يوسف غصوب
(١) القفص المهجور
يقول «ريمي دو غورمون» من نقدة الفرنسيس: «كل تبديل يطرأ على أدب أمة من الأمم، فلا بد أن يكون ناشئًا عن علة خارجية» أو أجنبية.
بهذا الرأي الحصيف أحب أن أستهل كلمتي الوجيزة في المجموعة التي يُتْحِف بها يوسف غصوب أدبنا العصري، ولا ينكر أن الذين يُلقَّبون (أو يلقبون أنفسهم، أو يلقب بعضهم بعضًا) بالمجددين هم رهط من الأدباء تأثروا بالآداب الغربية تأثُّرًا بليغًا (أو غير بليغ) ذلك هو الواقع الذي لا محيص عنه، ولا ينكر أيضًا أنَّ الخلاف بين هؤلاء وبين خصومهم (ويدعون بالمحافظين، أو بالمقلدين إذا أُريد الزراية عليهم) يقوم على هذه المسألة: هل تورث الآداب الغربية الأدب العربي غنًى ونماءً وجِدَّةً، أم أنها تدخل عليه الفوضى، وتَسِمُه بالرَّطانة، وتشوه محاسنه؟
فأما أن يصم دعاة التجديد (أو أدعياؤه) خصومهم بالتقليد، لتأثرهم بالأدب العربي التليد؛ فهو حق وصدق. للمحافظين بعد ذلك أن يقذفوا المجددين بهذه الكُرَة نفسِها، لتأثرهم بالآداب الغربية الطريفة؛ فهو عدل وصواب، ونحمد الله على أن الكرة لن تصيب من هؤلاء ولا من أولئك مقتلًا، وإلا بَطَلَ اللعب وخلا الميدان، لكن بين المجددين والمحافظين في تقليدهم جميعًا، هذا الفرق الظاهر وهو أن هؤلاء يأتوننا بنماذج متشابهة من أمثلة معروفة مألوفة، في حين أن أولئك يأتوننا على الأغلب بنماذج طريفة من أمثلة غير معروفة ولا مألوفة، وليس ما يُتْحِفنا به المجددون من أمثلة غير معروفة «منكرًا».
•••
لقد بنى «دوغورمون» رأيه الذي ذَكَرْنا على شواهد صحيحة من تاريخ الأدب الفرنسي، وفي أوربة اليوم علم قائم بذاته يسمونه «تاريخ الآداب بالمقابلة» موضوعه التأثيرات التي تقايضتها الآداب الإنسانية في مختلف الأزمنة (من هذا التاريخ فصل ضاف في انفعال آداب الغرب بالآداب الشرقية عامة، والأدب العربي خاصة. وقد نجد شيئًا من هذا القبيل في تاريخ أدبنا: العصر العباسي – الإغريقي الفارسي، مثلًا).
فإذن الأدب العربي بين أمرين لا ثالث لهما: إما أن يظل محافظًا يحيا بمادته، متأكلًا مجترًّا، ويعيد ذاته كرجع الصدى، ويتقمص رجاله بعضهم بعضًا، وإما … بل ثمة أمر واحد ليس لأحد في دفعه يدان، نعني التبديل الطارئ على أدبنا الحديث، بفعل عناصر خارجية أجنبية: ليس الأدب العربي جزيرة في عُرْض الأوقيانوس تنتظر كولمبوس، ولا روحنا صخرة تتحطم عليها هذه الثقافات الغربية الجائحة الفاتحة، الهائجة المائجة، وإذا كان التبديل طارئًا على حياتنا في كل مظاهرها، فأين نجعل أدبنا كي لا يناله تبديل؟ هو هذا الطوفان، و«لا عاصم اليوم»!
•••
يوسف غصوب أحد شعراء العصر الذين تأدبوا بآداب الفرنجة واقتبسوا من ثقافتهم، وإن القراء ليجدون في مجموعته هذه آثارًا واضحة جلِيَّة من تلك الآداب والثقافة، فقصيدة «الانتظار» مثلًا تذكرنا إحدى قصائد «ألفرد دو موسه» الأربع المشهورات، أعني «ليلة أكتوبر» التي يصف فيها الشاعر المُدْنَف آلام نفسه ولواذع غيرته، وهو ينتظر حبيبته «الفاجرة» طوال ليلة من ليالي الخريف حتى إذا وافته ضحى، خاطبها بمثل قول شاعرنا العربي:
ولله ما أقرب الشبه بين أمنية يتمناها يوسف غصوب في قوله:
ليست هذه الهنات مما يحمل على الظن بأن يوسف غصوب قد احتذى عن روية تلك المثل الشعرية، أو أنه يحتذي أي مثل غيرها، سواء من أدب العرب أم من أدب الفرنسيس، وأحسب أن لا داعي إلى القول إني عرفته شاعرًا مطبوعًا تربأ به كرامته وكرامة الشعر عنده، عن تقليد الأولين والآخرين، بل عن مجاراة الشعراء الذين يحبهم حبًّا جمًّا ويعجب بهم إعجابًا لا حد له. كذلك فإن تأثره بالأدب الغربي أبلغ من أن يُقصر على هذه الظواهر، وأعم من أن يُحصر في حادثات مفردة.
من آثار الأدب الغربي في شعر يوسف غصوب هذه الوحدة، معنى ومبنى، التي يجسدها القارئ في مجموعته القفص المهجور (وليست الوحدة مما يباهي به الأدب العربي آداب الأمم الأخرى) حتى ليصح القول إنها قصيدة واحدة. وفي هذه القصيدة قصة نفس قلقة موحشة في حياه غير مؤاتية ولا راضية، تحس نقص الحياة وعدم مؤاتاتها إحساسًا موجعًا أليمًا، فهي تفر من هذه الدنيا المملة المحزنة، لائذة بجنة الأحلام، حيث الهناء المقيم والراحة الشاملة. وهي لعمري قصة النفس الإنسانية على إطلاقها، من البداية إلى النهاية، تقصها علينا الأديان تارة والفنون تارة أخرى؛ النفس الإنسانية التي لا تفتأ تنقل ظمأها إلى النعيم، من سراب إلى سراب لا تروى ولا تبرد غلتها، حتى تقع على السراب الأعظم … جزى الله الأنبياء والشعراء عن البشرية كل خير، فهم المَعْزُوُّن بصور الكمال، في الدنيا وفي الآخرة؛ ولهذا نقول إن لِشعرِ يوسف غصوب دلالة إنسانية بليغة عامة، وهي أول مزايا الشعر وسائر الفنون.
•••
ولقد كنت أحسب هذا الاصطلاح غريبًا عن اللغة العربية، حتى قرأت قول أبي نواس (أو قول والبة بن الحباب لأبي نواس في رواية):
بل أعجب من هذا قول أبي نواس أيضًا في موضع آخر:
فهو يمثل ما نحن بصدده أجود تمثيل، لولا أنه عني الخمر، ولكن هل الحب والخمر والإيمان إلا سبل متفرقة، يسلكها الناس إلى غاية واحدة: النعيم؟
ولا بد هنا من القول إن تلك الآثار من الآداب والثقافة الغربية التي يجدها القارئ في شعر يوسف غصوب ليست بضائرة أسلوبه في شيء، فهو أسلوب عربي مبين، لا سمة للعجمة عليه، ولقد وُفق هذا الشاعر إلى حسن الملاءمة بين معانيه ومبانيه (ليس حسبنا أن يكون ثمة انسجام في الألفاظ وانسجام في المعاني، بل ينبغي أيضًا أن يكون الانسجام بين المعاني والمباني)، زد على ذلك أن له حظًّا من الموسيقى اللفظية غير يسير يهيئ نفس السامع، ويجعله في «الحالة الشعرية» الخاصة، وأنه مقتصد في الكلام يومئ على الأغلب إيماء لطيفًا ويوحي وحيًا خفيًّا، لكن لهذا الوحي في جوانب النفس أصداء شتى بعيدة القرار.
•••
هذا … وبعد فإن (القفص المهجور) حادث أدبي ذو شأن: زهرة نضرة في هذه الأيام الجديبة، في بيداء حياتنا الأدبية، وزهرة واحدة — في عالم الشعر — تكفي لأن تملأ البادية أرِجًا طيبًا، وحٌسنًا فاتنًا، وحياة بهيجة. إن في هذا الديوان الفريد لعزاء لنا عن كثير من رزايانا، لا سيما تلك القصائد والدواوين، التي (نُطعن) بها كل حين، ولَلشعرُ أول المرزوئين، أجارنا الله وإياه — آمين.
(٢) المأدبة
لا مأدبة أفلاطون أعني، ولا المأدبة التي أدبها ليوسف غصوب منذ بضعة أيام إخوانه الأدباء — كدت أقول: الآدبون — ولم يدر فيها حوار سقراطي؛ لأن سقراطها ما كان. أنا أعني، بعد «القفص المهجور» هذه «العوسجة الملتهبة» التي طلعت علينا كعروس شقراء، كما جلتها يد الماشطة، بل الطابعة.
أليس من فضل الله علينا أن يأتينا يوسف غصوب داعيًا، كرة بعد كرة، إلى إحدى المآدب الملكية التي يأدبها الشعر لأبنائه صفوة الخلق، والتي لا تعدل لذاتها عندي لذة ما بلغت، في هذه الحياة الدنيا، فإذا على تلك المائدة السنية كل فاخر وطريف، وكل شهي مستملح، وكل حسن معجب، كيف لا؟ وهذه الألوان النفيسة من طعام وشراب، وأزهار وأنوار، وآنية؛ أقسم أنها لمما أعده جن عبقر لتطوف علينا به ملائكة الجنان، بقضاء من مالك السموات والأرضين.
وقديمًا كنت أتعاطى مع الشعراء الشعر كما يتعاطى الندامى المُدام، فلا أتعدى في ثَمَلِي حدود الوقار، بل وقع لي مرة أو مرتين أنْ أَخَذَ مني السكر حتى خرجت إلى السوق متغنيًا بقصائد شاعري المختار، معربدًا. ولكني على الأغلب كنت أمكث في مجلسي كالمشدوه، في عينيه رؤى السحر من ذلك العالم الآخر.
وبين عشية وضحاها سولت لي النفس الأمارة تجارب سوء في النظم، فسقطْتُ في حمأة الخطيئة، إذ نظمت، ولا فخر، قصائد مطوية منسية، بل «ارتكبت» وهو الأصح، بعض أبيات دارسة طامسة، ثم لم ألبث، لحسن الطالع، أن تبت توبة نصوحًا، فكنت كعاصر الخمر الذي ما كاد يختم زجاجته؛ ليقربها قربانًا على أنها «لذة للشاربين» حتى كتب عليها: «خل» وألقاها في زاوية المطبخ.
ولقد كنت قبل عهدي بالنظم فتى كالفتيان، مولعًا بأعمال المجد والفروسية، لم تؤاته أحوال الدنيا ليكشف عن سريرته بعمل مجيد أو مأثرة غراء في إحدى نواحي الحياة، فلما لم يجد صبرًا على لجاج هذه الحاجة الملحاح، عكف على قراءة سير الأبطال، وقصص الفرسان خداعًا لنفسه وتمويهًا عليها، يغير غاراته الشعواء في عالم الخيال.
واستمر على ذلك زمنًا، حتى جمعته الأقدار «بدون كيخوتي» الذي خرج من قريته شاكي السلاح، مغامرًا مفاخرًا، فلما لم يلقَ من يجاوله ويناضله ويقاتله أغار على طاحون الهواء، وكفى الله المؤمنين القتال … ولست أذكر هل أسعد الحظ «دون كيخوتي» في حياته، أو في حكايته، بفارس مغوار يعمل في جثمانه الحق لا الباطل، سيفه أو رمحه طعنًا وضربًا، لكنه بعد موته بقرون، ظفر في ضمير ذلك الفتى الذي كنته، بعنترة المتحرك في إهابه، فقتله شر قتلة: لقد شفاني من داء البطولة.
وما كدت أرتاح من هياج عنترة حتى تحرك فيَّ السندباد، إذ أصبحت بمثل التناسخ، فتى يقضي وقته على أُهْبَة الطواف حول الأرض ضاربًا في مجاهلها ومعالمها، جوابة تتقاذفه الفلوات والحواضر. فكنت في ذلك العهد السعيد وقصاراي قراءة كتب الأسفار آناء الليل، ورحلة بالترام على خط المنارة ذهابًا وإيابًا، أطراف النهار. ولا أعلم من قتل في نفسي هذا السندباد الذي لم يكن بريًّا يُعرف، ولا بحريًّا يُوصف، ولا جويًّا على التأكيد، المهم أنه لحق بعنترة في عالم الذكرى:
ويلوح لي أن في نفس كل امرئ ثلاث جثث من هذا النوع على الأقل: عنترة عبس، فسندباد ألف ليلة وليلة، فمجنون ليلى، في ثلاثة أضرحة، مكتوب على قبرياتها: «هو الحي الباقي!» دون تاريخ.
فلا عجب إذا قلت الآن إني أصبحت في النظم ثالث ذينك الرجلين أو صنوهما: يتلجلج الشعر في خاطري ويتلعثم به لساني، ويهم بي وأهم به، ثم تدركني رحمة ربي فأمسك، معزيًا النفس كلما دعيت إلى مآدب الشعراء، أو تطفلت عليها وكثيرًا ما أفعل، بوقفة عند طرف المائدة، على عتبة الباب.
هكذا كنت على عتبة الباب، منذ نحو عشرة أعوام، في مأدبة «القفص المهجور»، فكتبت مقدمة تلك المجموعة الأولى التي نظمها يوسف غصوب. لا أقول هذا مُذكِّرًا، فليس في الأمر كبير طائل، ولكن المجموعة الثانية «العوسجة الملتهبة» التي أتحفنا بها الشاعر بَعثت الساعة، في خاطري، صورًا غامضة من ذلك العهد البعيد، تتسلل في خفاء الجدران خَجِلة وَجِلة، بين زخارف العصر الجديد.
وإخال أني كنت يومذاك قادرًا على مسايرة الجيل خطوة خطوة في مناحي أدبه، فقلت في هذا الشعر ما قلته عن دراية وبصيرة، ثم بلغ مني الإعجاب فخرجت من تلك المأدبة الملكية إلى السوق متغنيًا بقصائد الشاعر المختار. فحبذا لو أستطيع اليوم، وقد مشى الجيل وأنا لا أزال في مكاني، حيث تركني، وعلى كاهلي عشرة أعوام، أن أصطنع العربدة في مأدبة «العوسجة الملتهبة»، بل هذا العرس الأشقر، بلغة العصر.
حسبي اليوم أن أمكث في مجلسي، عند طرف المائدة، على عتبة الباب، كالمشدوه، في عينيه رؤى السحر من ذلك العالم الآخر.