فريدريك راتزل مؤسس الجغرافيا السياسية
في منتصف القرن السابع عشر كتب وليام بني — وهو طبيب بريطاني — كتابًا أوضح في كثير من البراعة العلاقة بين الدول ونظمها ونموها وبين ظروف البيئة الجغرافية، فقد تكلم عن المساحة المثالية للدولة التي تستطيع أن تسيطر عليها وتبسط نفوذها في أرجاء هذه المساحة، ويمكن للسكان استغلالها على الوجه الأكمل، وفطن إلى أهمية المدن الكبرى في ربط وتوجيه السكان نحو مراكز القوة والجذب في الدولة، وذكر أهمية كثافة السكان وغنى الدولة وانتشار العمران حتى تصبح الدولة وحدة سياسية متماسكة في الداخل وقوة لها اعتبارها في الخارج.
- (١)
أن رقعة الدولة تنمو بنمو الحضارة الخاصة بالدولة، فكلما انتشر السكان وحملوا معهم طابعًا خاصًّا للحضارة فإن الأرض الجديدة التي يحتلها هؤلاء تزيد مساحة الدولة.
- (٢)
أن نمو الدولة عملية لاحقة لمختلف المظاهر الخاصة بنمو السكان ذلك النمو الذي يجب أن يتم قبل أن تبدأ الدولة بالتوسع، وهو بهذا يسلم بصحة نظرية أن العلم — الراية — يتبع التوسع التجاري.
- (٣)
يستمر نمو الدولة حتى يصل إلى مرحلة الضم وذلك بإضافة وحدات صغرى إليها.
- (٤)
أن حدود أي دولة هي العضو الحي المغلف لها والذي يحميها — الحدود لا توضح سلامة الدولة فحسب، بل إنها أيضًا توضح مراحل نموها.
- (٥)
تسعى الدولة في نموها إلى امتصاص الأقاليم ذات القيمة السياسية، بمعنى أن هذه الأقسام إما أن تكون سهولًا أو مناطق ساحلية أو مناطق تعدينية أو ذات قيمة في إنتاج الغذاء.
- (٦)
أن الدافع الأول للتوسع يأتي للدولة البدائية من الخارج، معنى هذا أن الدولة الكبرى ذات الحضارة تحمل أفكارها إلى الجماعات البدائية التي تدفعها زيادة عدد السكان إلى الشعور بالحاجة إلى التوسع.
- (٧)
أن الميل العام للتوسع والضم ينتقل من دولة إلى أخرى ثم يتزايد ويشتد، فتاريخ التوسع يدل على أن الشهية تزداد نتيجة لتناول الطعام.
الخلاصة
إن راتزل يرى في الدولة كائنًا حيًّا تدفعه الضرورة للنمو عن طريق الحصول على الأعضاء التي تعوزه، حتى ولو دفعه هذا إلى استخدام القوة، وهذا الرأي هو نظرة بيولوجية بحتة للدولة.
ولقد كان راتزل يكتب في أواخر القرن الماضي متأثرًا بالجو العلمي العام المشحون بكل ثقل النظرية التطورية في العلوم الطبيعية، ولهذا نراه ينظر إلى الجغرافيا السياسية على أنها فرع من فروع العلوم الطبيعية، ونراه يؤسس فكرة المكان على أنها عنصر مؤثر ومتأثر في ذات الوقت بالصفات السياسية للجماعة أو الجماعات التي تسكن المكان، وأما الموقع فإنه يراه العنصر الذي يلون المكان بصبغة تجعله دائم الاختلاف عن غيره من الأماكن، ومن ثم يصبغ الدولة بصبغة مغايرة لغيرها من الدول.
ولا شك أن أفكار راتزل التطورية قد ظهرت بوضوح في القوانين السبعة التي سبق ذكرها، والتي تحدد الدول في أماكنها ومواقع هذه الأماكن، ومصدر هذه القوانين التطورية في آراء راتزل نابع من اعتقاده أن الدولة كائن عضوي: هي كينونة بيولوجية جذورها في الأرض، وكينونة معنوية وخلقية مستمدة من ارتباط الإنسان بأرض يعمل فيها ويتغذى على مصادرها ويحتاج إلى حمايتها «وحماية حياته».
وعلى العموم فإن قوانين راتزل السبعة كانت أساسًا قوانين خاصة بالمكان والموقع، فنشاطات الإنسان وصفاته وكثافة السكان في الدولة ليست — في نظره — سوى نتاج الموقع والحجم والبيئة الطبيعية والحدود، وفوق كل هذا نتاج المكان.
وقد أعطى راتزل للحدود السياسية أهمية خاصة معتبرًا إياها العضو الخارجي للدولة «كالجلد بالنسبة لجسم الأحياء»، وهي بذلك تعطي للباحث الدليل على مراحل نمو الدولة أو ذبولها وقوتها أو ضعفها.
ولعل من أهم ما أعطاه لنا راتزل من تراث هو تلك الرابطة التي أوجدها بين المساحات القارية الكبيرة للدولة وبين القوة السياسية، ففي رأيه أن المسطح الكبير — المكان — هو طاقة سياسية يمكن أن تظهر وتبرز مع حسن استخدامها، ولقد كان راتزل متأثرًا بشدة في ذلك من مثال حي: نمو الولايات المتحدة كقوة كبيرة داخل إطار من «المكان» الكبير، وكان بذلك يشعر أن دور أوروبا سوف يتضاءل، وأن تاريخ السياسة العالمية سوف تسيطر عليه في القرن العشرين الدول العملاقة المساحة التي تحتل مكانًا كبيرًا من القارات مثل أمريكا وروسيا وأستراليا.
بعد راتزل تعرضت الجغرافيا السياسية للكثير من النقد والجدل حول الموضوع والمنهج، ورفض عدد من الأساتذة أن تصبح الجغرافيا السياسية جزءًا من الدراسة الجغرافية بقدر كونها ملحقًا من ملاحق دراسة الأرض، وعلى الرغم من أن فريدريك راتزل جغرافي ألماني إلا أن الجغرافيا السياسية لم تجد بين عدد كبير بين الجغرافيين الألمان استجابةً وتحمسًا بقدر ما وجدت في الأوساط الجغرافية الأخرى خاصة الولايات المتحدة، ولكن عددًا من الجغرافيين الألمان المحدثين بدءوا يهتمون بالجغرافيا السياسية بعد فترة الإعراض عنها، وهي الفترة التي نشأت فيها وازدهرت فكرة الجيوبولتيكا، ثم فشلت وسقطت بعد الحكم النازي الذي استغل الجيوبوليتيكا كجزء من سياسة السيطرة والتفوق الجرماني.
إن هدف الجغرافيا السياسية عند راتزل هو شرح وتصوير الدولة على أنها كينونة حية مرتبطة بالأرض، وعلى أنها جهاز متغير مع حركة التاريخ، وهكذا فإن المكان والموقع والتغيرات التي تطرأ على الشكل السياسي للمكان هي في نظر راتزل عوامل أساسية جوهرية، بينما يقف العامل البشري الذي يتمثل في صورة الشعوب في خلفية الصورة.
ويرى الأستاذ أوفربك أن راتزل قد أكد دور العوامل المعنوية والإدارية للبشر إلى جانب عاملي المكان والموقع، ويقول أوفربك إن راتزل قد أشار إلى هذه العوامل إشارات خفيفة في كتابه الأساسي في الجغرافيا السياسية، ولكن دور العوامل الأخرى يبدو واضحًا وقويًّا في دراساته التفصيلية مثل دراساته وأبحاثه السياسية عن دول حوض البحر المتوسط والولايات المتحدة وكاليفورنيا، ففي كتاب راتزل الأساسي عن الجغرافيا السياسية تطغى على راتزل فكرة «الدولة كائن مربوط إلى الأرض»، ومن ثم فإن راتزل كان يعالج موضوعات الدولة ومشكلاتها على أساس مناهج البحث في العلوم الطبيعية، ولهذا فإن المكان الطبيعي كان يظهر عند راتزل على أنه العامل الأساسي وحجر الزاوية في الجغرافيا السياسية.
ولا شك أن سقوط الكثير من الدول في الماضي والحاضر كان راجعًا إلى أن هذه الدول قد تعدت «مكانها» الجغرافي، أو أنه عائد إلى تصورات خاطئة عن تنظيم «المكان» الجغرافي للدولة، وفي الحالتين تكون النتيجة سقوط الدولة؛ لأنها أصبحت غير قادرة على تحمل أعباء إضافية في حالة التوسع المستمر، أو لأنها أفسدت المكان الجغرافي في حالة إعادة تنظيم المكان مما يترتب عليه تخريب في الإنتاج ومراكز القوة في الدولة.
وهكذا تُبرِز دراسات هاسنجر وأوفربك وغيرهما أن راتزل لم يكن في واقع الأمر متحيزًا تمامًا لفكرة المكان، وإن كان في أحيان يؤكد على العامل الطبيعي بحيث يطغى على إشاراته العديدة لعوامل أخرى تلعب دورها في الجغرافيا السياسية.
وفي هذا يقول جوستاف فوشلر هاوكه إن راتزل قد حذَّر من التغالي في فهم دور المكان والموقع في الجغرافيا السياسية، وإن صفات الشعوب تساهم مساهمة فعالة في إعطاء الدولة القيمة السياسية التي لها، ويؤكد هاوكه أن راتزل لم يتغاضَ عن قيمة العامل الاجتماعي وإن لم يبرز ذلك على النحو الذي نعرفه اليوم، خاصة بعد أن تطورت ونمت كثير من معارفنا ومناهجنا الجغرافية وغير الجغرافية مثل علم الاجتماع والأنتروبولوجيا والجغرافيا الاجتماعية.
والواضح أن راتزل كان على علم بأهمية المجتمع وتأثير المظاهر الحضارية والأيديولوجية على تكوين الدولة، كما كان واضحًا لديه فكرة أن الدولة تتأثر بوظيفة المكان على مر الزمن.