الحدود في الجغرافيا السياسية
(١) مقدمة
توضح خريطة العالم السياسية مجموعة من خطوط الحدود الفاصلة بين الدول المختلفة، وتجري هذه الحدود على اليابس في شتى الاتجاهات مرتبطة أحيانًا بظاهرات طبيعية كالجبال والأنهار والغابات والمستنقعات، ومتعارضة في أحيان أخرى مع هذه الظاهرات الطبيعية لكي تحدد ظاهرات بشرية مختلفة أو توضح مجهودات القوة العسكرية للدول في تخطيط حدودها، لكن الحدود في الواقع لا تنتهي عند ساحل البحر أو المحيط، فهناك حدود للدول تمتد فوق المسطحات المائية المختلفة، وهي لا تظهر على الخرائط السياسية العادية، كما لا تظهر مرسومة إلا حين تظهر مشكلة من مشاكل استغلال المسطحات المائية: الثروة السمكية أو المعدنية.
وقد ثارت كافة الحروب بين الدول من أجل تعديل الحدود على اليابس، ولم تقم حتى الآن حرب واحدة من أجل تعديل الحدود فوق المسطحات المائية، ولكن الحروب الاقتصادية بدأت بين بعض الدول مثل أيسلندا وبيرو ضد أساطيل الصيد البريطانية والأمريكية على التوالي، فهل تتحول الحرب الاقتصادية إلى حرب ساخنة في فترة لاحقة، خاصة حينما يشتمل الأمر على استغلال الثروة المعدنية عامة والبترولية خاصة؟ (انظر الخريطة ١٢).
وفي الوقت الحاضر — في عصر حركة الطيران المتكاثفة — لم تعد الحدود مقتصرة على تلك الملامسة لليابسة وسطوح الماء، بل أصبحت هناك حدود للدول ترتفع في الغلاف الغازي فوق رقعات الدول المختلفة، فإلى أي مدى ترتفع سيادة الدولة على أجوائها؟ وما هي المشكلات المترتبة على سيادات الدول على الغلاف الغازي؟ وهل يمكن أن تؤدي بدورها إلى نزاعات وحروب؟
على هذا النحو يتضح لنا أن الحدود مشكلة معقدة لم تعد تمتد في بعد واحد مرتبط بالتنظيم الأرضي للدولة، بل تعددت أبعاد الحدود إلى مسطحات الماء وأعماقها، وامتدت إلى أغوار الفضاء الذي يغلف كرتنا الأرضية.
(١-١) مشكلة تعريف الحدود وأقاليم الحدود أو التخوم١
أيًّا كان تعقد مسألة الحدود في الوقت الراهن فإن مشكلة الحدود البرية قد أثارت — وما زالت تثير — كافة المشكلات المتضمنة في جوهر العلاقات السياسية بين الدول، كما أنها راسخة في الأذهان كافة، المتخصصين وغير المتخصصين؛ لأنها تمثل الإطار الذي تُمارس فيه الدولة سيادتها الفعلية، ذلك لأن الحدود البرية للدول هي الأماكن أو النقاط التي تلتقي فيها الدول وتحتك فيها كتل الناس وتتفرق فيها المصالح الاقتصادية بتوجيه الدولة، ولهذا أثارت الحدود البرية مشكلات كثيرة خاصة بتعريفها: هل هي خط الحدود أم نطاق الحدود والتخوم؟
وقد كان فريدريك راتزل من أوائل الجغرافيين المحدثين الذين تناولوا مشكلة تعريف الحدود، وفي كتابه «الجغرافيا السياسية» (١٨٩٥) ذكر راتزل عدة إيضاحات لهذه المشكلة، فهو يقول: إن نطاق الحدود هو الحقيقة الواقعة، أما خط الحدود فليس سوى تجريد لهذا النطاق (ص٥٣٨). ويقول أيضًا: في مناطق الحدود يقع جزء كبير من ثقل التوازن السياسي (ص٥٨٤). وفي مكان ثالث يؤكد أن نطاق الحدود هو المكان الذي يشير إلى نمو أو تقلص الدول، ففي الدول القوية يظهر ارتباط وثيق بين نطاق الحدود وقلب الدولة، فإن أي ميل إلى ضعف هذا الارتباط يؤدي إلى ضعف الدولة وإلى خسارة جزء من أراضيها، وعلى الدول أن تسعى إلى الحصول على أقصر خطوط للحدود لأنها أقواها وأحسنها، وأن تقيم استحكامات عسكرية على طول مناطق الحدود، ويدعم هذا التدبير باتخاذ الجبال والأنهار مناطق للحدود.
لكن راتزل لم يغفل مقومات أخرى للحدود الجيدة، فإلى جانب ارتكاز الحدود على بعض الظاهرات الطبيعية يتكلم راتزل عن نوع السكان والموارد المتاحة والبناء السياسي داخل الدولة كمقومات للحدود الجيدة، وقد كان راتزل يسوق نهضة ألمانيا السياسية وتغير حدودها وتوسعها كمثال للحدود المتغيرة تعبيرًا عن نظريته العضوية للدولة [راجع القسم الأول الفصل الثاني: مناهج الدراسة في الجغرافيا السياسية].
وقد ظهرت في الكتابات اللاحقة لراتزل نقاط ضعف في النظرية العضوية للدولة، لكن من المدهش أن الكثير من مفهومات راتزل عن الحدود بقيت دون أن تُهدم، ولعل ذلك راجع إلى أن راتزل حاول أن يؤسس قوانين خاصة لنمو وسلوك الحدود، ولا شك أن تعميم مثل هذه القوانين أمر خاطئ، فكل حد سياسي له ظروفه وخلفيته مما يجعله ظاهرة خاصة، ومع ذلك فإن قوانين راتزل عن الحدود يمكن أن تطبق على بعض الحدود بشيء كثير من الصحة.
ومن أمثلة قوانينه التي يمكن أن تطبق على كثير من الحدود قوله: إن القانون العام لنمو «المكان» التاريخي هو أن حدود المنطقة الأكبر تنمو على حساب حدود المنطقة الأصغر، وكذلك قانونه القائل: إن تطور الحدود هو السعي إلى تبسيطها، وإن التبسيط هو السعي إلى تقصير «أطوال» خط الحدود، ولا شك في صحة هذه القوانين، فالخط المتعرج المتداخل طويل ضعيف، بينما الحد القصير أقوى في الدفاع والهجوم.
- (١) المنطقة الحدية territoire limitrophe: وهي المنطقة التي يمر فيها خط الحدود.
- (٢) نطاق الحدود Frontières: وهي المنطقة التي تمتد على جانبي الحدود وتخضع كل منها لقوانين الدولة التي تنتمي إليها.
- (٣) الجوار Le Voisinage: وهي المنطقة كلها التي تشتمل على القسمين السابقين.
ويقول آنسل إن هناك نوعين من الحدود: الحدود الثابتة والمتحركة، ويعارض آراء راتزل التي تؤكد أن الحدود عضو من أعضاء الدولة يعكس قوة أو ضعف الدولة، ويؤكد أن الحدود عبارة عن خط توازن بين قوتين، لكن هذا الرأي في واقعه لا يختلف عن وصف راتزل للحدود، فهي خط يفصل بين العضوين الخارجيين لدولتين متجاورتين.
ويمكننا أن نلخص مجمل الآراء في تعريف الحدود بأن كل خط من خطوط الحدود هو في الواقع خلق متعمد عبارة عن خط تجريدي يفصل بين دولتين أو جهازين عضويين — على حد تعبير راتزل — وبالتالي يعرب عن نبض كلٍّ من الدولتين.
إن هذا الشكل التجريدي من الحدود الخطية الفاصلة لم تصل إليه القوى السياسية والقومية إلا مؤخرًا نتيجة تضاغط المصالح والقوى في كل دولة، وعلى هذا فإن الحدود السياسية الحالية تمثل طغيانًا حديثًا على مناطق الحدود والتخوم القديمة، التي قال بها غالبية الجغرافيين ابتداء من فريدريك راتزل، واقتسام هذه المناطق الحدية إلى آخر شبر يمكن أن تصل إليه القوى الضاغطة من جانب واحد أو من الجانبين.
وتعطينا الخريطة رقم ١٢ نموذجًا لأنواع الحدود عند مجتمعات قبلية ودول قديمة في نيجيريا، وأهم ما توضحه هذه الخريطة تعدد أنواع حدود الاتصال والانفصال في الدولة الواحدة، فإمبراطورية الفولاني — التي تتمثل في الخريطة في دولتي سوكوتو وجاندو — ترتبط وتنفصل عن الدول والقبائل المجاورة بشتى أنواع الحدود، على سبيل المثال الحدود الشمالية معظمها حدود فاصلة تعبر مناطق شبه جافة تفصلها عن إمارات زندر وجوبير وغيرها من إمارات الهوسا، بينما حدودها الجنوبية عبر نهر النيجر مع ممالك اليوربا الصغيرة هي حدود اتصال وعدم استقرار في منطقة إيلورين كدليل على اتجاه التوسع الفولاني صوب نطاق الغابات الاستوائية الغني في جنوب نيجيريا، كما أن حدودها مع مملكة بورنو كانت مناطق تخوم وغابات في الجنوب وقبائل وثنية في الشمال وإمارات صغيرة في الوسط، وعلى هذا تتضح مرونة الحدود القديمة بالقياس إلى تصلب الحدود الفاصلة الحالية الناجم عن الضغوط السكانية والاقتصادية الحديثة.
(١-٢) تأثير الحدود السياسية الحديثة على مناطق الحدود
يؤدي مجرد وجود الخط السياسي الفاصل بين الدول إلى إحداث تغييرات جغرافية في إقليم الحدود، كما يؤدي في أحيان أخرى إلى خلق وحدات جغرافية صغيرة عبر حدود الدولتين.
ففي الحالة الأولى نجد أن الحدود السياسية تصبح عوائق اقتصادية تؤدي في أحيان إلى اختلافات غريبة في المنطقة التي يقسمها خط الحدود إلى قسمين، فمثلًا خط الحدود الفرنسية البلجيكية يظهر منطقتين مختلفتين: ففي الجانب الفرنسي من إقليم الحدود نجد نطاقًا من حقول القمح، بينما لا يظهر ذلك بنفس الصورة على الجانب البلجيكي، ولا يرجع ذلك إلى ملاءمة أو جودة التربة في الجانب الفرنسي، وإنما يرجع إلى التوجيه العام للاقتصاد الفرنسي، فالقمح يتمتع في فرنسا بالحماية الجمركية، ومن ثم فإن زراعته تصبح زراعة نقدية مؤمنة بالنسبة للفلاح الفرنسي، بينما لا توجد مثل هذه السياسة الاقتصادية في بلجيكا، ويصبح القمح البلجيكي معرضًا لمنافسة القمح المستورد.
وتؤدي ارتباطات مناطق الحدود بمواصلات جيدة إلى داخل الدولة إلى إمكان قيام استثمارات وتحسينات في موارد إقليم الحدود الإنتاجية، بينما تحرم المنطقة من ذلك إذا خلت من الطرق الحديثة، ففي إقليم الحدود الفرنسية الإسبانية في منطقة البرانس نجد أن المنطقة الفرنسية من هذه الحدود مخدومة بالسكك الحديدية في بعض أجزائها، بينما المنطقة الإسبانية محرومة في معظم أجزائها من مثل هذه الخدمة، وقد ترتب على ذلك أن المناطق الفرنسية من هذا الإقليم القريبة من الخطوط الحديدية تزرع محاصيل السوق، وعلى رأسها الخضروات المبكرة التي تنقل بالخطوط الحديدية إلى أسواق استهلاكها في فرنسا، أما المناطق الإسبانية فإنها تمارس زراعة الحبوب التقليدية لاستهلاكها ونقل بعض الفائض منها بوسائل النقل العادية إلى سوق برشلونة الصناعي، وعلى هذا النحو تتغير مناطق وأقاليم الحدود بعضها عن البعض الآخر نتيجة عدد كبير من العوامل البشرية.
ولكن يقابل ذلك التغير في أقاليم بعض الحدود أقاليم أخرى يحدث فيها تشابه كبير على جانبي خط الحدود، خاصة في المناطق الكثيفة السكان، وهذه هي الحالة الثانية من التأثيرات الجغرافية التي تحدث وتؤدي إلى خلق أقاليم متشابهة برغم وجود خطوط الفصل السياسية.
فعلى الحدود الفرنسية السويسرية عند لسان جنيف نجد أن هذه المدينة تكوِّن سوقًا رائجة للمنتجات الغذائية الفرنسية القريبة؛ لأن موقع جنيف — بعيدًا عن مناطق الإنتاج السويسري — يجعلها معتمدة على المنطقة الفرنسية المجاورة، والحال نفسه في منطقة بازل السويسرية المرتبطة باستيراد الغذاء في إقليم الألزاس الفرنسي. وعلى الحدود الفرنسية البلجيكية يعمل البلجيكيون بكثرة في مصانع النسيج الفرنسية وحقول الفحم بينما هم يسكنون داخل الحدود البلجيكية، وهكذا يعبر هؤلاء العمال الحدود يوميًّا مرتين للذهاب إلى أعمالهم داخل الأرض الفرنسية دون أن تقف هذه الحدود عقبة في وجه اتصال سكان إقليم الحدود.
وعلى هذا النحو نجد في مناطق الحدود الكثيفة السكان أن حركة عبور الحدود تشتد بين سكان إقليم الحدود، خاصة إذا كان هناك مجال سهل للعمل وأجور أعلى مما تقدمها إمكانات إحدى الدولتين المتجاورتين، وبطبيعة الحال هنالك شرط أساسي هو حسن العلاقات السياسية بين الدولتين المتجاورتين، وإلا قطعت الحدود كل الطرق على الاتصال بين سكان المنطقة.
(١-٣) تصنيف الحدود
- (١) الحدود الفلكية astronomical: وهي تلك التي تتبع خطوط عرض أو طول مثل جزء كبير من الحد الأمريكي الكندي الذي يتبع خط العرض ٤٩ شمالًا، أو مثل كثير من الحدود في أفريقيا.
- (٢) الحدود الرياضية mathematical: وهي تلك التي تربط بين نقطتين معينتين بخط مستقيم.
- (٣) حدود المنحنيات Referential: وهي تلك التي تربط عدة نقاط في صورة أقواس وخطوط مستقيمة، وهذه تظهر في تحديد الخطوط في مناطق محدودة.
وكذلك اهتم كرزون اهتمامًا بالغًا بأثر الحدود فجعلها قسمين: الحدود الحاجزة أو الفاصلة، وحدود الاتصال والحركة (انظر الخريطة ١٣)، وقد تبعه في ذلك فوست وبرسكوت (١٩٦٥). وقد هاجم فوست فكرة أن هناك حدودًا طبيعية وأخرى اصطناعية، ولكن هجومه لم ينطوِ على إلغاء هذه أو تلك، فالحدود تتطور وتتغير وقد تلتحق في بعض مساراتها بظاهرات طبيعية كالأنهار والجبال، وهو بذلك يهاجم اصطلاحي حدود طبيعية وأخرى اصطناعية مؤكدًا أن تطور الحدود كلها أمر طبيعي؛ لأن وظيفة الحدود الأساسية هي حماية الدولة عسكريًّا وتجاريًّا، كما أنها منطقة التقاء الدولة بالأخرى، وهي بذلك منطقة الاتصال والتبادل، ويرى فوست أنه حينما ترتبط الحدود بمنطقة حاجزة طبيعيًّا — كالجبال — فإن ذلك يؤدي إلى نشأة حدود الانفصال.
- (١)
اتجاه إلى تدقيق شديد في تخطيط الحدود ومساراتها.
- (٢)
اتجاه إلى ترابط شديد بين الحدود السياسية والحدود اللغوية (خاصة في أوروبا).
- (٣)
اتجاه إلى رسم الحدود في مناطق وأقاليم حدود الانفصال.
وباستثناء الاتجاه الأول فإننا نجد أن الحدود السياسية، وإن اتجهت إلى التقارب من الحدود اللغوية، إلا أن معاهدات الصلح بعد الحربين العالميتين قد دفعت بالحدود الألمانية والنمساوية بعيدًا عن حدودهما اللغوية، ولتجنب مشكلة الأقليات الألمانية النمساوية أعيد توزيع السكان من جديد وهُجِّر الألمان من بولندا والسوديت والتيرول الإيطالي، فالضغط السياسي هنا كان أقوى من الاتجاه الطبيعي للحدود لكي تشمل المتكلمين بالألمانية، كذلك فإن رسم الحدود في مناطق حدود الانفصال لم يؤدِّ إلى تقليل الاحتكاكات بين القوميات، فخط الحدود الذي رُسِم في عام ١٩١٩ للنمسا في منطقة انفصال حدية بينها وبين إيطاليا — التيرول الإيطالي — قد اقتطع أقلية نمساوية كبيرة في هذه المنطقة الجبلية، وبالمثل فإن إنشاء دولة تشيكوسلوفاكيا وتخطيط حدودها مع ألمانيا في مناطق انفصال متمثلة في جبال غابة بوهيميا وجبال الأرتز قد اقتطع ألمان السوديت عن ألمانيا وأدخلهم تشيكوسلوفاكيا، وكانت تلك ذريعة هامة من ذرائع هتلر في توسعه في وسط أوروبا.
- (١)
الحدود التي ترتبط بالظاهرات الطبيعية: جبال – أنهار – بحيرات – بحار – غابات – مستنقعات – صحارى.
- (٢)
الحدود التي ترتبط بالظاهرات البشرية: لغات وحضارات وديانات.
- (٣)
الحدود التي ترتبط بالظاهرات الفلكية: خطوط هندسية غالبًا في مناطق التقسيم السياسي الجديدة، وفيما يلي دراسة موجزة لهذه الأشكال الرئيسية من الترابط في الحدود السياسية.
(٢) الحدود المرتبطة بالظاهرات الطبيعية
يميل الناس إلى الاعتقاد بأن حدود القوميات تقف عند عوائق طبيعية معينة، مثال ذلك جبال الهملايا بين الهند والتبت، والبرانس بين فرنسا وإسبانيا، ونهر الدانوب بين البلغار والرومانيين، وجبال الألب بين اللاتين والجرمان، لكننا نستطيع أن نعدد أمثلة أخرى كثيرة لا تقف فيها الحدود القومية عند عقبات طبيعية، بل تتعداها وتمتد حولها وعبرها، ذلك لأن الجبال في أحيان كثيرة — بأوديتها وسفوحها — غالبًا هي موطن قومية منعزلة أو قوميات متعددة، فالأكراد يحتلون المنطقة الجبلية الوعرة من شرق الأناضول إلى زاجروس، وغابات السويد الشمالية كانت عائقًا أمام القومية السويدية، في الوقت الذي كانت فيه مسرحًا لنشاط الفن و«اللاب». والأنهار في غالب الأحيان لا تكون فاصلًا بل رابطًا بين أجزاء الوادي الذي يجري وسطه النهر، ولذلك فإن جريان الحدود السياسية بمحاذاة مجرى النهر يؤدي إلى تقطيع أوصال إقليم متكامل جغرافيًّا بكل معاني الإقليم الجغرافي، مثال ذلك حدود فرنسا وألمانيا وسويسرا المحاذية لنهر الراين، أو حدود أمريكا وكندا على طول سنت لورنس والبحيرات العظمى، وفي مثل هذه الحالات لا تعرف أين تبدأ ألمانيا أو سويسرا أو كندا وأمريكا إلا عند مخفر شرطة الحدود.
(٢-١) الجبال كحدود طبيعية
إن المدقق في الأمثلة التي يسوقها الباحثون عن الفواصل الطبيعية المتفقة مع الحدود السياسية والقومية يجد أنها كلها مليئة بالاستثناءات، فجبال البرانس في مجموعها فاصل بين القوميتين الإسبانية والفرنسية، لكن أطرافها الغربية تسكنها قومية منفصلة هي الباسك، وأطرافها الشرقية تعبرها «شبه» قومية هي القطالونية المتحدرة من شمال شرق إسبانيا إلى جنوب فرنسا، وفي الوسط نجد إمارة أندورا التي يعود استقلالها إلى عام ١٢٧٨م، وكذلك الحال في جبال الهملايا لا تكون الحد الفعلي للقومية الهندية أو الصينية، فهناك تسرب كثير للمغول عبر السفوح الجنوبية للهملايا مما يجعل معظم الهملايا خارجة عن الحدود القومية للهند، ولكن في هذه المناطق المنعزلة قامت عدة إمارات وممالك حاجزة مثل كشمير ونبال وبوتان، وهنا اختلاط شديد بين الهندوكية والبوذية واللامائية، إذن أين الحدود الطبيعية؟
إن جبال الألب لم تكن حدودًا للإمبراطورية الرومانية إلا في أوقات محدودة وسرعان ما نفذ الرومان عبر ممرات الألب إلى بافاريا والنمسا، ولقد صعد عدد ملحوظ من السكان الحاملين لنوع من القومية الإيطالية جبال الألب ويعيشون فوقها في منطقة جنوب سويسرا — الرومانش — بينما هبط النمساويون في التيرول صوب السفوح المشمسة الجبلية المطلة على سهل لمبارديا الإيطالي.
وفي الواقع نجد أن هناك اختلافات كثيرة حول مسارات الحدود المتوازية مع الجبال، هل ترتفع الحدود إلى خطوط تقسيم المياه؛ أي إلى أعالي الجبال؟ أم يمكن أن تسير الحدود بموازاة السفوح؟ وما هي المشاكل الاستراتيجية والاقتصادية المترتبة على كلٍّ منهما؟ وقد يبدو من الطبيعي أن تسير الحدود مع خطوط تقسيم المياه بحيث تضمن لكل دولة حرية التصرف في منابع أنهارها، خاصة وأن مناطق المنابع مؤهلة لتكوين مصادر عظيمة للطاقة الكهرومائية، لكن الأمور لا تسير دائمًا على هذا المنوال، فالجبال ليست أراضي خالية من السكان في معظم الأحيان، ولهذا لا يمكن التصرف فيها بدون مراعاة لانتماءات السكان اللغوية والحضارية.
لكن الأمور السياسية لا تسير وفق الظروف الجغرافية الطبيعية والبشرية، بل حسب قوة الدولة في زحزحة ادعاءاتها على الأراضي، أو حسب الاتفاقات التي يمكن أن تصل إليها الدول، وإذا عدنا إلى جبال البرانس مرة أخرى نجد أنها في حقيقة الأمر لا تكوِّن حدودًا فاصلة بين فرنسا وإسبانيا، فالرعاة الذين يسكنون الجبال غالبًا ما يتنقلون بقطعانهم على السفوح الشمالية والجنوبية حسب المواسم المواتية، ولهذا ظلت مشكلة حدود البرانس معلقة بين فرنسا وإسبانيا منذ عام ١٦٥٩ برغم أن الاتجاه كان نحو تثبيتها على قمم الجبال — خط تقسيم المياه — وفي أواخر القرن ١٩ اتفقت الدولتان على ما كان سائدًا منذ القرن ١٣؛ وهو السماح للرعاة بالتنقل على السفوح المختلفة، وبذلك فإن البرانس ليست حدًّا فاصلًا، إنما هي منطقة اتصال حدية: تخوم.
(٢-٢) الغابات والمستنقعات ونشأة الدول الحاجزة
تكوِّن الغابات والمستنقعات أشكالًا مختلفة من العقبات والعوائق الطبيعية ضد سهولة الاتصال عبرها، ولا شك أن المستنقعات — خاصة إذا كانت تمتد في مساحات كبيرة — تشكل عقبة كئودًا أمام تقدم الجيوش الزاحفة، وبذلك فإنها تحتاج إلى تكتيك حربي خاص بها، لكن أسهل منه الالتفاف حولها إن أمكن، وبذلك فإن الحدود التي تجتاز المستنقعات إنما كانت في الماضي حدودًا دفاعية جيدة، مثال ذلك حدود روسيا القيصرية في منطقة مستنقعات البريبت بينها وبين بولندا، وكذلك مستنقعات بحيرة كيوجا وما جاورها التي كونت حماية طبيعية لمملكة بوجندا القديمة من الناحية الشمالية، وهناك عشرات الأمثلة على دور المستنقعات في إقامة حدود دفاعية قوية بالنسبة لكثير من المجتمعات البدائية، وإمارات ودول العصور القديمة والوسطى، فلقد نمت القومية الهولندية وسط عشرات المجاري والمستنقعات في دلتا الراين، كما أن مستنقعات شمال الدلتا المصرية قدمت حماية طيبة للدلتا الغنية من جهة الشمال بحيث إن مصر لم يجر غزوها من الشمال إلا في حالة واحدة: الحملة الصليبية على المنصورة ودمياط التي فشلت أيضًا نتيجة الدفاع المملوكي والاستعانة بمياه الفيضان معًا.
وما من شك في أن تكنيك الحروب الحديثة قد وجد حلًّا لمعارك المستنقعات متمثلًا في دبابات وسيارات من نوع خاص، وقوارب عسكرية مؤهلة للحركة في المستنقعات أيضًا، لكن ذلك لا يعني أنها فقدت قيمتها تمامًا، ولا أدل على ذلك من أن مستنقعات دلتا الميكونج في فيتنام الجنوبية ظلت مسرحًا لنشاطات الفيتكونج العسكرية طوال عشر سنوات من الحرب ضد التكنيك العسكري الأمريكي البري والجوي، المتنوع والمستفيد دائمًا من خبرة المعارك، ذلك أن حرب العصابات تشكل نوعًا جديدًا من الحروب التي تستفيد دائمًا من العقبات الطبيعية، خاصة الجبال والغابات والمستنقعات.
فالمارك كان جزءًا من إقليم الحدود ينظم دائمًا على أساس شبه عسكري من أجل المحافظة على الحدود، وقد نظم شارلمان وأوتو عددًا من هذه التنظيمات العسكرية على الحدود لمنع الزحف السلافي إلى وسط أوروبا، وقد تطورت هذه «الماركات» فيما بعد لتصبح دولًا ذات قومية خاصة توسعت في المستقبل وكونت إمبراطوريات وممالك في وسط أوروبا، ومن أهم هذه «الماركات» مارك براندنبرج الذي كان نواة الإمبراطورية البروسية والقومية الألمانية، ومن الماركات الأخرى بوهيميا، مورافيا (في تشيكوسلوفاكيا حاليًّا)، وصوربيا (الصرب قاعدة الوحدة اليوجسلافية فيما بعد)، ومارك بريتاني (في غرب فرنسا)، ومارك إسبانيا في جنوب فرنسا. وبذلك طوَّق شارلمان مملكته بإمارات حاجزة لحمايتها من الشرق والجنوب الشرقي والغرب.
ولقد تطورت فكرة «المارك» إلى فكرة المحميات في العصر الاستعماري، والمحمية هي دولة ذاتية الحكم تستند في بقائها إلى قوة الاستعمار المجاورة، وتقوم بوظيفة منع الاحتكاك المباشر مع القوى الأخرى، ومن أشهر الأمثلة على المحميات دولتا بوتان وسيكيم، اللتان تفصلان جانبًا من الحدود الهندية مع التبت، فقد ظلتا محميتين بريطانيتين، وبعد استقلال الهند ظل هناك مندوب هندي يساعد في تصريف الأمور، وعلى هذا النحو يمكن أن نفسر بقاء سيام (تايلاند حاليًّا) دولة حاجزة بين النفوذين الاستعماريين الإنجليزي (في بورما) والفرنسي (في الهند الصينية: فيتنام وكمبوديا ولاووس حاليًّا). وبالمثل كانت نشأة دولة أورجواي على مصب لابلاتا اتفاقًا بين النفوذين الإسباني (في الأرجنتين) والبرتغالي (في البرازيل) لمنع الصدام بينهما في هذه المنطقة الحساسة، كذلك كان إنشاء المنطقة المحايدة بين الكويت والمملكة السعودية عازلًا دون احتكاك مصالحهما.
وفكرة المناطق المحايدة أو الحاجزة فكرة قديمة مارستها الجماعات البدائية كما سبق أن ذكرنا، فعند المجتمعات البدائية كانت الحدود عبارة عن مناطق غير مأهولة بين مناطق الاستقرار والتجمعات البشرية، وبذلك فإن هذه الحدود تشابه مناطق اللامعمور بين الدول — الشقة الحرام — وهي على هذا النحو لم تكن خطوط اتصال على الإطلاق، بل نطاقات فصل، فحيث ينتهي السكن تنتهي حدود المجتمع، وقد أخبرنا الرحالة الألماني بارث وغيره من الذين جابوا أفريقيا خلال القرن التاسع عشر أن مناطق اللامعمور هي حدود الجماعات، وفي خلال فترات الحروب تمتد هذه النطاقات الحاجزة مسافات أوسع كنوع من نطاقات الأمان كانت تصل أحيانًا إلى أكثر من مائة كيلومتر اتساعًا، مثلًا تلك التي توجد بين دولة الفولاني وبورنو في شمال شرق نيجيريا، أو بين الأزاندي والبونجو في السودان الجنوبي، وفي اسكندنافيا كانت حدود السلاف والجرمان والفن مماثلة للحدود الموجودة في أفريقيا، كما كانت حقول الثلج الشاسعة تفصل بين السويد والنرويج، وإلى الشمال من تروندهايم كانت الأرض في أقاليم ترومز ونورلاند ولابلاند تعد أرضًا مشتركة بين النرويجيين والسويديين والروس، وكان اللاب المتنقلون يدفعون ضرائب صغيرة لهذه الدول الثلاث، وقد ظلت هذه المساحات الواسعة بدون سكان مستقرين حتى القرن السابع عشر حينما استقرت جماعات من الفن في نورلاند، وهكذا نجد عنصر الفن واللاب يتداخل بين السويد والنرويج اللتين لم تتفقا على حدود فاصلة بينهما إلا في عام ١٧٥١، كما خططت الحدود بين النرويج وروسيا في عام ١٨٦٢.
مثل هذه المناطق الخالية كانت تعتبر لمدة طويلة أحسن وسائل الدفاع عن الدولة؛ لأن العدو يخترق الأراضي غير المواتية لمسافة طويلة قبل أن يهاجم الدولة، ومن المعروف أن بعض القادة كان يتعمد ترك مناطق خالية حاجزة، مثال ذلك أن الزعيم أتيلا طلب من بيزنطة أن تترك نطاقًا بعرض مائتي كيلومتر جنوب الدانوب خالية من السكن والزراعة، وكذلك ترك البارونات الإنجليز مساحات غير مستغلة على طول الحدود بين إنجلترا واسكتلندا لتأمين الحماية، وعلى حدود لتوانيا ترك الأمراء التيوتون نطاقات من الغابات غير المأهولة يتراوح عرضها بين مائة ومائتي كيلومتر عند منطقة ممل التي تمر فيها ثلاثة طرق محصنة بالقلاع تتجه إلى جرودنو وكوفنو وأونتلسبورج، وهذا معناه أن فرسان التيوتون الذين احتلوا لتوانيا في منتصف القرن السادس عشر قد تركوا أكثر من نصف المساحة التي احتلوها فراغًا حاجزًا لتأمين أملاكهم الجديدة ضد السلاف.
وأغرب أنواع الحدود المهجورة كانت بين الصين وكوريا، فقد طُرِد السكان من نطاق عرضه حوالي مائة كيلومتر، ودُمِّرت كل القرى والمزارع الموجودة داخل هذا النطاق، وهددت السلطات كل من يقبض عليه داخل هذا النطاق المهجور بالموت الفوري، وكانت التجارة بين الدولتين تسلك طريقًا واحدًا مصرحًا به من قبل السلطات، وزيادة في الحيطة والحذر لم يكن هذا الطريق مفتوحًا طوال العام، بل كان يُؤمر بفتحه ثلاث مرات في العام لمرور القوافل.
وفي أغلب الظروف كانت هذه المناطق المهجورة كنطاقات حاجزة بين الدول والمجتمعات البدائية تفقد قيمتها لأسباب كثيرة على رأسها حدوث غزو أو تحسين العلاقات بين الدول المتنازعة، أو اضطرار الدول والمجتمعات إلى إلغائها نتيجة للضغط السكاني الداخلي والحاجة إلى أرض وموارد جديدة، ولكن هذه المناطق كانت تتحول قبل ذلك بالتدريج إلى مأوى وملجأ للمجرمين والفارين من الدولتين المتجاورتين أو إلى مأوى للثوار على أنظمة الحكم، ومن الأمثلة الحديثة على ذلك أن المناطق غير المأهولة على طول الحدود الأمريكية المكسيكية كانت مأوى للخارجين على القانون خلال العشرات الأولى من هذا القرن، ولما استفحل أمرهم اضطرت الحكومة الأمريكية إلى تجريد حملات عسكرية واستخدام الجيش والوسائل الحربية للقضاء عليهم.
ولا شك في أن المناطق الخالية عمدًا — تلالًا أو غابات أو مستنقعات أو أراضي جيدة غير معمورة — صالحة لقيام نطاقات حاجزة بين الدول في حالة وجود مزيد من الأرض وقليل من السكان، ومع اقتصاد زراعي أو نشاطات اقتصادية أولية، ولكن مع نمو الحضارة الصناعية والنمو السكاني الحديث مع النزاعات القومية وظهور الدول القومية بأشكالها الحديثة، لم تعد الحاجة إلى هذه التخوم المهجورة قائمة، بل على العكس ظهرت الحاجة إلى مزيد من الأرض ومزيد من الموارد، ومن ثم اختفت هذه المناطق الحاجزة تمامًا من خريطة أوروبا وغيرها من الدول إلا من بقايا تاريخية قديمة كإمارات لكسمبورج وليختشتاين وأندورا ونبال، واتخذت المناطق الحاجزة وضع المناطق المحايدة في الأراضي قليلة السكان ذات الموارد المحتملة ريثما يتم اتفاق الدول على تقسيمها في ظل ظروف سياسية مواتية.
(٢-٣) المسطحات المائية والحدود السياسية
تشكل المسطحات المائية — أنهارًا وبحيرات وبحارًا — عقبات طبيعية أمام الاتصالات البرية المعتادة، ويلزم وجود وسيلة خاصة لعبورها — قوارب وسفن وجسور — وبذلك فإنها في الحقيقة نوع من أنواع الحدود الاستراتيجية المانعة، ولكن الأنهار والبحيرات مشكلات خاصة تختلف عن البحار والمحيطات، ومن ثم يجب التفريق بينهما.
(أ) الأنهار والبحيرات
منذ القدم كانت الأنهار تعد عائقًا طبيعيًّا تستقر بموازاته الحدود الاستراتيجية للدول مثل الراين قديمًا (الرومان) وحديثًا (فرنسا وألمانيا وسويسرا)، وريوجراندا بين الولايات المتحدة والمكسيك، وآمور بين الصين والاتحاد السوفيتي، والكنغو بين زائيري وجمهورية كنغو برازافيل، والزمبيزي بين روديسيا وزامبيا، وأوروجواي بين الأرجنتين من ناحية وأورجواي والبرازيل من ناحية أخرى.
وهنا يجب أن نميز بين الحدود الطبيعية والاستراتيجية، فالنهر — كمسطح مائي — عقبة استراتيجية ومن ثم يصبح حدًّا عسكريًّا ملائمًا، ولكنه ليس حدًّا طبيعيًّا في كل الحالات، ويعتمد ذلك على نوع النهر: هل يجري في سهل أو وادٍ واسع أم في منطقة وعرة أو أخدودية؟ هل هو نهر عريض هادئ أم ضيق متدفق التيار؟ هل هو دائم الجريان أم موسمي المياه؟ هل يغير مجراه أم هو ثابت المجرى؟ وعلى ضوء تحديد النهر في أجزائه المختلفة يمكننا أن نقول في النهاية هل هو حدود اتصال أم انفصال.
إن النهر في أجزائه العليا غالبًا غير صالح لتحديد خط سياسي طبيعي؛ لأنه يكون مجموعة من الروافد الصغيرة المنحدرة سريعًا والمتأثرة كثيرًا بالأمطار أو الثلوج أو الينابيع، وفوق هذا فإنه يجري فوق منطقة مرتفعة مضرسة غالبًا هي في حد ذاتها منطقة انتقال حدية واسعة، ولهذا فإن الغالب أن مسارات الأنهار في مجاريها الوسطى والدنيا — حيث يتحدد النهر في مجرى واحد — هي الأجزاء التي يمكن أن تتخذ حدودًا استراتيجية، وهي بالفعل كذلك تاريخيًّا، فالراين ليس الحد السياسي بين النمسا وسويسرا في مجراه الأعلى إلا عند قرب دخوله بحيرة بودن — كونستانزة — وبعدما ينتظم جريان مائية النهر منذ خروجه من تلك البحيرة نجده يكون في معظمه الحد التاريخي بين سويسرا وألمانيا، وبين ألمانيا وفرنسا.
والدانوب لا يكون حدًّا سياسيًّا في مجراه الأعلى، فهو لم يكن الحد الشمالي لمملكة بافاريا قديمًا، ويجري عبر المائيات الجنوبية حاليًّا، وهو يخترق شمال النمسا دون أن يصبح حدًّا سياسيًّا خارجيًّا أو إداريًّا، ويكون جزءًا من حدود المجر وتشيكوسلوفاكيا، وجزءًا آخر من حدود رومانيا من جانب ويوجسلافيا وبلغاريا من جانب آخر، وأخيرًا يكون في دلتاه جزءًا من حدود رومانيا والاتحاد السوفيتي.
وبعض الأنهار تغير مساراتها في أجزاء محددة وأخرى في أجزاء واسعة، ومن الأمثلة على ذلك أن بلدة برايزاخ القديمة — على الراين الأوسط في إقليم بادن الألماني — كانت أصلًا على الضفة اليسرى للنهر؛ أي داخل إقليم الألزاس حتى القرن السادس عشر، ثم غير النهر مجراه فأصبحت على الضفة اليمنى فدخلت بذلك في الجانب الألماني، وفيما بين سويسرا والنمسا غير الراين مجراه بعد عام ١٨٩٢، ولكن الدولتين اتفقتا على إبقاء الحدود بين البلدين على أساس المجرى القديم، وقد اتفق مؤتمر فيينا ١٨١٥ — بعد الحروب النابليونية — على اتخاذ مجاري الأنهار حدودًا، لكن أحدًا في هذا المؤتمر لم ينتبه إلى ظاهرة تغيير مجاري الأنهار. وإذا كانت هذه الحالة المقترنة بالتغيير البسيط في مجاري الأنهار، فماذا تكون الحالة لو كان الأمر يرتبط بتغيرات عديدة واسعة المدى.
كانت الحدود الأمريكية المكسيكية المرتبطة بمسار نهر ريوجراندا مشكلة من مشاكل تغير مجرى النهر، وتوضح الخريطة ١٢ جزءًا من مسار النهر عند مدينة البازو الأمريكية، وكيف تغير المجرى مرات عديدة سنوات ١٨٥٢، ١٨٨٩، ١٩٣٠، وما هذه الخريطة إلا نموذج للتغيير الذي كان يكتنف مسار النهر كله، وبطبيعة الحال كان خط الحدود يتغير مع مسار النهر ويطول أو يقصر مع كثرة الثنيات المستحدثة، ولهذا قررت الحكومة الأمريكية في عام ١٩٣٣ إنشاء هيئة لضبط فيضان ريوجواندا وتقصير المسار بحفر مجرى مستقيم عند الثنيات، وبذلك تقصر أطوال الحدود التي ثبتت في وسط المجرى العميق، وفي عام ١٩٦٣ تنازلت الولايات المتحدة عن مساحة قدرها ٤٣٧ فدانًا إلى المكسيك كانت في جنوب النهر حتى عام ١٨٦٤ ثم أصبحت شماله بعد أن غير النهر مجراه.
وإذا تصورنا أن حدًّا سياسيًّا كان يرتبط بمسار هوانجهو في شمال الصين، فإن تغير مسار النهر في مجراه الأدنى كان سيؤدي إلى كارثة سياسية؛ لأنه كان يبتعد عدة مئات من الكيلومترات في بعض السنوات عن مساره الأول (انظر الخريطة ١٥)، وقد أمكن في الوقت الحاضر ضبط مسار النهر على النحو الظاهر في الخرائط ليس تجنبًا للكوارث السياسية، وإنما للكوارث الاقتصادية والسكانية الهائلة التي كانت تحدث بصفة مستمرة.
وإلى جانب التغيرات التي تحدث في مسارات الأنهار، فإن هناك مشكلة أخطر، فالغالب أن أودية الأنهار في مساراتها الوسطى والدنيا هي مناطق عامرة بالسكان على كلا جانبي النهر، وغالبًا ما يرتبط العمران بعضه بالبعض الآخر وترتبط المصالح الاقتصادية بين سكان الضفتين، ويصبح النهر وسيلة للربط والاتصال بدلًا من الفصل، ويترتب على ذلك في غالبية الأحوال أن تصبح مناطق الأودية النهرية من عوامل تكوين حضاري اقتصادي متشابه، فإذا ما جرى الحد السياسي وسط هذه المنطقة الحضارية الواحدة فإن ذلك لمما يؤسف له.
وبرغم كل هذه العيوب نجد أن الأنهار كثيرًا ما تتخذ حدودًا سياسية من أجل الراحة والتسهيل السياسي، مثال ذلك أن القوى الاستعمارية في أفريقيا وأمريكا اللاتينية قد استخدمت الأنهار بكثرة لتحديد مناطق النفوذ؛ لأنها ظاهرات طبيعية موجودة وواضحة، ومن ثم كان يسيرًا على هذه القوى أن تتفق فيما بينها على حدود لا تخطئها العين، ولكن مثل هذه الحدود سببت كثيرًا من التفرقة بين المجتمعات فقسمتها بين نوعين من الاستعمار، كما هو الحال حينما وجد الباكونجو أنفسهم مقسمين إلى ثلاث تبعيات استعمارية: البرتغال في أنجولا وكانبدا، والبلجيكيون في زائيري الحالية، والفرنسيون في كنغو برازافيل.
ولا شك في أن مسار النهر يصبح حدًّا سياسيًّا جيدًا إذا ما تصادف أنه حد لغوي أو إتنولوجي، ولكن ذلك قليل مثل حدود البلغار والرومان على جانبي الدانوب، ولهذا تلجأ الدول التي تصل بحدودها إلى نهر ما إلى محاكاة التطور الحضاري البطيء بأسلوب سريع، ذلك هو تهجير السكان الأصليين من مواطنهم وتوطين أبناء الدولة محلهم، وبذلك يصبح مسار النهر مرتبطًا بالحد السياسي والقومي، مثال ذلك إعادة توطين الأتراك واليونانيين شرق وغرب نهر مارتيزا بعد أن هزمت تركيا في الحرب العالمية الأولى وقرر الحلفاء مد حدود اليونان في تراقيا إلى ذلك النهر، ومثل ذلك تهجير الألمان من معظم المنطقة التي تقع شرق الأودر ورافده نيسه بعد الحرب العالمية الثانية وتوسيع حدود بولندا غربًا إلى مسار هذا النهر.
وفي بعض الأحيان تتخذ البحيرات أجزاء من مسارات الحدود، وتعد سويسرا بين الدول القليلة التي تمتد أطوال كثيرة من حدودها في البحيرات: بحيرة بودن بين النمسا وسويسرا وألمانيا، بحيرة أيان بين فرنسا وسويسرا، وبحيرتا ماجوري ولوجانو بين سويسرا وإيطاليا. وتمتد الحدود الكندية الأمريكية في جزء منها بطول البحيرات العظمى كلها عدا بحيرة مشجان، وفي أفريقيا تماثل أوغندا سويسرا؛ فهناك حدودها الطويلة على بحيرة فكتوريا وبحيرتي إدوارد وألبرت. وتمتد الحدود التانزانية بأطوال كبيرة داخل بحيرات فكتوريا وتنجانيقا ونياسا، والأمثلة كثيرة في أفريقيا (تشاد – نياسا – بنجويلو … إلخ)، وبرغم أن البحيرات أصلح من الأنهار كحدود سياسية، بحكم اتساع مسطحها كما وأن معظمها يقع في مناطق جبلية وعرة، إلا أن لها مشاكلها الأخرى، فتقسيم البحيرات بين وحدات سياسية غالبًا ما يحرم الدول من القيام بأعمال هندسية كبناء السدود ورفع مستوى المياه من أجل توليد الطاقة إلا باتفاقات مسبقة، وكذلك لا يمكن استغلال الثروة السمكية أو المعدنية — إن وجدت — إلا باتفاقات مسبقة أيضًا، وفضلًا عن ذلك فإن البحيرات تكون مجالًا للتهريب — البضائع والأشخاص — لا يسهل التحكم فيه.
(ب) سواحل البحار والحدود السياسية
تشكل السواحل البحرية خطوطًا طبيعية مناسبة لامتدادات السيادة القومية للدول، ربما هي أكثر وضوحًا وتحددًا من الجبال والأنهار، فساحل البحر، ولو أنه في حد ذاته منطقة انتقالية طبيعية وليس خطًّا فاصلًا، إلا أنه في الواقع يفصل فصلًا واضحًا بين نوعين منفصلين من البيئة: اليابس الأرضي والمسطح المائي المالح، أما الجبال فهي ظاهرة تضاريسية انتقالية عريضة داخل اليابس، ولا تختلف عن اليابس في تكوينها، إنما الاختلاف يكمن في ارتفاع مناسيبها عن الأرض المحيطة بصورة تدريجية أو شبه فجائية، والأنهار مجارٍ مائية محدودة العرض تحتل مناطق ذات مناسيب منخفضة نسبيًّا عن الأرض المحيطة، وغالبًا ما يكون الانخفاض تدريجيًّا بحيث تكون أودية الأنهار نطاقات انتقالية تدريجية في الظاهرات الجغرافية الطبيعية والبشرية، أما البحار فهي تكوِّن فعلًا مناطق انقطاع تامة بين إيكولوجيتين مختلفتين تمامًا: الحياة الأرضية حيث يعيش الإنسان وتتكون الدول والقوميات، والحياة البحرية حيث لا يعيش الإنسان إلا انتقاليًّا لفترات محدودة جدًّا من العمر.
(٢-٤) مواقع البحار وعلاقتها ببساطة الحدود السياسية البحرية وتعقدها
على هذا النحو فإن سواحل البحار هي عادة حدود طبيعية طيبة، ولكن جودة مثل هذه الحدود تكمن في تناسب علاقة اليابس والبحر ونوعية البحار المطلة عليها أراضي الدول، وبذلك فإن هناك بحار اتصال وبحار انفصال.
(أ) بحار الاتصال
- (١)
البحر المتوسط الأورو أفريقي الممتد بين القارات الثلاث: أوروبا وأفريقيا وآسيا، والمتمركز في قلب العالم الحضاري القديم والأوسط، والذي يكوِّن حاليًّا مجالًا حيويًّا للحركة التجارية بين العالم الغربي وعالم الخامات والقوميات الجديدة في الشرق الأوسط وأفريقيا والمحيط الهندي، ولا نريد أن نعيد إلى الأذهان أن هذا البحر كان الطريق الأكثر أمانًا للحركة والتجارة بالقياس إلى اليابس المحيط به منذ أقدم العصور، فعلاقات مصر الفرعونية مع ساحل الليفانت وقبرص وكريت تكرَّست وازدهرت عبر مياه البحر، وكذلك كان ازدهار المدن الفينيقية والإغريقية مرتبطًا ارتباطًا عضويًّا بالبحر المتوسط، وبالمثل كانت علاقات الرومان البحرية والسياسية في البحر المتوسط الركيزة التي مكنتها من امتداد نفوذها إلى أوروبا الغربية، وكذلك كان سعي ممالك العراق القديم والفرس للوصول إلى واجهة البحر المتوسط في فينيقيا والأناضول عبارة عن استكمال للسيطرة على طريق التجارة الرئيسي برًّا (وسط آسيا وهضابها الغربية) وبحرًا (البحر المتوسط)، وبالمثل كانت الدولة الإسلامية في دمشق وبغداد والقاهرة قوى مرتبطة بشدة بعالم البحر المتوسط، شريان الاتصال الحضاري والاقتصادي في العالم آنذاك، وقد أعاد نابليون — بأفكاره الجيوبوليتيكية البارعة — الحياة إلى البحر المتوسط بحملته على مصر والشرق، بعد أن طال ركود هذا البحر بانتقال التجارة إلى المحيطات الواسعة، وأخيرًا فإن قناة السويس كان لها الفضل في إعادة ما كان لهذا البحر من أهمية سالفة، وتمثل الصراعات السياسية المعاصرة على هذا البحر أهميته كمنطقة أعمال حيوية ذات صلات واسعة مع أمم وبلاد كثيرة في العالم؛ فالصراعات الإنجليزية الفرنسية، ثم الصراعات الإنجليزية والفرنسية من جانب ضد الصراع الإيطالي الألماني من جانب آخر، وأخيرًا صراعات الكتلتين الشرقية والغربية والقوى القومية في الشرق الأوسط.
- (٢)
البحر المتوسط الآسيوي: ويتمثل هذا في مجموعة بحار جنوب شرق آسيا بين الصين الجنوبية والهند الصينية والهند من ناحية واليابس الأسترالي الشمالي من ناحية ثانية، هنا نجد عدة بحار متداخلة فيما بينها: بحر الصين الجنوبي — وخليجا تونكين وسيام — وبحر أندمان بين لسان الملايو في الشرق وجزر أندمان ونيكوبار في الغرب وساحل بورما في الشمال، ولهذا البحر امتداد كبير شديد الحيوية هو مضيق ملقا بين سومطرة والملايو، وفضلًا عن هذين البحرين هناك المسطحات البحرية العديدة الفاصلة بين جزر الهند الشرقية والتي تتخذ أسماء بحار عدة مثل بحر جاوة وبحر سلبيس وبحر مولوقا، وأخيرًا أرافورا الذي يفصل شمال أستراليا — ارتهام لاند — عن بقية الجزر.
والبحر المتوسط الآسيوي، وإن كان يختلف عن البحر المتوسط القديم في أنه يتكون أولًا من مجموعة جزرية هائلة المساحة بالنسبة لجزر البحر المتوسط القديم، وثانيًا في أنه ليس بحرًا شبه مغلق بكتل اليابس القارية، إلا أنه يشابهه في دوره الحضاري والتجاري، ولقد كان هذا البحر المعبر الذي انتقل عليه الأستراليون الأصليون إلى أستراليا أيضًا، وفي جزر هذا البحر اختلطت الحضارات والديانات الهندوكية والبوذية والإسلامية على مسرح الديانات الوثنية، وإليه أيضًا امتدت أساطيل التجارة الصينية والعربية والهندية والبرتغالية والإسبانية والهولندية والإنجليزية والفرنسية والأمريكية واليابانية في كافة مراحله التاريخية حتى اليوم (انظر الخريطة ٦).
ويختلف البحر المتوسط الآسيوي اختلافًا جوهريًّا عن البحر المتوسط القديم في أنه مصدر هام لعدد من الخامات والمنتجات السلعية الأولية منذ القدم، وبذلك كانت منطقة البحر المتوسط الآسيوي هدفًا نهائيًّا لخطوط الحركة التجارية والسياسية، وليست شريان مواصلات رئيسية كما كان البحر المتوسط الأورو أفريقي، كما يتميز بأن جزره مجال لسكن كثيف، ومحط لهجرات سكانية — الهنود والعرب قديمًا والصينيون حديثًا — ومع التنظيم الاقتصادي يمكن أن يتسع المجال العمراني في داخلية الجزر الكبرى: بورنيو وسومطرة وإيريان، وهذا عكس جزر البحر المتوسط القديم، فجزره في معظمها تكون بيئات طاردة للسكان، بينما التكاثف السكاني يحدث في جيوب صغيرة على شواطئ البحر والأودية الصغيرة المنتهية إليه من محيطه الجبلي (في أوروبا وآسيا) والصحراوي (أفريقيا وآسيا).
- (٣)
البحر المتوسط الأمريكي: هو ذلك البحر الممتد من جنوب الولايات المتحدة إلى سواحل فنزويلا وجمهوريات أمريكا الوسطى، ويشتمل على مسطحين بحريين كبيرين هما خليج المكسيك في الشمال والبحر الكاريبي في الجنوب، وهو يشابه البحر المتوسط الأورو أفريقي في أنه مغلق في الغرب بامتداد اليابس بين الأمريكتين مما دعا إلى فتحه بواسطة قناة بنما — كما حدث بالنسبة لقناة السويس — لكنه يختلف في أنه يتصل بالمحيط الأطلنطي بعشرات الفتحات الواسعة والضيقة بين جزره العديدة، فهو إذن من هذه الناحية يمثل مرحلة وسطى بين البحر المتوسط الأورو أفريقي والآسيوي، وبالمثل فإن مجموعاته الجزرية أقل ضخامة وسكانًا من جزر البحر المتوسط الآسيوي، لكنها تشكل ميزان الثقل في الاقتصاديات الأولية في هذا البحر، بالإضافة إلى مصادر البترول في فنزويلا والمكسيك وتكساس.
وفي بداية الكشوف الجغرافية والعقود الكثيرة التي تليها كان هذا البحر بسواحله كلها مسرحًا للنفوذ الإسباني، ثم تتابعت القوى الأخرى: فرنسا وهولندا وبريطانيا وأخيرًا أمريكا، وباستثناء الوجود الأمريكي الفعال فإن الوجود الإنجليزي والفرنسي والهولندي قد تحول إلى وجود رمزي في جزر صغيرة من مجموعة الأنتيل الصغرى، وإلى جانب القوميات اللاتينية المختلفة، فإن تحول دولة كوبا إلى النظام الاشتراكي قد أدخل عنصرًا جديدًا من عناصر الصراع السياسي لم يكن له وجود في هذا البحر الأمريكي قلبًا وقالبًا.
وإلى جانب هذه البحار التي تيسر الاتصال وتكوِّن طرقًا لحركة مستمرة، هناك بحار أخرى أصغر حركة في مرحلة من مراحل التاريخ مثل بحر الشمال والبلطيق والبحر الأحمر، وذلك مرتبط بظروف طبيعية مختلفة مثل اضطراب بحر الشمال المستمر ومعاداته للملاحة القديمة في أحيان كثيرة، وتجمد البلطيق في مواسم معينة، ووعورة وجدب شواطئ البحر الأحمر عامة.
أما البحار الفاصلة فهي تلك التي تشكلها المحيطات الواسعة مع استثناء جزء كبير من المحيط الهندي بين مدغشقر وشاطئ أفريقيا الشرقي والبحر العربي وخليج بنجال وجزر الهند الشرقية.
لكن الفصل والاتصال مسألة نسبية تظل مرتبطة بوجود علاقات تجارية وحركة مستمرة، فالأطلنطي الجنوبي بين شواطئ أفريقيا وأمريكا الجنوبية كان مسطحًا فاصلًا، لكنه تحول إلى مسرح حركة ملاحية كبيرة بعد الكشوف الجغرافية، وأصبحت موانئ خليج غانا وجنوب أفريقيا مزدهرة بالحركة التجارية المارة من الهند إلى أوروبا، وبعد شق قناة السويس قلَّت الحركة في هذا الجزء من المحيط، ولم تعد تعبره سوى السفن المتجهة إلى أستراليا وأفريقيا الغربية والجنوبية، ومع هذا التغير هبطت الصراعات الدولية — البرتغالية والإنجليزية والفرنسية والألمانية — في هذه البحار الجنوبية، كذلك كان الأطلنطي الشمالي «بحر الظلمات» قبل الكشوف الجغرافية، لكنه يستأثر الآن بأضخم حركة ملاحية في العالم كله وبعلاقات سياسية متشابكة ومعقدة.
وخلاصة القول أن بحار الاتصال تنتابها تيارات سياسية متشابكة: أولًا سياسات الدول القومية المطلة على تلك البحار، وثانيًا الدور المؤثر لسياسات القوى الكبرى على مصير واستراتيجية القوى في تلك البحار، وتحليل التيارات السياسية في البحار المتوسطة الثلاثة خير دليل على ذلك، فعلى سبيل المثال نجد البحر المتوسط الأورو أفريقي تنتابه التيارات السياسية التالية منذ مطلع القرن العشرين: فرنسا كانت تعتبر الحوض الغربي للبحر المتوسط بحرًا فرنسيًّا تحف به الأراضي الفرنسية من الشمال (فرنسا) والجنوب (فرنسا عبر البحار في شمال أفريقيا)، وإيطاليا تعد الحوض الأوسط كله بما في ذلك الأدرياتيك بحرًا إيطاليًّا، «وفي عهد موسوليني اعتبرت كل البحر بحيرة إيطالية لكن محك التجربة أثبت غير ذلك». وبريطانيا كانت تمارس نفوذها الفعال في شرق البحر المتوسط — مصر وفلسطين وقناة السويس — كما كانت تتحكم مفاتيح البحر الهامة في جبل طارق ومالطة.
ثم جاءت نهاية الحرب العالمية الثانية وتكوين حلف الأطلنطي الذي دخلت فيه فرنسا وإيطاليا واليونان وتركيا، وبذلك أصبح البحر المتوسط بحيرة غربية يسيطر عليها الأسطول الأمريكي السادس بالاشتراك مع الأساطيل القومية الأخرى: إيطاليا واليونان وتركيا، أما فرنسا فقد انسحبت من ذلك الحلف، ثم جاءت انتفاضات الدول العربية وحركات الاستقلال على طول الشواطئ الشرقية والجنوبية من البحر المتوسط، وحُرم الغرب من قواعد استراتيجية هامة على طول الجبهة العربية: وهران، بيزرت، طرابلس، السويس، وذلك في نفس الوقت الذي حلت فيه قوى غربية جديدة في الركن الجنوبي الشرقي: إسرائيل، وتدريجيًّا تصاعدت حدة التوتر في البحر المتوسط إلى أن أصبحت مياهه ساخنة في مواجهة غربية أمريكية وسوفيتية، وأغلقت قناة السويس، وبذلك ركدت الحركة السياسية ركودًا مؤقتًا في البحر المتوسط، ولا نعرف ماذا يمكن أن ينتهي الأمر إليه في ظل التيارات السياسية العالمية الراهنة المتجهة إلى «تبريد» المناطق الساخنة في العالم.
(ب) تغير أهمية البحار
تتغير أهمية الفصل والاتصال في البحار نتيجة السياسات المختلفة التي يتبعها القادة والزعماء، ونتيجة التغيرات التكنولوجية في أدوات الحرب البحرية، فالمياه لا تزال — وكما كانت — حاجزًا قويًّا من حواجز الحدود، ولكن السفن الحربية المزودة بالوقود الذري والقذائف الصاروخية فوق سطح الماء وتحته قد قللت كثيرًا من أهمية البحر كحد دفاعي يمكن الاعتماد عليه بصفة مطلقة، ويمكننا أن نعطي هنا مثالين: بريطانيا وأمريكا.
كثيرًا ما قيل إن موقع بريطانيا في جزرها كان عاملًا من عوامل استقرارها ونجاحها في الحروب، لكن ذلك يدحضه أن بريطانيا تعرضت مرتين لغزو عسكري وحضاري استقرا في هذه الجزر المنيعة: الغزو الروماني قبل بداية التاريخ المسيحي بقليل، والغزو النورماندي في القرن الحادي عشر الميلادي، وفي مقابل ذلك لم يتمكن كلٌّ من نابليون وهتلر من إخضاع بريطانيا، والحقيقة أنه إلى جانب ما يعطيه البحر من قوة دفاعية فإن هذه القوة تصبح قوة مانعة في حالة وجود أسطول إنجليزي قوي قادر على صد الأعداء أو جعل الغزوة أمرًا محفوفًا بالمخاطرة الجسيمة، وفي حالة فقدان الأسطول الإنجليزي فإنه يصعب لنا أن نتصور كيف تنجح بريطانيا في صد أي هجوم يقع عليها، وإلى جانب هذه الحقيقة فإن هناك عاملًا بشريًّا آخر كان يلعب دوره لحساب بريطانيا، ذلك أن بريطانيا في حربها مع نابليون لم تكن وحيدة إلا لفترة محدودة، وفي معظم العصر النابليوني كان لها حلفاؤها وخاصة إمبراطورية النمسا والمجر، فضلًا عن إنهاك موارد فرنسا العسكرية في متاهات السهول الروسية المتجمدة، والحال نفسه كان في العهد الهتلري، صحيح أن حلفاء بريطانيا سقطوا بسرعة إلا أن القوة الأمريكية الاقتصادية والسياسية والعسكرية قد دعمت بريطانيا طوال سني الحرب، فضلًا عن سقوط قوات هتلر الفعلية في حملتها الفاشلة في مساحات الاتحاد السوفيتي الشاسعة.
وإذا كانت بريطانيا جزيرة صغيرة لا يفصلها عن مكامن الخطر الأوروبية سوى شقة بحرية ضيقة، فإن الولايات المتحدة تمتلك هذه الميزة البريطانية على صورة أضخم عشرات المرات.
فالولايات المتحدة في حد ذاتها مساحة شاسعة مشحونة بموارد هائلة أولية وصناعية فضلًا عن أنها في حقيقة الأمر الآمرة الناهية في معظم أرجاء القارتين الأمريكيتين، والولايات المتحدة كدولة ذات حدود وسيادة محددة، وكقوة رئيسية في الأمريكتين معًا تمثل جزيرة ضخمة تفصلها عن أخطار أوروبا وآسيا أكبر مسطحات محيطية في العالم، وقد قبعت الولايات المتحدة في «جزيرتها» الأمريكية ردحًا طويلًا من الزمن، شاعرة بالأمان الذي توفره لها عزلتها الجزرية.
في تلك الفترة كانت الولايات المتحدة عاكفة على تدعيم نفسها اقتصاديًّا، وهي نفسها الفترة التي كان السياسيون الأمريكيون ينظرون إلى المحيط على أنه عامل دفاع لا يكاد أن يُقهر، ولكن الولايات المتحدة دخلت مرحلة اقتصادية سياسية أخرى قبيل الحرب العالمية الثانية وبعدها مباشرة حينما خرجت رءوس الأموال والاستثمارات الأمريكية إلى آسيا الشرقية وأوروبا وأفريقيا والشرق الأوسط، وفي هذه الحالة تكاثفت الحركة التجارية الأمريكية عبر البحار، وخاصة عبر الأطلنطي الشمالي إلى أوروبا والباسيفيك إلى آسيا، وهكذا لم تعد البحار الواسعة عامل فصل ودفاع، بل تحولت إلى طرق حركة للأموال والسلع والمصالح الأمريكية، وهنا فقدت أمريكا عزلتها وفقدت المحيطات التي تلفها منعتها الدفاعية، وأصبحت أمريكا ترى حدودها الآمنة في وسط أوروبا وشواطئ آسيا الشرقية والجنوبية الشرقية.
- (١)
المسطحات البحرية في حد ذاتها عائق أمام الغزو، وبذلك تكوِّن حدودًا دفاعية طيبة.
- (٢)
تعتمد جودة هذه الحدود البحرية على عدة شروط أهمها وجود قوة بحرية تدعم هذه الإمكانية الدفاعية الطبيعية.
- (٣)
تتغير إمكانات الدفاع البحرية بتغير أساليب الحرب البحرية ومبتكراتها.
- (٤)
تتغير قيمة البحار كحدود مع تغيير السياسات الاقتصادية والعلاقات الدولية التجارية.
- (٥)
الحدود البحرية المطلة على بحار اتصال وحركة أعقد وأكثر من الحدود المطلة على بحار واسعة أقل حركة، وبذلك فإن الحدود المطلة على بحار الاتصال أضعف كحدود دفاعية من النوع الثاني من الحدود.
(٢-٥) مواضع الحدود البحرية وفكرة المياه الإقليمية
رأينا كيف تؤثر مواقع البحار على جودة الحدود السياسية البحرية فتجعلها حدودًا ذات مشكلات سياسية متداخلة أو بسيطة، والآن لنبحث في موضع خط الحدود الساحلي لتحديد النفوذ السياسي الذي تمارسه الدولة على سواحلها ومياهها الإقليمية.
برغم وجود الدول القديمة في الماضي إلا أن قلة السكان عامة، وبطء وسائل المواصلات وعدم وجود أجهزة إنذار، وكون الحدود عامة — برية وبحرية — عبارة عن مناطق انتقال وليست خطوطًا فاصلة واضحة، فإن الحدود السياسية البحرية القديمة كانت في الغالب حدودًا مفتوحة أمام الغزوات البحرية المفاجئة وأمام غزوات القراصنة، ولهذا كانت وسيلة الدفاع الأولى هي ترك «شقة حرام»، بمعنى ترك أراضٍ مقفرة بين خط الساحل والمدن والعمران في الداخل كي تصبح تلك الأراضي عاملًا من عوامل إنذار السكان، ولتمكنهم من التجمع للدفاع ضد الغزوة المفاجئة، وهذه هي نفس الخطة التي لجأ إليها الناس في تخطيط حدودهم البرية، ولهذا نجد أن المدن التجارية والبحرية لم تكن تُبنَى على الشواطئ مباشرة إلا حيث تسمح الظروف الدفاعية، فروما كانت تقع على بعد ٢٠ كم من الساحل، وأثينا على مبعدة ثمانية كيلومترات، وطروادة على بعد خمسة كيلومترات من معبر الدردنيل الهام، وعلى عكس ذلك كانت صور وقرطاجة والإسكندرية وفينسيا التي كانت كلٌّ منها تتحصن وراء جزيرة قلعة، أو شبه جزيرة تحميها قلاع من الداخل والخارج، وبذلك كانت على ساحل البحر مباشرة.
ومع نمو الأساطيل البحرية السريعة ووسائل الإنذار والمواصلات الجيدة لم تعد الحاجة قائمة إلى إنشاء شقة حرام، خاصة أن ذلك يعوق التجارة البحرية، وكما تقدمت الحدود البرية عبر النطاقات الحدية الانتقالية إلى تشكيل خط سياسي واضح متفق عليه، تقدمت الحدود السياسية البحرية إلى عبر خط الساحل، وأصبحت هناك حدود سياسية تجري على مسطح الماء، واعتبرت المياه بين الحدود والساحل مياهًا إقليمية تمارس فيها الدولة سيادتها كما تفعل على اليابس.
وتاريخ المياه الإقليمية وتطورها كفكرة تطبيقية في الحدود السياسية طويل ومعقد وغير متفق عليه من كافة الدول، وتبدأ هذه الأفكار منذ القرن الثالث عشر حينما أصدرت النرويج أمرًا بمنع السفن من دخول مياه النرويج شمال ميناء برجن إلا بعد الحصول على تصريح ملكي، وكانت دوقية فينسيا تعتبر الأدرياتيك مياهًا إقليمية تابعة لها، وفي فترة الكشوف ادعت إسبانيا والبرتغال ملكية مياه المحيطات.
وعلى عكس هذه الادعاءات الواسعة أخذت الدول تنظر إلى المياه التي تحف بسواحلها على أنها مناطق سيادة للدولة، وظهرت آراء في أول عام ١٧ق.م تقول إنه لا يمكن اعتبار المسطحات البحرية ملكًا لأحد إلا في حالات الخلجان والمضايق، وفي القرن الثامن عشر ظهر رأي آخر يقول إن الادعاءات على المياه الساحلية لا يمكن تدعيمها إلا بإنشاء سلسلة من الحصون تحمي سيادة الدولة، وبذلك ظهرت فكرة تخطيط حدود المياه الإقليمية على أساس مدى قذيفة المدفع، وعلى عكس مبدأ قذيفة المدفع ظهرت فكرة أخرى ترى وجوب تحديد نطاق أو منطقة ذات عرض محدد تمارس فيها سيادة الدولة فيما يختص بالسماكة والحياد … إلخ من وظائف الدولة، وكانت الدانمرك أول من ينفذ هذا المبدأ فأعلنت حول شواطئها منطقة محايدة مساوية لمدى الرؤية بالعين عام ١٦٩١، بينما أعلن الإنجليز منطقة عرضها ١٢ ميلًا مياهًا إقليمية ١٧٣٦.
وفي ١٧٨٢ أعلن قانوني إيطالي مبدأ تحديد المياه الإقليمية بعرض ثابت في كل الدول وطالب أن يكون هذا العرض ثلاثة أميال، وقد حدد هذه الأميال الثلاثة باعتبار أنها أبعد مدى ممكن لقذيفة المدفع، كما طالب أن يكون هناك نطاق محايد وراء المياه الإقليمية بعرض مساوٍ لضعف عرض المياه الإقليمية، وفي عام ١٧٩٣ أعلنت أمريكا مبدأ إنشاء نطاق محايد في المياه بعرض ثلاثة أميال فقط، وبدأت الدول تأخذ بهذا المبدأ فيما بعد، وفي الحقيقة لم يكن هناك ارتباط فعلي بين الأميال الثلاثة وطلقة المدفع؛ لأنه حتى ١٨١٤ لم يتجاوز مدى المدفع الميل إلا بقليل.
وقد لاقى التنفيذ الفعلي لمبدأ الأميال الثلاثة صعوبات كثيرة في التنفيذ، فأولًا: هل هناك قوة تجبر كل الدول على تنفيذ هذا المدى من المياه الإقليمية، وثانيًا: هل يمكن مد سيادة الدولة على مناطق ذات أهمية أبعد من الأميال الثلاثة.
وفي عام ١٩٤٦ بدأت محكمة العدل الدولية في لاهاي العمل من أجل تشريع دولي باسم «قانون البحار»، وفرغت من عملها عام ١٩٥٦، وفي مؤتمر جنيف عام ١٩٥٨ قبلت ٨٦ دولة معظم توصيات القانون الجديد، وتظهر مشكلات المنطقة الشاطئية جلية من خلال تداخل وتعقد الظاهرات الطبيعية (انظر خريطة ١٧) وتقسم هذه المنطقة إلى: (١) نطاقات المياه الداخلية. (٢) المياه الإقليمية. (٣) المنطقة الملاصقة. (٤) منطقة الانتشار المائي والرصيف القاري.
ولا يوجد أدنى شك في سيادة الدول على مياهها الداخلية — خلجان ومصبات نهرية ومرافئ.
أما المياه الإقليمية فهي تلك التي تمارس فيها الدولة سيادة معينة، ولا يُمنَع فيها مرور سفن أجنبية لأغراض بريئة «أي مجرد المرور الذي أصبح حقًّا لكافة السفن في العالم»، أما النطاق الملاصق للمياه الإقليمية فيجوز للدولة أن تمارس فيه أشكال الرقابة التي تراها، لمنع عمليات التهريب الجمركية وتهريب الأشخاص والحماية الصحية. وباستثناء هذه الأغراض فإنه ليس للدولة حقوق أخرى على تلك المياه التي تعتبر جزءًا من أعالي البحار، حرة لكل السفن. والحدود الخارجية للمياه الملاصقة عادة «١٢» ميلًا بعيدًا عن الشاطئ، فإذا ما ادعت دولة مياهًا إقليمية بعرض ١٢ ميلًا — كما هو الحال في ادعاءات الاتحاد السوفيتي — فإنه في هذه الحالة لا توجد مياه ملاصقة لتلك المياه الإقليمية.
ولا يوجد نص في الاتفاقات الدولية على ما يُسمى بنطاق الانتشار، لكن الدولة تعمل به في حدود قوتها وإمكاناتها، وبذلك فإن لكل دولة — إذا أرادت — منطقة انتشار تحددها وتمارس فيها أعمال سيادتها بحكم الواقع وليس بحكم القانون، وهذا هو الذي يدفع بعض الدول إلى اتخاذ إجراءات القبض على السفن ومصادرتها أو التعويض عنها داخل ما تدعيه من مياه، مثل بيرو وأيسلندا.
وتوضح حالة أيسلندا ادعاءات المياه الإقليمية غير المتفق عليها في أجزاء كثيرة من العالم، ففي عام ١٩٤٤ — بعد استقلال أيسلندا — حددت الدولة خط قاعدة للساحل خارج الرءوس وأشباه الجزر، ثم مدت مياهها الإقليمية أربعة أميال ابتداء من خط القاعدة هذا، وقد احتجت بريطانيا على ذلك؛ لأنه يحرم السماكين الإنجليز من مساحة كبيرة كانوا يرتادونها باستمرار منذ وقت طويل، إلا أن المحكمة الدولية وافقت على خطوط القاعدة المستقيمة فيما اختص بالنرويج والنزاع الإنجليزي النرويجي السابق (انظر خريطة ١٨). وفي سنة ١٩٤٨ مدت أيسلندا حدود مياهها الإقليمية إلى عمق ١٢ ميلًا ورفض الإنجليز الاعتراف بذلك، وأرسلوا سفنًا حربية لحماية مراكب الصيد الإنجليزية، وقد استمر النزاع الإنجليزي الأيسلندي لمطالبة أيسلندا بمد نفوذها على مساحات أكبر من ذلك بكثير، أسوة بدول أمريكا اللاتينية، وفي شهر أكتوبر ١٩٧٣ توصلت الدولتان إلى اتفاق لحل هذا النزاع.
وكانت هناك حالة مماثلة بين أمريكا وكندا، وقد حدث اتفاق على اعتبار ستة أميال من خط القاعدة حقًّا من حقوق كندا على أن يُسمح للسفن الأمريكية بالصيد في هذه المياه لمدة عشر سنوات بعد الاتفاق حتى لا تُصاب أساطيل الصيد التي تعودت القيام بنشاطها في منطقة معينة بضربة اقتصادية مفاجئة. وخلاصة القول أن مناطق صيد الأسماك الغنية — الأطلنطي الشمالي بين النرويج وجزر فارو وأيسلندا وجرينلاند ولبرادور ونيوفوندلاند، ومنطقة الأطلنطي المغربية السنغالية، ومنطقة الباسيفيك الممتدة من أمريكا الوسطى إلى شيلي — هي مناطق نزاع دولية، ومن حق بعض الدول التي تعيش في جزء كبير من مواردها على الأسماك أن تُطالب بحماية المياه التي يتعيش منها جانب من سكانها كأيسلندا وبيرو، ولكن الادعاءات التاريخية لأساطيل الصيد الأخرى تقف عقبة أمام تنفيذ حقوق الدول، خاصة أنها دول صغيرة تقف أمام مجموعة من الدول الكبرى ذات الأساطيل المجهزة بأحدث وسائل الصيد الحديثة.
وفيما يلي بيان بالحدود التي تتبعها الدول لتحديد مياهها الإقليمية ومناطق الصيد القومية:
بعد الحد عن خط الساحل | أفريقيا | آسيا | أمريكا اللاتينية | أوروبا | أمريكا الشمالية | أوشينيا |
---|---|---|---|---|---|---|
٢٠٠ ميل | إكوادور | |||||
الأرجنتين | ||||||
أورجواي | ||||||
البرازيل | ||||||
بنما | ||||||
سلفادور | ||||||
١٣٠ ميلًا | غينيا | |||||
٢٥ ميلًا | جابون | قبرص | ||||
١٢ ميلًا | الجزائر | سوريا | المكسيك | بلغاريا | كندا | |
ليبيا | الأردن | هندوراس | رومانيا | |||
مصر | السعودية | جواتيمالا | الاتحاد السوفيتي | |||
السودان | الكويت | فنزويلا | ||||
إثيوبيا | العراق | ترنيداد | ||||
الصومال | إيران | |||||
تنزانيا | باكستان | |||||
مدغشقر | الهند | |||||
موريشس | سريلانكا | |||||
الكنغو | برما | |||||
نيجيريا | تايلاند | |||||
توجو | إندونيسيا | |||||
غانا | ||||||
داهومي | ||||||
سيراليون | ||||||
السنغال | ||||||
موريتانيا | ||||||
ليبيريا | ||||||
جمبيا | ||||||
١٠ أميال | ألبانيا | |||||
يوغوسلافيا | ||||||
٦ أميال | تونس | تركيا | هايتي | اليونان | ||
ساحل العاج | إسرائيل | الدومينكان | إيطاليا | |||
الكاميرون | ملديف | إسبانيا | ||||
جنوب أفريقيا | ||||||
٥ أميال | كمبوديا | النرويج | ||||
٤ أميال | السويد | |||||
فنلندا | ||||||
٣ أميال | كينيا | ماليزيا | كوبا | فرنسا | الولايات المتحدة | أستراليا |
فيتنام (ﺟ) | جمايكا | بريطانيا | نيوزيلندا | |||
تايوان | جويانا | بلجيكا | ||||
اليابان | كولمبيا | هولندا | ||||
شيلي | الدانمرك | |||||
أيرلندا | ||||||
بولندا | ||||||
اتباع أحكام القانون الدولي | كوستاريكا | ألمانيا (غ) |
بعد الحد عن خط الأساس | أفريقيا | آسيا | أمريكا اللاتينية | أوروبا | أمريكا الشمالية | أوشينيا |
---|---|---|---|---|---|---|
٢٠٠ ميل | كوريا (ﺟ) | نيكاراجوا | ||||
بيرو | ||||||
شيلي | ||||||
١٨ ميلًا | السنغال | |||||
١٢ ميلًا | المغرب | تركيا | المكسيك | إيطاليا | الولايات المتحدة | أستراليا |
تونس | الدومينكان | إسبانيا | نيوزيلندا | |||
ساحل العاج | كولمبيا | البرتغال | ||||
نيجيريا | فرنسا | |||||
جنوب أفريقيا | بلجيكا | |||||
هولندا | ||||||
ألمانيا (غ) | ||||||
الدانمرك | ||||||
بولندا | ||||||
السويد | ||||||
النرويج | ||||||
بريطانيا | ||||||
أيرلندا | ||||||
أيسلندا | ||||||
٦ أميال | لبنان |
وإلى جانب مشكلات المياه الإقليمية والنشاطات الاقتصادية المختلفة تظهر مشكلة المياه الإقليمية أيضًا بين الحين والحين في حق مرور السفن الحربية، خاصة خلال فترات الحروب، وتحتدم هذه المشكلة في مناطق المضايق مثل البسفور والدردنيل (تركيا والاتحاد السوفيتي)، ومضايق ثيران (بين الدول العربية وإسرائيل)، والاتفاق العام هو أن من حق الدول في حالة الحرب منع السفن الحربية أو التجارية المعادية من المرور في المضايق التي تدخل ضمن المياه الإقليمية، لكن تنفيذ كافة الحقوق كان دائمًا مشروطًا بالقوة التي تمكن أو تحول دون تنفيذ هذه الحقوق.
(٢-٦) الأهمية بالنسبة للواجهات البحرية للدول
لكل دولة أوضاعها الخاصة الناجمة عن علاقات الموقع والمكان، وعلاقاتها السياسية الدولية؛ مما يؤدي إلى تغاير زمني واضح في القيمة النسبية للواجهات البحرية لكل دولة على حدة، وهذا بطبيعة الحال إلى جانب عوامل أخرى أسلفنا قولها مثل نوع البحار التي تطل عليها الدول، فضلًا عن الأهمية المجردة لوجود واجهة بحرية من أي حجم للدول المختلفة، وهذا أمر ليس تحقيقه سهلًا على كل دولة.
وفي الحقيقة تنبع الأهمية النسبية للسواحل من علاقات الدولة السياسية، وبما أن هذه العلاقات ليست ثابتة زمنيًّا، فإن أهمية السواحل تختلف من عصر إلى آخر، وبنفس قوة تأثير العلاقات السياسية نجد الظروف الجغرافية عاملًا آخر من عوامل تحديد الأهمية النسبية للواجهات البحرية، ونعني بالظروف الجغرافية هنا تكامل التفاعلات الجغرافية من طبيعة الشاطئ وطبيعة خلفيته بالنسبة للتفاعلات السكانية والاقتصادية والتجارية، وبذلك فإن الأهمية النسبية للواجهات البحرية يمكن أن تصبح ذات قيمة ثابتة غير متغيرة بفعل أشكال الشاطئ الطبيعية وخلفيته التضاريسية والمناخية والإيكولوجية، ولكن تفاعلات المظاهر البشرية الجغرافية — عمران ونشاطات اقتصادية متغيرة وخطوط مواصلات — بحكم تغايرها زمانيًّا تؤدي بدورها إلى إحداث أنواع من التغيير في بعض الأشكال الثابتة للمظاهر الطبيعية الشاطئية في صورة شتى الأعمال الهندسية التي تقام في مناطق المستنقعات واللاجونات والشطوط الرملية والسواحل المفتوحة أمام تأثيرات البحر المختلفة من أجل بناء الموانئ الصناعية.
إذن إن أهمية الجبهات البحرية للدول أو الدولة الواحدة تتغير حسب ظروف بشرية بحتة: العلاقات السياسية واتجاهات الدولة في سياساتها الخارجية والاقتصادية والتجارية من ناحية، ونتيجة تغير خلفية السواحل عمرانيًّا واقتصاديًّا من ناحية ثانية.
- أولًا: برزت الجبهة الجنوبية بروزًا واضحًا في خلال العصور القديمة حتى انتهاء العصر الروماني بحكم أن العلاقات البحرية والتجارية كانت أكثف ما يكون في البحر المتوسط خلال تلك العصور التاريخية المبكرة، وفي خلال العصر الروماني أيضًا برزت أهمية الساحل الشمالي لفترة لا بأس بطولها إبان الحكم الروماني لبريطانيا، بينما كانت الجبهة الغربية غير ذات أهمية واضحة.
- ثانيًا: في خلال العصر النورماني كانت الأهمية النسبية للسواحل الشمالية المواجهة لبريطانيا على أكبر جانب من الأهمية بعد أن تقسمت فرنسا إلى دويلات وإمارات صغيرة — القرن الحادي عشر — وكذلك نتيجة لحرب المائة سنة (١٣٣٨–١٤٥٣) بين إنجلترا وفرنسا.
- ثالثًا: تلا ذلك تدعيم آخر للجبهة الساحلية الشمالية والغربية خلال القرن الثامن عشر بعد إنشاء الإمبراطورية الفرنسية في أمريكا الشمالية: كندا ولويزيانا (فقدت فرنسا كندا لصالح بريطانيا في ١٧٦٣) وأملاكها في البحر الكاريبي وغيانا (ما زالتا تحت الحكم الفرنسي).
- رابعًا: ابتداء من ١٨٣٠ — احتلال الجزائر — بدأت الجبهة المتوسطية الفرنسية تصبح عاملًا فعالًا في التعبير عن اهتمامات فرنسا بإمبراطورية جديدة في أفريقيا الشمالية والغربية، وقد زادت أهمية هذه الجبهة بعد فتح قناة السويس؛ إذ أصبح البحر المتوسط معبرًا بحريًّا هامًّا لتجارات العالم المداري في المحيط الهندي الآسيوي الأفريقي.
وبعد أن تقلصت فرنسا عبر البحار إلى مناطق محدودة جدًّا — الممتلكات الفرنسية في الكاريبي والصومال الفرنسي وبعض جزائر الباسيفيكي الجنوبي — فإننا نرى كل جبهاتها البحرية الثلاث تعمل فيما يشبه التوازن النسبي، ولم يعد هناك ثقل سياسي معين يدعو إلى زيادة في أهمية جبهة عن أخرى، ولكن برغم ذلك فإن موقع الجبهات الثلاث يعمل دوره في رفع قيمة واحدة عن الأخرى، هذا فضلًا عن التأثيرات السياسية النابعة عن تكوين مقدمات الاتحاد الأوروبي وإنشاء السوق الأوروبية.
وعلى هذا فإن الواجهة الشمالية الفرنسية أصبحت تقع على ممر الملاحة الأعظم أهمية بين أوروبا الغربية وأمريكا عبر الأطلنطي الشمالي، وخلفيتها الصناعية ابتداء من السين ونورماندي تجعلها امتدادًا لأضخم امتداد صناعي أوروبي غربي — شمال فرنسا وبلجيكا وهولندا وغرب ألمانيا الاتحادية — أما الواجهة المتوسطية فقد أصبحت منفذًا بحريًّا عظيم القيمة، ليس لفرنسا فحسب، وإنما للتكتل الاقتصادي الأوروبي القاري — فيما عدا إيطاليا — وذلك عبر وادي الرون إلى الراين، فمرسيليا بحكم موقعها الجنوبي هي ميناء هام لكثير من المنتجات المدارية الأفريقية التي يُعاد تصديرها بحرًا إلى أمريكا وبرًّا إلى بقية أوروبا، وهي في الوقت نفسه الميناء الهام الذي يستقبل بترول شمال أفريقيا والشرق الأوسط، والغاز الأرضي من شمال أفريقيا، أما الواجهة الغربية فإنها أقل أهمية بالقياس إلى سابقتيها، وإن كانت بدورها حيوية لبعض أشكال التجارة، خاصة وأن خلفيتها الزراعية تؤهلها لذلك.
وبالمثل نجد أن الأهمية النسبية لسواحل الولايات المتحدة الثلاثة كانت متغيرة زمانيًّا، فالساحل الشرقي كان وما زال أكثر هذه السواحل قيمة للدولة الأمريكية بحكم وقوعه على الأطلنطي الشمالي في مواجهة أوروبا، وبحكم خلفيته المتعددة الأنشطة الاقتصادية، وكان الساحل الجنوبي المطل على خليج المكسيك ذا أهمية خاصة بالنسبة لتجارة الأوليات الزراعية، ثم زادت قيمته بما ينتجه من بترول، وبالأهمية السياسية التي تعلقها الولايات المتحدة على علاقاتها السياسية بأمريكا الوسطى وقناة بنما، وكان الساحل الغربي أقل هذه السواحل أهمية إلى أن بدأت الولايات المتحدة عبور الباسيفيك إلى هاواي والفلبين وشرق آسيا، وزادت هذه الأهمية بصورة واضحة نتيجة العلاقات السياسية والجيوبوليتيكية الأمريكية مع اليابان وجنوب شرق آسيا وأستراليا، وكثافة التجارة الأمريكية اليابانية وبالعكس عبر مياه الباسيفيك الشاسعة.
وقد كان لواجهة السويد على البلطيق أهمية خاصة عندما توسعت مملكة السويد عبر البلطيق إلى فنلندا وسواحل البلطيق الشرقية والجنوبية الشرقية حتى القرن السابع عشر، وبعد تلك الفترة بدأ عهد التوجيه الغربي إلى بحر الشمال، وأنشئ ميناء جوتبورج الذي يحتل المكانة الأولى بين موانئ السويد تعبيرًا عن أهمية الساحل الغربي بالنسبة لسواحل الدولة، وبالمثل انتقلت أهمية السواحل الألمانية من البلطيق إلى الامتداد الساحلي القصير على ركن بحر الشمال عند مصبات الألب والفيزر تبعًا لاتساع رقعة الدولة من مجرد مملكة شرقية (بروسيا) إلى دولة اتحادية (ألمانيا قبل الحربين العالميتين)، والأمثلة بذلك كثيرة على تأثير التوجيه السياسي والتجاري للدول على أقدر جبهاتها الساحلية المختلفة.
وتؤثر الأشكال الطبيعية للشواطئ وخلفيتها بدورها تأثيرًا شبه ثابت على الأهمية النسبية للواجهة أو الواجهات البحرية للدولة، وتتعدد هنا العوامل الطبيعية التي تتضافر على تقليل أهمية الواجهة البحرية للدولة، فالتضاريس العنيفة للشواطئ ومناطقها الخلفية وإن كانت حاجزًا دفاعيًّا طيبًا، إلا أنها تحدد أشكال النشاط الاقتصادي والعمران بصورة تجعل من المنطقة وإقليمها نطاق عزلة قليل الأهمية باستثناء جيوب صغيرة ينحت فيها الإنسان لنفسه موطئ عمران ونشاط محدود، ومن الأمثلة الواضحة على ذلك غالبية شواطئ النرويج وأيسلندا وما شابههما من سواحل الفيوردات في ألاسكا وغرب كندا وجرينلاند وتيرا دلفويجو وشيلي الجنوبية (وساحل دلماشيا اليوجسلافي بصورة مخففة).
وحينما تشترك الظروف المناخية المعادية للسكن البشري — البرودة الشديدة وأقاليم الجفاف — مع أشكال التضاريس الوعرة، تصبح قيمة السواحل قليلة جدًّا، مثال ذلك سواحل خليج العقبة ومعظم سواحل البحر الأحمر، أو سواحل الجزيرة الجنوبية من نيوزيلندا، وعلى نحو آخر تقل أهمية السواحل في مناطق اللاجونات — المستنقعات الساحلية — والسواحل المتميزة بالشطوط الرملية، «السيرف» (الأمواج العالية المتكسرة على الشواطئ أبدًا) مثل سواحل غرب أفريقيا.
وبرغم أن هذه الظروف الطبيعية قوية التأثير فإن ظهور الموارد الاقتصادية من أي نوع يؤدي بالإنسان إلى إقامة منشآت مكلفة لتصحيح المعالم الطبيعية موضعيًّا، وتشهد على ذلك سكة حديد كيرونا-نارفيك لتصدير خام الحديد السويدي عبر جبال وفيوردات النرويج، وسكة حديد لبرادور (شيفرفيل-ست ايل، جانيون-بوركارتيه) والطرق البرية المصرية على طول ساحل البحر الأحمر وإلى وادي النيل (خامات معدنية وبترول)، والطريق بين إيلات وساحل البحر المتوسط في إسرائيل، ومجموعة الطرق الحديدية في موانئ غرب أفريقيا الصناعية إلى مناطق الإنتاج الأولية الزراعية والتعدينية.
وعلى هذا فإن اشتراك العوامل الطبيعية والبشرية يؤثر بطرق مختلفة على أقدار الشواطئ وقيمتها الفعلية، فالشاطئ الشرقي للولايات المتحدة يمكن أن يقسم إلى قسمين: الشمالي والجنوبي، والقسم الشمالي أصلح طبيعيًّا لقيام المرافئ وخلفيته واسعة تمتد إلى حوض سنت لورنس الكندي — شتاء — والأمريكي، بما في ذلك منطقة البحيرات العظمى الأمريكية ومنطقة بنسلفانيا الفحمية، وكلها خلفية متنوعة الموارد التعدينية والصناعية، كما أنها أقل صلاحية من الناحية الطبيعية لقيام الموانئ «لكثرة المستنقعات والرءوس الرملية»، وخلفيته — برغم امتدادها السهلي الواسع — أقل تنوعًا في المواد الصناعية ومرتبطة بالموارد الأولية والزراعية بصفة عامة، ومن ثم تظهر في القسم الشمالي موانئ عديدة لامعة كثيفة الحركة عالية الأهمية — على رأسها نيويورك وبوسطن ونيوآرك — بينما لا تتردد أسماء الموانئ الجنوبية إلا في حالات خاصة «مثل نورفولك وتشارلزتون وسفانا».
والأهمية النسبية للسواحل المصرية الطويلة محدودة القيمة بسبب الوعورة والجفاف والمستنقعات إلا في مناطق محدودة بأكيومين ضيق — موارد تعدينية وبترولية — وتقتصر المناطق المهمة من السواحل المصرية على منطقتي خليج قناة السويس والإسكندرية اللتين تنفتحان طبيعيًّا على الأكيومين المصري الرئيسي في الدلتا، وحيث تتنوع الموارد الأولية والصناعية، وبالمثل فإن السواحل الكندية هائلة الطول قليلة الأهمية إلا في منطقتين محدودتين هما مصب سنت لورنس — خلال الصيف فقط — وفيوردات منطقة فانكوفر الغربية، والأمر نفسه ينطبق على السواحل السوفيتية الطويلة، والتي لا تظهر قيمتها إلا في نقاط محدودة بصفة دائمة (مورمانسك والبلطيق والأسود وبحر اليابان)، أو بصفة مؤقتة (شتاء على طول خط الملاحة الشمالي من مورمانسك إلى كمتشكا وفلاديفوستوك).
- (١)
المبدأ السياسي الاستراتيجي: فصل العالم العربي إلى أرضين واتخاذ اللسان البري الفاصل قاعدة انطلاق توسعية، أو على الأقل قاعدة انطلاق مؤثرة بشتى الوسائل على المناطق المحيطة.
- (٢)
مبدأ تعدد الواجهات البحرية الذي هو في حقيقته أمر صحي للدول سياسيًّا واستراتيجيًّا.
- (٣)
المبدأ الاقتصادي الذي يجعل من إيلات نهاية جسر لاحتمالات وإمكانات تجارية مستقبلية مع عالم المحيط الهندي الأفرو آسيوي: بترول وماس وخامات أولية وتجارة مصنعات صادرة وواردة.
ولا شك في أن بلغاريا كان يمكن أن تصبح في مركز أقوى فيما لو استبقت لها منفذًا على بحر إيجه، وكانت بولندا دائمًا في موقف ضعيف — فترة ما بين الحربين العالميتين — إلى أن حصلت على واجهة بحرية طويلة نسبيًّا على البلطيق، وجمهورية زائيري — الكنغو كنشاسا سابقًا — في مركز ضعيف اقتصاديًّا وعسكريًّا بسبب ضيق جبهتها البحرية ضيقًا متناهيًا بالقياس إلى مساحتها الضخمة، ويضطرها ذلك إلى الاعتماد على موانئ تسيطر عليها البرتغال في أنجولا بدرجة كبيرة، وميناء دار السلام التنزاني بدرجة أقل.
وبرغم صغر الواجهات البحرية لبعض الدول إلا أنها ما زالت أحسن حالًا من الدول الداخلية المحبوسة بجيرانها، خاصة إذا لم تكن علاقات الجيران طيبة أو تسوء في فترة من الفترات، فسويسرا والنمسا وتشيكوسلوفاكيا والمجر أمثلة طيبة من أوروبا على الدول المعتمدة اعتمادًا ضروريًّا على علاقات حسن الجوار، وجمهورية مالي وجدت نفسها في مأزق حينما ساد العداء علاقاتها بالسنغال، واضطرت إلى ترك الطريق الجغرافي المفتوح عبر السنغال والالتجاء إلى طريق مكلف وعر وموسمي إلى منفذ في ميناء كوناكري — جمهورية غينيا. وتواجه زامبيا مأزقًا أشد وأنكى، فهناك حكومتان معاديتان تعترضان طريقها الحديدي الحالي إلى البحر: حكومة البيض في روديسيا وحكومة الاستعمار البرتغالي في موزمبيق، وقد اضطرها ذلك إلى اللجوء إلى طريق طويل وشاق وغير طبيعي عبر مساحتها الشمالية الشرقية الخالية من السكان أو تكاد، وعبر تنزانيا كلها حتى تصل إلى ميناء دار السلام، وقد احتاج الأمر إلى إنشاء طريق بري مكلف وخط أنابيب بترولية مكلف أيضًا، وهي بسبيل إتمام خط حديدي أشد تكلفة، فما أصعب المواقف التي تتكامل فيها العوائق الطبيعية والحرمان من واجهة بحرية مع العداء السياسي، وما أشد تأثيره على الحياة الطبيعية للدول!
(٣) الحدود والظاهرات البشرية
اتضح من الدراسة السابقة أن الحدود إنما هي حواجز اصطناعية يقوم الإنسان بتحديدها وزحزحتها حسب الظروف الزمانية وعلاقات القوى القومية والدولية، وكما أنه كانت هناك دعاوى تؤكد ضرورة وصول القوميات والدول إلى حدود طبيعية — وهي التي يقال إن ريشيليو كان مبتدعها — فإن هناك دعاوى أخرى تطالب باتفاق الحدود السياسية بحدود بشرية مختلفة كالسلالة واللغة والحضارة والدين.
وقد تكون هذه الدعاوى أقرب إلى المنطق من دعاوى الحدود المرتبطة بالظاهرات الطبيعية، فحيث إن الحدود السياسية تحدد أراضي وأملاكًا قومية معينة فمنطقي أن تضم — أو تسعى لضم — كل أبناء هذه القومية داخل حدود واحدة من أجل إعطاء توازن حقيقي للدولة مبني على تجانس أفراد الرعية «قدر الإمكان».
- (١)
أن توحيد أبناء قومية واحدة «متجانسة سلاليًّا أو لغويًّا أو حضاريًّا أو اقتصاديًّا» لا يتم إلا بواسطة صراع سياسي وعسكري تعكس نتيجته القوة المنتصرة، وفي هذه الحالة لا نجد رادعًا حقيقيًّا أمام أطماع المنتصر، فهو لا يلجأ فقط إلى محاولة ضم أبناء قوميته التي كانت توجد خارج حدوده، بل إن الانتصار يثمله فيلجأ إلى شتى التبريرات للاستحواذ على مزيد من الأرض على حساب غيره، فيلجأ إلى خلفية تاريخية قد ترجع إلى عقود أو قرون أو آلاف مؤلفة من السنين، كما يلجأ إلى مبدأ تأمين حدوده الجديدة بالاستيلاء على أراضٍ خارجة عن ادعائه السابق، وهو في أضعف الحالات يطلب نزع سلاح شقة حرام على طول الجبهة المواجهة لحدود ادعاءاته السياسية الجديدة، وفي حالات أخرى يعطي لنفسه وصاية على الدولة المهزومة، وفي أقصى الحالات يفتت وحدة الدولة المهزومة أو يحتلها كلها إذا أمكنه ذلك.
والشواهد على هذه الاتجاهات عديدة ولا تدع للشك مجالًا؛ فألمانيا النازية طالبت بحدود قومية: احتلت النمسا عسكريًّا فيما أسمته «بتوحيد الأوصال Anschluss» في عام ١٩٣٨، وفي السنة ذاتها ضم الألمان إقليم السوديت التشيكوسلوفاكي وتدريجيًّا سقطت جمهورية تشيكوسلوفاكيا في صورة حكومتين ألمانية في بوهيميا وسلوفاكية موالية لألمانيا في سلوفاكيا، وفي خلال الحكم النازي من بدايته كانت مشكلات الأقليات الألمانية في بولندا وفرنسا والدانمرك وبلجيكا هي مثار الإعداد للحرب وقيامها، هذا طبعًا بالإضافة إلى عوامل أخرى كثيرة على رأسها الطبيعة العدوانية للحزب والنظرية النازية، والرغبة في حل مشكلات ألمانيا الاقتصادية على المستوى المحلي والدولي بتنازعها مع كبار محتكري العالم آنذاك: بريطانيا وفرنسا.وبعد سقوط ألمانيا في الحربين العالميتين قطعت كثيرًا من وحدتها الأرضية بواسطة الحلفاء المنتصرين، وخاصة حينما قسمت بقية ألمانيا بعد عام ١٩٤٥ إلى دولتين أصبحتا بحكم الأمر الواقع — والآن شرعيًّا — دولتين معترفًا بهما من غالبية المجتمع الدولي فضلًا عن اعتراف كلٍّ من هاتين الدولتين الألمانيتين ببعضهما.
والقضية الفلسطينية شاهد آخر من عالمنا على استحالة تطبيق مبدأ الحدود القومية، فمنذ بداية هذا القرن والحركة الصهيونية تسعى لإيجاد وطن قومي لليهود، وباستدعاء سند تاريخي متناهي القدم حصلت هذه الحركة على ما عُرف باسم وعد بلفور عام ١٩١٧ — لا نريد أن ندخل في تفصيلات الجهود الصهيونية والخدمات التي قدمتها للحلفاء، ولا الأسباب التي دعت بريطانيا لإصدار مثل هذا التصريح، إنما الهدف هنا وجود تسلسل الأحداث للاستدلال على ضعف الحجج النظرية الداعية إلى كافة أشكال الحدود السياسية البشرية. وحتى عام ١٩٤٨ أصبح لليهود وجود عددي لا بأس به ووجود سياسي تنظيمي عسكري قوي في فلسطين، وفي تلك السنة اعترف المجتمع الدولي المؤثر بقيام إسرائيل التي تخطت حدودًا خطتها لها الأمم المتحدة في اقتسام فلسطين بدعوى الانتصار في حرب ما بين الهدنتين، ووضع اليد على أراضٍ أخرى كان أهمها استراتيجيًّا النقب، وبذلك تحقق تكامل أرضي لإسرائيل وتمزق أرضي لفلسطين العربية، وفي عام ١٩٥٦ حققت إسرائيل مكسبًا حيويًّا هو حرية المرور في مضيق تيران، وبذلك بدأ نزاع قانوني على المياه الإقليمية، وفي عام ١٩٦٧ حققت إسرائيل اتساعًا أرضيًّا شاسعًا بالنسبة لها مؤسسًا على مبدأ الحدود الآمنة، وبطبيعة الحال فإن الصراع العربي الإسرائيلي قد اتسم منذ البداية بعنصرين متلازمين: أولهما قوة إسرائيل العسكرية المتزايدة وضعف الالتقاءات العربية مما مكن إسرائيل من إيجاد الحجج الواهية التي تصحب عادة القوة العسكرية المنتصرة، وثانيهما أن صراع هذه المنطقة لم يكن صراعًا محليًّا فقط، بل لا يزال صراعًا تشارك فيه القوى الدولية المؤثرة مشاركات مختلفة الأحجام ومتغيرة في القدر والنوع برغم قصر فترة النزاع العربي الإسرائيلي، فقد اشترك المعسكران الغربي والشرقي في دعم إسرائيل عند ولادتها، ثم ظهر تأثير القوى الغربية أكثر فعالية ودعمًا ووصل إلى قمته بالاتفاق الثلاثي الإنجليزي الفرنسي الإسرائيلي في عام ١٩٥٦، ولا ينفي ذلك استمرار الدعم الأمريكي، لكن الدعم الأوروبي الغربي كان ستارًا مريحًا لأمريكا «خاصة دور ألمانيا الغربية في فترة ما بعد عام ١٩٥٦»، وبعد عام ١٩٥٦ مباشرة ظهرت تفاعلات الكتلتين الغربية والشرقية على مسرح الشرق الأوسط، لكنها لم تطفُ على السطح إلا بعد عام ١٩٦٧، حينما توارت أو قلت أهمية الدعم الأوروبي الغربي — خاصة فرنسا — وبدا كما لو أن الصدام هو مباشرة بين أمريكا والسوفيت أو هكذا تصور العالم، وأيًّا كانت أو تكون حقائق الأمور فإن ما يهمنا هنا تقرير حقيقة القوة — بغض النظر عن مصدرها المحلي والدولي — في ادعاءات الحدود.
- (٢)
وبما أن الظاهرات البشرية متغيرة وليست ثابتة مثل الظاهرات الطبيعية ثباتًا نسبيًّا، فإن الحدود التي تسعى للالتزام بالظاهرات البشرية هي حدود مؤقتة زمانًا وتتغير بتغير تلك الظاهرات.
السلالة مفهوم كثير الظهور في العلاقات السياسية، ويعترف العلماء أن السلالة في حدود وقوالب جامدة لا وجود لها، وإنما هي عبارة عن ظاهرة انتقالية بحتة لعدد من الصفات المورفولوجية والوراثية، فالعنصرية الآرية كانت تصف الآري النقي بصفات محددة مثل الشقرة وطول القامة، ولكن أشد دعاة العنصرية في التطبيق — أدولف هتلر — لم يكن آري الصفات، والأفكار العنصرية الخاصة بالنقاء اليهودي يدحضه الاختلاف الشاسع مثلًا في مورفولوجية الأنف عند يهود روسيا وألمانيا وفرنسا ويهود المغرب والشرق الأوسط والحبشة واليهود السود في أمريكا، وإذا كان هذا حال الاختلاط السلالي داخل المجموعة القوقازية فإن الحال ليس أيسر في نطاقات الاحتكاك بين السلالات الرئيسية الكبرى، فإذا أخذنا عاملًا واحدًا للتفريق السلالي — كاللون مثلًا — فإنه قد يمكننا أن نميز نطاقًا انتقاليًّا بين الزنوج والقوقازيين في أفريقيا، ومع ذلك نجد مجموعات قوقازية وزنجانية متوغلة جنوب وشمال هذا النطاق الانتقالي، وبما أن السلالة لا تقوم على معامل تفريق واحد فإنه يتضح لنا بجلاء أن السلالة هي عنصر غير علمي، وأنها على أحسن الفروض تجمعات انتقالية لصفات بشرية، في صورة نطاقات مماثلة لنطاقات الجبال وغيرها من المظاهر الطبيعية، وبذلك فإن السلالة لا يمكن أن تعطي خطًّا محدودًا لرسم حد سياسي.
وقد تكون اللغة أحسن حالًا من السلالة في التحديد القومي، لكن اللغات في تصنيفها التفصيلي تتكون من لهجات مختلفة، وأن اللهجات اللغوية المتاخمة لحدود لغوية تغزوها بكثرة مفردات واستخدامات لغوية مشتركة من اللغتين، حال ذلك اللهجتان الألزاسية واللوترنجية اللتان تتداخل فيهما الألمانية والفرنسية، وتختلف اللهجة الوالونية عن الفرنسية بتأثير جرماني أيضًا، واللهجات الألمانية في مناطق التيرول المنعزلة تتداخل مع الرومانشية واللاتينية العتيقة، وفي شرق العراق تداخل لغوي عربي فارسي تركماني كردي، وقس على هذا كثير في أوروبا الشرقية وآسيا وأفريقيا.
ومثل هذا، بل وعلى نطاق أعقد، نجد تداخل الأديان والطوائف بحيث تصبح مناطق بأكملها نطاقات انتقالية، وتشهد على ذلك منطقة الجبال الالتوائية في شرق البحر المتوسط حيث تتواجد الأديان الثلاثة الكبرى، وتتعقد تداخلاتها وطوائفها تعقدًا يهدم من الجذور أفكار الدولة والدين، لدرجة أن إسرائيل — إحدى الدول القليلة التي قامت على فكرة الانتماء الديني — تتداخل فيها الديانات الثلاثة وطوائفها تداخلًا كبيرًا، وذلك برغم تهجير وإخلاء مناطق واسعة لأرباب اليهودية فقط.
وخلاصة القول أن الحدود الإتنولوجية — سلالية أو لغوية أو دينية — لا وجود لها في صورة خطوط فاصلة إلا في أضيق الحدود، ولا تظهر إلا بمعاونة عوازل جغرافية مانعة، وإنما تظهر في الغالبية الساحقة من الأحوال في صورة نطاقات انتقالية متراوحة الاتساع والضيق، وأن هذه النطاقات الانتقالية تحدد مساحات أرضية تسود فيها نسبة لا بأس بها من التجانس الديني، ونسبة أعلى من التجانس اللغوي.
- (٣)
هذا التجانس الإتنولوجي النسبي لا يظل ثابت الوجود، بل يتغير تدريجيًّا وزمانيًّا نتيجة تفاعلات داخلية وخارجية، مثال ذلك انتشار البروتستانتية بأشكالها المختلفة على مسرح الكاثوليكية في ألمانيا أو بريطانيا، وقد كان هذا الانتشار تلقائيًّا داخليًّا أحيانًا وبتأييد القوى السياسية في أحيان أخرى، وانتشار اللغة العربية اختلف كثيرًا عن انتشار الديانة الإسلامية، وكلاهما حدث متزامن ومصدرهما واحد.
ولا شك في أن اتجاه الظاهرات الإتنولوجية عامة هي إلى الانتشار والتفاعل لأن الإنسان — حامل الصفات الإتنولوجية — عنصر دائم الحركة، ولكن لا شك أيضًا في أن الاتجاه إلى تجميد الظاهرات الإتنولوجية في قوالب مكانية في سطح الأرض راجع إلى التعمد الإنساني في صورته كمجتمع سياسي، وقد كان للقومية — وخاصة نموها السريع المتعصب في أوروبا منذ بضعة قرون — فعل واضح الأثر في تجميع الصفة الانتشارية الطبيعية في الظاهرات الإتنولوجية، وقد استخدمت أدوات عديدة لهذا التجميد: تعليم اللغة وانتشار لهجة مركز السيادة فيها على حساب اللهجات الأخرى بواسطة الأدب الرسمي على حساب الأدب الشعبي، نشر المشاعر القومية ووصولها إلى قمة التركيز الرمزي في صورة الأنشودة القومية والراية وإجبار الأقليات على الاندماج حضاريًّا أو الهجرة السلمية أو التعسفية، وفوق هذا كله رسم حدود سياسية هي خطوط فاصلة بين القوميات عامة، وبين المصالح الاقتصادية خاصة.
وبرغم ضخامة هذه الأسوار ومتانة قلاعها، أو الخطوط العسكرية الحديثة وما تقتضيه من شتى أشكال الأبنية والدشم والتحصينات والخنادق المتوغلة في عمق الأرض، برغم كل ذلك فإن مهمة أسوار التجميد هذه لا تخدم إلا فترة زمنية محدودة، وسرعان ما تنهار أمام الحركة البشرية التي تصر دائمًا على اقتحام العقبات التي تقف أمام خطوط الحركة الحرة بالمعنى المادي (غزو أو هجرة أو ارتباط اقتصادي اجتماعي)، وبالمعنى المعنوي (أيديولوجيات وأفكار وأنظمة حكم وغير ذلك) فقد غزا المغول الصين وحكموها برغم السور العظيم، واجتاحت القبائل الجرمانية أسوار الرومان والعوائق الطبيعية (الألب ونهر الراين)، وأنهوا حكم أكبر إمبراطورية قديمة من إمبراطوريات البحر المتوسط، وهزم الألمان فرنسا برغم خط ماجينو، وهزم الحلفاء ألمانيا برغم تحصينات سيجفريد، وفي كل مرة تنتهي موجة الغزو بإحداث تغييرات عميقة في الدولة المغلوبة على أمرها، وأحدث أشكال التغيرات العميقة هو ظهور توحد أفكار أوروبا الغربية في شتى المجالات بعد أن مزقتها الحروب المدمرة وفرقتها حدود سياسية قومية جامدة (١٨٧٠، ١٩١٤، ١٩٣٩).
(٤) الحدود السياسية في التطبيق
مهما كانت الأدلة التي تستند إليها الأفكار المحبذة للحدود في أن تخطط بالارتباط بالظاهرات الطبيعية أو البشرية، وأيًّا كان منطقها النابع من شواهد وأمثلة، إلا أن كل حد سياسي هو حد جيد أو فاشل بالنظر إلى الظروف والأوضاع الجغرافية والسياسية القائمة، وبهذا يمكن أن يتحول الحد المعين من الجودة والهدوء إلى الفشل نتيجة الضغوط البشرية المختلفة، ويؤدي ذلك بنا إلى الاعتراف بأنه لا توجد قاعدة واحدة سليمة يمكن تطبيقها في حالتين مختلفتين مكانًا أو زمانًا، ناهيك بانطباق قاعدة أو عدة قواعد على كافة الحدود السياسية، وإذن التعميم أمر خاطئ يتولد عنه الكثير من الأخطاء في علاقات الدول والجيران، ولكن مع ذلك يمكننا أن نرى — حتى الآن — عاملًا واحدًا يمكن تعميمه على تخطيط الحدود، ذلك العامل العام هو فرض الحد السياسي بالقوة المباشرة أو تحت ضغط القوة في غالبية الأحوال، ويمكن أن نضيف إلى ذلك عنصر التحكيم الدولي في أحيان أخرى، فقد اتسعت حدود الولايات المتحدة على حساب المكسيك بحكم القوة، وانكمشت حدود الاتحاد السوفيتي بعد الحرب العالمية الأولى بتأثير القوة، واتسعت هذه الحدود مرة أخرى بعد الحرب العالمية الثانية وفوز الحلفاء والسوفيت، وانكمشت حدود ألمانيا مرتين بعد الحربين العالميتين أيضًا بحكم القوة وفرض الأمر الواقع.
ويستوي الأمر في اتخاذ حدود تسير مع الظاهرات الطبيعية أو البشرية مع وجود عامل القوة والأمر الواقع كعنصر مؤثر في المواقف السياسية، وبعبارة أخرى فإن الحدود المسماة طبيعية أو إتنولوجية قد أثبتت المرة تلو الأخرى أنها حدود فاشلة طالما أن هناك عوامل أخرى — استراتيجية أو اقتصادية أو توسعية — تلعب دورًا ظاهرًا، أو يظل دورها كامنًا إلى أن تأتيه الفرصة ليتحرك على سطح الأحداث لتتغير الحدود.
وهناك أمثلة عديدة نذكر منها حالة رومانيا، فبعد نهاية الحرب العالمية الأولى رأت لجان تخطيط الحدود في البلقان، والمعاهدات الدولية التي أقرت دول البلقان الجديدة، أن تتبع الظاهرات الطبيعية لتخطيط حدود رومانيا الجديدة، في الجانب البلغاري واليوجسلافي، اتخذ مسار الدانوب حدودًا لرومانيا مع مد خط الحدود إلى البحر الأسود في اتجاه مشابه لمسار الدانوب، وبذلك اقتطع الحد السياسي الجديد البلغار في إقليم دبروجا وأدخلهم الأراضي الرومانية، وامتدت الحدود الرومانية عبر القسم الشرقي من سهل المجر فضمت بذلك إقليمًا كبيرًا يسكنه المجريون في ترانسلفانيا وعبرت الحدود جبال الكربات لتمتد بموازاة نهر الدينستر وتقتطع بذلك إقليم بسارابيا من الاتحاد السوفيتي، وفي عام ١٩٤٠ أحدث الألمان تغيرات جوهرية في حدود رومانيا، فضموا دبروجا الجنوبية لبلغاريا، وجزءًا كبيرًا من ترانسلفانيا للمجر، وكان هذا التعديل قائمًا على محاولة تخطيط حدود إتنولوجية، وفيما بعد الحرب الثانية ظلت دبروجا ملكًا لبلغاريا وأعيدت ترانسلفانيا إلى رومانيا واقتُطِع منها إقليم بسارابيا الذي أعيد إلى الاتحاد السوفيتي (يكون الآن جمهورية مولدافيا السوفيتية)، وكذلك ضُمَّ شمال إقليم بوكوفينا إلى الاتحاد السوفيتي، ومعنى ذلك أن أسسًا طبيعية (الأنهار) وإتنولوجية (حدود لغوية وحضارية بين السلاف والرومان) قد اتُّخِذت في إعادة تخطيط رومانيا، ومع ذلك ظلت مشكلة المجريين الموجودين في ترانسلفانيا دون حل، بحيث يكونون الآن أقلية داخل رومانيا، وعلى هذا النسق نجد كافة التغيرات التي انتابت البلقان مرتبطة بالقوى السياسية التي تلتزم أحيانًا بمظاهر طبيعية وأحيانًا أخرى بمظاهر بشرية حسبما يتفق ذلك مع المصالح التي تلعب دورها وقت تخطيط الحدود، وتوضح الخريطة ١٩ هذه الحقائق بما لا يدع مجالًا للشك.
وتوضح الخريطة ٢٠ تقسيم إمبراطورية النمسا والمجر بعد نهاية الحرب العالمية الأولى، وتكوين دول جديدة كبولندا وتشيكوسلوفاكيا وإضافات إقليمية واسعة إلى دول صغيرة كرومانيا والصرب (يوغوسلافيا).
- (١)
حدود النمسا وألمانيا تسير بمحاذاة السفوح الشمالية لجبال الألب.
- (٢)
حدود النمسا وإيطاليا تسير بمحاذاة السفوح الجنوبية لجبال الألب الدينارية الشمالية في إقليم جورتزيا، وبذلك فإن القسم الغربي من النمسا كان عبارة عن إقليم الألب الجبلي الأوسط والشرقي في صورة إقليم انتقالي فاصل بين سهول لمبارديا الإيطالية في الجنوب ومقدمات الألب الشمالية في بافاريا الألمانية، وبعبارة أخرى كانت النمسا تكون التخوم الفاصلة بين المجموعة الحضارية اللغوية اللاتينية (إيطاليا) والمجموعة الجرمانية (ألمانيا والنمسا).
- (٣)
حدود الإمبراطورية الفاصلة بين ألمانيا وإقليم بوهيميا (تشيكوسلوفاكيا الغربية حاليًّا) كانت تسير مع خطوط مرتفعات واضحة: جبال غابة بوهيميا وغابة بافاريا شمالي مسار الدانوب، وجبال فيختل والأرتز بين بوهيميا الغربية والشمالية وإقليم سكسونيا الألماني، وجبال إقليم السوديت الشرقي الفاصلة بين بوهيميا ومورافيا وبين إقليم سيليزيا الألماني.
- (٤)
امتدت حدود الإمبراطورية عبر جبال الكربات إلى سهول بولندا الجنوبية وهضابها القليلة الارتفاع، بعد تقسيم بولندا بين النمسا وألمانيا وروسيا.
- (٥)
التزمت الحدود النمساوية الروسية بجبال الكربات كحاجز بين إقليم روتينيا وسهول أوكرانيا.
- (٦)
التزمت الحدود النمساوية بامتداد الكربات وجبال ترانسلفانيا كفاصل بينهما وبين دولة رومانيا التي كانت تحتل سهول والاشيا المنحصرة بين الدانوب وجبال ترانسلفانيا.
- (٧)
ابتداء من البوابة الحديدية على الدانوب — الخانق الذي يعبره الدانوب بين جبال ترانسلفانيا وجبال البلقان — اتبعت الحدود النمساوية مسار الدانوب حتى قرب التقائه بإقليم البوسنة الجبلي، وبذلك كانت الحدود فاصلًا بين سهول المجر العظمى وبين هضاب الصرب الوسطى والجنوبية.
- (٨)
امتدت الحدود الإمبراطورية فوق إقليم البوسنة والهرسك الذي كان تابعًا من قبل للدولة العثمانية، وانتهت الحدود على ساحل دلماشيا عند حدود إمارة الجبل الأسود، وبذلك كانت الإمبراطورية دولة من دول البحر المتوسط بحكم جبهتها البحرية على الأدرياتيك، لكن أهمية هذا الساحل كانت تكمن في المنطقة الشمالية منه حيث ميناءا تريستا وفيومي.
- (١)
الجرمان الذين يكونون شعب النمسا، وكانوا السادة والحكام.
- (٢)
المجريون الذين يسكنون سهول المجر الكبرى ويكونون مجموعة حضارية متماسكة وصلبة، وقد أدت ثوراتهم المتكررة في النهاية إلى إشراكهم في حكم الإمبراطورية التي أعطيت اسمًا مزدوجًا تعبيرًا عن المشاركة، وكان ذلك عام ١٨٦٧، لكن في الحقيقة ظل النمساويون الحكام الفعليين لكافة أرجاء الدولة، بينما كان المجريون حكامًا محليين لجزء من الدولة، تمامًا كما نقول بريطانيا العظمى واسكتلندا، وعلى هذا النحو يفسر القانونيون الوضع الدستوري بأن الإمبراطورية لم تكن تتكون من النمسا والمجر، وإنما كانت تتشكل من المجر وأراضٍ أخرى، بعبارة أخرى ظلت الأوضاع غير متكافئة بين أكبر مجموعتين حضاريتين داخل الإمبراطورية مما كان يدعو الكثيرين إلى إعطائها أسماء مختلفة تجنبًا للوقوع في المشكلات القانونية، وكان من بين هذه الأسماء «مملكة الهابسبورج» (البيت المالك النمساوي)، أو «مملكة الدوناو» (الطونة أو الدانوب)، أو «المملكة المزدوجة» (بعد ١٨٦٧).
- (٣)
المجموعات السلافية الحضارية كانت كثيرة لكنها متفرقة: السلاف الغربيون (يتشكلون من مجموعة البولونيين والسلوفاكيين والتشك)، السلاف الجنوبيون (يتألفون من السلوفينيين والكرواتيين والصرب) بالإضافة إلى مجموعات حضارية أخرى تحتل مناطق العزلة الجبلية في البوسنة والهرسك وساحل دلماشيا.
- (١)
أعطيت المجموعة الجرمانية حدودها في النمسا الحالية.
- (٢)
أعطيت معظم المجموعة المجرية حدودها الحالية.
- (٣)
ضُمَّ البولونيون في جاليسيا إلى بقية البولونيين لتكوين دولة بولندا الجديدة.
- (٤)
ضم التشك والسلوفاك لتكوين تشيكوسلوفاكيا التي ظهرت لأول مرة على مسرح التاريخ كدولة.
- (٥)
ضم كل السلاف الجنوبيين إلى الصرب لتكوين دولة يوغوسلافيا.
- (٦)
ضمت ترانسلفانيا وبوكوفينا بمن فيها من مجر وألمان إلى رومانيا.
- (١)
اقتُطِع الجرمان النمساويون في التيرول الجنوبي وضُمُّوا إلى إيطاليا مما أثار مشكلات طويلة بين النمسا وإيطاليا ما زالت آثارها قائمة حتى الآن برغم التسوية التي صنعها هتلر وموسوليني.
- (٢)
ضم كل جرمان السوديت في جبال السوديت والأرتز وغابة بوهيميا داخل تشيكوسلوفاكيا مما أثار المشكلات مع ألمانيا النازية، وكان من مسببات تصفية دولة تشيكوسلوفاكيا بين ١٩٣٨–١٩٤٤ (احتلال السوديت وبوهيميا، وإقامة حكومة موالية للألمان في سلوفاكيا، وضم جنوب سلوفاكيا وروتينيا للمجر).
- (٣)
ضم ترانسلفانيا كلها لرومانيا أثار مشكلة الأقلية المجرية الكبيرة من قسمها الشمالي والغربي، مما أدى إلى اقتطاعها وإعطائها للمجر خلال الحكم النازي.
- (٤)
ضم بعض المجريين في شمال يوغوسلافيا أدى إلى اقتطاع هذا الجزء خلال الحكم النازي أيضًا، هذا التعمد في مد حدود القوميات الجديدة على حساب أقليات غير متجانسة كان سببه الأساسي هو علاقات الدول خلال الحرب العالمية الأولى، فإمبراطورية النمسا والمجر كانت ضالعة مع ألمانيا في الحرب ضد الحلفاء؛ ولهذا نالها هذا التجزيء الكبير، كذلك وقع على المجريين غرم كبير بتقطيع أجزاء من حدودهم الإثنية وإعطائها للدول المجاورة — تشيكوسلوفاكيا ورومانيا ويوغوسلافيا — باعتبار أن المجر شريكة في الحرب ضد الحلفاء، وقد كان الجرمان السوديت جزءًا من إمبراطورية جرمانية، وحينما أنشئت تشيكوسلوفاكيا كان من الصعب على الحلفاء إعطاء السوديت إلى ألمانيا بحكم أنها دولة منهزمة، وكان من الصعب إعطاء هذا الإقليم للنمسا بحكم أنها منهزمة أيضًا، وبحكم الشكل الهلالي الذي يشكل إقليم السوديت حول حوض بوهيميا، وفي الوقت ذاته فإن إبقاء السوديت داخل تشيكوسلوفاكيا يعطي هذه الدولة حدودًا طبيعية جبلية في مواجهة ألمانيا.
وهكذا فإن الحدود الإتنولوجية لم تؤدِّ وظيفتها مثلما فشلت الحدود الطبيعية؛ وذلك لأن هذا النوع أو ذلك من الحدود قد فُرض عمدًا لأسباب أخرى تتعلق بالمواقف الدولية.
-
أولًا: الفترة بين ١٩١٢ و١٩٣٩ (شملت حوالي عشرة
ملايين شخص).
- (١) حرب البلقان ١٩١٢-١٩١٣ (بين تركيا واليونان
حول مقدونيا وتراقيا).
عدد الأشخاص الذين هاجروا (بالآلاف) المجموع ٨٩٠ يونانيون ٤٢٥ أتراك ٤٠٠ بلغار ٦٥ - (٢) الحرب اليونانية التركية بعد الحرب العالمية
الأولى وطرد اليونان من منطقة أزمير التركية، توقيع
اتفاقية ١٩٢٣ لتبادل السكان وتهجيرهم، استيلاء
اليونان على تراقيا الشرقية البلغارية بعد الحرب
الأولى مباشرة:
عدد الأشخاص (بالآلاف) المجموع ٢١٨٠ يونانيون ١٤٥٠ أتراك ٤٨٠ بلغار ٢٥٠ - (٣) سقوط الدول الوسطى — ألمانيا وحليفاتها — في
الحرب العالمية الأولى ترتب عليه:
مجموع الأشخاص الذين شُرِّدوا وهُجِّروا وتبودلوا في تلك الفترة: ٩١٥٠ (أ) تهجير الألمان من مناطق خرجت عن حدود ألمانيا: من المنطقة الشرقية ٨٠٠ ١٢٣٠ من سلزفيج الشمالية ٣٠٠ من الألزاس واللورين ١٣٠ (ب) بولنديون عائدون إلى بولندا ٩٠٠ ١٦٠٠ (ﺟ) فرنسيون عائدون إلى فرنسا ٥٠ (د) مجريون عائدون إلى المجر ٤٠٠ (ﻫ) رومانيون عائدون إلى رومانيا ٢٥٠ (و) إعادة توطين بولنديين وسكان الدول البلطية الجديدة من الاتحاد السوفيتي ١٠٠٠ ٢٠٠٠ (ز) إعادة توطين روس داخل الاتحاد السوفيتي أو خارجه ١٠٠٠ (ﺣ) هاربون من الدول الفاشية من ألمانيا ٤٠٠ ٧٨٠ من إسبانيا ٢٠٠ من إيطاليا ١٨٠
- (١) حرب البلقان ١٩١٢-١٩١٣ (بين تركيا واليونان
حول مقدونيا وتراقيا).
-
ثانيًا: فترة الحرب العالمية الثانية ١٩٣٩–١٩٤٥ (شملت
حوالي ٢٧ مليون شخص).
مجموع الأشخاص الذين أعيد توطينهم وتهجيرهم في تلك الفترة ٢٦٦٥٠ (١) الألمان الذين أخلوا مساكنهم نتيجة الحرب الجوية ١٩٧٠ ٢٣٧٠ ألمان الفولجا الذين هجرهم السوفيت إلى سيبيريا ٤٠٠ (٢) تبادل السكان بين فنلندا والاتحاد السوفيتي بعد تعديل الحدود: روس ٤٠٠ ٨٨٠ فنلنديون ٤٨٠ (٣) تقسيم بولندا في ١٩٣٩ بين ألمانيا والاتحاد السوفيتي أدى إلى تهجير: بولنديون ٣٥٠٠ ٣٧٠٠ ومن سكان البلطيق ٢٠٠ (٤) التغيرات السياسية التي أحدثها النازي في أوروبا الشرقية أعادت توطين: رومانيون ٣٢٥ ١٢٠٠ صرب ٣٠٠ مجيار ٢٢٥ بلغار ١٨٥ يونان ٩٠ كروات ٧٥ (٥) عمال أجانب وهاربون إلى ألمانيا من دول أوروبا الغربية: ٣٠٠٠ ٨٠٠٠ من روسيا وأوكرانيا ٢٥٠٠ من بولندا ٢٠٠٠ من بلقان وشرق أوروبا ٥٠٠ (٦) تقدير عدد اليهود الذين أجبرهم النازي على الهجرة من ألمانيا وفرنسا وهولندا وبلجيكا والمجر وبولندا … إلخ. ١٥٠٠ ١٥٠٠ -
ثالثًا: فترة ما بعد الحرب ١٩٤٥–١٩٥١ (شملت حوالي ٢٦
مليون شخص).
مجموع الأشخاص الذين أعيد توطينهم وتهجيرهم في تلك الفترة: ٢٦٤٥٠ (١) الألمان المطرودون من مناطق الاحتلال بعد الحرب ١٢٥٠٠ ١٤٠٧٥ الألمان الذين فروا من ألمانيا الشرقية إلى الغربية ١٥٠٠ ترحيل ألمان من رومانيا إلى الاتحاد السوفيتي ١٩٤٥ / ١٩٤٦ ٧٥ (٢) لاجئون من دول البلطيق إلى أوروبا الغربية ٣٠٠ ٦٠٠ إعادة توطين في منطقة البلطيق السوفيتية ٣٠٠ (٣) توطين السوفيت في جمهوريات البلطيق وبروسيا الشرقية وبولندا الشرقية ٢٣٠٠ ٣٥٧٥ إعادة توطين أوكرانيين ١٢٧٥ (٤) توطين بولنديين في المنطقة الألمانية سابقًا (شرقي الأودر) ٤٧٠٠ ٤٧٠٠ (٥) توطين التشيكيين في منطقة السوديت ١٩٢٠ ٢١٢٠ تبادل المجريين والسلوفاك بين الدولتين (مائة ألف لكلٍّ منهما) ٢٠٠ (٦) تبادل المجريين والصرب (٤٠ ألفًا لكلٍّ منهما) ٨٠ ٨٠ (٧) توطين رومانيين محل ألمان زيبنبورج في ترانسلفانيا ٢٠٠ ٢٠٠ (٨) طرد الإيطاليين من منطقة إيستريا بعد ضمها ليوغوسلافيا ١٤٠ ١٤٠ (٩) تبادل الأتراك والبلغار ٢٥٠ ٢٥٠
وتوضح هذه الأرقام أنه في خلال ٤٠ سنة من تغيرات الحدود في أوروبا الشرقية والوسطى حدث تبادل للسكان وطرد وتهجير ٦٣ مليونًا من البشر، كما تعطينا (خريطة ٢١) صورة فعلية لتغيرات الحدود المتكررة في أوروبا الوسطى والشرقية والشمالية خلال أقل من نصف قرن، وهي صورة تعبر عن فداحة الخسائر التي تحدث لمجرد نقل الحدود والناس من ديار اعتادوها فترة من الزمن، فضلًا عن فداحة الخسائر التي يمنى بها البشر من تخريب ودمار وقتل لخيرة الناس خلال الحروب، هذه الحقائق كلها — بغض النظر عن التغيرات الاقتصادية الناجمة عن تغير الحدود وتهيئة الدول لاتجاهات جديدة في مواقعها الجديدة — تعبِّر كلها عن عدم ثبات الدولة القومية، وأن الضغوط السياسية الاقتصادية الداخلية والخارجية تفرض بالقوة حدودًا تعتبرها مناسبة لمصالحها الاقتصادية والاستراتيجية بغض النظر عن التزام الحدود بظاهرات طبيعية أو إتنولوجية.
(٥) الحدود الهندسية ومشكلات الدول الجديدة
ومن المشكلات التي تثيرها عمليات تخطيط الحدود تلك الخطوط الهندسية التعسفية — سواء كانت فلكية أو غير فلكية — التي اتبعت في تعيين مناطق النفوذ الاستعمارية في فترة تبرعم الاستعمار أو نمو دول جديدة داخل مناطق المستعمرات السابقة، والأمثلة على الحدود الهندسية كثيرة، والولايات المتحدة على رأس قائمة دول تشتد فيها هذه الظاهرة التعسفية، فالجانب الغربي من حدود أمريكا وكندا — خط عرض ٤٩ شمالًا — وحدود أمريكا والمكسيك حدود فلكية وهندسية على التوالي، وحدود الولايات في داخل أمريكا غالبيتها الساحقة خطوط فلكية وهندسية معًا، ولو تصورنا أن هذه الولايات كانت دولًا مستقلة فإن ذلك كان يعطينا على الفور عظم الخسائر الناجمة عن مثل هذا التقسيم المفتعل، والحال نفسه ينطبق على حدود ألاسكا وكندا — خط طول ١٥١ غربًا — وحدود الولايات والأقاليم الكندية باستثناء خط تقسيم المياه في حدود يوكن وكولمبيا، ونهر أوتاوا بين أونتاريو وكويبك.
والعالم العربي مليء بالحدود الهندسية: فهناك خط ٢٢ شمالًا بين مصر والسودان وخط ٢٥ شرقًا بين مصر وليبيا، وأطوال من الخطوط الهندسية تحد سوريا والعراق والأردن والسعودية وليبيا والسودان والصحراء الجزائرية وموريتانيا والصحراء الإسبانية، ولا تخرج هذه الحدود عن أشكالها الهندسية إلا في مناطق العمران والنطاقات الاستراتيجية مثل حدود الجزائر مع تونس، أو حدود اليمن مع عسير السعودية، بينما تختفي خطوط الحدود تمامًا في مناطق اللامعمور مثل الحدود اليمنية السعودية وغيرها كثير.
وفي أفريقيا مجموعة من الخطوط الهندسية تتكامل مع مجموعة من خط الحدود الملتزمة بالأنهار أو بعض خطوط تقسيم المياه، وهذه أو تلك قطعت الاتصال بين أبناء مجموعة حضارية واحدة مثل الزاندي بين السودان وزائيري، والبقارة بين السودان وتشاد، والباكونجو بين زائيري والكنغو — برازافيل — وأنجولا وكابندا — البرتغاليتين — وقبائل الأيوي بين غانا وتوجو، وعشرات الأمثلة الأخرى في غالبية الدول الأفريقية.
- (١)
في إبان الحكم الاستعماري تتضافر حكومات الاستعمار على سياسة إقرار الأمن، وقمع كل المشاعر القبلية التي تظهر بين الحين والآخر، وتركز على تأمين مناطق الحدود حيث تتصل القبائل ببعضها أو حيث تظهر عشائر متقاربة لغويًّا وأسطوريًّا، وهكذا تقوم حكومات الاستعمار في المستعمرات المتجاورة بتأمين الحدود المشتركة من الجانبين للمحافظة على «السلام الاستعماري».
- (٢)
في خلال الحكم الاستعماري تربط المستعمرة داخل حدودها التعسفية بعجلة الاقتصاد الرئيسية للدولة صاحبة المستعمرة، ويصبح هناك حد أدنى من النمو الاقتصادي خارج الحدود المرسومة بواسطة قوى الاستعمار، ومن ثم لا توجد مشكلات اقتصادية تضغط على المستعمرة في اتجاه التكامل الأرضي صوب المستعمرات المجاورة، ويؤمن هذا التوازن الاقتصادي مع احتياجات القوى الاستعمارية أن وسائل الحركة والاتصال الحديدية والبرية والنهرية توجه كلها من داخلية المستعمرة إلى موانئها، وتبتعد عن الارتباط بشبكة الحركة في الدولة أو المستعمرة المجاورة.
- (٣)
حينما تحصل المستعمرات على استقلالها فإنها تصبح دولة داخل الحدود التعسفية التي رسمت إبان العهد الاستعماري، وبخروج القوى الاستعمارية المتضافرة في حماية الأمن وقمع مشاكل الأقليات على الحدود، فإن أوضاع الأقليات والقبائل المقتسمة بواسطة الحدود القومية الجديدة تصبح متفجرة وفي حاجة إلى ممارسات دبلوماسية كثيرة ودقيقة لمعالجة مثل هذه المواقف، لكن لم تحل الدبلوماسية الهادئة غالبية هذه المشاكل: ففي الصومال استعرت الحرب والاشتباكات الدموية مع إثيوبيا من أجل تعديل خط الحدود الذي يفصل قسمًا من الصوماليين داخل حدود إثيوبيا، ومشكلة الأيوي — سكان توجو — ما زالت مكمن خطر ونزاع مستقبلي بين توجو وغانا، وذلك برغم ضم الأيوي نهائيًّا إلى دولة غانا، وقد حل الاستفتاء مشكلة تقسيم الكاميرون الإنجليزية بين طرفي النزاع: نيجيريا (حصلت على القسم الشمالي) والكاميرون (حصلت على القسم الجنوبي)، وفي أفريقيا مشكلات أخرى كامنة ويمكن أن تتفجر إذا تأزم الموقف لأية أسباب.
- (٤)
الأشكال الاقتصادية للدول الجديدة في المستعمرات السابقة أصبحت تقسم — على الأقل نظريًّا — برغبة ملحة وأكيدة في التقدم والتنمية القومية، لكن يعوق هذه التنمية التوجيه السابق لخطوط الحركة في اتجاه الموانئ الاستعمارية الرئيسية من ناحية، وارتباطها بعجلة الاقتصاد الاستعماري السابق من ناحية ثانية، وقد أدى هذا إلى تنافس شديد بين الدول المستقلة الجديدة التي تنتج محاصيل أو خامات أولية متشابهة مما يضعف طاقة هذه الدول في رفع أسعار صادراتها، وفي الوقت نفسه نجد أن اقتطاع الحدود التعسفية للأقاليم التي يمكن أن تتكامل اقتصاديًّا يؤدي إلى مزيد من الضعف ومزيد من التنافس بدل التكامل.
- (٥)
ومما يزيد من حدة التناقض الاقتصادي أن الدول الجديدة — بدلًا من التكامل الإقليمي — وقعت في مزيد من التنافس بارتباطاتها مع التكتلات الاقتصادية التي نشأت مؤخرًا في دول أوروبا الاستعمارية السابقة، فمجموعة الدول التي كانت فيما سبق مستعمرات فرنسية وقعت في حوزة الاقتصاد الفرنسي وتكتل السوق الأوروبية، ومجموعة المستعمرات الإنجليزية السابقة وقعت ضمن اتفاقات الكومنولث البريطاني اقتصاديًّا وسياسيًّا، ولسنا نعرف ما سيؤدي إليه دخول بريطانيا كتلة السوق الأوروبية إلى مزيد من الضعف في موقف الدول الأفريقية عامة — سواء منها تلك التي كانت مستعمرات فرنسية أو إنجليزية — بحكم وقوعها كلها ضمن دائرة نفوذ اقتصادية واحدة تشمل كل أوروبا الغربية، ومما يشهد على ضراوة الروابط الاقتصادية بين القوى الأوروبية والدول الأفريقية الجديدة أن دولة غينيا التي اختارت الخروج من المجموعة الفرنسية عقب حصولها على الاستقلال مباشرة تعاني موقفًا متجمدًا في صورة حرب اقتصادية باردة ومتعمدة شنتها عليها فرنسا.
وخلاصة القول أن الحدود التعسفية في مناطق المستعمرات السابقة الذكر قد أدت إلى مشكلات عديدة: مشكلات حدود وأقليات، ومشكلة تنمية اقتصادية عاجزة عن التقدم دون موافقة رءوس الأموال الغربية (مثل مشكلة تمويل سد الفولتا في غانا التي تحولت إلى قضية سياسية اقتصادية أودت بحكومة نكروما)، وبالتالي فإن الدول الجديدة وجدت نفسها في مأزق حرج: حدودها غير منطقية وتحمل في طياتها مشكلات كامنة أو متفجرة، ومصالحها القومية الاقتصادية مفروض عليها وصايات مختلفة خارجية، والمفروض أن تعمل هذه الدول في إطار قومي متعارض تمامًا مع ما هو كائن من تناقضات ضد تكامل هذا الإطار القومي.
وقد اقترح بعض الزعماء الأفريقيين للخروج من هذا التناقض بين كيان الدولة كما يجب أن تكون، وبين إطاراتها الحدية المفتعلة والمشحونة بالمشكلات، وجذورها الاقتصادية المتنافسة والمناهضة لجوهر التنمية القومية الاقتصادية الاجتماعية؛ اقترحوا صيغًا مختلفة للتكاملات الإقليمية في صورة وحدات سياسية كبرى أو ائتلافات إقليمية في صور سياسية أو إدارية أو تجمعات اقتصادية، لكن مثل هذه الآراء كانت سابقة لأوانها تاريخيًّا؛ لأن (١) الكثير من القادة الجدد كانت تربطهم بالقوى الاستعمارية مصالح مشتركة، أو (٢) أن القادة الجدد غير المرتبطين أحكم رباطهم فيما بعد أو أزيلوا من الوجود عندما كانوا يتخذون مواقف متصلبة وحل محلهم قادة مرنين. وتشهد على الحالة الأولى حكومة نيجيريا التي أعقبت الاستقلال وقبل أن تطيح بها ثورة الأيبو والثورة المضادة لها، فقد كانت الحكومة الاتحادية النيجيرية، وحكومات الأقاليم الثلاثة تتكون من كبار الملاك والمساهمين في النشاطات الاقتصادية، فضلًا عن كونهم أعضاء مجتمعات وعشائر الرئاسات التقليدية، ويشهد على الحالة الثانية إزاحة لومومبا من الحكم عقب استقلال زائيري — كنغو كنشاسا سابقًا — وتولي حكومات مرنة القيادة مثل حكومة سيريل أدولا، أو حكومات منحازة للقوى الاستعمارية مثل حكومة مويس تشومبي.
وفي الحالات التي تم فيها ائتلاف إقليمي مثل اتحاد مالي — مالي والسنغال — فإن القوى الاستعمارية قد ساعدت على تفكيكه فيما بعد مستغلة عدم وجود قومية ناضجة، بل على العكس تفرق في الولاء بين القبيلة والتجمع الحضاري واللغوي والولاء غير المفهوم لنظام الدولة الحديثة، ومشكلة تعدد الولاء بين المجتمع المحلي والدولة الجديدة من المشكلات الكبيرة التي تواجه الدول الأفريقية وتزيد من ضعف وجودها، فالدولة في غالبية أفريقيا المدارية ليست متجانسة قوميًّا، وهي تكاد أن تكون إطارًا سياسيًّا خارجيًّا يحدد مساحة من الأرض تسكنها مجموعة من الأقليات (التجمعات القبلية واللغوية)، ولا يوجد فيها — إلا في أحوال قليلة — مجموعة حضارية سائدة عدديًّا ومنتشرة مكانيًّا، وهناك حالات متعارضة كثيرة نذكر منها حالة السودان وزائيري، ففي السودان توجد عدة مجموعات حضارية، لكن تسودها المجموعة الشمالية والوسطى المتكونة من العرب المسلمين، بينما في الجنوب هناك عدة مجتمعات حضارية مختلفة لغة ونظامًا سياسيًّا سلفيًّا ودينًا — اختلاط إسلامي وكاثوليكي وبروتستانتي على خلفية وثنية قوية وسائدة — ومن ثم فإن السودان قد تلون بلون المجموعة الحضارية الكبيرة، وينعكس ذلك في تمركز الحكم في الخرطوم العربية، وارتباط السودان بجامعة الدول العربية، ويؤيد ذلك كله خلفية تاريخية من الحكم العربي ابتداء من عام ١٥٠٤، وتركز النشاط الاقتصادي الحديث والمكون لعصب الدولة السودانية في داخل النطاق العربي الأوسط، وقد شعر الجنوبيون — من تلقائهم ونتيجة إيعازات خارجية وأخطاء داخلية — بدور صغير في حياة السودان القومية؛ ومن ثم جاءت ثورتهم الطويلة «بمساعدات خارجية»، والتي وجدت لها مؤخرًا حلًّا مقبولًا في صورة شكل من الحكم الذاتي أنهى هذا الموقف المتأزم.
أما في زائيري فإنه توجد عشرات من المجتمعات الحضارية المتكافئة قوة وانتشارًا، وإن كان يبرز من بينها الباكونجو في الغرب والبانجالا في الشرق والبالوبا واللوندا في كاتنجا والجنوب الشرقي واللنجالا في الشمال، ومن ثم فإن الحكم المركزي — ما لم يكن قويًّا — سوف يواجه ظهور النزاعات الاستقلالية على السطح في مكان أو آخر من هذه المساحة الشاسعة، ويجب أن نضيف إلى ذلك أن القوى الأجنبية لها دورها الفعال في الإبقاء على تكامل زائيري الإقليمي أو إثارة الحركات الثورية الانفصالية متى كان هذا أو ذاك مناسبًا لمصالحها.
وبالمثل كان موقف باكستان الشرقية — بنجلاديش — والغربية متأزمًا برغم رابطة الدين، فقد كان كل شيء يعاكس الوحدة: عدم تكامل أرضي ولغات مختلفة واتجاهات اقتصادية مختلفة وسيطرة الغربيين على الحكم واستئثارهم به في كل باكستان، وإلى جانب هذه الدوافع للانفصال جاء دور الهند التي لا تريد أن تكون جارتها وشريكتها في شبه القارة الهندية دولة كبيرة قوية، مما كان له أكبر الأثر في الإسراع بتفكيك دولة باكستان إلى دولتين.
(٦) الحدود السياسية والقوى القومية والتكتلات الإقليمية
إذا عدنا إلى ما سبق أن ذكرناه من أن التصنيف النوعي يقسم الحدود إلى حدود الاتصال وحدود الانفصال، فإننا نرى أن هذا التقسيم ينطبق على كافة أشكال الحدود في أزمنة مختلفة، ففي عهود السلام يمكن أن تصبح أشد أنواع الحدود وعورة وتباعدًا حدود اتصال، وتنقلب الآية فتصبح أكثر الحدود وصلًا وتقريبًا حدود انفصال مانعة خلال فترات العداء والحروب، فالفصل أو الوصل إذن عمل إرادي متعلق بإرادة الدول، ولكن علينا ألا نتناسى أن هناك فعلًا مناطق وتخومًا تساعد بطبيعتها على الفصل، وهي إذا تُركت على حالها دون إنشاء الطرق التي تسير عليها الحركة فإنها تصبح طبيعيًّا وبشريًّا نطاقات فاصلة، وهذه مرحلة من مراحل وظائف الحدود، وترتبط بتوجيه الدولة، ويتضح هذا جليًّا في حدود الانفصال القائمة بين البرازيل وجيرانها مثل كولمبيا وبيرو حيث تعمل الغابات الشاسعة في أمازونيا على إقامة تخوم عازلة، ويساعدها في ذلك سلاسل الأند الوعرة المرتفعة التي تقيم نطاقًا آخر من العزلة بين الجيران، ومن ثم فإن البرازيل تتجه صوب مناطق الحركة والموارد السهلة على الشاطئ الشرقي، بينما تدير بيرو وكولمبيا ظهرها للبرازيل متجهة بثقلها إلى سواحلها على المحيط الهادئ ووديانها العليا المنتجة لموارد صادراتها الأولية النباتية والمعدنية، لكن التنمية الاقتصادية والضغط السكاني يؤديان ببطء إلى اتجاه مركز ثقل الدولة إلى نطاقات العزلة الداخلية، ولعل نقل عاصمة البرازيل من الساحل إلى الداخل تعبير عن هذا التحول في توجيه الدولة، وفي المستقبل تتوقع أن تتحول سهول أمازونيا البرازيلية وامتداداتها في بيرو وكولمبيا إلى مناطق اتصال وحركة بدلًا من وظيفتها الحاجزة الآن، وإذا كانت هناك الآن بعض مشكلات على الحدود في أمريكا الجنوبية عامة، فإن المستقبل سوف يشهد مشكلات أكبر حينما يصبح الاحتكاك أكثر على مناطق غنية بمواردها غير المعروفة الآن.
وهذا المثال هو الذي تكرر المرات تلو المرات في تاريخ العالم منذ العصور الحجرية وتصارع المجتمعات على مناطق الصيد الوفير أو تصارع القبائل على المراعي الغنية، أو تصارع الدول المبكرة على موارد الخامات اللازمة لاقتصاديات الزراعة واحتياجات حياة المدينة، والسيطرة على طرق التجارة الرئيسية، أو صراع القوميات الحديثة على السيادة الإقليمية والمجالات الحيوية ومصادر الخامات وأسواق الاستهلاك وطرق التجارة، وفي كل هذه الحالات — قديمة ومعاصرة — تتحرك الصراعات نتيجة النمو والضغط السكاني، والنمو والضغط الاقتصادي، وكلاهما يؤدي إلى تحريك الحدود عبر نطاقات الحجز والتخوم الفاصلة نتيجة لظروفها الطبيعية أو لأن الناس هجروها لأسباب مختلفة سياسية أو اقتصادية أو استراتيجية.
وبما أن نطاقات الفصل والعزل محدودة المساحة، فإن الوقت الذي تقف فيه القوى المتوسطة وجهًا لوجه عبر خط حاد يفصلها عن بعضها سيأتي دون شك، صحيح أن القوى المتوسعة من مركزين أو أكثر ليس محتومًا أن تلتقي لتتصارع في كل نقاط التماس، لكن أكثر نقط التماس حساسية — لأسباب استراتيجية أو اقتصادية — هي مثار المشكلات الرئيسية بين الدول، ومن الأمثلة على ذلك وادي الراين الأوسط كمنطقة تماس بين القوى الجرمانية المتوسعة غربًا والقوى الفرنسية المتوسعة شرقًا؛ إذ سببت حروبًا طويلة بين الدولتين، بينما استقرت منطقة التماس الجرمانية الفرنسية في النطاق الجبلي في سويسرا دون أن تسبب أزمات خطيرة.
في الماضي البعيد كان هناك متسع من الأرض تنتقل فيه الجماعات من مكان لآخر في صورة هجرات واسعة حينما كان التماس بين مجتمعين يهدد بمواجهات مميتة، وفي الماضي غير البعيد كان الصراع بين دولتين أو أكثر يؤدي إلى تسلط الغالب على المغلوب باحتلال عسكري — أو حضاري — وسلب للحريات.
وفي الوقت الحاضر لم يعد في الإمكان الالتجاء إلى ممارسات الماضي البعيد والقريب، فلم تعد هناك أراضٍ تتحرك فيها الجماعات بعيدًا عن مكامن الحظر، ولم تعد حدود الدول مفتوحة لحرية الحركة القديمة، فقد تم اقتسام أراضي اليابس إلى آخر شبر، وتم تحديد الحدود وأحكم إغلاقها إلا لمن تسمح له القوانين الدولية بالدخول والخروج، فقد نضجت المشاعر القومية خلال القرن الماضي والحالي نضوجًا لا مزيد عليه، فكل حفنة من التراب القومي استحالت إلى كم معنوي مشحون بعواطف وطنية متأججة ملتهبة، حتى لو كانت هذه المعاني خالية من المحتوى النفعي، وبذلك استحالت في عالمنا الدولي المعاصر فكرة الاحتلال بالقوة، برغم استخدام القوة الغاشمة من جانب القوى المتوسعة، وبرغم هزيمة مادية ملموسة حاقت بشعب ما، ولهذا لا يكتسب الاحتلال أية صبغة شرعية طالما قاوم المهزوم مشيئة الغالب بكل أشكال المقاومة.
ويبدو أن القومية بمعناها الراهن قد نشأت في أوروبا خلال تبلور العصر الصناعي ومقدماته، وارتبطت ارتباطًا وثيقًا بالنمو الاستعماري وظهور أفكار وكتابات عن «المجد» القومي، والتوسع والسيادة لتحقيق «مهمة حضارية» في العالم، وقد أدى التطور الصناعي والقومي بأوروبا إلى اشتباكات دامية، ويكاد تاريخ أحداث أوروبا الحديثة أن يكون سلسلة من الحروب والدمار والتوسع وتعديلات الحدود، بحيث إن كل دولة تحاربت في وقت ما مع كل دولة أخرى، وتحالفت في وقت آخر مع كل دولة أخرى، تحاربت النمسا وبروسيا، وتحاربت فرنسا وإنجلترا أكثر من مرة، وتحاربت النمسا وبروسيا وروسيا على بولندا، وتحاربت الدانمرك والسويد، وتحارب السويسريون مع النمساويين، وحارب نابوليون كل أوروبا، وحاربت ألمانيا كل أوروبا مرتين، وفي المرتين يكاد أن يكون كل العالم قد جر إلى الحرب، وفي كل مرة تنتهي الحرب بغالب ومغلوب ومعاهدات واتفاقيات وحدود جديدة أو عود إلى حدود قديمة وتغير جذري لحياة السكان في مناطق الحدود، وتغيير للأوطان والجنسيات والتوجيه الاقتصادي والثقافي واللغوي والحضاري، ويكفي التدليل على ذلك ببعض التواريخ المهمة منذ منتصف القرن السابع عشر:
١٦٤٣–١٧١٥ | حكم لويس ١٤ وحروبه لضم برجانديا والألزاس لفرنسا وحروبه ضد النمسا (١٦٦٧) لضم الفلاندرز الفرنسية — كانت بلجيكا تابعة لأملاك أسرة هابسبورج النمساوية — وحروبه ضد إسبانيا (١٦٥٩)، معاهدة وستفاليا (١٦٤٨) والبرانس (١٦٥٩) وإكس لاشابل (١٦٦٨) |
١٦٨٢–١٧٢٥ | حكم بطرس الأكبر في روسيا والتوسع الروسي إلى البلطيق |
١٦٧٢–١٦٧٨ | حرب الأراضي المنخفضة — هولندا — ومعاهدة نيميج |
١٦٨٨–١٦٩٧ | حرب اتحاد أوجسبورج — جنوب ألمانيا — ومعاهدة ريزفيك |
١٧٠٠–١٧١٣ | حرب الوراثة الإسبانية ومعاهد أوترخت |
١٧٣٣–١٧٣٨ | حرب الوراثة البولندية ومعاهدة إكس لاشابل |
١٧٥٦–١٧٦٣ | حرب السنوات السبع ومعاهدة باريس |
١٧٩٢–١٧٩٥ | حروب الثورة الفرنسية في بلجيكا والراين |
١٧٩٥–١٧٩٨ | حروب نابليون في إيطاليا ومصر |
١٨٠٤–١٨١٥ | حروب الإمبراطور نابليون ضد النمسا (أوسترليتز ١٨٠٥) ومعاهدة بورسبورج، وضد بروسيا (١٨٠٦-١٨٠٧ ومعاهدة تلزيت) وضد النمسا (معركة فاجرام ١٨٠٩، ومعاهدة فيينا)، وفي إسبانيا ضد الإنجليز (١٨٠٨–١٨١٤)، وضد روسيا (١٨١٢) وضد ألمانيا (١٨١٣) وأخيرًا واترلو (١٨١٥) |
١٨٢١–١٨٣٠ | حرب المورة وتكون دولة اليونان (ائتلاف دول أوروبا ضد الدولة العثمانية) |
١٨٤٨–١٨٥٩ | حروب الوحدة الإيطالية |
١٨٥٤–١٨٥٦ | حرب القرم بين تركيا وروسيا وائتلاف دول أوروبا، ومن نتائجها أول ظهور لتقسيم البلقان، أصبحت مولدافيا — شمال رومانيا — والصرب والجبل الأسود إمارات ذات حكم ذاتي ضمن الأملاك العثمانية |
١٨٦٤ | الحرب الألمانية الدانمركية، و١٨٦٦ الحرب البروسية النمساوية |
١٨٧٠-١٨٧١ | الحروب الألمانية الفرنسية: حرب السبعين |
١٨٧٧-١٨٧٨ | الحرب الروسية التركية: استولت روسيا على أرمينيا، وأصبحت هناك مملكة مستقلة باسم رومانيا (ائتلاف إمارتي مولدافيا وفالاشيا في ١٨٨١) ومملكة الصرب (١٨٨٢)، واستقلال إمارة الجبل الأسود عن تركيا، واستيلاء النمسا على البوسنة والهرسك (١٨٧٨) فيما يشبه الاتفاق، واستيلاء مملكة اليونان على إقليم تساليا (١٨٧٨)، وكذلك أصبحت بلغاريا ذات حكم ذاتي (١٨٧٨) وفي ١٨٨٦ استولت بلغاريا على إقليم الروميلي الشرقي، وباختصار كانت هذه الحرب بداية النهاية للدولة العثمانية |
١٩١٤–١٩١٨ | الحرب العالمية الأولى (ألمانيا — النمسا — تركيا ضد فرنسا وبريطانيا وأمريكا) ومعاهدة فرساي |
١٩٣٩–١٩٤٤ | الحرب العالمية الثانية (ألمانيا وإيطاليا ضد أوروبا والاتحاد السوفيتي وأمريكا) |
هذه الحروب التي شنتها القومية الأوروبية في أوروبا يبدو أنها كانت تمثل مرحلة من مراحل تكوين الدولة التي وصلت إلى طريق مسدود نتيجة تكرار النزاع والصراع، وعلى مسرح القومية الضيقة بدأت تظهر أفكار أخرى تنادي بالتكوينات الإقليمية الكبرى، كطريق للخروج من مأزق القومية الأوروبية.
وأفكار الأقاليم الكبرى قديمة، طبقها الإسكندر الأكبر والدولة الفارسية والرومانية وكان أوسع تطبيق لها الدولة الإسلامية، ومن بين التراكيب السياسية التي قامت على مبدأ الأقاليم الكبرى الدولة العثمانية وإمبراطورية الصين والإمبراطورية النمساوية والإمبراطوريات الاستعمارية الاستيطانية الإسبانية والبرتغالية، أما الإمبراطوريتان الاستعماريتان الفرنسية والإنجليزية فكانتا تركيبات أخرى غير الفكرة الإقليمية، وبصورة من الصور كانت الإمبراطورية الروسية شكلًا من أشكال الأقاليم السياسية الكبرى، ويعيب هذه الأفكار الإقليمية الكبرى أن التوازن السياسي لم يكن موجودًا بين الحكام الذين يستندون إلى شعب واحد — الرومانيين والإغريق والأتراك العثمانيين والنمساويين الألمان والإسبان والبرتغاليين والروس — وبين بقية شعوب الإمبراطورية، وهذا الذي نعده اليوم عيبًا ونقيصة لم يكن إلا جزءًا من طبيعة الأمور في الماضي.
أما الأفكار الإقليمية في البناء السياسي الحديث فإنها — نظريًّا — تقوم على مشاركة متساوية للقوى السياسية داخل التكتل السياسي، ولكن مثل هذا التطبيق المثالي لم يحدث بعد، فلا تزال هناك فروق بين القوميات والشعوب التي يمكن أن تشكل بناء سياسيًّا إقليميًّا؛ إذ إنه في الغالب يحدث تميز لقومية لسبب أو لمجموعة من الأسباب: القوة العددية، درجة التعليم، الانتماء إلى المجموعة المحركة للبناء السياسي الإقليمي، من بين أسباب أخرى عديدة، ولا شك أنه لا تزال هناك بعض الفوارق بين قوميات الاتحاد السوفيتي الحالية، وإذا كان ذلك في بناء سياسي متعدد القوميات، فإن الموقف يصبح أكثر دعوة إلى اليأس حينما نرى قومية واحدة أنجلو أمريكية في الولايات المتحدة، ومع ذلك فإن المشاركة السياسية المتكافئة غير متوافرة لأقلية من الرعية الأمريكية بسبب لون البشرة، فالزنوج الأمريكيون ليسوا قومية مثل القوميات التي نجدها في الاتحاد السوفيتي، ليست لهم أرض خاصة، ولم يكن لهم وطن محدد داخل أمريكا أدمج فيما بعد داخل الدولة الأمريكية، وليست لهم لغة خاصة بهم، ولا تقليد حضاري يحتفظون به منذ تواجدهم في الأرض الأمريكية، وليست لهم ديانة خاصة يلتفون حولها، وباختصار فإن الزنوج الأمريكيين ليسوا كالأوزبك أو القرجيز أو الياكوت من قوميات الاتحاد السوفيتي، بل هم جزء لا يتجزأ من التجمع الحضاري الأنجلو أمريكي.
قد يبدو إذن أن التفريق والتمييز من طبائع البشر، أو من طبيعة الحياة، ولكن كثيرًا ما تغيرت بعض الطبائع الفردية تحت ضغوط الحياة الجمعية التشاركية الإنسانية، وبذلك أصبح لكل مجتمع قوالب وأنماط سلوكية تحدد — بصورة عامة — طريقته في الحياة، فإذا اعتبرنا الدول والقوميات أفرادًا في تجمع عالمي فالأرجح أن عددًا من القوالب والأنماط سوف تتبلور لتحدد السلوك العام لهذه القوميات الأفراد في داخل المجتمع العالمي، وكما أن الأفراد لا يفقدون شخصياتهم وتفردهم في المجتمع البشري فإننا نتوقع ألا تفقد القوميات شخصياتها داخل المجتمع العالمي، وإذا كان المجتمع العالمي مطلبًا بعيد المنال فإن المجتمع الإقليمي أقرب إلى التحقيق، وأكثر تمشيًا مع ظروف الجغرافيا الطبيعية والبشرية عامة.
ليست الدعوة إلى تراكيب سياسية إقليمية نابعة من مجرد الخروج من مأزق القومية الضيقة الأفق، بل إن مثل هذه الدعوة ما هي إلا انعكاس للدافع الاقتصادي المعاصر، وقد ذكرنا أن ظهور القومية ارتبط بنشأة ونمو الاقتصاد الصناعي في القرن الماضي، وفي خلال القرن الحالي تغير الاقتصاد الصناعي تغيرًا كميًّا بتغير التكنولوجيا في مجالات الإنتاج الزراعي والصناعي ونمو قطاع الخدمات بصورة مذهلة، وقد ترتب على ذلك تغير جوهري في تركيب وتوظيف القوى العاملة في الدول المتقدمة، قلت العمالة الزراعية بصورة مذهلة مع تزايد القدرة الإنتاجية نتيجة الآلية والأتوماتيكية في العمل الزراعي، وفي ذات الوقت نجد اتجاهًا مستمرًّا في زيادة حجم الحيازات الزراعية — سواء كانت ملكيات فردية أو شركات زراعية أو مشروعات تجميع زراعي أو مزارع تعاونية أو تابعة للقطاع الحكومي — وانكماشًا مقابلًا في عدد الحيازات الزراعية الصغيرة وعدد المزارعين مُلَّاكًا وأُجرَاء، ومن الأمثلة الدالة على ذلك أن الريف الأمريكي يفقد سكانه باستمرار وتتضاءل أشكال السكن القروي، ويتجه الناس إلى السكن المدني والعمالة المدنية متعددة الأنواع.
هذا جانب واحد من جوانب التغير في المجال الاقتصادي، وقس على ذلك ما يحدث في مجالات النشاط الاقتصادي الأخرى، وكلها قد تضافرت على إحداث التغيرات الجذرية العديدة من البناء الاجتماعي، ومن ثم السياسي، داخل الدولة.
وخلاصة التغيرات الاقتصادية المعاصرة هو اتجاه إلى معامل ارتباط كبير ومتزايد بين إطارات مكانية أرضية واسعة وبين تكثيف الإنتاج وتنوعه وثقل متزايد على خطوط الحركة في شتى أشكالها واعتماد متضاعف على التبادل التجاري واتساع هائل في سوق الاستهلاك، وأخيرًا ارتباطات وثيقة بين أسواق المال والاستثمار.
هذا الترابط بين الاقتصاد الحديث والمكان الجغرافي الواسع يتعدى بطبيعة الحال الحدود السياسية الراهنة للدول، ويسعى إلى تفكيك هذه الحدود والقوالب للوحدات الدولية لتسهل حركته وتشتد مرونته، وهو في هذا المنحى يشابه سعي الصناعيين الأول لتغير قوالب الاقتصاد والمجتمع الإقطاعي الزراعي الحرفي الذي كانت ترتكز عليه الدولة قبل الثورة الصناعية، فالثورة الصناعية الأولى قد نمت، أو نمت مع الدولة القومية كبناء اجتماعي سياسي يحمي الصناعة، والثورة الأوتوماتية التي نعيش مقدماتها تجد في الدولة القومية المعاصرة ما يقيد حرياتها وانطلاقها، ومن ثم فإن التكتل الاقتصادي في أوروبا الغربية أو أوروبا الشرقية ما هو إلا تعبير من نوع ما عن الرغبة في إيجاد صيغة جديدة لتعايش البناءين الاقتصادي والسياسي معًا.
ومما يعجل بالسعي إلى إيجاد أشكال متناسقة بين الأوضاع السياسية والاقتصادية أن التيارات الثقافية والفكرية وانتشار نمط التعليم الحديث من بين عدد آخر من العوامل الحضارية قد أخذت تغزو أجزاء العالم، مما يزيد من التقارب بين الشعوب والقوميات، ويعطي العوامل الاقتصادية دوافع أخرى ترتكز عليها وتدعمها في سبيل التراكيب السياسية الإقليمية.
وأخيرًا لا ينبغي أن نغفل مؤشرًا من مؤشرات التقارب الدولي في صورة كتل، ذلك هو أن الحدود السياسية للدول المندمجة في تنظيمات دفاعية قلت أهميتها كثيرًا؛ لأن استراتيجية مثل هذه التنظيمات والدول المتحالفة تأخذ حدود التحالف الأرضي والجوي والبحري في إطار متكامل بغض النظر عن الحدود الفردية، فحدود ألمانيا الغربية والشرقية المشتركة أكثر أهمية وحساسية لدول حلف الأطلنطي أو حلف وارسو من حدود فرنسا أو حدود بولندا، وإلى جانب ذلك فإن تكنيك الحرب الحديثة قد جعل من المستحيل — أو يكاد — على دولة واحدة أن تحمي نفسها بنفسها دون أن يكون هناك اتفاق عالمي على حيادها وعدم المساس بها، وفي الحقيقة أصبح من الواجب إعادة النظر في قيمة الحدود الدفاعية على ضوء متغيرات عدة على رأسها تكنولوجية الحرب والائتلافات والتكتلات الدولية التي توجد الآن على مستوى أعلى من مستوى الدولة القومية التقليدية.
هوامش
Golo Mann, & H. Pross, “Minderheiten” in “Aussenpolitik” Fischer Lexikon, Frankfurt 1958.