الشاعر وأبناؤه
رُوي أن أبا تمام أنشد أحدهم قصيدةً له أحسن في جميعها إلَّا في بيت واحد ليس كسائرها، فقال له: يا أبا تمام! لو أسقطت هذا البيت ما كان في قصيدتك عيب.
فأجاب الشاعر قائلًا: أنا والله أعلم منه مثلما تعلم، ولكن مَثَل شعر الرجل عنده مثل أولاده، فيهم القبيح والجميل، والرشيد والساقط وكلهم حلوٌ في نفسه، فهو إن أحب الفاضل لم يبغض الناقص، وإن هوي بقاء المتقدم لم يهو موت المتأخر …
ويُشبه هذه الحكاية ما يُروَى عن أحد كتاب الفرنسيس، وذلك أنه بعد إذ نضج واكتمل فنه، استمر على إجلال تآليفه الأولى والمبالغة في الإعجاب بها، ويقول الناقد الذي يروي هذه النادرة: إن ذلك لم يكن من «رنه بازان» بعامل من الغرور الأدبي بل بباعث من الحنان الأبوي، «ولقد أخطأت ذات يوم وسألته: أي قصصك أفضل عندك؟ فأخذَتْه الحدة وأجاب بقوة قائلًا: الحقيقة هي أنَّ كل كتبي — كلها — وُضعت واشترك في وضعها قلبي … خرجت من صميم نفسي، فلا أستطيع أن أفضل بعضها على بعض.»
•••
هذا المساء، في إحدى ساعات الْمَلَلِ التي يتساءل المرء فيها، وقد هادنته الحياة: «تُرى، ماذا يراد بنا، في هذه الدنيا، وهل لوجودنا غاية؟» يتساءل متبرمًا بأمسه ويومه وغده، دون أن يوفق إلى جواب أو شبه جواب على سؤاله، بل السؤال الذي طرحته سآمته على الوجود وعلى الحياة.
جلست إلى منضدتي مُضْرِبًا عن الأعمال والجهود الباطلة، ويداي تعبثانِ جادَّتين في البحث عن لا شيء، وهكذا عثرتْ يُمناي، ويُسراي لا تعلم، بدفتر أسودَ صغيرٍ هو بعض ما بقي لي من عهد الصبى، أخذت في تقليب أوراقه الرَّثَّة الصفراء، فانبعثت منها رائحة القدم والبِلَى كأني دخلت غرفة أُحْكمَ قَفلُ أبوابها ونوافذها وهُجرت زمنًا مديدًا.
ودفتري هذا، على ضآلة حجمه، كالقَدَح الملآن لا تزيد على ما فيه قطرة إلا طفح: ليس بين سطوره وهوامشه موضعٌ لكلمة، فيه آراء وأبيات شعر وخلاصات كتب، بالعربية والفرنسية والإنكليزية، وبعض مفردات الإسبرانتو … وفيه أيضًا خواطر لي وشروح وتعليقات، ولا فخر! فهي التي عَقَدَتْ الآن لساني وكمَّتْ فمي، إذ هممت بأن أنادي، على جاري العادة في مثل هذه الأحوال: سقيًا لك يا عهد الصبى ورعيًا!
عاطفة الشاعر في بدْء حياته الشعرية: ترددت زمنًا في نظم الشعر خشيةَ أن لا يتسعَ له ما فيَّ من خيال، ثم أقدمت، الأسباب: ما رأيته عند الغربيين وضيق نطاق ما طالعته في كتب العرب، وعلى الأخص المعاصرين منهم، لقد رأيت هؤلاء غير جديرين بأن أقول فيهم الكلمة التي قالها أحد كتاب الفرنجة في بعض العصور الزاهرة: إذا لم أكن عظيمًا فإني على الأقل معاصر للعظماء!
هل هذا غرور؟ ربما …
بعد أن كتبت أبياتًا معدودة من قصيدتي الأولى بقيت أيامًا لا أجرؤ على الدنوِّ منها بزيادة أو تنقيح، أنظر إليها كما ينظر المحب إلى حبيبته، مع علمي بأنها غير تامة وأن فيها ما يجب بَتْرُه بحق وعدل.
ما أشبه هذه العاطفة بعاطفة الأب والأم أمام «طرفتهما» في أسبوعه الأول! يعلمان أن شدَّ العصائب على أعصاب الطفل الرطبة مما يقويها، ولكنهما يخافان أن يؤلماه ويسمعا بكاءه … بَيْدَ أنهما بالرغم من ذلك سيقدمان بعد الإحجام …
وإني لمقدم أيضًا على شد أعصاب طفلي (القصيدة)!
هذا ما جاء في ذلك الدفتر الصغير ذي الأوراق الصفراء كأوراق الخريف، وهو لفتًى كان فيما مر من أعوام، لا يعرف السآمة المتسائلة: «ماذا يراد بنا في هذه الدنيا؟» يؤمن بأشياء كثيرة، منها أنه سوف «يجدد» الشعر العربي، لم يكد ينظم شعرًا. لقد جنتْ عليه اليوم، فبعثته من مرقده، المقابلة بين أبي تمام الشاعر العربي ورنه بازان الكاتب الفرنسي اللذين اتفقا على بعد الشُّقة بين عصريهما، وأجمعا على القول: بأن القصائد عند ناظمها، والكتب عند مؤلفها، هي كالأبناء عند الوالد الحنون … ليس الأمر بذي بال، وهو لن «يكسر» بيتي الشاعر الإنكليزي كبلنغ القائل:
لكن نبشنا قبر ذلك الفتى المسكين الذي كتب فيما بعد — ربما بعد أيام معدودة — على هامش خاطرته هذه العبارة، قال — رحمه الله: ومن هنا قول العرب عن الشاعر المبتكر «هو حسنُ التوليد»، ومنه أيضًا تسميتهم المعاني «بنات الفكر»، ثم ختم بسذاجة تَفوقُ حدَّ الوصف قائلًا: «ما أعظم فرحي بوقوعي على هذه المقارنة الجميلة!»
•••
سقيًا لك يا عهد الصبى ورعيًا! لقد كنت تسكر بزبيبة …