في أخريات الثلاثينيات عبر الأطلنطي والباسيفيكي باحثة عن استثمارات واحتكارات جديدة في تايلاند وجنوب شرق آسيا وأستراليا، وفي الشرق الأوسط (البترول) وبدايات صغيرة في أفريقيا (المطاط والحديد في ليبيريا)، لكن هذه الانطلاقة فاجأتها الحرب العالمية الثانية.
وقد ترتب على هزيمة ألمانيا واليابان، وخروج أوروبا مفلسة مخربة الفرصة الذهبية أمام رأس المال الأمريكي القوي، فقام بدور هائل في إعادة بناء اقتصاد أوروبا الغربية عامة، وألمانيا واليابان خاصة، وبذلك دخلت أمريكا شريكًا فعليًّا في كثير من المؤسسات الصناعية الأوروبية واليابانية المزدهرة وأصبح لها — بالضرورة — اهتمامات أمن أكيدة في هذه المنطقة الصناعية من العالم، هذا بالإضافة إلى التغلغل الأمريكي الاقتصادي في أجزاء كثيرة من أفريقيا كوريث أو شريك لرأس المال الاستعماري القديم في الكنغو وجنوب أفريقيا والمستعمرات البرتغالية، وفي آسيا دخلت أمريكا بهذه الصفة في إندونيسيا والهند الصينية وغيرهما من الدول الآسيوية الجنوبية، فضلًا عن صراعات الاحتكارات الأمريكية مع الاحتكارات الأوروبية في إيران والخليج العربي ومناطق البترول في شمال أفريقيا.
صحيح أن هناك صراعات بين رأس المال الفرنسي والأمريكي، وصراعات أخرى أقل حدة بين رأس المال الألماني والياباني المهجن بالأمريكي وبين رأس المال الأمريكي، إلا أن هذه التفصيلات لا تغير من الصورة العامة؛ فبروز المصالح الأمريكية في أوروبا وغيرها قد أدى إلى نبذ مبدأ مونرو تمامًا بعد أن استوفى أغراضه وأرسى قواعد الإمبريالية الأمريكية الحديثة في العالم.
وعلى هذا النحو تتغير نظرات وتحليلات كُتاب السياسية لموضوع العلاقات الأمريكية الأوروبية في فترة نصف قرن نتيجة لتغير أيديولوجي اقتصادي في البناء والتركيب السياسي الأمريكي.
- العامل الأول: أن مصدر الخطر على الأمن الأمريكي — الذي يطلق
عليه تعميمًا الأمن الغربي — لم يعد الرقعة المكانية
المحدودة الموارد الطبيعية والبشرية والتكنيكية التي
تحتلها ألمانيا، والتي زاد من ضعفها تقسيمها إلى
ألمانيا الشرقية والغربية كوحدتين متنافرتين تؤديان
إلى هدر جزء كبير من طاقتهما في الصراع الأيديولوجي
والاقتصادي، بل أصبح موضع الخطر على الأمن الأمريكي
هو الاتحاد السوفيتي في الرقعة المكانية الهائلة ذات
الطاقات الكبيرة مواردَ وسكانًا، والتي تتبرعم فيها
قوى تكنيكية ليس من السهل نضوبها متى بدأت تثبت
وتتعمق جذورها وتتأصل، وهي بذلك قوى مشابهة إلى حد
غريب لتبرعم القوى التكنيكية الأمريكية على سطحها
الأرضي الواسع ومواردها الطبيعية والبشرية الكبيرة،
فالفرق الكمي والكيفي والمكاني واضح بين دولتي
ألمانيا كقوة سياسية أوروبية والاتحاد السوفيتي كقوة
عالمية، ومن ثم كان لا بد للوجود الأمريكي من الظهور
في كل أجزاء العالم المحيطة بالاتحاد السوفيتي
قاطبة، وليس في أوروبا وحدها.
خلاصة القول فإنه من الصعب استخراج قوانين أو مبادئ عامة في الجغرافيا السياسية أو العلوم السياسية يمكن تطبيقها في عدد من الموضوعات المختلفة؛ نظرًا للاختلاف الشديد بين المقومات البيئية الطبيعية والمزاج البشري والتراكيب الحضارية والاقتصادية وغير ذلك من عوامل تكوين الدولة، إلى جانب الانتماءات المختلفة للسلالة أو الحضارة أو الأيديولوجية.
وبالرغم من تكرار مصطلح «مشكلة» في كتابات الجغرافيا السياسية، إلا أنه لا يجب أن يتبادر إلى أذهاننا أن هناك حلولًا لهذه المشكلات على نحو ما نجده من حلول في عالم الأبحاث الفيزيائية أو الكيميائية مثلًا، ذلك لأن مشكلات الجغرافيا السياسية تتناول علاقات بشرية وأرضية غاية في الدقة والتعقيد نتيجة لتراكمات التراث التاريخي والاجتماعي والحضاري، إلى جانب علاقات الاقتصاد والتجارة المتشابكة، وفوق كل هذا علاقات المكان.
ومن ثم فإن «مشكلة» أقلية أو حدود لا تعني وجوب إيجاد حل سليم لها، إنما هو — إذا خلصت الجهود المبذولة — حلٌّ سليم في وقت ظروف معينة فقط، ولهذا فإن «المشكلة» نفسها يمكن أن تعود إلى الظهور مرة أخرى وتحت ضغوط ظروف ودوافع مختلفة، وقد تستوجب حلًّا من نوع مخالف تمامًا للحل السابق إقراره في الماضي.