ساعة مع العامليِّ
كنت في مكتب إحدى الصحف إذ دخل الأستاذ العامليُّ، وعلى وجهه أنوار البشاشة والهشاشة، وظلال الجد والتفكير، فلما بسط إليَّ يده مصافحًا، أحزنني أنه يقبض ذراعه اليمنى «مكوعًا» كأنه يشير بمرفقه إلى ناحية، ويتأهب لدفع صدمة، فقلت في سري: «لأمر ما …» وتمثل لي حينئذ أستاذنا الريحاني الذي نعرف جميعًا أنه لا يقدر على بسط يمناه، ولست أدري كيف ذكرت أيضًا أن العاملي في الزمن الأخير استحدث توقيعًا خطيًّا «زنكيًّا» يذيل به أحيانًا قصائده المنشورة في الصحف والمجلات، وهو على مثال توقيع للريحاني أيضًا، خطي «زنكي» لكن هذا أقدم عهدًا، وهممت بأن أقول لنفسي: لعل انقباض الذراع اليمنى والتوقيع الخطي من قبيل توارد الأفكار الشائع بين الشعراء؟ ولكن الأستاذ العاملي قال، وقوله الحق: هو «العصبي» بليت به أخيرًا … وليس الألم في الذراع فحسب، بل في جنبي كله. أصبحت إذا كتبت أربعة أسطر أحتاج بعدها إلى «هدنة».
– هدنة من صراع شياطين الشعر … شفاك الله يا أستاذ!
وتناول حديثنا الأدب والأدباء، فطرحت سؤالًا أجاب شاعر «الحماسيات» عليه بما يلي: إني بدأت في نظم الشعر ولي من العمر ستة عشر ربيعًا، ويبلغ ما نظمته حتى اليوم نحو ٧٥٠٠ بيت في أربعة دواوين، أكثرها تحت الطبع.
– إذن لو قسمنا هذا العدد على الأيام …
وفعلًا أخذنا القلم، فجمعنا وطرحنا وقسمنا، فإذا بالأستاذ العاملي قد نظم خلال سبعة عشر عامًا، في كل يوم، بيتًا وربع بيت، وليس هذا بكثير، فما أضل أولئك الذين يأخذون عليه أنه مكثر! قال الأستاذ: وعلى كلٍّ فإن المكثر خير من المقل، هذا رأي ذكرته لبشارة الخوري … لو أخذت الجيد من كثير الشاعر المكثر لكان أكثر من جيد الشاعر المقل؛ بالطبع، هذه حقيقة حسابية في غاية البساطة والوضوح.
•••
استفتاء «الأحرار المصورة» في أكبر شعراء سورية؟ سخافة وأي سخافة! لا رأيي ولا رأي أحد من المعاصرين يقام له وزن. الحكم للمستقبل! فقد تُطرح «حماسياتي» بعد مائة سنة في البحر، وقد ينشدها الناطقون بالضاد، ويتغنون بها بصوت واحد … من يعلم؟
– ولكن لو ألححنا عليك بأن تجيب على الاستفتاء — بالطبع بعد أن تُخرج نفسك من الموضوع — فما تقول؟
– أنا لا أرشح نفسي … المسألة بين خليل مطران وبشارة الخوري، وآخرهما أقرب إلى نفسي، أما أشعر المعاصرين على الإطلاق فشوقي، ولكن شوقي له عشر قصائد من طبقة عالية، وبها أُفضِّله على الشعراء جميعًا، على حين أن سائر شعره رديء كشعر …
وهنا أغفل اسمًا ذكره الأستاذ العاملي؛ لأني لا أحب أن أكون حامل الحكم بالإعدام «الشعريِّ» على فتى ربما كان وحيد أبويه … أليس كذلك يا أستاذ؟
ثم قادنا الحديث، والحديث شجون، إلى ذكر الحملات المنكرة التي كان الأستاذ العاملي يُفاجأ بها، حينًا بعد حين، في طائفة من صحف البلد، فقلت وأنا أهم بإمساك طرف الحديث: مثل هذه الحملات يدل عادة على أحد أمرين: إما أن يكون الرجل الذي يُحمل عليه عظيمًا، وإما أن يكون «لا شيء» يطمع في أن يَعُدَّه الناس شيئًا.
لكن الأستاذ لم يمكنني من إتمام كلمتي، فقال: لو أن عشر معشار هذه الحملات نزل بالسيد حليم دموس لخر صعقًا …
– الحملات العنيفة أيها الأستاذ، لا تكون إلا على الحصون المنيعة.
– نعم؛ لذلك ما كنت لأبالي بها قط، بل إن أول عمل آتيه، إذا طعن فيَّ — أريد في شعري — أحدُهم، هو أن أقوم بواجب زيارته كأن لم يك بيننا شيء مطلقًا، والشيء بالشيء يذكر: لقد قيل لي إنك نشرت منذ عامين في صحيفة «البيان» مقالة بتوقيع «المغربل» انتقدت نظمي بها …
– كلا، فأنا أوقع كل ما أكتبه باسمي، ولست «المغربل» بل صديقه.
– ولكن هل قلت لك كلمة في هذا الصدد؟ كن على يقين إن ذلك لم يَسُؤْني، ألم أقل لك مرات: إني سأزورك؟
وبينما كنت أجل وأكبر — من غير كلام — هذه الأريحية في الأستاذ العاملي، الواسع الذراع — كما يقول العرب — رغم انقباض ذراعه اليمنى بفعل العصبي المشئوم الذي لولا علمي أنه لا يُعدي، لقلت إنه أخذه من «الريحاني» إذ سمعته يقول كلمة هي مسك الختام لهذا الحديث الممتع، قال بصوت بعيد القرار: «إنك لا تعرفُني جيدًا. أنا رجل «تعبتْ» فيه الطبيعة كثيرًا.» ولقد أعجبني هذا القول من رجل يقول العارفون إنه أعظم مرتجل للشعر في سورية، لكنَّ الطبيعة لم ترتجله، على زعمه ارتجالًا.
ولله في خلقه شئون.