حياة الدول
(١) مقدمة
الدولة — مثل أي كائن عضوي — يجب أن تنمو وتتغذى لكي تبقى، وفي الماضي رأينا كيف اشترك كلٌّ من النضوج والقوة باستمرار لضم الأراضي الجديدة للدولة، وعلى العكس كيف يرتبط أو يلتقي فقدان القوة المادية والروحية باقتطاع الأراضي من مساحة الدولة، وفي عالمنا الحاضر أدت المواصلات إلى اعتماد الدول على بعضها، ومن النادر أن نرى دولة مكتفية بذاتها مهما كانت مساحتها، ومن ثم نجد الميل عند الدول المتمدينة أن تندمج في اتحادات أو ائتلافات سياسية أو اقتصادية أو هما معًا مع فقدان جزئي للسيادة القومية، وخاصة في مجال الجمارك.
(٢) النمو في المكان
- (أ)
يمكن ضم الأراضي المجاورة إلى ما لا نهاية؛ بمعنى أنه يمكن استمرار الضم لمساحات شاسعة قد تغطي قارة أو بعض قارة، ومثل ذلك الإمبراطوريات القارية القديمة، وفي العصور الوسطى الإمبراطوريات الفارسية والرومانية والمغولية، وحديثًا الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي.
- (ب) إيجاد مستعمرات عبر البحار إما بواسطة المستوطنين المهاجرين من الوطن الأم إلى الأراضي الخالية، وإما بإنشاء شكل من الحكم العسكري والتشريعي والاقتصادي يؤمِّن استقلال السكان في المستعمرات لتنمية اقتصاديات الدولة صاحبة المستعمرات، وبهذه الطريقة نشأت الإمبراطوريات الاستعمارية الكبرى القديمة والحديثة؛ كالأثينيين والبرتغال والإسبان والإنجليز — الكومنولث حاليًّا — والفرنسيين — التجمع الفرنسي Communauté.
وبنفس الطريقة انهارت الإمبراطورية العربية بالتجزئة ابتداء من خسارة الأندلس ٧٥٥م، والمغرب ٧٩٠، وبقية المغرب ٨٠٠، ومصر وبرقة ٨٧٢–٨٩١، وكردستان والفرس ٩٣٤ … إلخ.
ومن واقع الملاحظة أن الدول التي تريد أن تبقى كان عليها أن تحصل على مركز هام على طرق التجارة، وأن تقوي بذلك اقتصادياتها، فمعظم الدول حاولت أن تسيطر سياسيًّا على حقل التجارة وطرقها، وكثير من الدول خصصت جزءًا كبيرًا من نشاطها للوصول إلى منفذ لها على البحر.
كذلك ظلت الإمبراطورية النمساوية المجرية تواصل جهودًا مستمرة لإطالة واجهتها البحرية بضم البوسنة والهرسك عام ١٩٠٧، ومحاولة احتلال سالونيكا عن طريق ضم أو على الأقل تحويل الصرب ومقدونيا إلى محمية لها، وهناك أمثلة كثيرة أخرى: بولندا وبلغاريا في أوروبا وبوليفيا في أمريكا، ولكن من الأمثلة ذات الدلالة سعي روسيا المستمر للحصول على منفذ بحري مفتوح متناسب مع حجمها القاري الكبير: أولًا زحزحة الأتراك والوصول إلى البحر الأسود، ثم إلى البلطيق معترضين بذلك ادعاءات السويد وألمانيا وفنلندا، وإلى الشمال صوب أركانجل ثم مورمانسك وعلى حساب فنلندا، وأخيرًا إلى الشرق الأقصى بالحصول على النطاق الساحلي على بحر اليابان من الصين وبناء فلاديفوستك.
والوصول إلى منفذ بحري يعتبر غالبًا خطوة أخرى للتوسع، فالدولة القوية التي تطل على حوض بحري تسعى إلى تقوية قبضتها على كل خط الساحل، وعلى هذا نجد دولة أثينا تمد نفوذها على معظم سواحل وجزر إيجه، واستولى الرومان على كل البحر المتوسط قبل أن يعبروا الألب شمالًا إلى الراين والدانوب، وفي عام ١١ق.م حكم ملوك الدانمرك معظم سواحل بحر الشمال وامتد نفوذهم على البلطيق في عام ١٣ق.م، وفي منتصف عام ١٧ق.م نجح ملوك السويد في طرد الدانمرك وتحويل البلطيق إلى بحيرة سويدية عمليًّا.
وهذه الادعاءات ونظرات الحيازة قد أدت إلى منازعات دولية خطيرة منذ القرن الحادي عشر حتى الآن، وذلك حينما بدأ البرتغال والإسبان محاولة احتكار التجارة البحرية، وعادة تبدأ السيادة على البحار من دول مطلة على بحار شبه مقفلة كالمتوسط ثم تمتد إلى المحيطات المفتوحة، وكانت الجزر تستخدم أيضًا كنقطة بداية مثل قبرص للفينيقيين والبطالمة وسالميس للأثينيين وصقلية وكورسيكا وسردينيا للرومان وإيطاليا، «قبرص وكريت لمصر الفرعونية».
وعادة كانت الخطوة الحاسمة هي تأسيس السيادة على الساحل المقابل للدولة البحرية مثل ساحل آسيا الصغرى بالنسبة للإغريق وساحل فينيقيا بالنسبة لمصر وسواحل غرب المتوسط بالنسبة لقرطاجة، وسواحل المتوسط الغربي ثم الشرق بالنسبة لروما.
والخطوة التالية هي إنشاء مستعمرات على الشواطئ الجديدة: البرازيل والبرتغال، جنوب أفريقيا والهولنديين، سواحل أمريكا اللاتينية بالنسبة للإسبان. ولكن هناك دائمًا خطوات وسط بين الخطوة الأولى (احتلال الجزيرة) والأخيرة (إقامة مستعمرات على السواحل البعيدة)؛ الفينيقيون تقدموا من جزيرة إلى أخرى: صور – قبرص – رودس – كريت – تيرا – مالوس – باروس – مالطا بنتلاريا قرطاجة – صقلية – سردينيا – البليار.
كذلك احتل النورمان جزر فارو وشتلند وأيسلندا وجرينلاند والهبريدز وأيرلندا، والبرتغال بدءوا بالأزورس ثم ماديرا ثم جزر كيب فرد على طريق الأطلنطي التجاري البحري، وفي مرحلة أخرى سيطروا على سيلون — سيريلانكا — ثم ملقا ومولوكوس — مولوقا — بعد أن ثبتوا أنفسهم على بعض من سواحل أفريقيا، واتبع الهولنديون النمط نفسه فثبتوا أنفسهم في ساوتومي وسانت هيلانة وموريشس وسريلانكا وسومطرة وجاوة وتيمور وفرموزا. وبعد أن ورثت بريطانيا الزعامة البحرية من إسبانيا وهولندا استولت على الجزر والمواقع الاستراتيجية وأسست قلاعًا لها على البحر المتوسط والبحر الأحمر والمحيط الهندي.
وفي العصر الحديث نجد توسع الولايات المتحدة كدولة بحرية يبدأ باحتلال جزيرة بورتوريكو وبنما وهاواي وجوام والفلبين.
ولكن في هذا المجال نجد نفوذ الدول الكبرى كثيرًا ما يتصارع، أو تنظمه القوانين الدولية التي كان أهم ما فيها الاتفاق على حياد المحيطات، كما حاولت أن تحدد نفوذ الدولة بالمياه الإقليمية، لكنها من حيث الاتساع غير متفق عليها حتى الآن.
(٣) العوامل الاقتصادية
من الصعب دائمًا على الدول الكثيفة السكان أن تعيش على مواردها المحلية فقط، فالحاجة إلى أسس اقتصادية أوسع من أرض الدولة حقيقة عرفتها الدول القديمة، فمنذ ٤٥٠٠ سنة مضت توسعت مصر إلى ساحل الليفانت لتأمين مصادر الأخشاب اللازمة لبناء الأسطول المصري، وركزت اهتماماتها على المناطق ذات المظهر الغابي، ومن ثم كان اهتمام مصر الفرعونية كثيفًا حول منطقة ساحل لبنان الحالي، ولكي يحصل المصريون على النحاس وعدد آخر من المعادن والأحجار الكريمة وسعوا رقعتهم بصفة مستمرة إلى سيناء منذ عام ٣٠٠٠ق.م ونصت معاهدة فردان ٨٤٣م التي قسمت مملكة شارلمان — فرنسا، لوترنجيا وجرمانيا — بين أحفاده الثلاثة: شارل ولوثر ولويس، على حدود كلٍّ من الممالك الثلاث، تضمن لهم المراعي للخيول في سهول الشمال الطينية، وحقول القمح على التربة اللومية في الداخل، وحدائق الكروم على الراين والبحر المتوسط في الجنوب.
وفي القرن ١٧م أصرت سويسرا على أن يخصص الفلاحون في الجبال والسهول الأرض لزراعة الحبوب حتى يكفي الإنتاج استهلاك الناس ويقيهم شر المجاعات، وكانت الدولة تلجأ إلى تأمين النقص في أيٍّ من أنواع الإنتاج في إقليم من الأقاليم بمد نفوذها على أقاليم أو إقليم إنتاجها المجاور وضمه إليها، وهكذا فإن دولة فنيسيا توسعت على الأدرياتيك من أجل تأمين احتياجات معينة: البوسنة تمدها بالخشب اللازم لبناء الأساطيل، ودلماشيا تمدها بالخيول، والمناطق الجبلية الألبية بالأبقار، وجزر إيونيا بالفواكه والنبيذ.
وقد أسس الأوروبيون مستعمراتهم في القرن ١٦م لكي تمدهم — تحت إشرافها — بالسكر والتوابل والأحجار الكريمة والذهب والفضة وغير ذلك، وكان المبدأ الاقتصادي وراء الرق هو العمالة الرخيصة، ومن ثم كانت بداية الاحتكاك الأوروبي الحقيقي لأفريقيا الحصول على الثروة البشرية، وهي أعلى مراحل الثروة الاقتصادية. وكان الذهب والفضة والنحاس وراء التوسع الأمريكي صوب الغرب الوحشي، والحاجة للمنتجات المدارية — قطن، سكر، أرز، بترول — كانت وراء اندفاع المستوطنين إلى الولايات الجنوبية المطلة على خليج المكسيك، وطرد فرنسا الإسبان والمكسيك على التوالي منها بالإضافة لوجود الرقيق.
ولقد ازدادت الحاجة بصفة مستمرة إلى مزيد من المنتجات المضافة الجديدة منذ القرن ١٩م حيث أمكن صنع آلات جديدة بصفة مستمرة في الدول الصناعية تظهر حاجة مستمرة أيضًا إلى أنواع مختلفة وجديدة من الخامات لتصنيعها، وحينما بدأت صناعة النسيج تستهلك المزيد من الأصواف التي تقدمها أغنام أوروبا كان الإنجليز أول من فتحوا آفاق المراعي الواسعة في البقاع النائية في المستعمرات كأستراليا وأفريقيا، ويوضح هذا مدى أهمية هاتين المنطقتين لصناعة الأصواف الإنجليزية. ومع تزايد اعتماد السكان الأوروبيين على الصناعة، وقلة وفاء المنتجات الزراعية لحاجاتهم الغذائية وللخامات الصناعية، أصبح من الضروري الحصول على هذه الأشياء من الخارج.
(٤) أنواع مختلفة من الدول: تطور الدول
يقول الجغرافيون الألمان إن أوضع شكل للدولة هو ذلك الذي يسمى «دولة الخلية» عند المجتمع البدائي، ويتكون من العشيرة أو القبيلة أو القرية، كما كان الحال عند العشائر الأسترالية أو المجموعات المحلية الأسترالية والقزمية التي تتكلم كل منها لغة أو لهجة خاصة، وعند المجتمعات الزراعية المستقرة في غينيا الجديدة أو ميلانيزيا كانت القرية هي الوحدة السياسية، وفي جنوب الهند كانت القرى داخل الغابات تكوِّن أيضًا وحدات سياسية مستقلة، ومثل هذه الأشكال وجدت في أمازونيا وأمريند كاليفورنيا.
وقد تطور هذا الشكل السياسي من مجتمع القرية إلى مجتمع المدن الصغيرة في العهود القديمة الذي استمر حتى القرون الوسطى، ويمتد ظهوره حتى الآن في صورة مبعثرة مثل إمارات أندورا وموناكو وسان مارينو، وعلى نطاق أوسع ليختشتاين ولكسمبورج، وبصورة ما الفاتيكان. وبعد «الدولة الخلية» نجد التجمع السياسي الناجم عن ارتباط عدة دول خلايا في مساحات ذات قدر لا بأس به، فدولة أثينا نشأت عن تجمع ثلاث خلايا سياسية في إقليم أتيكا، وظهرت إسبرطة نتيجة تجمع سبع إمارات صغيرة، وكذلك الحال في دولة هاواي، وتوحيد ميكروتيزيا وروما وممالك أفريقيا الزنجية المختلفة، كلها جاءت نتيجة حروب ضمت أقاليم ودولًا أخرى إلى الدول الجديدة.
هناك «نوع شرقي» من الدول القديمة ذلك الذي أدى إلى نشأة دول النيل والفرات والسند التي كانت تكوِّن ثلاث بؤرات من الحياة المدنية العالية، وكلها كانت تقفلها وتحميها الجبال والصحارى، ويقع سهل العراق في وسط هذا العالم الحضاري؛ مصر إلى الغرب والسند إلى الشرق منه. وفي الألف الثالثة قبل الميلاد كانت بابل قد نظمت وسائل للري، وأصبحت مركزًا للصناعة صدرت منتجاتها إلى الخارج، وكانت تشتمل على عدة مدن كلٌّ منها ممالك مدن صغيرة تحارب بعضها، وكانت تسعى إلى توحيد الدول في دولة واحدة تمتد من الخليج العربي إلى البحر المتوسط، وقد صادفت دول العراق القديم الكثير من التقلبات السياسية من مد وتقلص للنفوذ السياسي في هذه المنطقة، وبوجودها على طول طريق التجارة القديمة بين الشرق والغرب قامت دول العراق بدور الوسيط التجاري في العالم المعروف لمدة ٢٥٠٠ سنة، وبعد أن دخلت المنطقة كجزء من إمبراطوريات أوسع كالفارسية والإغريقية والعربية ظلت في هذا الموقع التجاري العظيم الذي مكن دول العراق من الإبقاء على بناء اجتماعي إقطاعي ديني على أسسه الاقتصادية، وكان مصدر العمل أعداد هائلة من الرقيق ومن سكان الهوامش الذين كانت الدول تجلبهم للعمل في الداخل.
وكانت أعمال إعادة توزيع السكان وطردهم من أراضيهم بداية لحركات من الهجرة لم تكن السلطة السياسية قادرة على الإشراف عليها، فمثلًا توغل العرب القادمين من الصحارى الفقيرة إلى داخل الدولة في موجات متتابعة، مما كان يعطي الدولة قوة مضافة لبعض الوقت.
أما مصر فقد نشأت في مهد زراعي خصيب بين البحر الأحمر والمتوسط وعلى طريق التجارة بين الهند وبلاد العرب والمتوسط، وقد استفادت من ضعف دول العراق فاتسعت حدودها وفرضت سيادتها على سوريا ووصلت إلى الفرات في عهد تحتمس الثالث، إلا أنها في المجموع لم تشارك تمامًا في طريق التجارة الدولي لموقعها المتطرف وقبعت في الوادي الخصيب المحمي، فاستمرت حضارتها أزمانًا أطول ولم تمد نفوذها إلا في أوقات معينة — أفريقيا كانت الاتجاه الحقيقي عبر النيل.
النوع الثاني من الدول هو نوع البحر المتوسط الذي يمثله كلٌّ من الإغريق والرومان، وكانت إمبراطورية الإسكندر مشابهة في الشكل للإمبراطوريات الشرقية، لكن البناء الاجتماعي مختلف، فبدلًا من طرد السكان بدأ بناء المدن التي ساعدت على اندماج الحضارات ونشر المدنية الهلنية، ولمدة ألف سنة ظلت سوريا ومصر وآسيا الصغرى جزءًا من حضارات البحر المتوسط، وأصبحت الإسكندرية وأنطاكية مدنًا إغريقية مزدهرة أكثر من بعض المدن الإغريقية مثل كورنيث وأثينا ذاتها، ولم تغير هذه المناطق اتجاهها الحضاري إلا بعد انتشار الإسلام وتعريب المنطقة.
الدول الأمريكية قبل كولمبس
هناك نوع آخر من الدول المنظمة وسط مناطق كثيرة من التنظيم السياسي البدائي، وهي في مجموعها تشابه دول العالم القديم، ومهد هذه الدول كان الهضاب العالية في النطاق المداري الأمريكي، حيث ساعد تعدل المناخ والنمو النباتي المتوسط على الاستقرار الزراعي، كنشأة دولة الأزتك في المكسيك الوسطى والأنكا في الأندييرو، والسمة الأساسية هي بناء عسكري ديني مما يجعلهم مكونين لنظام سياسي اجتماعي شديد الجمود والصرامة، ومن المحتمل أنهم أول من أنشئُوا دولًا ديكتاتورية يُضحَّى فيها بالفرد من أجل المجتمع، فالفرد كان عنصرًا صغيرًا في العجلة، وحياته يقررها المجتمع وما يقدمه له من وظائف، هذا النوع الكامل من الدولة الشيوعية بما يضمه في دائرته من سلالات ولغات مختلفة استمر فترة طويلة برغم أنه بني على أسس جغرافية واقتصادية ضيقة.
(٥) إمبراطوريات العصور الوسطى في العالم القديم
بعد سقوط الإمبراطوريات القديمة نشأ نوع جديد من الدول انبثق أساسًا من تحرك الناس في صورة موجات من الهجرات الواسعة، ويختلف تاريخ هذه الدول في أوروبا عنه في آسيا.
في أوروبا ظهرت ممالك عديدة هامشية التنظيم سريعة الانهيار مثل القوط الغربيين الذين تحركوا من جنوب فرنسا — تولوز — إلى إسبانيا، والقوط الشرقيين الذين دخلوا إيطاليا قادمين من الدانوب، هذه الدول لم تكن قادرة على التطور أو على أن تؤمن أساسًا ثابتًا لنموها وبنائها، ومثل ذلك ينطبق على ممالك بورجاندي والأنجلو ساكسون، وكلٌّ منها كان يريد أن يمد جذوره إلى الدولة الرومانية وما خلفته من أسس للإدارة والحكم في الميدانين الديني والعلماني، وقد كونت في هذه الممالك عدة خلايا ووحدات طفيلية غير قادرة على استيعاب مواردها الاقتصادية أو الإبقاء على هذه الموارد، ولا على سكانها الأصليين، وذلك لعدم وجود جيش كافٍ.
ولقد اختفت بسرعة كل القوى والدول الجرمانية في حوض المتوسط بعد غزواتها السريعة للمنطقة؛ لأنها كانت عبارة عن إضافات اصطناعية لمنطقة حضارية لم تكن مستعدة لتقبلهم وهضمهم، وهكذا أيضًا كان حال دول الصليبيين في الشرق.
أما في آسيا فقد نشأت دول أكثر استقرارًا وأهمها دولتان ذواتا دوام طويل، كما لو أن تقليد الدول الكبيرة قد بقي بين سكان آسيا من خلال البقاء الطويل للدولة الرومانية الشرقية-البيزنطية، ووراء حدود بيزنطة نجح المسلمون في بناء الدولة على المفاهيم الشرقية التي نشرت التعاليم الإسلامية من الملايو وإندونيسيا إلى أواسط أفريقيا، ومن المحيط الهندي إلى أواسط آسيا، هذا البناء السياسي الجديد الذي ما زالت أُسسه تعيش معنا قد ارتبط أوثق ارتباط بالخلفيات الدينية، وقد خرج العرب من الجزيرة في اتجاهين عارمين مسلحين بالدعوة الدينية الاجتماعية الجديدة: في اتجاه بلاد فارس ووسط آسيا والهند، وفي اتجاه مصر وشمال أفريقيا وجنوب أوروبا وفرنسا، وبذلك تمت السيادة على نظم التجارة الدولية وطرقها البرية والبحرية، وصحيح أن العرب البدو كانوا طليعة هذا التوسع إلا أن استقرار الدولة الإسلامية لم يتم إلا بناء على إعادة الحياة الاقتصادية الزراعية ومشاريع الري والعمران المدني، وفتح طرق التجارة وبناء الأساطيل.
وبرغم أن دولة الخلافة — وخاصة العباسية — قد اقتبست الكثير من نمط الدولة الشرقية في فارس ومقدونيا، إلا أنها أضافت عنصرًا سياسيًّا جديدًا، فقوتها كان مصدرها موقعها الطبيعي بين سهول ووديان البحر المتوسط والصحراء؛ مما أدى إلى توقف غارات البدو التي كانت تقلق الممالك القديمة، ذلك لأن البدو وجدوا أنفسهم جزءًا من هذه الدولة، أو هم الذين أسهموا في إنشائها بالنصيب الأوفر، وظلوا حماة هذه الدولة مع ضم التركمان البدو أيضًا، وبذلك فإن الدولة العربية عامة هي أول وأقدم تجميع لمجموعتين بشريتين متعاونتين بحكم أسس حياة كلٍّ منهما: الرعاة والزراع.
لكن هذا التكامل لم يكن قويًّا لمدة طويلة، وبذلك عادت المناطق النائية إلى الثورات والانفصال، وظهرت دول صغيرة في أوقات مختلفة.
سقطت خلافة بغداد أمام تيار المغول الذين أنشئُوا آخر دولة كبيرة قارية الشكل في العالم القديم، ورثتها في الضخامة والاتساع الدولة التركية التي نشأت على أنقاض بيزنطة واحتوت العالم الإسلامي في غرب آسيا وشمال أفريقيا وحوض المتوسط، وكان نظام الدولتين المغولية والتركية قائمًا على القوة العسكرية وليس له جذور قوية في الأرض أو الناس، وبذلك تحول الترك إلى حكام وإداريين لحياة قبلية أو مجتمعات محلية ذات صبغات قومية قديمة، وقد أدى ذلك إلى تدمير جذور الدولة العثمانية بانفصال الوحدات السياسية الذاتية الواحدة تلو الأخرى.
وفي أوروبا كان التطور السياسي مختلفًا، فعلى أنقاض الدولة الرومانية بدأت إقامة الدولة على أسس القوميات بسرعة، معطيًا قيمة للدولة بارتباطها بتراث حضاري سيكولوجي واقتصاد مؤسس على أرض الأسلاف والوطن واهتمامات بتطوير الاقتصاد ونظمه، وبرغم شكل إيطاليا الجغرافي كشبه جزيرة ذات حدود واضحة إلا أنها بقيت لفترة طويلة مقسمة مجزأة، القسم الشمالي أصبح جزءًا من الإمبراطورية الجرمانية، بينما ظل القسم الجنوبي لفترة طويلة تحت حكم بيزنطة، وإسبانيا هي الأخرى ظلت تحت تأثير الإسلام جزئيًّا، وكونت مناطق العزلة الجبلية الشمالية في أستوريا وتافارا وأراجون وكاستيل — قشتالة — وليون عدة إمارات مسيحية، ولم ينجحوا في توحيد شبه الجزيرة وطرد المسلمين إلا بعد قرون، ومع ذلك انقسمت إلى دولتين.
وتلخص هذا بأن الجغرافيا السياسية يجب أن تُدرس على ضوء التاريخ، فإننا نكسب صورة مبسطة ومجردة بمقارنة الدولة بالكائن الحي الذي يولد ويعيش ويموت، وله احتياجات ضرورية، فظروف الحياة في الدول الكبرى تقوم تبعًا للمستويات المادية والخلقية للمجموعات البشرية والتنظيم العام لعلاقات الناس وحياتهم على سطح الأرض في الأوقات المختلفة، والحقيقة أن كل البشرية يمكن مقارنتها بالكائن الحي، والدولة ليست سوى وسيلة مؤقتة تتغير بتغير الظروف، ووظيفتها في أحيان تأمين السلامة وحماية الوراثة العامة، وفي أحيان أخرى المساعدة على نشر تركيب مادي أو روحي غني «التراث».
(٦) الدول الحديثة
في الشكل المركب السياسي الاقتصادي الحالي نجد ظروفًا مختلفة تمامًا عن تلك التي سارت في الماضي والعصور الوسطى، فالدولة الحديثة لديها احتياجات جديدة وطرق أخرى لتغطية هذه الاحتياجات مختلفة عما كانت عليه الطرق في الماضي.
وحياة هذه الدولة تمثل ظاهرة غير طبيعية، فهي تمتد فوق مساحات من النطاقين المعتدل والمداري، نطاقات ممطرة وأخرى شديدة الجفاف، وتشتمل على هضاب وسهول وأنهار عريضة طويلة وأودية نهرية ضيقة ومستنقعات دلتاوية شاسعة وتلال مليئة بالغابات، وتشتمل على عدد كبير من السلالات المغولية الفرعية التي تتكلم لغات مختلفة، ولكن الدولة الصينية قد بُنيت على أساس واحد جمع كل هذه المتفرقات: فكرة الوحدة الحضارية. ولقد بقيت الصين حتى اليوم مجتمعًا زراعيًّا شاسعًا ريفيًّا بكل معنى الكلمة، شديد المحافظة، وأحسن مثال لذلك أن الكتابة الصينية — التي ترمز إلى الشيء وليس إلى الكلمة — قد ساعدت السكان على أن يتبادلوا أكثر الأفكار تجريدًا وحساسية وأعمق المعاني، وأن يقرءوا نفس الكتاب دون أن يستطيعوا فهم لغة بعضهم المنطوقة.
هذا الترابط الغريب قد قوي أكثر وأكثر بعد ١٩٤٩ نتيجة وصول الحزب الشيوعي إلى الحكم، الذي كان يحلم بخلق دولة «ديكتاتورية» جماعية يمكن أن يُوجَّه فيها نشاط كل الناس من قوى مركزية، ولكي ينفذ هذا البرنامج حصل الحزب على كل الصناعات الكبرى لكي يتحكم في الإنتاج ويعطي العمالة للناس، وتنتج الصين كميات ضخمة من المحاصيل الزراعية؛ فهي أكبر منتج للأرز في العالم وأول أو ثاني دول العالم في إنتاج القمح، ومع ذلك تكاد لا تكفي الاستهلاك الداخلي لسكانها الذين يبلغون حوالي ٦٥٠ مليونًا، وإلى جانب إنتاج عالٍ للقطن والحرير، تمتلك الصين بعض عناصر الصناعة الكبيرة، وعلى الأخص مواردها الهائلة من الفحم الذي لم يكد يمس بعدُ — إنتاج ١٩٥٨ كان ١٥٠ مليون طن، ارتفع إلى ٤٢٠ عام ١٩٦٧.
ولقد أدى إنشاء الدول الشيوعية — جمهوريات الشعب الديموقراطية — في أوروبا الشرقية والصين إلى تسهيل التبادل التجاري السوفيتي مع هذا الجزء من العالم، ويمكنها أن تحصل على الفحم من «بولندا» والبترول من «رومانيا وهنغاريا» ومصنوعات «تشيكوسلوفاكيا»، وتجد سوقًا لمنتجاتها الحديدية والصلب في الصين، ولو كانت قد استطاعت أن تجذب الصين إلى اتحادها، لكنا قد شهدنا أكبر وأقوى دولة قارية في التاريخ. وقد كان نموذج يوجسلافيا دليلًا على أنه بالإمكان اتباع المبادئ الشيوعية دون الاندماج في نفوذ الاتحاد السوفيتي الاقتصادي، ولقد قلت الروابط الاقتصادية الملزمة بين الاتحاد والدول الأوروبية الشرقية في السنوات الأخيرة، كما أن الصين تتقدم بخطى هائلة نحو التصنيع والإنتاج الصناعي، ويمكنها أن تنافس السوفيت في سوق الشرق الأقصى بسهولة، وهو بذلك يضع حدًّا للتوسع السوفيتي.
لكن في الخمسين سنة الماضية أصبحت أمريكا دولة صناعية كبيرة، وكان عليها أن تنظر في الخارج إلى الأسواق، كما كان عليها أن تبحث في الخارج عن عدد من الخامات والمواد الأولية مثل المطاط والقصدير والبترول، وقد أدى هذا الاتجاه لتدعيم روابطها التجارية مع مناطق الكثافة السكانية والأسواق الكبيرة في الشرق الآسيوي، فضلًا عن أمريكا اللاتينية غير الصناعية، رغم أن مستوى حياتها المدنية يؤهلها لأن تصبح سوقًا رائجة للمصنوعات الأمريكية.
وأدت هذه الاتجاهات إلى تأمين مركز وخطوط التجارة مع أمريكا الجنوبية، واشترت جزءًا من الدانمرك في الأنتيل وحفرت قناة بنما على أرض تنازلت عنها جمهورية بنما، وقد ساعدت هذه القناة الأمريكيين على أن يفرضوا سيادتهم واحتكارهم على التجارة التي كانت بريطانيا تحتكرها مع كولمبيا وإكوادور وبيرو وشيلي. تضاعفت تجارة أمريكا مع أمريكا الجنوبية خمس مرات خلال ربع القرن الماضي واستثمرت البنوك الأمريكية رءوس أموال ضخمة في المزارع الاحتكارية (بن – كاكاو – فواكه) والمناجم والمصانع والسكك الحديدية، وشبكة الطيران الأمريكية كثيفة واحتكارية حول أمريكا الجنوبية.
ولقد اقترحت أمريكا أكثر من مرة دمج كل دول الأمريكتين في اتحاد اقتصادي، ومثل هذا يؤدي إلى إنشاء اتحاد أمريكي هائل تكمل فيه أمريكا الجنوبية بإنتاجها المداري والحيواني والزراعي التكامل الاقتصادي الأمريكي المعتمد على أشكال الإنتاج الأرضية في الأقاليم المعتدلة + مركز الثقل الصناعي فيها، وبذلك فإن هذا التكامل يخدم المصالح الاقتصادية للولايات المتحدة الأمريكية أكثر من غيره.
- النوع الاستيطاني: الذي يستوطن فيه مهاجرون من أصل أوروبي كأستراليا وكندا وجنوب أفريقيا.
- النوع الاستغلالي: الذي يسكنه شعوبه الأصلية ويدار استغلال موارده وسكانه من أجل الدولة الأصلية مثل الهند، وكانت أكبر وأغنى المستعمرات في العالم هي تلك التابعة لبريطانيا وفرنسا وهولندا، وكانت تشترك في صفة واحدة هي أن المستعمرات كانت أكبر بكثير من الدولة صاحبة المستعمرات، وتركزت المستعمرات الفرنسية في أفريقيا والهولندية في آسيا والإنجليزية انتشرت في كل القارات. وقد تقسمت هذه الإمبراطوريات فيما بعد بواسطة الثورات الوطنية وبوصول بعض المستعمرات المستوطنة إلى مرحلة الدومنيون مثل كندا وجنوب أفريقيا وأستراليا، ولقد تأثر الكومنولث من هذه التحولات التي أحاطت بكل المستعمرات، وكانت الرابطة البحرية هي التي اعتمدت عليها بريطانيا في ضم هذه الرابطة: خطوط بحرية منتظمة وقواعد استراتيجية في الجزر أو المضايق ومحطات للبرق والفحم، وتنقسم هذه الرابطة سياسيًّا إلى خمسة أقاليم دومنيون استقلت فيما بعد إلى دول ذات سيادة، ودول ذاتية الحكم كاتحاد ماليزيا وسيرلانكا، ومستعمرات تحت الإدارة البريطانية المباشرة، ولقب ملك بريطانيا — تنازل عن لقب إمبراطور الهند — لم يكن معترفًا به في كل دول الكومنولث، وهي فعلًا رابطة حرة بين دول ذات سيادة، ويعقد في لندن أو أي مدينة كبرى اجتماعات دورية يحضرها ممثلو دول الكومنولث ويرأسها واحد من رؤساء الوزارات، وذلك لدراسة المشكلات الخاصة بالدفاع والتراث المشترك.
ومنذ ١٩٥٨ تحول الاتحاد الفرنسي إلى الرابطة الفرنسية، وفيما قبل الحرب كانت الإمبراطورية الفرنسية تشتمل على عدد من المحميات، دول وطنية احتفظت بأشكال الحكم فيها، لكن يسيطر عليها المقيم الفرنسي، مثل تونس والمغرب وكمبوديا وأنام ولاووس، وقد تحولت هذه المحميات بشيء من السهولة إلى دول مستقلة مع الاحتفاظ بروابط قوية ثقافية واقتصادية مع فرنسا، وكان هناك أجزاء أخرى من الإمبراطورية الفرنسية في صور مختلفة سياسيًّا، بعضها أصبح أجزاء من محافظات فرنسا عبر البحار، سكانها لهم نفس حقوق الفرنسيين، وبعضها كان يصطبغ بالحكم الذاتي في درجات مختلفة، وأيًّا كان الشكل السابق فكل هذه الأقاليم قد اختارت الانضمام إلى الرابطة الفرنسية باستثناء غينيا التي انفصلت عنها، وتنص لوائح الرابطة على أن رئيس الجمهورية الفرنسية هو أيضًا رئيس الرابطة وإنشاء مجلس منتخب دائم للرابطة مقره باريس، بينما تعقد مؤتمرات دورية مشابهة لمؤتمرات دول الكومنولث في إحدى عواصم الرابطة ويحضره رؤساء وزارات الدول أو ممثلوهم.
ويرى بعض الكتاب أن الرابطة الإنجليزية أو الفرنسية كانت حلًّا موفقًا، جمعت بين الرغبة في الاستقلال من جانب المستعمرات والإبقاء على العلاقات الوثيقة الاقتصادية والسياسية، وبهذا نجد فارقًا بين تقطع أوصال الإمبراطوريات القديمة والحديثة، ويجب أن نضيف إلى ذلك أن علاقات العالم بعد الحرب الثانية وظهور قوى جديدة في الاتحاد السوفيتي والصين والولايات المتحدة وأدوارها في العلاقات الدولية قد ساعد على سرعة استقلال المستعمرات + تطورها الاقتصادي الذاتي، تضاف إلى ذلك رغبة بريطانيا وفرنسا في الإبقاء بصورة أو أخرى على حمايتها لهذه الدول الجديدة ومعظمها دول متخلفة ونامية.
وعلى العموم فإن مجالات النفوذ الاقتصادية في الدول الحديثة لم تعد قاصرةً على العلاقات القومية الضيقة، بل تعدَّتها في غالب الأحوال إلى علاقات أبعد من الحدود السياسية للدول الأم ولمستعمراتها، وفي وقتنا الحاضر تسيطر المصالح الاقتصادية والمشكلات الاجتماعية على الحياة السياسية للدولة أو الاتحادات الدولية، ولم يعد من المستطاع ضم أراضٍ جديدة للحصول على ثرواتها، إن التوسع الاقتصادي يجلب منافع أكثر ومشاكل أقل من الغزو السياسي أو العسكري، ويسهِّل هذا التوسع الاقتصادي اتجاه كل أشكال الصناعة في الدول الحديثة إلى فرض قواها الاحتكارية على سلع معينة مع استمرار رقابتها وتحكمها على الخامات الأساسية لهذه السلع وعلى وسائل إنتاجها تصنيعًا، وأخيرًا هيمنتها وسيطرتها على السوق.
ويجد الإنسان احتكارات أخرى كبيرة في شتى المجالات الصناعية والاقتصادية، ففي مجال إنتاج البترول وتصنيعه نجد شركات شل «رويال داتش» «أنجلو داتش» وستاندرد «أمريكا» تمتلك حقول بترول في كل أرجاء العالم وشبكة من الأنابيب وأساطيل من الناقلات، وفي مجال الإنتاج تحتكر المجموعات الأمريكية ٧٠٪ وشل ١٨٪، وتمتلك شركة فورد للسيارات مصانع للسيارات في دول عديدة خارج أمريكا، بالإضافة إلى امتلاكها مزارع مطاط في أمريكا الجنوبية وأفريقيا الغربية، وتمتلك شركة الفواكه المتحدة الأمريكية مزارع ضخمة من الأناناس والموالح والموز في بيرو وإكوادور وفنزويلا وجزر الهند الغربية وأمريكا الوسطى، وتسيطر بأسطولها وشبكتها التلغرافية على أمريكا الوسطى كلها.
لا يوجد في العالم جزء بعيد عن نفوذ الأعمال الاحتكارية التجارية، وتملك الدول الصناعية كل تسهيلات إنشاء المصانع والموانئ والسكك الحديدية في البلاد النامية، ويمكنها أن تبيع وتشتري وتصنع السلع تحت الظروف المناسبة لها، مثلًا أنشأت شركة ستاندرد عدة معامل تكرير ضخمة في فرنسا، بينما أنشأت شركة فورد مصانعها في ضواحي لندن وباريس.
وحتى الحرب العالمية الأولى كانت الدول الكبرى تتنافس في إنشاء السكك الحديدية في أراضي الدولة العثمانية (ألمانيا وبريطانيا وفرنسا)، وفي الصين (اليابان وبريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة)، وفي منشوريا (روسيا واليابان)، واليوم نجد البنوك الكبرى في أمريكا هي التي تمول شركات الطيران في كافة دول أمريكا الجنوبية.
وقد أدت هذه الاحتكارات والمصالح إلى ربط الدول المختلفة وتجميع ميولها وأهدافها — رغمًا عنها أحيانًا — في طريق واتجاه موحد، وبدلًا من المنافسة نجد التعاون والعمل المشترك بين الدول في استغلال موارد معينة، وقد أصبحت الدول شديدة الاعتماد على بعضها بهذه الطريقة لدرجة أن أي حرب بينها ستكون مدمرة للمنتصر أكثر من المهزوم.
وتعكس هذه التنظيمات الدولية، على المستوى الاقتصادي، المجهودات المبذولة على المستوى السياسي للأمم المتحدة، وهي في حد ذاتها محاولة لإنشاء برلمان فوق القومية.
وبينما يؤكد الساسة والاقتصاديون أن الدول التي تنتمي إلى هذه المؤسسات الدولية تفقد بعض حقوق سيادتها، إلا أن مثل هذا الأمر يجب ألا يخيف الدول من فقدانها استقلالها أو وحدتها القومية، وقد قال أحد الجغرافيين الإنجليز — مع قليل من الفكاهة — إن المدن يمكن أن تتشابه في نظم إنارتها ووسائل النقل الداخلي فيها وأشكال الخدمات، ولكن لن يؤدي ذلك إلى أن يرتدي سكانها ذات اللباس ويأكلوا نفس الطعام ويستمتعوا بنفس أشكال الترفيه.