بعض مقومات دول الشرق الأوسط
(١) وحدة وتفرق
هل يكون الشرق الأوسط إقليمًا جغرافيًّا متكاملًا؟ إن الإقليم الجغرافي هو عبارة عن ترابط عضوي بين مجموعتين من المكونات هما: (١) الإقليم الطبيعي كمسرح له سلبياته وإيجابياته. (٢) الاستيطان البشري كعنصر إيجابي في غالبية الأحوال، وناتج هذا الترابط بناء له مورفولوجية مميزة في ظواهره الحيوية والاجتماعية وأنشطته الاقتصادية وتركيباته السياسية، وينطبق هذا الكلام على الشرق الأوسط انطباقه على الإقليم الهندي أو الصيني أو الأوروبي الشرقي أو الأوروبي الغربي.
لكن الوحدة الجغرافية للشرق الأوسط لا تظهر لأول وهلة، بل هي تظل ظاهرة كامنة في ظل عدد من العوامل التي تطمس معالم الوحدة، وعلى رأس هذه العوامل: (١) قوة الأقاليم الجغرافية الفرعية داخل الإقليم العام، وتستمد هذه الأقاليم الفرعية قوتها من مجموعة من العناصر الطبيعية — المناخ الجاف والظاهرات التضاريسية المعقدة — ترتب عليها وعورة وصعوبة طرق الحركة والاتصال باستثناء طرق محدودة، وقد أدى ذلك إلى انطوائية تميز حياة النمط الواحي الواسع الانتشار — من أفغانستان إلى ليبيا — وإلى نمو الذاتية المحلية في مناطق الاستقرار على السند والدجلة والنيل، وهكذا تشترك هذه العوامل في بناء تكامل محلي فوق الترابط الإقليمي.
(٢) التمزيق السياسي الذي أصاب الشرق الأوسط بعد الحربين العالميتين، واستقلال دول جديدة داخل إطارات هي الحدود التي رسمتها المصالح الغربية، أضاف عنصرًا جديدًا يساعد على طمس معالم الوحدة الإقليمية للشرق الأوسط، وذلك بخلق مزيد من الذاتية المتقوقعة على قومية مستحدثة فتتت وحدة الأقاليم الفرعية إلى مناطق أصغر حجمًا في المساحة والسكان والموارد.
(١-١) القوى الطبيعية والبشرية في إقامة الوحدات السياسية
وفي الشرق الأوسط قدر كبير من الشبه الشكلي مع كثير من الأقاليم المقسمة إلى وحدات سياسية كثيرة، وخاصة أوروبا الشرقية والغربية، لكن التشابه مع أوروبا الغربية — على سبيل المثال — يقف عند هذا الحد، ذلك أن مسببات التفتت والتقسم السياسي في الشرق الأوسط وأوروبا الغربية مختلفة تمامًا، ففي أوروبا الغربية كانت الحركات القومية المزمنة، المستمدة من الاختلاف اللغوي والتوجيه المكاني والأبعاد التاريخية، هي الأسباب الرئيسية وراء انقسام أوروبا إلى عدد كبير من الوحدات السياسية الصغيرة والمتوسطة، أما في الشرق الأوسط فإن التفتت إلى هذا العدد الكبير من الوحدات السياسية يرجع إلى أسباب عارضة معاصرة بفعل القوى الأوروبية الاستعمارية، وفي الوقت نفسه يمكن أن نلاحظ أن تقسيم أوروبا سياسيًّا عملية معارضة للظروف والمقومات الطبيعية التي تشكل وحدات طبيعية كبيرة، فالسهل الأوروبي المتصل العمران تتفتت وحدته بعشرات الحدود السياسية والقومية، ومجموعة الأنهار التي تكوِّن طرقًا طبيعية ممتازة للنقل والاتصال مقطعة الأوصال بالحدود السياسية التي تمتد متعامدة عليها أو موازية لها، أما في الشرق الأوسط فإن نمط السكن والعمران متقطع منفصل نتيجة الجفاف والجبال والعوائق الطبيعية التي كونت سهولًا ووديانًا صغيرة ضعيفة الاتصال، والأنهار في الشرق الأوسط، صغيرة أو كبيرة، تجري داخل أقاليم محدودة، فلا تربط إقليمًا بآخر، ومع ذلك التناقض في المقومات الطبيعية فإن المؤثرات البشرية والحضارية تربط هذه الأقاليم المتميزة برباط قومي ذي عمق تاريخي كبير، فالعربية — حضارة وتاريخًا وقومية — تربط كل إقليم الصحارى من الخليج العربي حتى الصومال وليبيا، وتمتد فيما وراءها إلى موريتانيا على الأطلنطي. والعربية بالمواصفات السابقة تربط أقاليم السكن المستقر من سهول دجلة والفرات إلى وادي النيل في مصر والسودان، مرورًا بساحل شرقي المتوسط وأوديته النهرية الصغيرة، وتسيطر الفارسية، كلغة ذات لهجات مختلفة، على كل الإقليم الهضبي والجبلي في القسم الشرقي من الشرق الأوسط، ويدعم الإسلام، كحضارة ودين، هذا الرباط في إيران وأفغانستان وغربي باكستان، أما القومية التركية في هضاب الأناضول فتمثل هجرة حديثة نسبيًّا بالقياس إلى العرب والفرس، وترتبط معهما برباط الدين والتاريخ والمكان.
والخلاصة أن الإنسان — بمجموعة قيمه وتراثه وأيديولوجيته — يقسم وحدات طبيعية متكاملة إلى أقسام سياسية متعارضة — أوروبا الغربية — ويوحد أقاليم طبيعية مختلفة في وحدات سياسية كبيرة — الشرق الأوسط خلال العصور الإسلامية والعثمانية — وبما أن الإنسان يتغير بسرعة أكبر من التغير الطبيعي، فإننا نجد تغيرات سياسية عديدة على مسرح طبيعي واحد خلال فترات زمنية مختلفة، فأوروبا الغربية كانت دولة واحدة في العهد الكاروليني — أشهر ملوكه شارلمان أو كارلمان — ثم تقسمت (٨٨٨م) إلى ثلاث وحدات سياسية رئيسية: فرانكيا، وكانت نواة نشأة فرنسا، وجرمانيا، وكانت نواة نشأة الإمبراطورية الألمانية، ثم نشأت عنها النمسا والإمارات الألمانية، وأخيرًا لوترينجيا التي اشتملت على حوض الراين كله، وفيها نشأت فيما بعد هولندا في الحوض الأدنى، والجزء الباقي كان إمارات ألمانية مختلفة اندمجت في القرن ١٩ مع ألمانيا، وقد احتدم النزاع بين دول أوروبا الغربية مع نمو القوميات الضيقة، واليوم نرى مسعى لتوحيد أوروبا مرة أخرى، ولكن الوقت لم يحن بعد لتكوين دولة أوروبية موحدة، فمراكز الثقل السياسي ما زالت قوية في ثلاث دول أوروبية رئيسية: ألمانيا وفرنسا وبريطانيا، ولكلٍّ منها مصالح وميول وارتباطات معاصرة مختلفة، فضلًا عن تاريخ حديث غير مشترك، ولا توجد بادرة لوجود قلب سياسي ذي ثقل واضح يمكن أن يضم ويربط أوروبا الغربية معًا، صحيح أن منطقة الراين المشتركة بين ألمانيا وفرنسا وبلجيكا وهولندا هي الآن مركز الثقل الأساسي في اقتصاديات أوروبا الغربية، لكن هذا القلب الاقتصادي أميل إلى الجانب الألماني منه إلى الجانب الفرنسي، وهو بعيد مكانيًّا عن القلب الاقتصادي البريطاني، ومن ثم فهو غير مؤهل لأن يتبوأ مركز الصدارة في العلاقات السياسية بين دول أوروبا الغربية، هذا إلا إذا اتخذت منطقة محايدة كلكسمبورج عاصمة مركزية.
أما في الشرق الأوسط فقد كان هناك عدد محدود من الوحدات السياسية خلال التاريخ الحديث: الدولة العثمانية وفارس، مع نوبات حكم ذاتي قوي في أقاليم فرعية: مصر وأفغانستان، وبتأثير التحلل في الدولة العثمانية وفارس كان يمكن أن تقوم قوى جديدة نشطة — مثل الصحوة العربية وتركيا الفتاة — تدفع الحياة من جديد في هذه المساحات السياسية الكبيرة، ولكن تحلل الدولتين الكبيرتين صادف نمو المصالح الإمبراطورية الفرنسية والإنجليزية والروسية في المنطقة مما أدى إلى تفتيت الدولتين إلى وحدات كثيرة ضعيفة، وقد كانت الحركات المختلفة التي سيطرت على أحداث الشرق الأوسط العربي في ربع القرن الأخير، مجرد إرهاصات سعيٍ لنوع من التآلف العربي، ويجب أن تترك فسحة من الوقت لنمو شكل من هذا التآلف يغطي الضعف الناجم عن تعدد الدول العربية، ويعطي العرب مكانة لائقة في ميزان القوى العالمية، وهذا هو الاتجاه العام في أقاليم العالم: أشكال مختلفة من الاتحاد أو التآلف أو التحالف الاقتصادي أو السياسي، وقد كان لدمشق وبغداد والقاهرة — حسب الترتيب التاريخي — دور مركزي في الشرق الأوسط. ومشكلة إيجاد قلب للعالم العربي تماثل في الشكل، وليس المحتوى، مشكلة إيجاد قلب لأوروبا الغربية، ولعل مصر بمركزيتها المكانية وكتلتها السكانية كمًّا وكيفًا — في المجالات الاقتصادية والتكنيكية — مؤهلة لأن تكون قلبًا عربيًّا ذا ثقل، جنبًا إلى جنب مع قلوب أخرى مرتبطة بأقاليم طبيعية اقتصادية ناجمة عن الاتساع المكاني الشاسع للعالم العربي (أبعاد العالم العربي، أرقام تقريبية في خطوط مستقيمة: نواكشوط (موريتانيا) – مسقط (عمان) = ٨٠٠٠ كيلومتر، طنجة (المغرب) – مقديشو (الصومال) = ٦٥٠٠ كيلومتر، حلب (سوريا) – جوبا (السودان) = ٣٦٠٠ كيلومتر).
(٢) مقومات طبيعية في جيوبوليتيكية الشرق الأوسط
(٢-١) مقومات رئيسية متفاعلة
من بين المقومات التي تسيطر على الشرق الأوسط مجموعة من العناصر الطبيعية التي أعطت الإقليم صفاته الرئيسية، وعلى رأس هذه العناصر التركيب الجيولوجي وبنيته، وأشكال المناخ، وتكوين التربة الصالحة للزراعة، هذه العناصر غير منفصلة، بل متفاعلة تفاعلًا ديناميًّا استمر عشرات الملايين من السنين، ويقطف الإنسان ثمار هذا التفاعل بطرق مختلفة حسب خلفيته التكنولوجية في العصور المختلفة، كما أنه يكون أساس توزيع الناس بأعدادهم ونظمهم الاقتصادية والاجتماعية في الشرق الأوسط، مثله في ذلك مثل بقية أجزاء العالم الأخرى.
ولكن الدراسة التفصيلية لكلٍّ من هذه العناصر الطبيعية على حدة، ضرورة لا بد منها قبل حصولنا على النظرة التجميعية لمشتمل ومضمون القوى الطبيعية في تكوين الوحدات السياسية في الشرق الأوسط، وذلك بوصف أن التركيبات الجيولوجية وبنيتها مسئولة بصورة قاطعة ومحددة عن وجود أو نقص موارد الثروة التعدينية — معادن وطاقة — وموارد المياه اللازمة لكل شيء حي من ينابيع أو مسيلات جارية دائمة أو عرضية، ومياه جوفية يمكن أو لا يمكن سحبها إلى أعلى، وكل ذلك مرتبط بالتشكيل العام لمظاهر السطح في صورة أحواض ومنخفضات وتراكيب صخرية مسامية وقليلة المسامية، وكذلك بوصف أن التربة الصالحة للزراعة هي تركيب ساهم في وجوده عوامل التركيب الصخري والتحلل والتفتت الكيميائي والميكانيكي بفعل عناصر المناخ، ونقل التربات بواسطة عوامل التعرية المختلفة، وعلى رأسها الإرسابات الفيضية النهرية والإرسابات الهوائية، وإن وصول التربة إلى درجة كافية من النضج عملية مرتبطة بالظروف المناخية السائدة وأشكال الحياة البيولوجية (نبات وحيوان وإنسان).
وفيما يلي سوف نتناول هذه العناصر الطبيعية، ليس من زاوية دراستها الطبيعية، ولكن باعتبار ما وصل إليه علم المتخصصين من نتائج على أنها حقائق ثابتة، ومن ثم فإننا سنعالج هذه الحقائق من زاوية تأثيرها على أقدار منطقة الشرق الأوسط كعوامل قوة أو ضعف في البناء العمراني والاقتصادي والسياسي داخل الوحدات السياسية التي ينقسم إليها الشرق الأوسط في الوقت الحاضر.
(٣) ميزان المياه في جيوبوليتيكية الشرق الأوسط
(٣-١) المطر والجفاف في الشرق الأوسط
الصفة المميزة للشرق الأوسط هي أنه يحتل جزءًا كبيرًا من النطاق العالمي الجاف، ولهذا فضَّلنا أن نبدأ بدراسة المناخ عامة، والمياه على وجه خاص؛ لأنها تكوِّن العامل الرئيسي المحدد للعمران والسكن، والمميز لكثير من التفاعلات التي تنبني عليها السياسات الأرضية في دول الشرق الأوسط.
تسيطر على الإقليم أشكال مختلفة من المناخ الجاف الحار، لكن امتداد الشرق الأوسط في درجات عرض كثيرة (من درجة العرض ٤٢ شمالًا في تركيا إلى درجات العرض الاستوائية في الصومال)، فإن هناك تغايرات ملحوظة في متوسطات الحرارة، ويزيد على ذلك انخفاض واضح في درجات حرارة الشتاء في المناطق الجبلية، تصل إلى حد تكوين غطاءات ثلجية شتوية (جبال هندكوش والبرز وبنطس وطورس وأجزاء من جبال لبنان وزاجروس)، ويؤدي ذلك إلى تقسيم الشرق الأوسط حراريًّا إلى إقليمين: (١) إقليم الجبال والهضاب الشمالية والشرقية (اليونان، تركيا، إيران، أفغانستان)، ويتميز بشتاء بارد وعواصف ثلجية وصيف حار. (٢) إقليم الهضاب المنخفضة والسهول الذي يحتل غالبية المنطقة العربية، ويتميز بصيف حار وشتاء معتدل الحرارة، وترتفع درجة الحرارة كلما اتجهنا جنوبًا صوب جنوب الجزيرة العربية والصومال والسودان وإثيوبيا.
وفي مقابل هذا التشابه الحراري العام خلال الصيف الطويل، فإن العامل المناخي ذا التأثير الواضح هو كمية الأمطار الساقطة، ويحدد هذه الكمية الشروط التالية: (١) علاقة المكان بالنسبة لمسار أعاصير العروض الوسطى الشتوية التي تسير بانتظام كبير عبر البحر المتوسط من الغرب إلى الشرق، وفوق لبنان وسوريا والعراق وإيران في اتجاه السند. (٢) علاقة هذه الأعاصير بألسنة الضغط الجوي المرتفع خلال الشتاء، وهي الألسنة التي تمتد من فوق الاتحاد السوفيتي وتتسع لتشمل الأناضول والبلقان. ومحصلة علاقة هذين العنصرين تؤدي إلى اتساع نطاق المطر وكميته فوق الأناضول والليفانت والعراق وإيران في حالة انكماش مناطق الضغط المرتفع، بينما تتزحزح مسارات بعض هذه الأعاصير جنوبًا إلى شمال مصر والخليج في حالة امتداد ألسنة الضغط المرتفع إلى القوقاز والأناضول.
وبغض النظر عن التغيرات السنوية في كمية المطر الساقط ومدى انكماشه أو شموله، فإن نظام المطر هذا — من ناحيته النوعية — أدى إلى تقسيم الشرق الأوسط إلى نطاقين مختلفين: النطاق المطير والنطاق الجاف، ويحتل نطاق المطر إقليمين أحدهما في شمال الشرق الأوسط (مطر شتوي) والثاني في جنوبه (مطر صيفي في السودان وإثيوبيا واليمن)، أما النطاق الجاف فيحتل القسم الأوسط من الشرق الأوسط من ليبيا إلى جنوب ووسط إيران وجنوب باكستان، وبالرغم من أن النطاق الجاف محروم من الأمطار المنتظمة، إلا أنه يتعرض للسيول المفاجئة الناجمة عن أعاصير أو فلول أعاصير ضالة، وتؤدي التضاريس العالية إلى أمطار متوسطة إلى قليلة في داخل النطاق الجاف، مثل جبال اليمن والجبل الأخضر في ليبيا وفي عمان وجبال زاجروس الجنوبية (انظر خريطة ٣١).
(٣-٢) صفات الإقليم الانتقالي
ومن الصعب تحديد خط مطر يفصل بين النطاقين المطيرين والنطاق الجاف، ويعمد بعض الكتاب إلى اتخاذ خط المطر المتساوي ٥٠٠ مليمتر على أنه حد فاصل حرج بين الزراعة القائمة على المطر، وتلك التي تقوم على أشكال مختلفة من الري، باستخدام مصادر المياه الدائمة أو الفصلية (أنهار وعيون وآبار)، لكن ذبذبة الأمطار الساقطة في الشرق الأوسط، كمًّا ومكانًا، ومدى فعالية الكمية الساقطة بالنسبة للنمو النباتي في منطقة المطر الشتوي (موسم الحرارة الدنيا وقلة التبخر) وتلك التي تسقط في الصيف (موسم الحرارة العليا وكثرة التبخر)، كلها أسباب تجعلنا نميل إلى اتخاذ نطاق لتحديد الإقليم الذي يتمتع بفعالية وفوائد المطر الساقط، بدلًا من اتخاذ خط محدد، ويمكننا أن نحدد هذا النطاق الانتقالي بالأراضي التي تتلقى كمية من الأمطار حدها الأدنى مائة مليمتر وحدها الأعلى ٥٠٠ مليمتر.
وهذا الإقليم الانتقالي الواسع ينقسم في الحقيقة إلى نطاقين: الأول إقليم الزراعة الانتقالي بين خطي مطر ٢٥٠ و٥٠٠ مليمتر، والثاني إقليم الرعي التقليدي بين خطي مطر ١٠٠ و٢٥٠ مليمتر (راجع الخريطة ٣١)، والإقليم الأول هو في أساسه إقليم انتقالي من زراعة المطر إلى الزراعة البعلية والزراعة القائمة على الري، وفي داخل هذه المنطقة تغيرات كبيرة في كمية المطر الساقط، راجعة إلى علاقات الموقع واتجاه الأعاصير الممطرة ومواجهة المسطحات البحرية والعوائق الجبلية، وأيًّا كانت الظروف وكمية الأمطار فإن نجاح الزراعة في هذا الإقليم عامة يعتمد على تدابير الري المختلفة، سواء كانت على مستوى تقليدي أو علمي، وسواء كانت على مستوى فردي أو محلي أو على مستوى الدولة.
أما النطاق الثاني (١٠٠–٢٥٠ مليمترًا) فهو نطاق الرعي التقليدي الذي تمارسه القبائل البادية كبيرة العدد، ويمتد هذا النطاق الرعوي، متداخلًا مع نطاق الأمطار الأكثر، فيما بين الجزيرة — شمال العراق — وبادية الشام في سوريا والأردن والعراق، إلى شمال المملكة السعودية، هنا نجد التنظيمات العشائرية أوضح وأقوى ما تكون في العالم العربي، متمثلة بقبائل شمر والرولة وعنزة، وفي منطقة الساحل المصري بين سيناء شرقًا والجبل الأخضر في ليبيا غربًا تظهر التنظيمات العشائرية الرعوية لعدد من القبائل أهمها أولاد علي فيما بين برقة والإسكندرية، وفي جنوب الجزيرة في كلٍّ من اليمن وعمان نجد نظام العشائر الرعوية سائدًا في المناطق التي لا تستغل في الزراعة، وكذلك الحال في وسط وجنوب إيران وأفغانستان وجنوب باكستان، وفي الصومال وفي شمال شرق السودان ومعظم إريتريا.
(٣-٣) صفات الإقليم الجاف
وخارج هذا الإقليم الانتقالي بنطاقيه نجد (١) الإقليم الجاف. (٢) الإقليم المطير. ويحتل الإقليم الجاف كل المناطق التي تقل أمطارها عن مائة مليمتر، ويشتمل على وسط إيران وغالبية شبه الجزيرة العربية وشمال السودان ومصر، وتعتمد الحياة في هذا الإقليم على المخزون من المياه الجوفية، سواء كانت حفرية (ترجع إلى العصور المطيرة) أو كانت مياه متجددة (بالتسرب الجوفي لمياه أمطار منطقة قريبة)، ومن ثم فإن الحياة تظهر منعزلة ومبعثرة في الواحات التي تظهر فيها هذه المياه الجوفية، وفي داخل هذا النطاق الجاف تظهر بعض الأنهار القصيرة، كما هو الحال في الهضبة الإيرانية الأفغانية، كما أن أجزاءً من مسارات بعض الأنهار الكبرى تخترق الإقليم في صورة أحداث إيكولوجية عارضة: الدجلة والفرات والنيل. وقد قامت على مياه الأنهار — القصيرة والطويلة — حياة مستقرة في امتدادات أرضية طويلة، شكلت نقيضًا عمرانيًّا للتجمع الواحي الصغير المبعثر، وكانت مهادًا للحضارات القديمة العليا في مصر والعراق وفارس.
(٣-٤) صفات الإقليم المطير
أما الإقليم المطير فهو ذلك الذي تزيد فيه الأمطار عن ٥٠٠ مليمتر، ويشتمل على معظم شمال الشرق الأوسط: غالبية تركيا — باستثناء الهضبة الوسطى قليلة الأمطار — وعلى جبار البرز في شمال إيران، وعلى هضاب أرمينيا وكردستان فيما بين تركيا وإيران وشمال العراق، وعلى جبال زاجروس وكل ساحل سوريا ولبنان وشمال فلسطين، كما يشتمل على إقليم المطر الصيفي في أجزاء من السودان وإثيوبيا واليمن وعمان، وبرغم الزراعة المطرية في كل تلك المناطق، إلا أن الزراعة كحرفة أساسية اقتصرت على سكان السهول الساحلية في شرق المتوسط وسواحل الأناضول وسواحل بحر قزوين، مع تداخل في صورة جيوب صغيرة تلتزم بالوديان النهرية التي تنبع من الجبال، كوادي العاصي ووادي الأردن وأودية سيحان ومندريس وسقاريا وأعالي الفرات في الأناضول وبعض مناطق السودان وإثيوبيا واليمن وعمان، وفي مقابل ذلك فإن بقية الإقليم المطير تحتله مجتمعات رعوية متعددة أكبرها الأكراد واللور والباتان في الجانب الآسيوي، والبقارة والجالا والصومالي في القسم الأفريقي.
(٣-٥) مسعى دائم في الشرق الأوسط لتعديل ميزان الماء
يتضح من هذا العرض السريع كيف أن الظروف المناخية في الشرق الأوسط كانت من العوامل، بل من العناصر الجغرافية ذات الفعالية الشديدة في تشكيل قدر كبير من البناء الأساسي لدول الشرق الأوسط، فظروف الحرارة والجفاف العامة جعلت للموارد المائية أهمية حيوية تعادل أهمية المكان والموقع الجغرافي أو التركيب الجيولوجي والثروة المعدنية، وتزيد عليهم، فمن البديهيات أن حجم الموارد المائية تشكل الإطار الذي يتقرر من خلاله حجم الموارد البشرية الأخرى، ونخص بالذكر حجم السكان وحجم ونوع الموارد الاقتصادية الموجهة للغذاء، سواء كان ذلك موارد زراعية أو حيوانية أو كلتيهما.
ويكفي بصورة عامة أن نقارن بين الحجم السكاني في مصر وتركيا، حيث تتوفر الموارد المائية الدائمة على نطاق واسع — النيل وأمطار وأنهار تركيا — وبين مثيله في إيران والسعودية حيث تقتصر الموارد المائية على مساحات محدودة في الوحدات، باستثناء شمال وغرب إيران (انظر خريطة ٣٢).
وكذلك يكفي أن نعرف أن دول الشرق الأوسط في مجموعها من أكثر دول العالم انشغالًا بمحاولات تعديل الميزان الطبيعي في مصادرها المائية بشتى الوسائل، ومنذ القدم ابتكر سكان الشرق الأوسط وسائل مختلفة لتخزين المياه في خزانات كبيرة — خزان بحيرة موريس في الفيوم منذ عهد الدولة الوسطى في مصر الفرعونية في حوالي ٢٠٠٠ق.م — أو نظام ري الحياض الفرعوني لاستخدام مياه النيل الاستخدام الأمثل مع زيادة خصب التربة، أو نظام القنوات التي كان يحفرها الفرس تحت الأرض لمسافات طويلة وذلك لجلب المياه من أماكن بعيدة نسبيًّا، ووسائل وأدوات رفع المياه (الساقية والشادوف). وفي الوقت الحاضر هناك إنشاءات هندسية عديدة على أنهار المنطقة، وربما كانت مجموعة الإنشاءات الهندسية على النيل (ابتداء من القناطر الخيرية ١٨٤٠ حتى السد العالي) من أكمل المجهودات البشرية لضبط الأنهار في العالم.
وهناك إنشاءات هندسية متعددة على العاصي والفرات وغيرهما من أنهار المنطقة، وسيأتي وقت تصبح فيه كافة أنهار الشرق الأوسط مضبوطة بدرجات مختلفة من أجل توفير مياه الري ومياه الشرب لإطعام وسقاية ملايين الناس في المستقبل، وتتعدى الأعمال الهندسية أنهار الشرق الأوسط الرئيسية إلى المجاري النهرية الصغيرة التي تصب في المنخفضات الطبيعية، كما هو حادث في إيران، ومشروعات أخرى على الأودية ذات التصريف المائي الموسمي مثل أودية اليمن وعسير أو وادي حنيفة عند الرياض.
ولا يقتصر الأمر على محاولة ضبط الأنهار الدائمة أو المسايل والأودية ذات الجريان الموسمي، بل يتعداه إلى تحويل جزء من مياه بعض الأنهار مسافات بعيدة في مجارٍ صناعية، وهذه عملية مكلفة، ولكنها تشكل ضرورة لا بد منها، ومن الأمثلة على ذلك جر مياه النيل إلى غرب محافظة البحيرة — مديرية التحرير ومنطقة مشروع ري مريوط الكنتوري — وتحويل مساحات ذات قدر من الصحارى إلى أراضٍ زراعية جيدة، ومن الأمثلة أيضًا سحب مياه الأردن لري أجزاء من سهل فلسطين وشمال النقب، ومشروعات عربية أخرى على نهر الأردن لري مساحات كبيرة من أراضي الغور.
ولمزيد من تحسين أرصدة المياه في دول الشرق الأوسط الجافة نجد مساعي عديدة تستخدم الأساليب العلمية للحصول على المياه الجوفية، وقد كانت الدفعة الأولى في هذا الاتجاه ناجمة عن أعمال شركات التنقيب عن البترول في جوف الصحراء، فقد كان لزامًا عليها أن تحاول اكتشاف مصادر مياه باطنية محلية تحتاجها في عمليات الضخ البترولي، ولأغراض المستعمرة البشرية التي تقوم جوار الحقل البترولي، وتنتشر عملية دق الآبار الحديثة في أجزاء مختلفة من السعودية ضمن خطة شاملة للدولة من أجل تدعيم اقتصادها الزراعي والتوسع الأفقي في مساحات الأرض الزراعية، ومما يؤخذ مؤشرًا على ذلك أن الميزانية السعودية عام ١٩٧٠ قد خصصت نحو مائة مليون دولار في صورة استثمارات حكومية لتعميق الآبار الموجودة، وإقامة مشروعات ري حديثة، ومشروعات لضبط الرمال المتحركة — الكثبان — حتى لا تزحف على الأراضي الزراعية، وتعد الحكومة السعودية دراسة شاملة لمصادر مياهها الجوفية، كما أقامت ثلاث منشآت لتحلية مياه البحر، وهناك أربع أخرى بسبيل التنفيذ.
ومثل ذلك تفعله إيران في سبيل تحسين الاستفادة من مواردها المائية وزيادة الأرض المزروعة، وذلك برصد استثمارات كبيرة في إطار خطة التنمية، وكان مشروع «الوادي الجديد» في الواحات الخارجة المصرية من بين مساعي دول الشرق الأوسط للحصول على مصادر مياه جديدة بضخ المياه الباطنية. وأيًّا كانت نتائج مشروع الوادي الجديد، فإن الخبرة والمهارة التي اكتسبها عدد من الباحثين المختصين بشئون المياه الباطنية هي في حد ذاتها مكسب كبير.
والمشكلة الأساسية التي تواجه التوسع في استخدام المياه الباطنية هي الحصول على إجابة صحيحة للسؤال الصعب: هل المياه الجوفية في أيٍّ من الجيوب الباطنية التي تُختَزن فيها المياه مياه متجددة أم حفرية (مياه قديمة وقعت في مصيدة جيولوجية مثل حقول البترول، وبالتالي فهي غير متجددة)؟ فإذا كانت المياه متجددة، فإن السؤال الثاني هو ماهية مصدر هذه المياه، وأين يقع، وسرعة جريان المياه الباطنية من المصدر إلى البئر؟ وبناء على ذلك كله فإن أي مشروع زراعي على أساس ضخ مياه باطنية يجب أن يُبنَى على أساس حسابات دقيقة تحدد كمية المياه التي يمكن أن تُضخ سنويًّا، بحيث لا تؤثر على مستوى الماء الباطني بصورة يتوقف معها المشروع بعد عدة سنوات، وإذا كانت المياه التي عُثر عليها حفرية — أو أن تجددها شديد البطء — فإن ذلك يعني إقامة مشروع محدود زمنيًّا، ينتهي بنضوب المياه، ولكن هذه الصورة المثالية من البحث والدراسة لا تتم على هذا النحو، ففي غالبية الحالات تُدَق الآبار عند العثور على الماء، وليكن عمر المخزون المائي ما يكون، وهذه وجهة نظر متبعة في أحيان كثيرة بالنسبة لتعدين المعادن، وفي كليهما استفادة بمصادر الثروة غير المتجددة.
في معظم بلاد الشرق الأوسط نجد أن الحجم السكاني متوازٍ بصورة من الصور مع موارد المياه، وقد نجد دولًا يقل فيها عدد السكان عن حجم الموارد المائية الموجودة، والمثال الرئيسي على ذلك هو السودان والعراق، ونجد دولًا أخرى يزيد فيها ضغط السكان على الموارد المائية المتاحة، كما هو الحال في مصر ولبنان وفلسطين، وهذا النقص أو الزيادة في تناسب السكان والمياه يجيء نتيجة تفاعلات حضارية واقتصادية وصحية تعمل من داخل الدولة بالطرق الطبيعية التدريجية، ويمكن زيادة فاعلية العوامل المختلفة بوضع خطط ومشروعات للتنمية وتحسين الأحوال الصحية من أجل زيادة السكان في الدول قليلة السكان، أو من أجل مواجهة الضغط السكاني، وبعبارة أخرى يمكن علميًّا المحافظة على توازن القوى الداخلية بالحد من مسببات الضعف التركيبي للدولة سياسيًّا، سواء كانت دولة مفتقرة إلى الطاقة البشرية أو أخرى تعكس فيها القوى البشرية الضاغطة ميزان التوازن مع الموارد المتاحة.
وحيث إن مشكلات زيادة السكان في مصر، أو قلتهم في السودان أو العراق من المشكلات المعروفة، وإن لهذه أو تلك حلولًا واضحة — تكثيف الإنتاج الزراعي والصناعي واستخدام أحسن لموارد النيل والدجلة والفرات — فإننا سنتناول بالدراسة موضوع التناسب بين السكان والمياه في لبنان وفلسطين، اللتين تؤدي فيهما عدة عوامل اقتصادية وخارجية إلى زيادة الضغط السكاني على الموارد المائية المحدودة، وهذا الدفع السكاني يقود إلى ما يشبه الطريق المسدود ويضخم مشكلة فقدان التوازن، وبالتالي يشكل نقاط ضعف من نوع خاص في كلٍّ من المنطقتين.
(٣-٦) لبنان والمياه
في خلال النصف الأول من هذا القرن كان التوازن شبه متوافق بين السكان وموارد المياه والتربة الصالحة للزراعة وتكنولوجية الزراعة في لبنان، بل كان يميل قليلًا نحو زيادة سكانية تجد لها مخرجًا في هجرة دائمة أو شبه دائمة إلى مناطق الثروة والعمل في مصر وأفريقيا الغربية الفرنسية والأمريكتين، وبعد ظهور المشكلة الفلسطينية وتكوين إسرائيل والمقاطعة العربية السياسية والاقتصادية أصبح لبنان الوريث الوحيد لعلاقات الموقع وتجارة الترانزيت التي كانت تميز فلسطين منذ فترة طويلة.
وقد كانت خلفية موانئ فلسطين — عكا وحيفا ويافا — تمتد في سهولة ويسر عبر السهل الفلسطيني الواسع وعبر سهل مرج بن عامر العريض إلى الأردن، ومن ثم إلى سوريا والعراق، وبواسطة الخط الحديدي من مصر وقناة السويس ومن الموانئ الفلسطينية، كانت التجارة تنتقل بسهولة عبر السهل الفلسطيني إلى الأردن وسوريا ولبنان، وفي مقابل السهول التي تربط موانئ فلسطين بخلفياتها الداخلية في الشرق الأوسط نجد الجبل اللبناني يقف عائقًا طبيعيًّا أمام خطوط الاتصال والحركة بين بيروت وخلفيتها الطبيعية في الشرق الأوسط، وقد حاول الفرنسيون خلال فترة الانتداب ربط بيروت ودمشق ومنافسة الروابط السهلة الأخرى بين دمشق والواجهة البحرية في شمال فلسطين، ومن ثم أُنشئ الخط الحديدي بين بيروت ودمشق، ولكنه خط طويل يتعرج كثيرًا من الانحدارات الجبلية، ويدور في البقاع حتى يستطيع أن يجد مخرجًا سهلًا فيما بين الرياق وسرغايا عبر سلسلة الجبال الشرقية، وأكبر دليل على ضعف هذا الخط أن الطريق البري بين بيروت ودمشق يستأثر بحمولة أعظم مرات ومرات من هذا الخط الحديدي.
- (١)
إغلاق قناة السويس مرتين وتحول جزء من تجارة دول شبه الجزيرة العربية إلى الواجهة البحرية اللبنانية.
- (٢)
تدفق رأسمال من دول البترول على المصارف والاستثمارات العقارية في لبنان، وذلك نتيجة الموقف السياسي الليبرالي المحايد الذي تتبعه لبنان، ويضاف إلى ذلك تكثيف صناعة السياحة وكثير من الخدمات لمنطقة الشرق الأوسط العربي بصورة عامة.
- (٣)
ساهم رأس المال القادم من سوريا والعراق، نتيجة عدم الاستقرار، مع رجال الخبرة من بعض الدول العربية ولبنان في زيادة الاستثمارات والعمالة والازدهار.
- (٤)
في مجال العمالة البشرية أصبحت لبنان سوقًا تَجتذِب فيها صناعةُ العمران والطرق وزراعة الموالح أيديًا عاملةً مقيمةً ومهاجرةً، وخاصة من الفلسطينيين المقيمين في لبنان، ومن السوريين الذين يأتون في عمالة موسمية.
- (٥)
تمشيًا مع الازدهار تحولت مساحات كبيرة إلى زراعة حديثة، وخاصة في البقاع والجنوب.
- (٦)
وعكس ذلك أدت فرص العمالة في المدن اللبنانية القائمة على الخدمات، إلى هجرة من الريف والجبل وبدأ الإهمال يتطرق إلى كثير من الحقول الزراعية، وخاصة في الجبل؛ لأن عائد العمالة في المدن أكبر من عائد زراعة الفواكه (وهذه حالة ملحوظة في المناطق الجبلية مثلما حدث في جبال الألب، وخاصة في سويسرا، حيث هجر الكثيرون الرعي والزراعة إلى عمالة المدن الصناعية وعمالة الخدمات).
- (٧)
وأولئك الذين مكثوا في الجبال يتجهون إما إلى تحويل جزء من نشاطهم من الزراعة إلى السياحة والاصطياف بتعمير سياحي الطابع، وإما إلى التكثيف الجديد للنشاط الزراعي في الجبل والسهل بواسطة استثمارات رأسمالية كبيرة، أو فردية، في مزارع الدواجن، وهو اتجاه إنتاجي محمود بالنسبة لتثبيت العمالة في الأرض الزراعية.
والخلاصة أنه نتيجة لهذه العوامل تضاعف عدد السكان في لبنان، وهي علامة صحية مرتبطة بالازدهار الاقتصادي، ولكن هذه الزيادة السكانية قد أصبحت مشكلة ذات شقين: أولهما التركيز الشديد للسكان في المدن، وبشكل خاص في بيروت، والثاني الزيادة التي تفوق بكثير التوازن الطبيعي بين المياه وأعداد السكان. ومن ثم تظهر المياه كمشكلة حساسة في البناء التحتي اللبناني المعاصر، وخاصة في السنوات التي تقل فيها الأمطار التي تغذي الأنهار والينابيع سنويًّا.
على العموم فإن الضغط السكاني في بيروت طول السنة، وفيما بين بيروت وبحمدون خلال نصف السنة الصيفي، قد أدى — فيما أدى إليه — إلى سحب المياه من مناطق عديدة لإشباع احتياجات هذه الكتلة السكنية الدائمة والموسمية، مما تسبب عنه أضرار بمناطق أخرى، وسوء توزيع مكاني لمياه محدودة، وسوء توزيع نوعي (بين احتياجات الزراعة واحتياجات الشرب) أيضًا لهذه المياه المحدودة.
وقد نجم عن هذا أن بنية لبنان الجيوبوليتيكية أصبحت غير متوازنة بوجود تركيز هائل للناس والأعمال والمياه في منطقة بيروت وعلى طول محور طريق الشام، ومؤدية إلى تفريغ أجزاء من الدولة من الناس والأعمال والمياه، ومن الطبيعي أن تتزايد قوة التفريغ في أطراف الجبل اللبناني الجنوبية والشمالية في اتجاه جذب المنطقة الوسطى من هذا الجبل قريبًا من طريق الشام، وهذا هو الحال أيضًا في البقاع وبصورة معدلة في الإقليم الساحلي: اتجاه مستمر نحو بيروت وطريق الشام.
وفي الوقت الذي يواجه فيه المختصون مشاكل نمو بيروت، ما بين راغب في التخفيف من هذا النمو، وبين مستسلم للأمر الواقع ويرتب خطة لبيروت أكبر من الكبيرة، يفكر بعض ذوي الخبرة والمفكرين اللبنانيين في عدد من المشروعات من أجل إيجاد صيغة لإقامة التوازن الجيوبوليتيكي الذي اختل على النحو السابق شرحه، ومن بين الأفكار التي قُدِّمت: نقل المطار الدولي إلى وسط البقاع، أو تحسين النقل الحديدي من مرفأ بيروت إلى البقاع وجعله منطقة التجمع لحركة تجارة الترانزيت بدلًا من بيروت، والغرض من هذا تخفيف أعباء بيروت التجارية وأعباء مرور الشاحنات، وإنشاء منطقة جذب سكني واقتصادي في سهل البقاع الرحيب بالقياس إلى سهل بيروت المحدود.
وليس هذا هو الحل كله لأزمة الضغط السكاني على موارد لبنان المائية، فبرغم صغر مساحة الدولة إلا أنها في موقع ملائم بالنسبة لإقليم المطر على ساحل المتوسط الشرقي، ويساعد التركيب الجيولوجي على تسرب مياه الأمطار خلال الصخور الجيرية الكريتاسية — التي تكوِّن معظم سطح لبنان — إلى مخازن جوفية للمياه تظهر طبيعيًّا في صورة عيون وينابيع ذات تصريف طبيعي عالٍ عند وجود حواجز باطنية من الصخور غير المسامية، وعلى مياه مثل هذه الينابيع تتغذى كثير من الأنهار اللبنانية المتجهة إلى البحر أو البقاع، وبرغم الإنشاءات الهندسية المختلفة، التي يمثل سد القرعون على نهر الليطاني أكبرها، فإن لبنان بحاجة إلى مزيد من الدراسة والتخطيط والاستثمار من أجل رفع فعالية المياه اللبنانية بدرجة أكفأ، سواء بتنظيم وتكثيف الحصول على الماء الباطني أو الأنهار، ومما لا شك فيه أن غالبية الأنهار اللبنانية المنحدرة إلى البحر مباشرة، صغيرة الأحواض ومن ثم ذات تصريف سريع خلال موسم المطر وتصريف قليل إلى نادر خلال الصيف، وهي — فضلًا عن ذلك — تجري في أودية عميقة مما يجعل رفع مناسيبها أمرًا صعب المنال، ويمثل الليطاني أكبر الأنهار اللبنانية طولًا وأضخمها حوضًا وأكثرها ملاءمة للحجز واستثمارًا في التنمية الزراعية في جنوب البقاع وجنوب لبنان عامة، وبالرغم من كونه نهرًا لبنانيًّا صرفًا، وليس نهرًا واقعًا على الحدود في أي جزء من مساره، إلا أن تنفيذ مشروعاته مقترن بمشكلات سياسية، مصدرها أنه في وقت من الأوقات كانت عين إسرائيل على جزء من مياهه، ومن ثم فهي تهدد تنفيذ مشروعات تستنفد مياهه داخل الأراضي اللبنانية، لكن تغيُّر ميزان القوى يجعل هذا التهديد خاليًا من المحتوى.
وعلى وجه عام في لبنان إمكانات جيدة لإيجاد توازن في أقاليمها بتنفيذ مشروعات للري والتعمير في أجزاء مختلفة من البقاع الشمالي الذي يمكن أن يتحول إلى شبيه بالبقاع الأوسط — مثلث الرياق، شتورا، المصنع — الخصب والمتنوع والإنتاج، وكذلك الحال بالنسبة لجنوب لبنان وسهل عكار، وكلها أرصدة جيدة يمكن بتنميتها وتدبير وتنظيم مياهها أن تكون ركائز قوية في قوة الدولة.
(٣-٧) المياه أزمة خانقة في تركيب إسرائيل الجيوبوليتيكي
تميزت فلسطين منذ فترة طويلة بنوع من التوازن بين مصادر الماء ووساطة النقل التجاري وأعداد السكان، ومنذ الاحتلال الإسرائيلي أصبحت المنطقة تشابه لبنان في بعض أوضاعها من حيث الضغط السكاني على موارد المياه، لكنها تختلف تمامًا عن مسببات هذا الوضع، وتختلف جذريًّا في الحلول التي تقدمها إسرائيل للحصول على المياه.
وفي الحقيقة قد لا نجد أحسن من إسرائيل مثالًا على أهمية الموارد المائية في جيوبوليتيكية الشرق الأوسط وجغرافيته السياسية المعاصرة، فالمتتبع لتاريخ إقامة الدولة الصهيونية في فلسطين يجد ارتباطًا وثيقًا بين التوسع العسكري واستراتيجية العدوان واتجاهاته وبين مصادر المياه.
إن موقع فلسطين في أقصى جنوب شرق البحر المتوسط جعلها تقع على هامش مسارات الأعاصير الممطرة الشتوية، ومن ثم فإن معظم فلسطين تقع في الإقليم الانتقالي بين الصحارى والبحر المتوسط، وقد اشتركت أشكال التضاريس مع الموقع في جعل التغيرات المناخية، وخاصة كمية الأمطار الساقطة، تغيراتٍ سريعةً وشبه مفاجئة، برغم صغر مساحة فلسطين، فهضبة الجليل وشمال السهل الساحلي يتمتع بمطر موفور نسبيًّا (أكثر من ٥٠٠ مليمتر سنويًّا)، والقسم الأوسط — سهلًا وهضبة — يحوز كمية متذبذبة من المطر (متوسط ٢٥٠–٥٠٠ مليمتر)، بينما تكاد تنعدم الأمطار في منطقة البحر الميت وصحراء النقب، وباستثناء أنهار قصيرة صغيرة الأحواض موسمية التصريف، لا نجد نهرًا واحدًا يمكن استثماره في إيجاد نظام للري الدائم داخل فلسطين، أما نهر الأردن، فرغم قصر طوله، إلا أنه يمثل النهر ذا الجريان المنتظم في منطقة حدود مشتركة: فمنابعه التي تغذيه بالمياه الدائمة تقع في سفوح جبل الشيخ الشرقية (في سوريا) والغربية (في لبنان)، ويجري النهر كخط حدود بين سوريا والأردن من ناحية وفلسطين (إسرائيل والضفة الغربية) من ناحية أخرى.
والمتتبع لحركة الاستيطان الصهيوني الأولى يجد أنها كانت تتركز في القطاع الممطر من فلسطين، سواء على السهل الساحلي أو سفوح هضبة الجليل أو سهل مرج بن عامر، وفي القسم الأول لفلسطين عام ١٩٤٨ اختص اليهود بالقسم الممطر كله (باستثناء هضبة الجليل) بالإضافة على النقب في معظمه، وفي عام ١٩٤٩ أكملوا احتلال الجليل والنقب ومنطقة شمال غزة وأجزاء كثيرة متاخمة للضفة الغربية ولسان امتد حتى القدس (انظر الخريطة ٣٣).
وقد كان التوسع الإسرائيلي في شمال ووسط فلسطين له مبررات مختلفة عن إحكام قبضتهم على كل النقب، فقد كان المبرر الاستراتيجي من احتلال كل النقب يهدف إلى تدعيم إضعاف العالم العربي بشطره قسمين، تمهيدًا لمزيد من التوسع، وبالإضافة إلى ذلك فإن النقب وخليج العقبة يحقق أغراضًا اقتصادية: التجارة مع منطقة المحيط الهندي في آسيا وأفريقيا الشرقية، وتموين إسرائيل بالبترول دون اللجوء إلى المرور عبر قناة السويس، ولذلك أنشأت إسرائيل خط أنابيب من إيلات إلى عسقلان (قطره ٤٢ بوصة، وبدء العمل فيه عام ١٩٦٩، طاقته ١٣ مليون طن)، ولا شك في أنها قد تهدف في النهاية أن تكون إحدى دول عبور البترول، مثل مصر وسوريا ولبنان والأردن (انظر خريطة ٣٤)، ويبرر هذا الاحتمال ما تقوله المصادر إن بالإمكان زيادة طاقة خط أنابيب إيلات-عسقلان إلى ٦٠ مليون طن في السنة!
مليون متر مكعب | ||
---|---|---|
المجموع | ١٨٤٠ | |
مياه دائمة | ٩٩٥ | (٥٠٠ من الأردن، ٢١٥ من الياركون، ٢٨٠ ينابيع) |
مياه الفيضان | ٨٥ | |
مياه المجاري | ١٢٥ (بعد تنقيتها) | |
مياه جوفية | ٦٣٥ |
وبما أن الدونم (١٠٠٠ متر مربع) يحتاج إلى ٨٠٠ متر مكعب مياه للري، وبما أن ٨٠٪ من مجموع المياه تستخدم في الزراعة = ١٫٢ مليار متر مكعب فإن مساحة الأرض المروية = ١٫٢ مليار متر مكعب ÷ ٨٠٠ متر مكعب = ١٫٥ مليون دونم (حوالي ثلث مليون فدان).
وهذه المساحة تساوي ٣٦٪ من الأراضي المزروعة (٤٫٢ مليون دونم).
- (١)
استخدام السلاح للحصول على مياه الكثير من منابع الأردن، وخاصة بعد ١٩٦٧.
- (٢)
استخدام تكنولوجية عالية في سحب وضغط المياه من الشمال إلى الجنوب.
- (٣)
استخدم طريقة «الرش» في الري للوصول إلى أقصى اقتصاد ممكن في المياه، والشائع أن هذه الوسيلة تقتصد أكثر من نصف المياه في الري بالراحة.
- (٤)
إعادة استخدام مياه الصرف والمجاري للري واستخدامات الشرب بعد تنقيتها.
- (٥)
اتجاه إلى تحلية مياه البحر أو تقليل الملوحة: تكنولوجيا ورأسمال استثماري.
- أولًا: أن منطقة فلسطين — كما سبق أن ذكرنا — منطقة انتقالية متذبذبة المطر، ومعنى ذلك أن تعاقب عدة سنوات قليلة المطر يؤثر بوضوح على مصادر المياه الدائمة المتمثلة في نهري الأردن والياركون، وعلى مياه الينابيع، ويتعداها إلى التأثير على إعادة ملء الخزانات الجوفية، وهذه كلها تكون أرصدة المياه الرئيسية المتاحة في فلسطين، وإلى جانب ذلك فإن بحيرة طبرية، وهي الخزان الطبيعي الذي يعد دعامة «الناقل المائي الوطني»، تتأثر كثيرًا بانخفاض كمية الأمطار الساقطة كما حدث عامي ١٩٧٢ و١٩٧٣، وقد انخفض منسوب الماء في طبرية عام ١٩٧٣ إلى أدنى حد معروف نتيجة استمرار ضخ المياه وقلة عائدها من المياه، وقد أدى ذلك إلى وقف الضخ بعض الوقت حتى لا تزداد نسبة الملوحة في البحيرة، وانتظارًا لأمطار الشتاء، وبعبارة موجزة فإن أقدار الزراعة الحديثة تتوقف على عنصر المناخ، وهو بعد بعيد عن إمكانية تطويعه حسب رغبات الإنسان.
- ثانيًا: تمكنت إسرائيل بفضل المعونات المالية والفنية الخارجية (وهي في حد ذاتها تمثل عائدًا بدون منتج وطني مما يهدد النمو الذاتي تهديدًا جذريًّا) من استغلال كل الكفاءة التكنولوجية مع استخدام باهظ التكاليف للوصول إلى الحد الأعلى من استخدام المياه المتاحة «وغير المتاحة»، وحققت بواسطة الري بالرش أقصى توسع ممكن في مساحة الأرض المروية، وعلى هذا فإن أي نقص في مقننات المياه المخصصة للزراعة — وهي كما قلنا ٨٠٪ من مجموع المياه المتاحة — ينعكس على الفور في صورة نقص واضح في المساحة المروية أو المحاصيل المنتجة.
- ثالثًا: أن الالتجاء إلى تحلية مياه البحر أو تقليل ملوحة المياه الجوفية أمر ممكن علميًّا، لكنه عالي التكاليف، ومن الناحية الاقتصادية البحتة — حساب الربح والخسارة — فإن عائد الزراعة القائمة على مياه مكلفة من هذا النوع، هو دائمًا عائد حدي؛ لأن نجاح المحصول أو فشله لا يعتمد فقط على المياه، بل إنه رهن عوامل طبيعية عدة بعيدة عن الضبط البشري: فأي ارتفاع أو انخفاض في درجة الحرارة أو الرطوبة أو أية عواصف أو موجات برد وصقيع أو آفات زراعية في غير أوانها كفيلة بفشل المحصول، وعلى هذا فإن الذبذبة الدائمة الحدوث في الإنتاج الزراعي — حتى في الأرض الخصبة والمياه الطبيعية المتوفرة والزراعة العلمية الأساليب — تثبت أن الاستثمارات العالية في تحلية مياه البحر أو تقليل ملوحة المياه الجوفية من أجل الزراعة ما هي إلا أمر محفوف بالأخطار بصورة أكثر مما يحتملها رأس المال العادي، الذي يمكن أن يستثمر في مشروعات أكثر أمانًا وربحًا.
- رابعًا: مجموعة أخرى من العوامل الذاتية في إسرائيل، فكفاءة خط الأنابيب الذي ينقل المياه إلى سهول الساحل الجنوبي قد قلت مما يؤدي إلى زيادة تسرب المياه، وهذا أمر يدعو إلى تخصيص جانب من رأسمال الزراعة في الصيانة، وفضلًا عن ذلك فقد كان هناك تعارض جذري بين استراتيجية إسرائيل في بناء المستعمرات الزراعية وبين سهولة حصول الحقول على مياه الري، فقد كانت الخطة الأساسية المتبعة في بناء المستعمرات — كيبوتز وموشيف — أن تكون وحدة دفاعية أو هجومية، ومن ثم اختيرت لإقامتها أماكن ومواقع عسكرية، لهذا ظهر نوع من التعارض بين «أمن» هذه المستعمرات وبين وظيفتها الاقتصادية كمستعمرة استيطان زراعية.
وبناء على ما سبق يمكننا أن نلخص الموقف على النحو التالي: نجحت إسرائيل، بتكاليف وتكنولوجيا عالية، في الوصول إلى سقف إمكاناتها — داخل حدودها — من التوسع الزراعي، وأصبحت مهددة بالتراجع الإنتاجي في سني الجفاف المتعاقبة؛ لأن مخزونها من المياه السطحية والجوفية محدود، ومن ثم شددت إسرائيل مساعيها للحصول على منابع الأردن في كلٍّ من سوريا ولبنان، باستمرار احتلالها للجولان والإشراف الفعلي على تصريف المنابع اللبنانية للأردن، مع احتلال ضفتي اليرموك الأدنى في كلٍّ من سوريا والأردن لمنع العرب من إقامة مشاريعهم الخاصة بالري في غور الأردن، وباختصار فإن اتجاه إسرائيل شمالًا يهدف — على الأقل في المرحلة الحالية — إلى جعل حوض الأردن في معظمه ملكًا إسرائيليًّا، أو على الأقل تحت إشرافها الفعلي، والسبب راجع إلى طبيعة مقومات فلسطين؛ فالشمال غني نسبيًّا بالمياه، لكنه فقير نسبيًّا في مساحة الأرض المطلوبة للتوسع الزراعي، وعكس ذلك تمامًا في الجنوب، فالسهل الساحلي الجنوبي وأطراف النقب الشمالية فقيرة في مواردها المائية في الوقت الذي تحتوي فيه على مساحات كبيرة من الأرض القابلة للزراعة.
وعلى هذا النحو يتضح لنا كيف يتدخل الماء كعامل — من بين عوامل أخرى بدون شك — له قوته ووزنه في ضعف التركيب الجيوبوليتيكي الداخلي والخارجي لإسرائيل، وتسعى إسرائيل لتعديل ميزان الماء بالقوة أو التهديد باستخدام القوة، وذلك لتأمين ثبات أو زيادة مرجوة في اقتصاديات الإنتاج الزراعي لكي تتمكن من استيعاب عدد أكبر من المهاجرين يتم بهم دعم البناء الإسرائيلي الجيوبوليتيكي. وهكذا دخلت إسرائيل الحلقة المفرغة؛ فهي بحاجة إلى مهاجرين جدد لتقويتها = احتياج إلى أرض زراعية = احتياج إلى موارد مائية في أرض قليلة الأمطار والأنهار = توسع عسكري للحصول على الماء من الدول المجاورة، والقوة العسكرية مهما تعاظمت لا يمكن أن تكون الحل الوحيد أو الأمثل أو الصحيح، خاصة في وجه المقاومة العربية حتى في أضعف أوقاتها = استعداء إسرائيل واحدة من القوتين العالميتين إلى حد صدام عالمي. فهل يمكن أن تستمر الأوضاع على هذا النحو إلى ما لا نهاية؟
الرد على الحلقة المفرغة الإسرائيلية جيوبوليتيكيًّا هو حلف مشترك بين الزمن والمقاومة العربية بكافة الأسلحة — حرب شاملة أو حرب اقتصادية أو هما معًا — وموارد المياه، فلو افترضنا — مستحيلًا — أن إسرائيل استطاعت أن تستولي على كل تصرف نهر الأردن بروافده اللبنانية والسورية والأردنية، فإن المساحة الإجمالية للزراعة المروية ستصل إلى الرقم المتواضع ٠٫٨ مليون فدان (قارن هذا بنحو ستة ملايين من الأفدنة في مصر تُزرَع في المتوسط مرتين في السنة)، أما لماذا الاهتمام بالماء، فهذا راجع إلى عنصرين: العنصر الأول أنه من الطبيعي أن تنبني أسس الحياة الاقتصادية في فلسطين على الزراعة بوصفها إقليمًا فقيرًا في الثروة المعدنية وموارد الطاقة، كما أنها لا يمكن أن توظف علاقاتها المكانية في استيعاب قدر من تجارة الترانزيت العربية، كما كان الحال في فلسطين العربية في الماضي، أو هو كما عليه الوضع حاليًّا في لبنان، وذلك بسبب العداء الذي دفعه اليهود دفعًا في نفسية العرب قادة وشعوبًا، باعتدائهم على جزء من الوطن العربي وتحويل أصحابه إلى لاجئين، وبرغم المستوى التكنولوجي العالي لليهود المهاجرين من العالم الأوروبي، فإنه لا يمكن تحويل قدر كبير من النشاط الاقتصادي في إسرائيل إلى الصناعة؛ لأن السوق الطبيعي المجاور مغلق دون منتجاتها، وأخيرًا فإن الزراعة تكون المجال الذي وظفت فيه إسرائيل المهاجرين اليهود من البلاد الشرقية والعربية، وهم على مستوى تعليمي متخلف ويكونون في مجموعهم عمالة غير ماهرة.
والعنصر الثاني الذي يكوِّن أهمية الماء والزراعة في جيوبوليتيكية إسرائيل عنصر نفساني ودعائي، فمنذ تفرق اليهود، وخاصة في أوروبا، حرموا من ملكية الأراضي الزراعية وعاش معظمهم حبيس «الجتو» (= حارة اليهود)، وقد استغلت الدعوة الصهيونية هذه المشاعر النفسية — جنبًا إلى جنب مع الحنين إلى الوطن الأسطوري — باعتبار أن الزراعة تعطي للناس جذورًا ثابتة في الأرض، وقد تكلفت إسرائيل غاليًا في سبيل تحقيق هذه الدعوة التي قامت تحت شعار تحويل فلسطين إلى الأرض التي يسيل فيها اللبن والعسل، وقد نجح التوسع الزراعي الإسرائيلي على النحو الشديد التكلفة كما سبق أن رأينا، ولو افترضنا التسليم بالأرقام التي تنشرها إسرائيل عن زيادة المساحة المزروعة مرتين ونصف عما كانت عليه قبل ١٩٤٨ (من ٤٠٠ ألف فدان إلى مليون فدان أراضٍ زراعية مطرية وزراعة جافة وزراعة قائمة على الري) فإنه يجب أن نحسب أيضًا زيادة عدد السكان في الفترة نفسها إلى أكثر من ضعفين ونصف، فمجرد زيادة الطاقة البشرية كفيل بزيادة الرقعة الزراعية، ضاربين صفحًا عن نوعية هذه الطاقة البشرية ومستوى أدائها التكنولوجي ورءوس الأموال الاستثمارية التي توجد تحت تصرفها.
ومن المعروف أن إنتاج وصادرات الموالح هي فخر الإنتاج الزراعي في إسرائيل، فقد بلغ الإنتاج ١٫٥ مليون طن عام ١٩٧١، وكانت قيمة صادراتها ١٢٤ مليون دولار، ومساحة الأرض المزروعة موالح ٤٢٥ ألف دونم، وهذه المساحة تساوي زيادة قدرها ١٤١٪ بالنسبة لمساحة الموالح العربية في فلسطين عام ١٩٣٩، وتمثل أرقام ١٩٣٩ آخر الأرقام العادية قبل أن تندلع الحرب العالمية الثانية وتنكمش أسواق الصادرات، ودلالة هذه الأرقام أنه برغم الدعاية الصهيونية فإن مساحة هذا المحصول الرئيسي لم تزد إلا بمقدار ٤٠٪ عما كانت عليه الأمور من قبل! وهذا يشهد بأن الظروف الطبيعية لا زالت قوة أكبر من التكنولوجيا والمال في مجالات الإنتاج الأولي عامة والزراعي خاصة، وأن المياه في الشرق الأوسط قاطبة عنصر حيوي في بناء الدول.
(٤) التركيب الجيولوجي مصدر قوة وضعف في البناء السياسي لدول الشرق الأوسط
- (١)
نطاق الجبال الالتوائية في الشمال، ويشتمل على معظم تركيا وإيران وأفغانستان، وله امتدادات محدودة في العالم العربي (سلسلة الجبال الموازية لساحل البحر المتوسط الشرقي والجبل الأخضر في عمان)، ويتميز هذا النطاق باحتمالات وجود المعادن.
- (٢)
نطاق الصخور الإرسابية الرملية والجيرية، ويشتمل على معظم أجزء العالم العربي في الشرق الأوسط، ويتميز هذا النطاق بأنه يحتوي — نتيجة تركيبات بنيوية خاصة — على أكبر مخزن للبترول معروف في العالم، كما توجد فيه بعض التكوينات الجيولوجية ذات القيمة الاقتصادية، وخاصة الفوسفات والبوتاس.
- (٣)
نطاق الصخور البلورية القديمة الذي يمتد في الجنوب من السودان إلى إثيوبيا والصومال وجنوب الجزيرة العربية، ويمتد في ألسنة متداخلة مع التكوين الصخري الإرسابي الأحدث في نجد والحجاز والبحر الأحمر، وفي أجزاء من هذا التركيب البلوري حدثت انكسارات وتكوينات بركانية غطت التركيب الصخري القديم، ويظهر هذا النوع من التركيب في إثيوبيا واليمن والحجاز، وفي مناطق أخرى غطت الإرسابات الفيضية التكوين البلوري، كما هو الحال في حوض النيل في السودان، والتكوين البلوري عامة فقير في الثروة المعدنية، إلا في جيوب صغيرة حيث تظهر خامات معدنية نتيجة للانكسارات والفوارق، كبترول خليج السويس، أو الحديد والنحاس في جبال البحر الأحمر.
- (١)
نمط التصريف المائي السطحي والجوفي، وبناء السهول الفيضية، وهما ركائز الحياة المستقرة.
- (٢)
الثروة التعدينية، وهي واحدة من أهم أسس الصناعة والنشاط الاقتصادي الحديث.
(٤-١) تكوين المياه السطحية والجوفية والسهول الفيضية
في النطاق الالتوائي الشمالي يتصادف وجود السلاسل الجبلية العالية، التي تُحصَر فيما بينها هضاب واسعة كالأناضول وكردستان وإيران، مع كمية كبيرة نسبيًّا من الأمطار الساقطة، ويترتب على ذلك أن الزراعة والرعي، في الأساس، يعتمدان على المطر مع بعض المشروعات الهندسية التي تقام على الأنهار من أجل تخزين المياه وتوليد الطاقة، وتكون الأنهار في هذه المناطق الجبلية سريعة التيار في موسم فيضانها وتحفر لنفسها أودية عميقة وضيقة، وكلها عوامل تُصعِّب استغلالها إلا بقدر محدود، والأماكن الوحيدة التي يمكن الإفادة فيها من هذه الأنهار هي عند خروجها من الجبال في اتجاه السهول الساحلية أو المنخفضات المقفلة في الهضاب، وفي هذه المناطق تصنع الأنهار، بإرساباتها، أودية فيضية مؤهلة للزراعة الجيدة، ولكن السهول الساحلية في تركيا وسوريا ولبنان وساحل بحر قزوين الإيراني كلها سهول ضيقة باستثناء سهول تركيا الغربية المطلة على بحر إيجه وبحر مرمرة، وفي إيران وأفغانستان تنحدر مياه الأنهار إلى منخفضات داخلية صغيرة أو كبيرة، وحيث إن هذه الأنهار عادة قصيرة وسريعة الانحدار، فإنها سرعان ما تفقد قوتها وتلقي بإرساباتها، مكونة دلتاوات داخلية وأحواضًا إرسابية غنية، وفي مثل هذه الأحواض قامت حياة الواحات الكبيرة، مثل قم ومشهد وأصفهان وشيراز في إيران، وهرات ومزار شريف وقندهار في أفغانستان، وقد كانت هذه الواحات الكبيرة قواعد لإمارات وسلطات سياسية محلية أو ذات امتداد إقليمي كبير، وتمثل حلب ودمشق وبعلبك هذه الظاهرة في الشرق الأوسط العربي، فهي واحات تتلقى تصريف أنهار صغيرة سريعة من جبال طوروس — حلب — والسلسلة الشرقية — دمشق وبعلبك — ولا يحتاج دور دمشق وحلب السياسي في خلال فترة زمنية طويلة إلى شرح أو تنويه.
وبالإضافة إلى ذلك فإن مسامية الصخور في هذا النطاق الجبلي الالتوائي تؤدي إلى تسرب مياه الأمطار داخل التركيبات الصخرية، ويظهر بعضها إذا ما صادف تركيبًا بنيويًّا معينًا، في صورة عيون وينابيع تكوِّن بدورها مصدر الحياة المستقرة في مناطق ظهورها.
أما نطاق التركيب الصخري البلوري القديم في جنوب العالم العربي فإنه يتسم بصخور قليلة المسامية صلبة التركيب، ولهذا فالأنهار تجري سريعًا على سطوحها، ولا تستطيع أن تعمق مجاريها وأوديتها بالدرجة التي تحدث في النطاق الالتوائي الشمالي، وبما أن غالبية التركيب القديم في الشرق الأوسط يقع في داخل المنطقة الجافة، فإنه يفتقر إلى أي جريان سطحي دائم، سواء في نجد أو الحجاز أو جبال البحر الأحمر، وفي المناطق الحوضية الإرسابية داخل النطاق البلوري يمكن أن تتجمع المياه التي تسقط على هيئة سيول غير منتظمة، وتكوِّن بذلك مصادر الحياة في الواحات، كما هو الحال في واحات الحجاز أو نجد، والملاحظ أنه يكثر ظهور الواحات في مناطق التقاء التكوينات البلورية بالإرسابية، وتسمح السيول بنمو نباتي خشن وقليل في مسارات تلك السيول، مما يساعد على ظهور نمط الرعي المتنقل على طول هذه الأودية، وهذا النمط يرتكز عادة على سكن دائم في الواحات القريبة، بحيث تصبح هذه الأودية المجال الحيوي الذي يتنقل فيه الراعي.
أما في النطاق الإرسابي الحديث الأوسط فإن الجفاف هو السمة الأساسية، ويكاد السكن أن ينعدم إلا في المناطق التي تمر بها الأنهار الكبيرة أو الصغيرة مكونة وديانًا وتربة خصبة، وهذه الأنهار عادة تأتي بمياه مناطق خارجة عن النطاق الصحراوي، فالدجلة والفرات وروافدهما يأتيان بتصريف الجبال الالتوائية في كردستان وزاجروس، ويكوِّنان معًا سهلًا فيضيًّا فسيحًا، وربما كان أوسع السهول الفيضية في الشرق الأوسط، باستثناء سهل السودان الجنوبي وسهل البنجاب، ويأتي النيل بمياه المنطقتين الاستوائية والموسمية الحبشية ويكوِّن واديًا فيضيًّا ربما كان أخصب أمثاله في العالم، «وذلك بفضل نقل تربة بركانية غنية من الهضبة الحبشية». وهناك مناطق فيضية صغيرة تتمثل في الدلتاوات الداخلية لأنهار قصيرة مثل دلتا طوكر والجاش في شرق السودان وهلمند في أفغانستان، ورغم الجفاف العام في المنطقة، فإن غالبية هذه السهول تمثل أكثف مناطق العمران في الشرق الأوسط بفضل المياه الدائمة والتربة الخصبة، وقد كانت هذه السهول مهدًا للحضارات العليا القديمة، وتتمتع الدول التي توجد فيها هذه السهول بحرية واستقلال كبيرين بالنظر إلى إنتاجها المحلي من الغذاء، وعدم اعتمادها على واردات غذائية من الخارج، وهو أمر يدعم القوى الذاتية للدول.
(٤-٢) التعدين والتوازن الإنتاجي الحديث
فيما يختص بالثروة المعدنية، وهي الشق الشائع في الربط بين التركيب الجيولوجي ومصادر الثروة الطبيعية، فإننا نجد معظم بلاد الشرق الأوسط فقيرة في المعادن بالقياس إلى الأقاليم التعدينية الرئيسية في العالم، لكن البترول، الذي يكثر وجوده في الشرق الأوسط، يعدل هذا الميزان غير المتعادل، وعلى العموم فإن ما هو موجود في الشرق الأوسط من معادن يظهر أساسًا في النطاق الجبلي الالتوائي في تركيا وإيران، وفي مناطق الانكسارات أو مناطق التداخل التركيبي في النطاق البلوري القديم، وخاصة في مصر والسعودية (انظر الخريطة ٣٤).
وتعد تركيا أكثر دول الشرق الأوسط غنًى، وأكثرها استغلالًا لثروتها التعدينية المتعددة، ففيها أكبر إنتاج للفحم (٨ مليون طن) وفحم اللجنايت (نوع من الفحم الرديء، نحو مليوني طن سنويًّا)، والحديد (٢٫٥ مليون طن مقابل نحو نصف مليون طن في مصر)، وتعد تركيا إحدى أكبر دول العالم في إنتاج معدن الكروم (٩١٦ ألف طن)، وتنتج من النحاس عشرين ألف طن يُنتَظر أن ترتفع إلى خمسين ألفًا في أواخر السبعينيات، وفي إنتاج معدن المنجنيز تتصدر مصر دول الشرق الأوسط (٦٨٣ ألف طن مقابل ١٣ ألف طن لتركيا)، وتتنافس مصر والأردن على إنتاج الفوسفات، ففي ١٩٦٨ كان الإنتاج المصري ١٫٤ مليون طن ثم انخفض بتأثير الحرب، وفي الأردن بلغ الإنتاج ١٫١ مليون طن عام ١٩٦٨، ثم انخفض إلى نحو ٠٫٦ من المليون عام ١٩٧١ وما تلاها نتيجة إغلاق الحدود السورية الأردنية، وفي المملكة السعودية ثروة معدنية جيدة غير مستغلة، وخاصة مناجم الحديد الجيد في الحجاز بالقرب من ساحل البحر الأحمر، وبالرغم من أن دول الشرق الأوسط لا تدخل مناطق التعدين الرئيسية بالمقياس العالمي، فإن ما هو موجود من معادن يكوِّن ركيزة لا بأس بها لتنويع النشاطات الاقتصادية في الدولة، ويقيم بعض صناعات تمتص السكان المتزايدين، ويؤدي إلى بعض الاكتفاء الذاتي، مثال ذلك صناعة الحديد والصلب الثقيلة التي توجد في تركيا ومصر وإيران.
ولعل صناعة الحديد والصلب التركية هي الصناعة المتكاملة محليًّا في الشرق الأوسط، فإنتاج الحديد والفحم المحلي يقلل نفقات هذه الصناعة، أما في مصر وإيران فإن هذه الصناعة — التي أُنشئت في حلوان وأصفهان بالمعونة السوفيتية — تحتاج إلى الفحم المستورد من الخارج، وبرغم ذلك فإن مثل هذه الصناعات الثقيلة تعطي الدول بداية توازن جيوبوليتيكي في مصادر قوتها الأرضية، وتؤكد النسب المئوية التقريبية التالية هذه الحقيقة:
قطاع الاقتصاد | تركيا ١٩٧٠ | إيران ١٩٧٢ | مصر ١٩٦٩ |
---|---|---|---|
الزراعة | ٣٣ | ١٥ | ٣٠ |
التعدين والصناعة | ٢٠ | ١٤ | ٢١ |
البترول | ٢٩ |
وفي هذه الدول وغيرها اتجاه متزايد لتنشيط الصناعات التحويلية المختلفة، ففي مصر اتجاه إلى مضاعفة أرقام الإنتاج الصناعي عدة مرات، مثال ذلك أن الخطة العشرية تهدف إلى زيادة إنتاج الصلب من نصف مليون طن إلى مليوني طن، والأسمنت من ٣٫٦ ملايين طن إلى ستة ملايين، والمخصبات الزراعية من ١٫٦ مليون طن إلى٤٫٥ ملايين، والمنتجات البترولية من ٢٫٥ مليون طن إلى ١٦ مليونًا، والطاقة الكهربائية من سبعة آلاف مليون ك و س إلى ١٩ ألفًا، هذا فضلًا عن مجمع الفسفور والألمونيوم من بين صناعات أخرى جديدة، وفي إيران خطة طموحة بُدِئَ بتنفيذها ١٩٦٩، وترمي إلى مضاعفة إنتاج الصلب إلى أربعة ملايين من الأطنان، وإنشاء مصنع للرصاص وآخر للنحاس، وثالث للألمونيوم، ومصنع للآلات الزراعية والجرارات وغيرها من الآلات، وتشمل الخطة توزيع الصناعة على مناطق مختلفة «حول طهران وأصفهان وتبريز والأهواز وشيراز» وذلك لإيجاد توازن في أقاليم الدولة.
(٤-٣) جيوبوليتيكية البترول
يتوزع الإنتاج الرئيسي للبترول في الشرق الأوسط في الدول التي تفتقر إلى موارد تعدينية أخرى، وذلك باستثناء إيران، ومع ذلك فإن البترول معروف في مصر واحتمالات زيادته الإنتاجية كبيرة في منطقتي خليج السويس والساحل الغربي، وكذلك ظهر البترول في الستينيات في أعالي دجلة في تركيا، لكنه لا يزال محدود الكمية، ويتركز بترول الشرق الأوسط في نطاق يمتد من خليج عمان والخليج العربي والسهول الفيضية العراقية إلى أعالي دجلة في سوريا وتركيا، وإلى جانب ذلك يظهر بكمية كبيرة في برقة، واحتمالات وجوده بكميات كبيرة في شمال مصر يمكن أن تؤدي إلى ظهور نطاق آخر من خليج السويس حتى خليج سرت في ليبيا (انظر الخريطتين ٣٥ و٣٦).
وقد حظي بترول الشرق الأوسط بكتابات ومقالات وبحوث لا حصر لها، تناولت كل مظاهر البترول: الإنتاج – النقل – التسويق – الاحتياطي – مدخرات عوائد البترول – آثاره الاجتماعية والاقتصادية على العالم في تجارة الطاقة وعلى تطوير الشرق الأوسط – العلاقة الحيوية التي تربط الشرق الأوسط بكافة الدول المتقدمة (بدون الكتلة الاشتراكية) وتأثيراتها المتبادلة، وليس في النية إعادة ما كُتب، أو ما هو معروف وأصبح حقائق شائعة، لكننا سنركز قدر الاستطاعة على ما يمكن أن نستخلصه من مجموعة حقائق البترول المعروفة على أقدار الشرق الأوسط.
- (أ)
الدول المنتجة (باستثناء الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، كلها دول نامية).
- (١)
ملكية موارد الثروة التي توجد في أراضٍ أو مياه تحت سيادتها الوطنية.
- (٢)
ملكية حقوق عقد اتفاقات مع الشركات المنتجة، وحقوق إلغاء الاتفاق.
- (٣)
ملكية حقوق زيادة ضخ البترول من حقولها أو تخفيض الضخ حسب مصالحها.
- (٤)
حقوق رفع أو تثبيت أسعار البترول الخام.
- (٥)
حقوق رفع عوائدها من الشركات القائمة بالإنتاج في أراضيها بالتفاوض.
- (٦)
حقوق رفع الأسعار العالمية من خلال منظمة الأوبك.
- (٧)
حقوق تأميم الامتيازات البترولية الممنوحة.
- (١)
- (ب)
الدول المستهلكة (غالبيتها دول متقدمة).
- (١)
تمتلك الشركات القائمة بالإنتاج في الدول النامية ذات الفائض.
- (٢)
تمتلك رأس المال الاستثماري، والخبرة التكنولوجية في التنقيب وضخ البترول.
- (٣)
تمتلك الغالبية الساحقة من وسائل نقل البترول بحريًّا وأنبوبيًّا.
- (٤)
تمتلك الغالبية الساحقة من الطاقة التكريرية البترولية في العالم.
- (٥)
تمتلك السوق الرئيسي الذي يستوعب كل إنتاج الخام من الدول النامية.
- (١)
(أ) شركات الإنتاج الأجنبية في الشرق الأوسط ونصيبها من إنتاج البترول الخام (نسب مئوية) ١٩٧١.
الدولة | الشركات الأمريكية (١) | الشركات الإنجليزية (٢) | فرنسا (٣) | غيرها (٤) | مجموع إنتاج الدولة (مليون طن) |
---|---|---|---|---|---|
إيران | ٣٢٫٠ | ٤٩٫٩ | ٥٫٥ | ١١٫٧ | ٢٢٧ |
السعودية | ١٠٠٫٠ | ٢٢٢ | |||
ليبيا (٥) | ٣٠٫٦ | ١٥٫٨ | ٥٣٫٥ | ١٥٩ | |
الكويت | ٥٠٫٠ | ٥٠٫٠ | ١٤٥ | ||
العراق (٥) | ٢٣٫٧ | ٤٧٫٥ | ٢٣٫٧ | ٥٫١ | ٨٣ |
أبو ظبي | ١٤٫٦ | ٥٤٫٦ | ٢٧٫٤ | ٣٫٢ | ٤٤ |
المنطقة المحايدة | ١٠٠٫٠٠ | ٢٦ | |||
قطر | ١١٫٠ | ٧٤٫٥ | ١٢٫٠ | ٢٫٥ | ٢٠ |
كمية البترول (مليون طن) | ٤٤٤٫٢ | ٢٨٩٫٢ | ٤٦٫٨ | ١٤٤٫٠٠ | ٩٢٤٫٢ |
٪ من البترول المنتج | ٤٨٪ | ٣١٫٣٪ | ٥٫٢٪ | ١٥٫٥٪ |
- (١)
تشمل الشركات التالية حسب ترتيب مساهمتها: أسو (ستاندرد نيوجرسي)، سوكال (ستاندرد كاليفورنيا)، تكساكو، جلف، موبل. وتتقاسم الشركات الثلاث الأولى بترول السعودية (٣٠٪ لكل) + موبل (١٠٪)، وتدخل شركة جلف بنسبة ٥٠٪ في الكويت، وفي ليبيا تتصدر أسو المجموعة (١٦٪) والشركات الأخرى حوالي (٥٪)، وتدخل كل الشركات الأربعة في كونسورتيوم البترول الإيراني بنسب متساوية حوالي (٦٫٥٪).
- (٢)
تشمل شركتي ب ب (البريطانية للبترول) ورويال داتش شل (إنجليزية وهولندية) وتنتج ب ب نحو ٢٢٪ من بترول الشرق الأوسط وشل نحو ٩٪، وتحتكر ب ب ٣٧٪ من إنتاج بترول إيران، وشل نحو ١٣٪، وتنتج الشركتان نصيبًا متساويًا في العراق (٢٣٫٧٥٪) وتتصدر ب ب الإنتاج في أبو ظبي (٤٠٪)، وشل الإنتاج في قطر (٦٢٫٥٪).
- (٣) تتمثل فرنسا بالشركة الفرنسية للبترول C F P، وأكبر مجال لإنتاجها هو في العراق وأبو ظبي.
- (٤)
تشتمل على مجموعة شركات يابانية و٥٪ نصيب جولبنكيان كشريك تاريخي في الشركات الإنجليزية الهولندية في العراق وأبو ظبي وقطر، وهي في الحقيقة يجب أن تدخل إنتاج الشركات السابقة الذكر، وفي ليبيا توجد شركات أمريكية غير المذكورة (أوكسدنتال وهنت وأمكو وفليبس وغيرها، إلى جانب شركة «إيني» الإيطالية و«إيراب» الفرنسية).
- (٥)
أممت ليبيا الشركات الإنجليزية، وأممت العراق شركة بترول العراق الإنجليزية.
(ب) ملكية الناقلات البحرية (١٩٧٠).
مليون طن | ٪ من حمولة ناقلات العالم | |
---|---|---|
الولايات المتحدة وأسطول ليبيريا وبنما* | ٢٧٫٣ | ٣١٫٧ |
أوروبا الغربية† | ٣٩٫٥ | ٤٦٫٠ |
اليابان | ٩٫٣ | ١٠٫٧ |
مجموع الدول المستهلكة للبترول | ٧٦٫٠ | ٨٨٫٥ |
حمولة أسطول الناقلات العالمية | ٨٦٫١ |
- (١)
الدول المستهلكة لبترول الشرق الأوسط ٧٣٪ من طاقة التكرير العالمية (الولايات المتحدة وكندا ٣٠٪، أوروبا الغربية ٣٥٪، اليابان ٨٪).
- (٢)
دول الشرق الأوسط ٥٫٥٪ من طاقة التكرير العالمية.
- (٣)
٨٢٪ من طاقة التكرير في الشرق الأوسط ملك لشركات أجنبية.
- (٤)
١٨٪ من طاقة التكرير في الشرق الأوسط حكومية (أساسًا في مصر والعراق وسوريا).
(د) حركة بترول الشرق الأوسط (١٩٧٠).
المصدر/الاتجاه | أوروبا الغربية | اليابان | الولايات المتحدة | مجموع الصادر | |||
---|---|---|---|---|---|---|---|
مليون طن | ٪ | مليون طن | ٪ | مليون طن | ٪ | مليون طن | |
الشرق الأوسط القلب (دول الخليج كلها) | ٣٠٩ | ٥٠ | ١٧٣ | ٢٨٫٠ | ٩ | ١٫٥ | ٦٣١ |
شمال أفريقيا | ٢٢٠ | ٩٥ | ٢ | ٠٫٨ | ٤ | ١٫٨ | ٢٣٢ |
ويمكن أن نلخص نتائج هذه الجداول في أنه يبدو واضحًا قبضة الدول المستهلكة على الدول المنتجة في الشرق الأوسط، من الإنتاج إلى التسويق، ولكن مقابل هذه القبضة الاحتكارية فإن الدول المنتجة تمتلك وحدها «حق الأساس» الذي يعلو على كل هذه العلاقات المتشابكة غير المتعادلة بين الدول المستهلكة المتقدمة والدول المنتجة النامية، وحق الأساس هذا مبني على: (١) المكان الجغرافي لحقول النفط. (٢) سيادة هذه الدول النامية. وبرغم تنازع الدول قانونيًّا وبطرق أخرى غير قانونية، إلا أن حق الأساس يضمن للدول المنتجة ممارسة التصرف في حقولها البترولية بكافة الصور من امتيازات وعقود مشاركة إلى تأميم جزئي أو شامل، ومن ضخ بترولي متزايد إلى وقف أو تقليل الضخ حسبما تراه مناسبًا لمصالحها الاقتصادية — المحافظة على الموارد حق لكل الدول في مواردها الطبيعية — أو مصالحها السياسية.
- (١) منذ الخمسينيات، ونتيجة لمرونة نقله ونظافة استخدامه بالقياس إلى الفحم، قد تفوق على مصادر الطاقة المتاحة في العالم، وهو لا يزال يسلك هذا السبيل مع الغاز الطبيعي،٦ وبذلك تكيفت الصناعة الحديثة في جانب كبير منها على البترول.
- (٢)
طرد البترول بمشتقاته (بنزين وكيروسين وديزل وسولار) الفحم والخشب كطاقة محركة في وسائل النقل البخارية (القطار والسفن)، وزاد عليها أن وسائل النقل الحديثة هي وليدة عصر البترول، وخاصة السيارة والطائرة.
- (٣) بناء على هذا فإن البترول قد أصبح مصدرًا للطاقة، وخامة لبعض الصناعات الهامة،٧ يصعب إيجاد بديل له في فترة قصيرة، وفي خلال أزمة الطاقة (أواخر ١٩٧٣، أوائل ١٩٧٤) حينما خفضت الدول العربية المنتجة ضخ البترول كسلاح في المعركة العربية ضد الصهيونية العالمية ومسانديها من الدول الغربية، تساءل أرباب الصناعة الغربية كثيرًا: هل يعود الفحم ملكًا؟ وكان أبلغ الرد على هذا التساؤل «كاريكاتير» ظهر في مجلة «درشبيجل» الألمانية (٣ ديسمبر ١٩٧٣) عبارة عن سيارة ذات مدخنة تجر وراءها مقطورة محملة بالفحم وشخص واقف فيها (عطشجي) ينقل الفحم إلى غلاية في مؤخرة السيارة!
إزاء هذه المواصفات لعصرنا الحالي، الذي يمكن أن يسمى «عصر البترول» فإن مشكلة البترول لا تصبح مشكلة متعلقة بالدول المنتجة وحدها أو بالدول المستهلكة وحدها.
ولا شك في أن الدول الصناعية المستهلكة قد اهتزت من جذورها نتيجة الخفض «المحدود» للبترول العربي «فقط»، وقد استخدم العرب البترول استراتيجيًّا، ليس فقط كجزء من المعركة ضد التوسع الإمبريالي الإسرائيلي الغربي، ولكن لفتح باب هو جوهر مشكلات العالم الصناعي وعلاقاته غير المتعادلة مع العالم النامي، فمشكلة الطاقة فُتِحت للدرس والمناقشة على شتى المستويات العالمية: أوروبا الغربية، السوق المشتركة، الولايات المتحدة وأوروبا، وأخيرًا نوقشت على منبر الأمم المتحدة، واشتركت الدول العربية والدول النامية في المناقشة والحوار، ولكن هذه المناقشات كانت تنبع من زاويتين مختلفتين: الدول الصناعية تتكلم عن تأمين موارد الطاقة (ومن خلالها ظهرت آراء غير مقبولة تريد فصل الطاقة عن سيادة الدول المنتجة للفائض منها، وأكثر الآراء تطرفًا نادت باحتلال مصادر الطاقة، وهو — بلا شك — تعبير إمبريالي عتيق)، والدول النامية تتكلم عن مناقشة كافة أشكال الموارد، وعن الهوة التكنولوجية بين العالمين المتقدم والنامي.
وفي معركة البترول الجيوبوليتيكية كان الطلب الأساسي للدول العربية هو الحصول على المقومات والخبرات التكنولوجية من أجل التنمية — كمقابل للبترول. وهكذا ظهر لأول مرة — ومن خلال ممارسة «حق الأساس» في الدول المنتجة للبترول — مواجهة صريحة لتعديل القوة الضاغطة للدول المستهلكة التي تمتلك الخبرة والنقل والتكرير والسوق وصادرات السلع الصناعية المرتفعة الأسعار.
وعلى هذا النحو فإن الاستخدام الجيوبوليتيكي للبترول في الشرق الأوسط ربما يؤدي إلى تغيير كبير في التركيب الاقتصادي لدول المنطقة، خاصة وأن عوائد البترول المتراكمة، والتي تستثمر في مشروعات الغرب الصناعية لمزيد من البحث والازدهار العلمي والحضاري، يمكن أن تلعب الدور نفسه في بلادها الأصلية، وفي الحقيقة قد لا نجد إقليمًا مشابهًا للشرق الأوسط من أقاليم العالم النامي، ففي الوقت الذي تعاني فيه أفريقيا المدارية أو جنوب شرق آسيا أو أمريكا اللاتينية من قلة الموارد المالية التي يمكن أن تخصص للاستثمار، نجد الشرق الأوسط — في مجموعه — يمكن أن يكون متخمًا برءوس أموال دون استثمار بالمعنى الحقيقي للاستثمار، وفي الوقت نفسه فإن في الشرق الأوسط — رغم الجفاف العام — مناطق واسعة للإصلاح الزراعي والإنتاج التعديني والصناعي، ومشروعات لا بد منها لربط دول الشرق الأوسط بشبكة جيدة من الاتصالات الأرضية والبحرية بدلًا من تفرقها في صورة نظم مواصلات ونقل منفصلة عن بعضها، وهو أمر كثيرًا ما يؤدي إلى تباعد غير مطلوب بين دول المنطقة في عالم الائتلافات الدولية.
الدولة | وسيلة العبور | كمية البترول (مليون طن) | العائد (مليون دولار) بالتقريب |
---|---|---|---|
مصر | قناة السويس (أرقام ١٩٦٦) | ١٥٤ خام | ٢٠٠ |
١٢ منتجات | |||
لبنان | التابلاين (إلى الزهراني) | ٢٣٫٥ خام | ٢٥ (١٩٧٢) |
العراقي (إلى طرابلس) | ٢٠٫٣ خام | ||
سوريا | التابلاين (عبور إلى لبنان) | ٢٣٫٥ خام | ٧٧ (١٩٧٢) |
العراقي (عبور إلى لبنان) | ٢٠٫٣ خام | ||
العراقي (إلى بانياس) | ٢٩٫٥ خام | ||
الأردن | التابلاين (عبور إلى لبنان) | ٢٣٫٥ خام | ٧ (١٩٧٢) |
المصدر – الوجهة | أوروبا | أمريكا | آخرون | المجموع | ٪ من الكمية العابرة |
---|---|---|---|---|---|
المجموع | ١٤٢٫٧ | ١٠٫١ | ١٫٠ | ١٥٤٫٠ | ١٠٠٫٠ |
الكويت | ٥٦٫٦ | ١٫٨ | ٠٫٢ | ٥٨٫٦ | ٣٨٫١ |
السعودية | ٣٣٫٠ | ١٫٨ | ٠٫٤ | ٣٥٫٣ | ٢٣٫٠ |
إيران | ٢٨٫٥ | ٥٫٢ | ٠٫٦ | ٣٤٫٣ | ٢٢٫٢ |
أبو ظبي | ٩٫٢ | ٠٫٢ | ٩٫٤ | ٦٫١ | |
العراق | ٦٫٨ | ٠٫٨ | ٧٫٦ | ٥٫٠ | |
قطر | ٥٫٧ | ٥٫٧ | ٣٫٧ | ||
مصر | ١٫٢ | ٠٫٢ | ٠٫٠٦ | ١٫٤ | ٠٫٩ |
البحرين | ٠٫٢ | ٠٫٢ | ٠٫١ | ||
غيرهم | ١٫٤ | ٠٫٠٤ | ١٫٤ | ٠٫٩ |
-
كمية البترول المتجهة شمالًا في قناة السويس ١٥٤ مليون طن خام + ١٢ مليونًا منتجات بترولية.
-
كمية البترول المتجهة جنوبًا في قناة السويس ٣ ملايين طن خام + ٦ ملايين منتجات بترولية.
-
مجموع حمولة البترول المتجهة شمالًا في القناة = ٨٦٪ من مجموع حمولة التجارة المارة بالقناة.
-
مجموع حمولة البترول المتجهة جنوبًا في القناة = ٢٠٪ من مجموع حمولة التجارة المارة بالقناة.
-
مجموع الحمولة الصافية لناقلات البترول ٢٫٦ مليون طن = ٧٥٪ من حمولة كل السفن العابرة للقناة.
(٥) الحدود كإطار للتفاعلات السياسية لدول الشرق الأوسط
(٥-١) ماهية الحدود
- (١)
حدود متتبعة لظاهرة من الظواهر الطبيعية أو البشرية.
- (٢)
حدود هندسية أو فلكية.
- (٣)
حدود اتفاقية أو تاريخية.
وأن وظائف الحدود واحدة من اثنين:
(١) حدود الاتصال. (٢) حدود الانفصال.
وأيًّا كان شكل الحدود ووظيفتها فهي في الواقع عبارة عن ارتباط وثيق بالضغوط التي تمارسها دولة من الدول في مقابل المقاومة التي تبديها دولة أخرى، وسواء وصلت الحدود إلى ظاهرة طبيعية، أو حد بشري لغوي أو حضاري، أو مجرد خط اتفاقي، فإن الحدود السياسية — لكونها تعبيرًا عن جهود الإنسان العسكرية والسياسية — ليست خطوطًا أبدية إنما هي دائمة التغيير على مر الزمن، ولهذا فإن خريطة العالم السياسية دائمة التغير، ولا يمكن القول إن هناك حدودًا طبيعية تصل إليها الدولة ثم تستريح إلى الأبد، ففرنسا كانت تريد الوصول إلى نهر الراين كحد طبيعي بينها وبين ألمانيا، لكن ذلك الحد تغير مرتين خلال الفترة ١٨٧٠–١٩٤٥. ولا شك في أن أكثر الحدود استقرارًا هي تلك الحدود الاتفاقية — كالحدود السويسرية — لكن الشرط الأساسي لاستقرار الحدود هو أن تكون في منطقة قليلة الاتصالات، ذلك أن أكثر الحدود قلقًا هي تلك التي تخترق أماكن اتصال، فالحد السياسي في تلك الأماكن يقوم بمناهضة الاتصالات الطبيعية، ويحاول أن يجعل الناس يديرون ظهورهم لبعض، مثال ذلك حدود بولندا أو بلجيكا أو حدود فرنسا وألمانيا على الراين، وأكثر الحدود ثباتًا هي تلك المرتبطة بسواحل البحار؛ لأن البحار تفصل بين إيكولوجيتين مختلفتين: اليابس الذي يستوطنه الإنسان والبحر الذي لا يعيش فيه الإنسان إلا في فترات محدود وفي بيئة اصطناعية «يابسة»: السفن. وبرغم ثبات الحد السياسي المرتبط بساحل البحر، إلا أنه قد بدأ يتغير في الآونة الأخيرة، وربما يجري عليه في المستقبل ما يجري على الحدود البرية، وقد كان هذا التغير في الحدود البحرية نابعًا عن: (١) بحار الاتصال تؤدي إلى الحركة وإلى أطماع سياسية عبر البحر. (٢) التقدم التكنولوجي الذي مكن الإنسان من استغلال قاع البحار (والأرصفة القارية) للحصول على المعادن، وخاصة البترول والغاز الطبيعي، ولهذا بدأت الدول تخط حدودًا تمتد في البحار وتتعمق من سطح البحر إلى قاعه، على نحو ما نراه الآن في بحر الشمال الذي اقتسمته سياسيًّا كل الدول المطلة عليه، والخليج العربي الذي تظهر على خريطته امتدادات جديدة لإيران والدول العربية.
والحدود — حسب النظرية العضوية التي نادى بها الجغرافي الألماني فريدريك راتزل في أواخر القرن الماضي — تشابه الجلد بالنسبة لجسم الإنسان، فالجلد هو عضو كبير في تركيب الجسم، وهو أكثر الأعضاء حساسية وتعرضًا للحوادث، والحدود هي أكثر المناطق حساسية في الدولة، وبتمددها وانكماشها تتغير أقدار الدولة، وتعطي الحدود للدولة شكلها الحقيقي، وتتجدد بذلك إمكاناتها الاقتصادية وتركيبها الاستراتيجي، ويجعلها عرضة للغزو أو قوية وراسخة، فالدولة الشريطية — المفرطة الطول مع عرض ضيق، كالنرويج وشيلي وإسرائيل ونبال — دول ليس لديها عمق استراتيجي، ولا عمق اقتصادي، ويؤدي طولها إلى تباعد أطرافها عن مركزها بحكم طول المسافات، وعكس ذلك تمامًا الدولة المتناسبة الأبعاد كالولايات المتحدة أو فرنسا أو مصر أو السعودية.
وبما أن الحدود هي العضو الخارجي للدولة، فإن أقصر الحدود هي أكثرها منعة؛ لأنها تعطي إمكانات دفاع متوازن، أما الحدود الطويلة فهي أسوأها؛ لأنها تلقي بأعباء دفاعية على مسطحات كبيرة، ولهذا فإن الحدود المتعرجة حدود طويلة، بينما الخط المستقيم بين نقطتين هو أقصرها وأقواها، وليس الطول هو كل عيب الحدود المتعرجة، بل إن التعرج في حد ذاته يؤدي إلى تداخل أقاليم الدولتين المتجاورتين في صورة ألسنة وأقواس يصعب الدفاع عنها.
ولقد نجم عن الأحداث السياسية الذاتية والخارجية خلال القرن ١٩ وأوائل القرن الحالي تقسيم سياسي للشرق الأوسط تمثله دول المنطقة على النحو الراهن، وفي تقسيم الشرق الأوسط اتخذت مسارات مختلفة للحدود، بعضها يلتزم بظاهرات طبيعية ولغوية وبشرية، والكثير منها اصطناعي وتمثله خطوط هندسية وفلكية تقطع اتصال المجتمعات القومية في أحيان كثيرة، وأكبر مثال على ذلك تقسيم منطقة الأكراد بين خمس دول: تركيا وإيران والعراق وتستأثران بأكبر عدد من الأكراد، ثم أعداد قليلة في هوامش سوريا الشمالية وهوامش الاتحاد السوفيتي الجنوبية (انظر الخريطة ٣٧).
(٥-٢) وظائف الحدود في الشرق الأوسط
وتلخيصًا لكثير من التفصيلات من مشكلات التقسيم السياسي الحديث في الشرق الأوسط، يمكن أن ندرس وظائف الحدود السياسية الحالية لنبين كيف أن الحدود يمكن أن تقف مانعًا ضد اتصال أقاليم طبيعية موحدة النشاط والاتجاه الاقتصادي، وربما موحدة اللغة والانتماءات.
حدود الانفصال
تشكل حدود الانفصال في الشرق الأوسط حدودًا ذات استقرار نسبي، وهي غالبًا حدود سياسية تسير موازية لظاهرات طبيعية يضاف إليها في أحيان ظاهرات بشرية، ومعظم هذه الحدود توجد على الحافة الشمالية للشرق الأوسط، بين اليونان وتركيا وإيران من جانب، وبين ألبانيا ويوجسلافيا وبلغاريا والاتحاد السوفيتي من جانب آخر، فهنا مناطق جبلية أو مسارات أنهار جبلية تفصل بين حدود القوميات السياسية، ولا شك في أن هذه الحدود الشمالية قد استقرت في الفترة الأخيرة — منذ نحو ربع قرن — بعد أن وضح موقف الدول التي توجد على جانبي الحدود، فاليونان وتركيا وإيران أعضاء في أحلاف غربية، بينما يجمع ألبانيا ويوجسلافيا وبلغاريا والاتحاد السوفيتي أيديولوجية عامة مشتركة، وهكذا تفاعلت الظروف الطبيعية مع الاتجاهات السياسية لتثبيت خطوط الحدود بعد أن كانت هذه الحدود بعينها مثارًا للحروب والقلقلة والتغير في أوائل هذا القرن وأواخر القرن الماضي (حروب البلقان واليونان مع الدولة العثمانية، وضغوط روسيا تجاه إيران وتركيا والقوقاز).
وتشابه حدود إثيوبيا والسودان في القسم الممتد بين نهري العطبرة والسوباط هذا النوع من حدود الفصل بين الهضبة الحبشية وسهول السودان، وكذلك الحال في حدود اليمن الشمالية مع إقليم عسير السعودي، والحد السياسي الجنوبي لتركيا، وخاصة في المنطقة بين مسار الفرات ورأس خليج الإسكندرونة.
والنوع الثالث من حدود الانفصال هو ذلك الذي أطلقنا عليه الحدود العدائية ويتركز أساسًا في فلسطين بين إسرائيل والدول العربية، وهذا الحد خلق بشري محض مرتبط بالمشكلة الصهيونية العالمية والقوة العسكرية الإسرائيلية خلال ربع القرن الماضي، وهو حد لا يلتزم بأيٍّ من الظواهر الطبيعية سوى في قسمه الشمالي الشرقي حيث يقع منخفض الحولة-طبرية تحت أقدام المرتفعات السورية اللبنانية في الجولان وجبل الشيخ وجبل عامل، ومن ثم كان اتجاه إسرائيل للسيطرة على هذه المواقع لأغراض استراتيجية، بالإضافة إلى التحكم في منابع نهر الأردن على نحو ما أوردنا، والكلام نفسه ينطبق بصورة أقل قوة على الحد العسكري الذي اصطُنع بعد ١٩٤٨ بين الضفة الغربية وبقية فلسطين، فهو حد الهضبة الفلسطينية الوسطى (التي يتكون منها معظم أراضي الضفة الغربية) التي تشرف على السهل الساحلي في الغرب وسهل مرج بن عامر في الشمال وصحراء النقب في الجنوب، أما حدود قطاع غزة فليست سوى خطوط هدنة تقطع اتصالًا طبيعيًّا في سهل فلسطين.
ونظرًا لأن هذه الحدود العدائية مرتبطة بالقوة العسكرية وأطماع توسعية وطرد للسكان العرب وإحلال مهاجرين يهود محلهم، فإن هذا الحد قابل للتغير حسب الضغوط اليهودية والمقاومة العربية في مجالي الحرب والسياسة، وكما أنه ظهر من لا شيء، فإنه يمكن أن ينتهي إلى لا شيء أيضًا؛ بمعنى أن وحدة فلسطين يمكن أن تعود، ويرتبط ذلك بكثير من المقومات التي تستند إلى علاقات مختلفة إقليمية وعالمية.
حدود الاتصال
هذه هي خطوط الحدود السياسية التي تجري في أماكن وأقاليم ذات اتصال طبيعي وبشري في آن واحد، ولا يعني هذا أن كافة الحدود السياسية الحالية في مناطق الاتصال الطبيعي تسهل عملية الاتصال عبر الحدود، بل إن بعضها يقف أمام الاتصال الطبيعي المعتاد تمامًا، مثل الحدود التركية السورية في قسمها الغربي من الفرات إلى لواء الإسكندرونة، والحدود العراقية الإيرانية في قسمها الجنوبي بين السهول العراقية وسهول خوزستان، ومثل هذه المناطق مثار لمشكلات الحدود السياسية داخل دول الشرق الأوسط، ومعظمها مشكلات كامنة، وسوف نعالجها فيما بعد.
وتوضح الخريطة ٣٨ عددًا من مناطق الحدود القلقة أو التي تسمح بالاتصال المعتاد لمجموعات وأراضٍ قسمتها الحدود السياسية الحالية، ويمكن أن تقسم إلى ثلاث فئات: حدود تقسم أحواضًا نهرية، وأخرى أقاليم طبيعية وبشرية متكاملة، وثالثة تقسم أراضي القبائل الرعوية المتنقلة.
أولًا: الحدود السياسية في أحواض الأنهار والأقاليم المتكاملة تقرأ الرموز أ – ط مع تلك التي توجد في خريطة ٣٨.
(أ) أحواض أنهار مقدونيا وتراقيا التي تنبع من بلغاريا وجنوب يوجسلافيا وتنتهي في السهل الساحلي اليوناني، وتقطع الحدود السياسية هنا أقاليم طبيعية صغيرة تشكلها الأحواض النهرية، كما أنها تقطع وحدة مقدونيا — كإقليم بشري — بين اليونان ويوجسلافيا بوجه خاص، وهذه المنطقة لا تشكل الآن مثارًا للنزاع بينما كانت كذلك خلال النصف الأول من هذا القرن حتى نهاية الحرب العالمية الثانية.
(ب) حوض نهر العاصي الأدنى، اقتُطع من سوريا في أواخر عهد الانتداب الفرنسي وأُعطي لتركيا، ومن الناحية الطبيعية البحتة (انظر الخريطة ٣٩)، فإن اقتطاع الجزء الأدنى من العاصي قد أضر بتكامل النهر وأية مشروعات يمكن أن تقام عليه بصورة متكاملة، وصحيح أن سوريا قد أقامت عدة مشروعات متكاملة على أعالي النهر وأواسطه، إلا أنه كان ممكنًا استخدام منطقة بحيرة العمق كخزان طبيعي وإقامة محطة طاقة، وكذلك تجفيف المستنقعات حول البحيرة وجعل المنطقة امتدادًا زراعيًّا جيدًا، ومن ناحية أخرى فإن جبال الأمانوس تقف عائقًا طبيعيًّا أمام اتصال منطقة أنطاكية بميناء الإسكندرونة، ومن الناحية البشرية البحتة فإن لواء الإسكندرونة بأكمله منطقة عربية سلالةً ولغةً (انظر خريطة ٤٠).
(ﺟ) وادي الفرات بين سوريا وتركيا، وهو لا يشكل في الوقت الحاضر مشكلة سياسية؛ لأنه يرتبط إلى حد بعيد بالفاصل اللغوي بين العربية في الجنوب (سوريا) وبين الكردية والتركية في الشمال (تركيا)، ولكن الأمر في النهاية قد يحتاج إلى اتفاقات اقتصادية بين سوريا وتركيا والعراق حول استخدام أمثل لمائية النهر، ومثله في ذلك نهر الدجلة، كمشكلة اقتصادية مستقبلية بين تركيا والعراق بوجه خاص.
(د) أودية منطقة جرجان وسهولها بين إيران والاتحاد السوفيتي شرقي بحر قزوين، ويوجد هنا تداخل لغوي وقومي بين التركمانية والإيرانية، وفي المنطقة احتمالات بترولية ومعدنية أخرى، فضلًا عن الاستثمار الزراعي، ولا توجد في الوقت الحاضر مشكلات سياسية خاصة بهذا الإقليم.
(ﻫ)، (و) مناطق المصبات الداخلية — بحيرات ومستنقعات — لأنهار قصيرة تأتي من الجبال المجاورة، وهي ذات أهمية حيوية في أية مشروعات للري في هذا الإقليم الهضبي الصحراوي بين أفغانستان وإيران، وأهم المشكلات التي ظهرت حتى الآن هي تلك التي تدور حول تنظيم مياه نهر هلماند — مشار إليه في الخريطة بالرمز «و» — ومعظم مسار النهر يجري في أفغانستان، وتعارض إيران المشروعات الأفغانية الخاصة بتصريف مياه النهر، وذلك من أجل التنسيق المشترك لري إقليم سستان الإيراني، والمنطقة جزء متكامل، سواء في إيران أو أفغانستان، وأكبر مجموعاتها الحضارية هي قبائل البالوتش.
(ز) منطقة شط العرب وتصريف أنهار الدجلة والفرات وقارون المشترك في السهول الجنوبية للعراق، والتي تمتد عبر الحدود إلى كل إقليم خوزستان الإيراني، طبيعيًّا المنطقة وحدة سهلية متصلة، وبشريًّا هي أيضًا إقليم عربي السكان، لكن المشكلة في أساسها تنبع من أن خوزستان هي منطقة البترول الرئيسية في إيران، وأن امتدادات إيران إلى شط العرب كانت من أجل تأمين ميناء لشحن البترول عند عبدان. في الوقت الحاضر اتجه ثقل الإنتاج البترولي إلى جنوب شرقي خوزستان وشرقي ساحل الخليج في اتجاه شيراز، ومدت أنابيب لنقل البترول إلى ميناء صناعي أقيم في جزيرة الخرج، غربي بوشير.
(ﺣ) الحدود المصرية السودانية في النوبة قسمت الإقليم اصطناعيًّا، لكن علاقات حسن الجوار المستمرة لا تجعل للمشكلة أثرًا في العلاقات السياسية بين الجارتين.
(ط) الحدود السودانية الإثيوبية عند نهر السوباط وروافده العديدة تؤدي إلى تقسيم إقليم طبيعي متكامل، ويضاف إلى ذلك أن المنطقة كلها تسكنها قبائل نيلية — النوير بوجه خاص — ومعظمها تمتد أوطانها الرئيسية في داخل السودان الجنوبي، والمنطقة ما زالت متخلفة، ومن ثم لا تظهر مشكلات غير عادية في الإقليم.
- (١)
في المنطقة الهضبية الجبلية الوعرة بين إيران والعراق وتركيا تمتد أوطان القبائل الكردية الرعوية المختلفة، وبالرغم من أن الحدود المشتركة لهذه الدول الثلاث تقفل في وقت الأزمات، إلا أن ذلك لا يعوق الحركة الاقتصادية للرعاة بين مراعي الصيف في أعالي الجبال ومستقراتهم الشتوية في بطون الأودية، ونظرًا لوعورة المنطقة، فإن الثورات الكردية المتكررة تجد دائمًا طريقًا للحصول على السلاح والدعم عبر هذه الحدود المشتركة، وخاصة بين إيران والعراق.
- (٢)
الحدود التركية السورية في شمال الجزيرة حيث تمتد قبائل عربية رعوية بين أعالي دجلة وديار بكر وبين إقليم الجزيرة في سوريا (انظر خريطة ٤٠).
- (٣)
قبائل إقليم الجزيرة بين العراق وسوريا، مثل شمر.
- (٤)
قبائل بادية الشام مثل الرولة وعنزة، التي تنتقل موسميًّا في هجرات محددة عبر حدود سوريا والأردن والعراق والسعودية.
- (٥)
قبائل منطقة وادي سرحان المتنقلة بين الأردن والسعودية.
- (٦)
قبائل سيناء والنقب والأردن.
- (٧)
القبائل الرعوية في منطقة غرب الجبل الأخضر في عمان، وتنقلها المستمر في منطقة الحدود بين عمان والإمارات المتحدة والسعودية.
- (٨)
قبائل نجران وأعالي حضرموت بين اليمن الشمالية والجنوبية والسعودية.
- (٩)
القبائل التركمانية والأفغانية والإيرانية على الحدود المشتركة بين الاتحاد السوفيتي وإيران وأفغانستان.
- (١٠)
قبائل البالوتش على الحدود المشتركة بين أفغانستان وباكستان وإيران.
- (١١)
قبائل أولاد علي بين مصر وليبيا.
- (١٢)
قبائل البشارية والعبابدة بين مصر والسودان.
- (١٣)
قبائل البجة والهدندوة بين السودان وإريتريا (إثيوبيا).
- (١٤)
قبائل النوير والأنواك في حوض السوباط بين السودان وإثيوبيا.
- (١٥)
القبائل الصومالية التي تمتد من الصومال إلى داخل الصومال الفرنسي، وكل إقليم أوجادين في جنوب شرق إثيوبيا.
هذه باختصار الصفات الأساسية لوظائف الحدود في الشرق الأوسط، ويجب ألا ننزعج من كثرة المشكلات، فهذا أمر طبيعي في غالبية الحدود السياسية في العالم، فمثلًا بالرغم من استقرار الحدود الفرنسية الألمانية، إلا أن إقليمي اللورين والألزاس يصطبغان بصبغة ألمانية أكثر منها فرنسية، وأن هذه الحدود تقطع تكاملًا بشريًّا واقتصاديًّا طبيعيًّا في حوض الراين بين فرنسا وألمانيا، والقليل من مشكلات الحدود في الشرق الأوسط هي التي تثير بعض القلقلة وعدم الاستقرار، وحتى هذه تكون حتى الآن مشكلات كامنة في الأغلب الأعم.
هوامش
السنة | فحم | بترول | غاز طبيعي | أخشاب وفحم نباتي وغيرها |
---|---|---|---|---|
١٩٥٠ | ٥٥ | ٢٥ | ٥ | ١٥ |
١٩٧٠ | ٤٠ | ٤٠ | ١٨ | ٢ |
١٩٦٢ | ١٩٦٧ | ١٩٧١ | |||
---|---|---|---|---|---|
الكويت | ٥٢٦ | السعودية | ٨٥٢ | السعودية | ٢٣٣٠ |
السعودية | ٤١٥ | إيران | ٧٣٧ | ليبيا | ٢٠٧٢ |
إيران | ٣٣٤ | الكويت | ٧١٨ | إيران | ١٨٩٠ |
العراق | ٢٦٧ | ليبيا | ٦٣١ | الكويت | ١٤٢٢ |
قطر | ٥٦ | العراق | ٣٦١ | العراق | ٩٢٦ |
ليبيا | ٣٩ | أبو ظبي | ١٠٥ | أبو ظبي | ٣٩٠ |
أبو ظبي | ٣ | قطر | ١٠٢ | قطر | ١٨٠ |