الدولة
(١) عناصر تكوين الدولة
- (١)
الموقع وعلاقات المكان تميز كل دولة عن غيرها بظروف وعلاقات مختلفة.
- (٢)
المظاهر الطبيعية لأرض كل دولة متغايرة عن غيرها.
- (٣)
اختلاف المساحة المسكونة والمستغلة داخل كل دولة تترتب عليه نتائج خاصة في كل دولة.
- (٤)
اختلاف علاقات كل دولة بالوحدات السياسية الأخرى على المستوى الإقليمي والعالمي.
- (١)
مساحة من الأرض تحدها حدود متعارف عليها (أو متنازع عليها).
- (٢)
نظام حكم إداري كفء لضمان سيادة الدولة على سطحها — الأرضي والمائي والجوي.
- (٣)
شعب مقيم بصفة دائمة (بغض النظر عن الهجرة من أو إلى الدولة).
- (٤)
بناء اقتصادي أيًّا كان شكله.
- (٥)
نظام من النقل وخطوط للحركة داخل أراضي الدولة.
ولا شك أن الدول تختلف فيما بينها اختلافًا كبيرًا في درجة امتلاكها لعنصر أو أكثر من العناصر الخمسة السابقة، فهناك دول ذات مساحات عملاقة على رأسها الاتحاد السوفيتي، ودول ذات أعداد سكانية هائلة على رأسها الصين، ودول ذات موارد قوية ومتعددة كالولايات المتحدة، ودول ذات بناء اقتصادي متكامل، وأخرى تعتمد على نوع أو آخر من مصادر الثروة، وأخيرًا دول ذات شبكة نقل كثيفة، وأخرى تفتقر إلى خطوط الحركة الأساسية.
وتوضح الجداول التالية بعض هذه الحقائق في اختلاف الدول فيما بينها:
الحجم المساحي | الحجم السكاني | ||
---|---|---|---|
الدولة | المساحة (مليون كم مربع) | الدولة | عدد السكان (بالمليون) |
الاتحاد السوفيتي | ٢٢٫٠ | الصين | ٧٠٠ (؟) |
كندا | ٩٫٩ | الهند | ٥٠٠ |
الصين | ٩٫٥ | الاتحاد السوفيتي | ٢٤٠ |
الولايات المتحدة | ٩٫٣ | الولايات المتحدة | ٢٠٠ |
البرازيل | ٨٫٥ | إندونيسيا | ١١٠ |
أستراليا | ٧٫٧ | اليابان | ١٠٠ |
الهند | ٣٫٠ | البرازيل | ٨٥ |
السودان | ٢٫٥ | نيجيريا | ٦١ |
زائيري والجزائر | ٢٫٣ | ألمانيا الغربية | ٥٩ |
السعودية | ٢٫٢ | بريطانيا | ٥٥ |
سويسرا | ٠٫٠٤ | سنغافورة | ٢ |
هولندا وبلجيكا | ٠٫٠٣ | الكويت | ٠٫٥ |
لكسمبورج | ٠٫٠٠٣ | مالطة، لكسمبورج | ٠٫٣ |
مالطة | ٠٫٠٠٠٢ | أيسلندا | ٠٫٢ |
موناكو | ٠٫٠٠٠٠٠١ | موناكو | ٠٫٠٢ |
الكويت | ٩٩٪ | ألمانيا الغربية/كندا/مالطا/لكسمبورج | ٨٩٪ | ||
بريطانيا | ٩٦٪ | السويد | ٨٨٪ | الاتحاد السوفيتي | ٦٧٪ |
الولايات المتحدة | ٩٤٪ | نيوزيلندا | ٨٧٪ | مصر/لبنان | ٤٥٪ |
بلجيكا | ٩٤٪ | الدانمرك | ٨٥٪ | الصين | ٣٧٪ |
هونج كونج | ٩٣٪ | الأرجنتين | ٨٢٪ | الهند | ٣٠٪ |
سنغافورة | ٩٣٪ | شيلي | ٧٤٪ | السودان | ٢٢٪ |
هولندا | ٩١٪ | اليابان | ٧٣٪ | نيجيريا | ٢٠٪ |
أستراليا | ٩٠٪ | فنزويلا | ٧١٫٪ | إثيوبيا | ٢٠٪ |
سويسرا | ٩٠٪ | جنوب أفريقيا | ٧١٪ | تنزانيا | ٥٪ |
وإلى جانب ذلك فإننا نرى تغيرات كبيرة قائمة بين ترتيب الدول في حصة الفرد بالنسبة للإنتاج القومي العام، فهناك الكويت التي تحتل المرتبة الأولى بحوالي ٣٤١٠ دولارات للفرد سنويًّا من قيمة الإنتاج القومي العام، تليها الولايات المتحدة ٣٢٥٠ ثم السويد ٢٢٧٠، ولا تظهر دول أخرى لها قيمتها الاقتصادية إلا في مراتب متأخرة، فألمانيا الغربية تحتل المرتبة السابعة وبريطانيا المرتبة التاسعة، بينما تحتل مستعمرة صغيرة أمريكية — بورتوريكو — المرتبة الثانية عشرة، وتنخفض أنصبة الفرد كثيرًا في معظم دول العالم إلى ما بين ٥٠٠ و٥٠ دولارًا في السنة.
وعلى هذا النحو تختلف أقدار الدول وقلما ترتبط عدة عناصر معًا لتعطي لدولة ما أهمية رئيسية في العالم، ولكن كل ذلك لا يلغي أن هناك دولًا كبرى وصغرى ودولًا متقدمة وأخرى متخلفة تكنولوجيًّا، ودولًا مستقلة تمامًا وأخرى في مراحل مختلفة من الارتباط التام — مستعمرات — أو الارتباط الاقتصادي بدول أخرى. وبرغم عوامل الاختلاف هذه فإن الدولة هي الدولة سواء كانت من هذا النوع أو ذاك أو ذات عمق تاريخي أو جديدة كل الجدة بحكم علاقات الاستعمار الحديث.
ولهذا كله فالدولة — كما قلنا — هي الموضوع الأول والأساسي في الجغرافيا السياسية التي تحاول أن تلقي الضوء على كل مكونات الدولة الطبيعية والبشرية في تفاعلها معًا لإعطاء البناء السياسي لوحدة من وحدات الأرض السياسية.
(٢) ماهية الدولة
فالدولة إذن هي أعقد الأنظمة الإنسانية الاقتصادية والاجتماعية معًا، ولكي يكون للدولة كيانها فالمفترض أن تفرض سيادتها على أرض معينة، لكن الحياة السياسية عامة لأي دولة تخضع بدرجات متفاوتة لصفات المجتمع التي تتحدد بواسطة البيئة الطبيعية التي ينمو فيها الشعب ويتكون، وما في هذه البيئة من مصادر للثروة، سواء كانت هذه المصادر مجرد الموقع المكاني أو أيًّا من أشكال مكونات الثروة الاقتصادية الأخرى.
ويرى الكثيرون من الكُتاب أن الدولة لا تعني مجرد مساحة من الأرض ومجتمعًا يعيش على هذه الأرض، بل إنها حقيقة اجتماعية اقتصادية مستقلة عن السلالة والعلاقات السلالية واللغوية والدينية إلى آخر ذلك من مكونات الشعوب.
وبذلك فإن مهمة الجغرافيا هي دراسة الدولة ككائن عضوي نشأ عن تجمع إنساني معين على سطح جزء من الأرض.
(٣) الأسس الجغرافية للدولة
(٣-١) المقومات الطبيعية
تشتمل الأسس الطبيعية للدولة على عدة عناصر هامة على رأسها الموقع والحجم والشكل، إلى جانب المناخ والتضاريس والتربة والجغرافيا الحيوية: مصادر المياه والحياة النباتية والطبيعية، وأخيرًا مكونات الموارد المعدنية للدولة.
وتشابك وترابط هذه العناصر معًا يعطيان للإنسان حدودًا يمارس خلالها أنشطته الاقتصادية في كل منطقة على حدة، ولكن من بين هذه العناصر يبرز عنصر واحد أو أكثر لكي يعطي للإقليم صفاته الأساسية مثل تربة أوكرانيا الخصبة أو بترول دول الخليج العربي، وبرغم ذلك فإن هذه الصفات لا تظهر من تلقاء نفسها، بل لا بد من مستوى حضاري معين يسمح للناس أن يحسنوا استغلال هذه المصادر، ومثل ذلك المواقع الطبيعية للدول أو تجميع مصادر القوى والطاقة إلى آخر ذلك من الظروف التي تظهر أو لا تظهر بالارتباط بالمستوى الحضاري والتكنيكي للشعوب.
الموقع
يكون الموقع أهم عنصر طبيعي في مكونات الدولة الطبيعية، وتتناول المواقع عدة عناصر منها الموقع الفلكي، وإلى الآن لم تظهر في العروض القطبية أو الاستوائية دول ذات أهمية سياسية إقليمية كبيرة، فهل يرتبط ذلك بعنصر المناخ الرديء بمعانيه المختلفة؟ لا شك أن في ذلك بعض الحقيقة، لكن هناك عناصر أخرى من أهمها ابتعاد هذه النطاقات عن خطوط الحركة الدائمة الموغلة في القدم؛ أي أنها كانت في عزلة شبه تامة عن التيارات التجارية والاجتماعية والحضارية.
هناك أيضًا ارتباط من نوع آخر بالمواقع، فمعظم مصادر الفحم العالمية تقع بين درجتي العرض ٤٠ و٦٠ شمالًا؛ أي العروض المعتدلة. وهو ارتباط النمو الصناعي خلال القرن الماضي والحالي بدول معينة تقع في هذه العروض، لكن تعدد مصادر البترول في نطاقات أكثر جنوبية من نطاق الفحم — الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وفنزويلا وإندونيسيا وبعض مناطق أفريقيا المدارية — يمكن أن يؤدي إلى أساس جديد لنمو صناعي غير الفحم في دول العروض المعتدلة، لكن تصنيع البترول واستهلاكه حتى الآن ما زال — بطبيعة شركات إنتاجه — حكرًا على دول الصناعة التقليدية، ومثل هذا ينطبق على الموارد الذرية التي يوجد قدر كبير منها في المناطق المدارية الأفريقية، فلو انتقلت الصناعة إلى الطاقة الذرية يمكن أن يصبح للدول المدارية شأن غير شأنها الحالي، لولا الاحتكارات الصناعية التقليدية أيضًا.
ولعلاقة اليابس والماء دور آخر في علاقات الموقع، فالمناطق الجزرية والساحلية عامة أقل قارية في مناخاتها من المناطق الداخلية، وأكثر قربًا من مواصلات بحرية سهلة ورخيصة مما يشجع النشاط البحري التجاري، وحالة بريطانيا فريدة في ذلك المجال، لكن يكفي أن تعرف أن الكثير من دول العالم كانت تتصارع وتحارب من أجل الحصول على واجهة بحرية حتى ولو كانت ضيقة مثل بولندا (١٩١٨–١٩٣٩) أو الأردن أو زائيري، فالواجهة البحرية هي في حد ذاتها جائزة تعطي استثمارًا مستمرًّا لاقتصاديات الدولة: مواصلات قومية حتى ساحل البحر، وربما مواصلات بحرية قومية أيضًا، وكلاهما يقلل كثيرًا من نفقات النقل ورسوم الجمارك أو الأرصفة البحرية في حالة الدول غير البحرية.
وإذا كان ذلك هو الحكم العام، فإن الواجهة البحرية كانت غالبًا نقطة الانطلاق للدول الاستعمارية في اتجاهات معينة، مثال ذلك واجهة فرنسا البحرية على البحر المتوسط أدت إلى انطلاقها تجاه شمال أفريقيا واهتماماتها المتزايدة بقناة السويس وحوض البحر المتوسط عامة.
لكن الواجهات البحرية تختلف اختلافًا كبيرًا في قيمة كلٍّ منها، فهناك واجهات بحرية ميتة أو شبه ميتة مثل سواحل الاتحاد السوفيتي أو كندا أو ألاسكا على المحيط الشمالي، وذلك بالمقارنة بواجهات بحرية ضيقة لهذه الدول على بحار مفتوحة الحركة: البلطيق والأسود وبحر اليابان بالنسبة للاتحاد السوفيتي، أو مصب سانت لورنس وقناة الهدسن، موهوك وساحل كولمبيا البريطانية بالنسبة لكندا.
وعلى هذا فإن الواجهة البحرية لا تقاس أهميتها بطولها، بل بقيمتها المتعددة الأطراف — بحار خالية من الجليد، وتطل على مسارات الحركة البحرية التجارية العالمية — ومن ثم فإن معظم واجهات الدول على المحيط الأطلنطي أهم من واجهاتها البحرية الأخرى إن وجدت، مثال ذلك واجهة المكسيك والولايات المتحدة على الأطلنطي أهم من تلك على الباسيفيكي.
ويقودنا هذا إلى تعدد الواجهات البحرية، فهناك دول عظيمة الإنتاج لكنها تعاني من امتلاكها لواجهة واحدة مثل ألمانيا الغربية بواجهتها على بحر الشمال، «ولكن لحظها الحسن فإن هذه الواجهة تطل على مسارات الحركة الثقيلة في المحيط الأطلنطي»، بينما تتمتع فرنسا بثلاث واجهات بحرية مهمة: بحر المانش وخليج بسكي والبحر المتوسط، وفيما بين هذه الواجهات الثلاث نجد الواجهة الشمالية أهم لعلاقاتها بعالم الصناعة الأورو أمريكي، تليها الواجهة المطلة على البحر المتوسط التي تشرف على حركة بحرية كثيفة في ذلك البحر وقناة السويس، وكلها تجلب خامات صناعية ممتازة منذ القدم زاد عليها البترول الخام.
وتبلغ قيمة الواجهات البحرية أقصاها حينما تصبح مهمة لعدد من الدول المجاورة بالإضافة إلى أهميتها بالنسبة للدولة ومصالحها القومية، مثال ذلك الواجهة البحرية اللبنانية التي تخدم لبنان وتجارة الترانزيت لعدد آخر من الدول العربية، أو واجهة تنزانيا البحرية بالنسبة لمصالح زامبيا وزائيري الاقتصادية.
ومن بين عناصر الموقع أيضًا المميزات ذات الحدين بالنسبة للدول الجزرية القريبة من الدول القارية الكبيرة، مثال ذلك اليابان وبريطانيا، فكلاهما يتميز بأن موقعه الجزري يعطيه متعة استراتيجية ويجعلهما قادرين على التأثير السياسي والاقتصادي والعسكري في أوقات مختلفة على دول القارة المواجهة، لكن هذه الميزة تنعكس في حالة نمو الدول القارية الكبيرة، وتصبح قادرة على مواجهة هذه الدول الجزرية بالحرب والاحتلال.
وأخيرًا فإن من أهم ما يحتويه الموقع هو علاقات الدول المكانية المتجاورة عبر خطوط الحدود، والحدود تثير دائمًا مشكلات الدفاع والهجوم والمراكز الاستراتيجية والعلاقات الاقتصادية بين الجيران، ومن ثم فإن الحدود دائمة التغيير مع نمو سيادة الدولة أو ضياعها، وخير مثال لذلك هو دولة بولندا التي تغيرت حدودها كثيرًا خلال القرون الماضية والقرن الحالي، وكذلك حدود فرنسا وألمانيا المشتركة، وحدود يوجسلافيا وإيطاليا والنمسا.
حجم الدولة
لا شك أن لمساحة الدولة ميزة استراتيجية خاصة وميزات اقتصادية عامة؛ فالدولة ذات المساحة الكبيرة تتصف بمميزات عسكرية تجعل غزوها واحتلالها صعبًا للغاية، مثال ذلك الصين التي حاربت العسكرية اليابانية خلال الثلاثينيات ونجحت بفعل عوامل مختلفة أهمها مساحتها الكبيرة، وخير الأمثلة يعطيه لنا الاتحاد السوفيتي ووقوفه صامدًا — بمساحته وحجمه الكبير — أمام غزوة نابليون وغزوة هتلر.
كذلك تتميز المساحة الكبيرة بإمكانيات تجنب الضغط السكاني وتوزعه على أقاليم متعددة إذا ما كانت الظروف الإنتاجية تسمح بذلك مثل الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي وأستراليا، بينما مساحة مصر الكبيرة معظمها — ٩٦٪ — معاد للسكن بدرجات كبيرة.
وأخيرًا فإن من مميزات المساحة الكبيرة إمكانية مستقبلية في الحصول على موارد زراعية أو رعوية، أو مصادر للثروة المعدنية مما يشجع على نمو النظام الاقتصادي وقوته.
وفي مقابل هذه المميزات فإن الحجم الكبير قد يعاكس الإشراف المباشر لسيادة الدولة في كل أجزائها الواسعة، ويتطلب لذلك خطوط اتصال كثيرة سريعة، لتمكِّن السلطة السياسية من القبض على ناصية الأمور، ومن الأمثلة على ذلك ضعف النفوذ الصيني على أقاليمها الخارجية البعيدة مثل منغوليا والتركستان الصينية «سنكيانج».
شكل الدولة
يؤثر شكل الدولة على استراتيجيتها العسكرية سواء للمحافظة على الإدارة القومية أو للدفاع العسكري، فالدولة التي تمتد في صورة شريحة طويلة مثل شيلي أو النرويج تجد صعوبة في الدفاع عن نفسها لطول المسافات التي تقطعها القوات من مراكز التجمع العسكري، وكذلك تجد الدولة التي تمتد أجزاء منها في صورة شرائح طولية داخل الدول المجاورة صعوبة في الدفاع عن هذا الجزء المنعزل، مثال ذلك لسان كابريفي التابع لناميبيا، والذي يقع بين أنجولا البرتغالية وزامبيا في الشمال وبين روديسيا وبوتسوانا في الجنوب. وبالمثل نجد اللسان الأفغاني الشمالي الشرقي الممتد بين الاتحاد السوفيتي في الشمال وباكستان وكشمير في الجنوب وسنكيانج الصينية في الشرق. وبصورة مماثلة نجد ألسنة متبادلة لكلٍّ من سويسرا وألمانيا، وسويسرا وإيطاليا، واللسان السويسري في مقاطعة جنيف الذي يتوغل داخل الأراضي الفرنسية، ومنطقة شافهاوزن السويسرية التي تمتد داخل الحدود الألمانية (انظر مجموعة الخرائط ٦، ٧، ٨).
ولا شك أن التداخل في حدود الدول — سواء كان في صورة ألسنة أو مناطق معزولة داخل الحدود الأخرى — يؤدي إلى ضعف عام في الدولة في تلك المناطق الهامشية ما لم يكن السلام مستتبًّا بحيث تصبح هذه المناطق صعبة الاتصال وذات اتصالات سهلة مع الوطن الأم عبر أراضي الدولة المجاورة، ويتم ذلك باتفاق معين بين الدولتين وخاص بتلك المناطق، أو تتفق عدة دول على تأمين هذه الامتدادات الإصبعية، وبدون شك فإن أحسن أشكال الدولة هو ذلك الذي يتجنب الشرائح الطولية والحدود المتداخلة.
(٤) الأسس الجغرافية للدولة
(٤-١) المقومات البشرية
حينما تكلم أرسطو عن الإنسان على أنه حيوان سياسي فإنه قد فتح كشفًا هامًّا في الجغرافيا البشرية؛ إذ عرفنا أن أي مجتمع بدائي يمتلك عناصر من التنظيم الاجتماعي أعقد عادة من أشكال الاقتصاد والحياة البسيطة التي يحياها.
منذ العصور الحجرية عاش الإنسان في عشائر تنتظم فيها روابط المجتمع المحلي التي ترتبط كلها بأصل واحد حقيقي أو أسطوري، وفي بعض الأحيان يصبح المؤسس نصف إله له قوى وطاقات تعمل من أجل إسعاد النسل في حدود وإطار التنظيم المتعارف عليه: وهو تنظيم اجتماعي اقتصادي سياسي ديني معًا، وهذه التنظيمات لا تعيش في عزلة دائمًا، فعند الرعاة تنظم العشائر في وحدات أعلى وأكبر هي القبائل، وبعض القبائل كانت قد تأثرت بالنظام الإقطاعي، وبعضها تعيش بالحكم الأوتوقراطي المتوارث، وبعضها تعيش على أنظمة حكم استشارية «ديموقراطية»، وعند الزُّرَّاع كان مجتمع القرية هو أول شكل تنظيمي للدولة، يحكمه زعيم أو مجلس رؤساء العائلات.
عدد السكان كأساس للدولة
الدولة تمثل شكلًا أكثر تعقيدًا من مثل هذا التنظيم، وفي خلال التاريخ زاد عدد الدول باستمرار؛ لأن طموح كل الشعوب كان يؤدي بهم إلى تكوين دولة جديدة عندما يصلون إلى مرحلة معينة من المدنية والقوة، فكلما كان عدد أفراد التجمع كبيرًا ونشاطهم متنوعًا تشتد الحاجة لتنظيم مركَّب، وكان الاعتقاد أن العدد الصغير لمجتمع ما يؤدي إلى تنظيم سياسي بسيط يعتمد على النسب والقرابة كالعشيرة والقبيلة، بينما يؤدي التكوين الكبير لمجتمع متجانس سلاليًّا أو لغويًّا أو دينيًّا إلى تكوين الدولة حينما يصل هذا المجتمع إلى درجة معينة من المدنية العليا، لكن الواقع يشير إلى أن وجود الدولة لا يعتمد على مثل هذه العوامل، فالنرويج تكوِّن دولة برغم أن سكانها نصف التجمع السكاني لباريس، وفي نفس الوقت لم يكوِّن الأوكرانيون أو المانشوريون دولًا برغم أن تعداد كلٍّ منهما يزيد عن ٤٠ مليونًا.
السلالة كأساس للدولة
الوحدة — الإثنية — قد تشجع على ولادة دولة، مثل المجر أو بلغاريا أو تايلاند، لكنَّ دولًا عديدة تتكون من عدة شعوب وسلالات مثل الولايات المتحدة والبرازيل حيث نجد كافة سلالات العالم متمثلة في مواطني هاتين الدولتين.
كذلك لوحظ أن الدولة حينما تنشأ وتنمو تحاول أن توجد لنفسها طابعًا إثنيًّا أو سلاليًّا بصورة مصطنعة، وأكبر دليل هو ألمانيا النازية التي ادعت لنفسها سلالة آرية نقية بعد أن كانت ألمانيا قد توحدت في دولة مركزية واحدة منذ ١٨٧٠.
اللغة كأساس للدولة
منذ البداية يبدو أيضًا أن اللغة لم تكن عنصرًا أساسيًّا في تكوين الدولة، بل على العكس نجد أن تدعيم سلطان الدولة قد أدى إلى توسيع نطاق لغة الحكام أو إقليم الحكم المركزي على حساب بقية اللغات، فانتشار الإغريقية في شرق البحر المتوسط لم يتم إلا بعد تكوين دولة الإسكندر وما تبعها من دول إغريقية كالبطلمية في مصر، وكذلك تبعت اللاتينية انتشار نفوذ وسيطرة روما على بقية إيطاليا التي كانت تتكلم عددًا من اللغات كالهندو أوروبية وغيرها، وفي الحرب البونية لم تكن كل قوات روما التي حاربت هانيبال تتكلم اللاتينية.
كذلك نلاحظ تغيرًا في اللغة مرتبطًا بتغيرات الحدود، فالفرنسية انتشرت شرقًا حينما امتد نفوذ الدولة إلى الشرق، ففي نهاية العهد الكاروليني (القرن ٥ — ١٠ — شرلمان القرن ٩) كانت حدود اللغة الألمانية والفرنسية غرب نهر الميز وجنوب السوم، وفي القرن ١٦ وما بعد حرب الثلاثين عامًا تقدمت الفرنسية بقوة صوب الشرق والشمال الشرقي في اتجاه اللورين والألزاس والفلاندرز، وفي العهد الكاروليني أيضًا كانت الحدود الألمانية في الشرق تقف عند نهر الألب والسالي، ثم زحفت بعد عدة قرون شرقًا إلى «الأودر» على حساب السلافية، بعبارة أخرى كان هناك زحف سياسي لغوي من الغرب إلى الشرق في السهل الأوروبي على عكس الزحف الشرقي-غربي البربري خلال نهاية العصر الروماني.
وقد فرضت دولة الصين لغتها ونفوذها وحضارتها على سلالات مختلفة، وبنفس الطريقة انتشرت العربية في مساحات شاسعة من آسيا وأفريقيا، وفي مصر تغيرت اللغة عدة مرات حسب نوع الحكم، فمنذ انتهاء الحكم الفرعوني تحولت إلى الإغريقية ثم القبطية في العهد الروماني ثم العربية. وفي العادة لا تمتد مساحة اللغة بنفس السرعة التي تمتد بها مساحة الدولة، والدول الكبرى القديمة كانت تتكون أصلًا من عدة شعوب ولغات، كالإمبراطورية الفارسية أو الرومانية أو العربية، وغالبًا ما يستخدم المهزومون لغة الحكام، ولكن في أحيان أخرى نجد العكس وتنفصل الأمم عن بعضها غالبًا باستخدام لغات منفصلة، خاصة إذا كتبت هذه اللغة. وكثيرًا ما يتسبب الوطنيون أو الكُتاب والأدباء في فصل لغة عن أخرى أو تحويل لهجة عامية إلى لغة قومية مثل الإيطالية التي نشأت كلغة كتابة بعد جهود عدد من الأدباء أهمهم الشاعر المشهور دانتي الليجيري.
الدين كأساس للدولة
لم يكن الدين أيضًا عاملًا موحدًا لنشأة الدولة، فالدولة العثمانية كانت تمثل الخلافة الإسلامية، لكنها كانت تحكم رعايا مسيحيين ويهودًا، ولا شك أن بعض الدول حاولت أن تجعل الوحدة الدينية سائدة داخل حدودها كنوع من تدعيم السلطة، لكن ذلك لم يكن تامًّا ولا ناجحًا، ففي العصور الوسطى حاولت بعض دول أوروبا أن تكون موحدة دينيًّا أمام موجة الإصلاح الديني وظهور البروتستانتية، لكن كان على هذه الدول في النهاية أن تتقبل وجود عدة أديان ومذاهب كما هو الحال في سويسرا.
وخلاصة القول أن الإمبراطوريات التاريخية الكبرى (الرومانية – العثمانية – العربية – النمسا والمجر) كانت تضم داخل حدودها متجمعات مختلفة سلالية ولغوية ودينية.
(٥) أين تنشأ نواة الدولة جغرافيًّا؟
بعض الدول لا تنشأ في الأصل في مناطق جغرافية محددة، فبعض المناطق تصبح مهدًا لدولة تقوم بالتوسع فيما بعد في الجوار، وبعض أشباه الجزر كانت أيضًا مهيأة لقيام الدول، خاصة إذا كانت محمية بالجبال التي تعزلها عن الخارج، كإسبانيا وإيطاليا والهند. وفي بعض الأحيان قوَّى الإنسان صناعيًّا الحواجز المانعة بأسوار من الحجر أو الطين المجفف، كذلك أقدم دول العالم قامت في وديان محمية مع مجارٍ أو مجرى نهري دائم، كمصر والعراق والسند والصين في هونان وشنسي؛ إذ نشأت جميعها في مناطق جافة أو في أماكن تحيط بها الصحارى على ضفاف الأنهر كالنيل والفرات والسند وهوانجهو.
مع ذلك فليس مجرد وجود الحواجز المانعة مؤديًا من تلقائه إلى نشأة الدولة، فلم تنشأ أية دولة في المناطق القطبية أو التاييجا، فالعزلة الشديدة وقلة السكان وتبعثرهم ومرحلة الاقتصاد المتخلفة لم تؤدِّ إلى نشأة مثل هذه الدول الشمالية، وعلى عكس ذلك نجد مناطق محدودة قد شاركت فيها أكثر من دولة، فجزيرة هسبانيولا تضم جمهوريتي هايتي والدومنيكان، وأيرلندا ليست كلها دولة واحدة واسكندنافيا تضم السويد والنرويج، وأيبريا تضم إسبانيا والبرتغال، مقابل ذلك تمتد إيطاليا بعد شبه الجزيرة لتحتل سهل لمبارديا الغني وتصل إلى الألب، وهو جزء من وسط أوروبا، طبيعيًّا وحضاريًّا، ولهذا فالدولة لا تحتاج إلى سلالة أو لغة أو دين واحد لنشأتها، وبالمثل لا تحتاج إلى وحدة إقليم واحد، فكثير من الأمم تنشأ وتنمو على حدود المدنيات المختلفة حيث نجد موارد اقتصادية مختلفة عن بعضها ومكملة لبناء الدولة، كما أن نطاقات الاحتكاك توجد بين سكان السهول والجبال، أو الزُّرَّاع والبدو، أو بين مجتمعات التجارة على ضفاف الأنهار أو شواطئ البحار وسكان المناطق الداخلية، أو بين سكان الغابات وسكان الإستبس والسفانا، أو بين رعاة السفوح العليا وزراع الوديان السفلى.
وفي أوروبا نشأت في القرن ١٥م دولة برجانديا على طول الطريق العابر على وادي الساءُون عند تقاطع طرق المتوسط والفلاندرز والمانش وجنوب ألمانيا.
كلما استطاعت الدولة أن تتكامل وتضم نشاطات اقتصادية مختلفة، فإن احتمال بقائها فترة زمنية كبيرة هو احتمال كبير، فالدولة التي ترتبط بنشاط واحد تمر بمخاطر الضعف والتمزق، ويمكننا ملاحظة أن الإمبراطوريات التي أقامها الرعاة لم تُعمِّر طويلًا كما هو الحال بالنسبة لإمبراطوريات الزراعة، فقبائل الرعاة الذين يجبرون على التنقل من مراعٍ إلى أخرى موسميًّا لا يمكن أن يرتبطوا بالأرض، ولا يعلقون أهمية خاصة لحدود الإقليم كما يفعل الزراع حين يرتبطون بالأرض، ولهذا فإمبراطوريات الرعاة كانت عبارة عن دول ذات حدود متغيرة متذبذبة وفي نزاع دائم ولا تقوم إلا باستمرار وجود القوة العسكرية، بينما عاشت الدول المستقرة برغم هزائم عنيفة منيت بها، وعانت اقتطاع بعض أراضيها دون أن تفقد شخصيتها وكيانها، في حين كان يكفي لكي تنهدم ممالك الرعاة وإمبراطورياتهم حصول بضع هزائم حاسمة.
وصحيح أن الزراعة هي رمز الاتحاد بين الإنسان والأرض، وبذلك فهي عنصر قوي في بناء الدولة، إلا أن ذلك لا ينطبق على كافة أنواع الزراعة، فالزراعة المدارية الواسعة التي لا تأخذ في الحسبان عمل مدخرات من الحبوب والغذاء وتترك الإنسان تحت رحمة المجاعات ليست عاملًا مساعدًا لبناء الدولة؛ لأن الدولة يجب أن تنظم أشكال الإنتاج.
(٦) تنظيم الدولة
نلاحظ عنصرين في الدولة: (١) تجمع من الناس من مختلف السلالات، لكنهم جميعًا عند مرحلة حضارية معينة. (٢) مساحة ما من الأرض أيًّا كانت أشكالها التضاريسية.
ولا شك أن الأرض عنصر أساسي في تكوين الدولة، فلم توجد دولة متكونة من مجموعة من الناس دون أرض قط، مثلًا الغجر يعيشون متفرقين محافظين على تقاليدهم ولغتهم وسلالتهم وديانتهم، اليهود كذلك قبل وعد بلفور، وكلاهما لم يكوِّن دولة.
(٦-١) العاصمة
إن اختيار العاصمة يعكس غالبًا التفكير السياسي وراء عمل الدولة؛ لأن وظيفة العاصمة تأمين العمل القومي بسهولة ويسر، ففي الدولة ذات المساحة المتمركزة نجد العاصمة غالبًا تحتل مركزًا متوسطًا، مثل موسكو وبراج وبودابست ووارسو وبوجوتا، أو في الماضي شتوتجارت وهانوفر بالنسبة لدولتي فيرتمبورج وهانوفر وبرلين بالنسبة لبروسيا القديمة، وقد اختار فيليب الثاني مدريد عاصمة له؛ لأنها في مركز وسط هندسي بالنسبة لأيبيريا، وكانت العاصمة قبل ذلك توليدو أو فالدوليد، كذلك كانت واشنطن في الماضي في مركز الولايات الثلاث عشرة سنة ١٧٩٠، بينما هي اليوم بعيدة جدًّا عن هذا المركز. وفي دولة ساحلية نجد العاصمة تحتل مكانًا مركزيًّا سهل الاتصال بالبحر، كليشبونة وروما وأثينا وليما وسنتياجو وسدني وكانبرا.
الموقع الغريب للعاصمة يمكن أن يُفسَّر بتميز الإقليم الذي كوَّن بذور الدولة، حينما تمتد مساحة الدولة فوق مساحات مختلفة من المناخ والاقتصاد فإن الحكومة تختار العاصمة في أحسن الأقاليم، ولهذا نجد كل عواصم أقاليم كندا توجد في الجنوب من كيبك حتى فانكوفر، وموقع هلسنكي وستوكهولم وأوسلو وإدنبرة يفسره غنى الإقليم المحدود الذي تقع فيه العاصمة، وكانت عواصم إيران دائمًا في أحسن مناطق الري: سوسه وبرسيبوليس — قرب شيراز — وطهران، وعواصم أخرى كبرلين وفيينا وبكين تقع قرب الحدود كانت في الأصل قلاعًا يعيش فيها الحاكم قرب أماكن الخطر — السلاف بالنسبة لبرلين، الأتراك لفيينا، المغول والمانشو بالنسبة لبكين.
والفكر السياسي وراء صنع بكين ينعكس في الخطة المنتظمة للمدينة وارتفاع أسوارها القديمة، وتقسيم المدينة إلى ثلاث مدن، كلٌّ منها تحميها قلعة. وتقدم العواصم الموانئ نموذجًا آخر عكس الموقع المركزي ويوضح أهمية الملاحة البحرية في اقتصاديات الدول، كلندن ولشبونة وأوسلو وبيونس أيرس.
ونرى اليوم دولًا تجعل عواصمها مزدوجة أو تبحث عن مواقع جديدة، فمنذ نهاية الحرب استمر ملوك هولندا في لاهاي وانتقلت الحكومة إلى أمستردام وهي العاصمة القديمة، وحينما نمت مقاطعات ساوباولو وميناس جرايس وبدأت الاستغلال المنتظم لأمازونيا أصبحت ريو بعيدة وهامشية، وبنيت عاصمة جديدة هي برازيليا التي افتتحت ١٩٦٠. فنقل العواصم هو رمز لعدم الاستقرار، ويشير إلى الحاجة إلى التعديل السياسي أو تغيرات أساسية في اقتصاديات الدولة.
(٦-٢) المواصلات
هي عامل موحد للدولة ومشجع على التكامل بين السكان وشعورهم بالانتماء والقومية إلى جانب الفوائد الاقتصادية والاستراتيجية، فمصر وطريق النيل والرومان والطرق الرومانية أعطت ترابطًا للدولة المترامية الأطراف لمدة أربعة قرون، والفرس أقاموا طرقًا من سوسه إلى ساردس فربطوا بذلك أطراف الإمبراطورية في الأناضول وإيجه، والأنكا ربطوا كوزكو العاصمة بالأطراف الشمالية والجنوبية للدولة وفتحوا الروابط بين الهضاب العالية وسهول الساحل، وفرنسا نمت بواسطة الطرق المنبعثة من باريس إلى أطراف الدولة.
وفي الوقت الحديث كان للطريق أهميته أيضًا، فكولمبيا البريطانية لم توافق على دخول الاتحاد الكندي إلا بشرط ربطها بطريق إلى أوتاوا، وكاليفورنيا لم ينجح ضمها إلى الولايات المتحدة إلى بعد إنشاء سكة حديد «وسترن يونيون» — اسم الشركة والخط ذو دلالة على الهدف الاتحادي الغربي.
وفي آسيا أُنشِئت خطوط عابرة رئيسية؛ فسيبيريا والقوقاز وقزوين وأرال كان لها دور استراتيجي اقتصادي لتدعيم النفوذ الروسي وتكوين الاتحاد السوفيتي وتدعيم جمهورية روسيا الاشتراكية، وفي المستعمرات أيضًا سعت الدول إلى تدعيم وحدة داخلية للمستعمرة بواسطة الطرق الحديدية التي خلقت مشاعر جديدة لدى السكان المختلفين بالانتماء إلى وحدة سياسية معينة فساعدت بدون شك على نشوء الدول الجديدة، وانفصالها عن بعضها رغم أنها تكوِّن أجزاء من وحدات اقتصادية أوسع وأعم كما هو الحال في معظم دول أفريقيا الجديدة.
(٦-٣) مهام التنظيم الداخلي للدولة
وإلى جانب ذلك تهتم الجغرافيا السياسية بدراسة مقدار مجهودات الدولة الداخلية من ناحية فرض نوع معين من الوحدة على الأقاليم التي تضمها حدودها بحيث تصل إلى أقرب الصور من الوحدة الدينية والاجتماعية والثقافية والسياسية والاقتصادية، كذلك تهتم بدراسة مجهودات الدولة الخارجية، وهي العمل على ولاء سكان أقاليمها المختلفة لها، وتجعل هذا الولاء يطغى على ما قد يشعر به سكان هذه الأقاليم أحيانًا من روح إقليمية ضيقة؛ إذ نادرًا ما تقتصر الدولة — الوحدة السياسية — على إقليم يسوده التجانس؛ لذا يتطلب من الدولة بذل الجهود لإنشاء وتوطيد أسس الوحدة الوطنية بين أقاليمها المختلفة، وكثيرًا ما تقابلها في ذلك مشاكل قد تكون مشاكل طبيعية كوجود جبال أو صحارى أو تباعد أطرافها أو مناطق خالية من السكان، أو مشاكل بشرية مثلًا كتعدد النواحي الاجتماعية الثقافية والتاريخية واللغوية والدينية، وتعتبر المشاكل الاقتصادية أبسط من بقية المشاكل الطبيعية أو البشرية الأخرى.
وأهم المشاكل التي تقابل الدولة هي الوحدة السياسية، فالدولة ليست منطقة ذات حدود سياسية اتخذت لها اسمًا، واحتلت لها مركزًا في مصاف الدول، واعترف بها المجتمع الدولي فحسب، ولكنها وحدة تنشأ وتتبلور بفضل توافر عدد من القوى التي تعمل على توثيق العلاقات بين جهاتها المختلفة، وفي مقدمة هذه القوى فكرة الدولة أو سبب قيامها، ومن هنا ذكر راتزل أنه يجب دراسة الفكرة الفريدة المتميزة التي تكمن وراء قيام أو بقاء أي منطقة من الأرض عامرة بالسكان في صورة دولة.
وعلى الجغرافي أن يتتبع مدى تغلغل هذه الفكرة، فقد تشيع في جزء أو عدة أجزاء من الدولة أو تشمل جميع أنحاء الدولة، فحين يشعر سكان منطقة معينة بأن لهم قيمًا مشتركة في نواحٍ خاصة بهم، ويرون أنه للمحافظة على هذه القيم — بل ونشرها — يجب أن يتحدوا في شكل دولة متحدة ذات حدود سياسية تفصلها عن جيرانها، وتتحول الوحدة السياسية إلى دولة قوية، وقد تؤدي الرغبة في التخلص من الحكم الأجنبي إلى إنشاء دولة بظهور الروح القومية فيها، أو يحدث العكس بحيث إن ظهور الدولة يسبق وجود الروح القومية بين سكانها، والمثال على الحالة الأولى هو أيرلندا التي طالبت بإنشاء دولة خاصة بها، وتمثل الدول الأفريقية الجديدة في معظمها الحالة الثانية.
وقد تختفي الدولة ولكن تظل الروح القومية موجودة بعد اندثارها كما حدث في بولندا، والواقع أن الروح القومية أو الشعور بالوحدة قد لا يشكل كل أجزاء الدولة التي تعينها الحدود السياسية، وهكذا يمكن أن نتعرف على مقومات القومية في منطقة ما أو بمعنى آخر على الأسباب التي أدت إلى قيام الوحدة بين أجزاء الدولة، ثم ندرس مدى تغلغل هذه الروح القومية في أقاليم الدولة المختلفة فنميز بين حدود الدولة وحدود القومية أو الشعب الذي يحس بالروح القومية فيه. ويتصل بهذا الموضوع محاولة البعض تتبع منطقة المركز أو الوسط والدور الذي لعبته في الدولة لا في تكوينها وامتدادها فحسب، بل ظهور وتأصل الروح القومية في جهاتها المختلفة، ولكن ليس من الضروري وجود هذه المنطقة المركزية؛ فأحيانًا تتقاسم هذه الوظيفة مراكز متعددة كما في الولايات المتحدة أو تكون مركزًا ضعيفًا كما في مدريد، ولا يغني ذلك عن ظهور روح الانفصال في المناطق التي تجتذبها هذه المناطق المركزية، ومن ثم نلاحظ أن بعض الدول وحكومتها المركزية تقدر مدى التفاوت في مصالح أجزاء الدولة المختلفة فتعمل على الاعتراف في دستورها بنظم خاصة لكل منطقة حتى تتيح للدولة البقاء والاستقرار، مثل إقليم كويبك في كندا.