كنوز الفقراء
بقرة، وليست كالبقر ضخامة جسم، بل هي أقرب إلى العجل الصغير، تلمع عيناها في الليل البهيم كأنهما جمرتان أو نجمتان، مسرجة بالذهب، نعالها وخلاخلها من ذهب، وعلى ظهرها عِدْلان مُلئا بالدر والياقوت والحجارة الكريمة، تجيئك في ساعة متأخرة من الليل فتناديك قائلة: تعال يا فلان، وخذ نصيبك!
فلا تخف ولا توقظ أحدًا من أهلك النيام، تقدم نحوها رابط الجأش وانزع نعالها وخلاخلها وسرجها، وأفرغ العدلين من كنوزهما، ثم املأهما بما تيسر، والأفضل أن تجعل في أحدهما خبزًا وفي الآخر ملحًا: علامة المودة والشكران، فهي تمضي في سبيلها تاركة في دارك الذهب والدر والياقوت والحجارة الكريمة، طوبى لك فأنت الغني السعيد!
… وفي النصف الأخير من القرن الثاني عشر للهجرة زارت البقرة «حاملة النصيب» جدَّة والدي السيدة صفية، وكانت — رحمها الله — «سبعينية»، فسمعتْ طقطقة النعال ورنين الخلاخل على درجات السلم، فنظرت من ثقب الباب الموصد عليها في حجرتها، فرأت البقرة المذهبة تخطر في باحة الدار، وعيناها تضيئان كأنهما جمرتان أو نجمتان، وهي تنادي بصوت أشبه بالخوار: تعالي يا صفية وخذي نصيبك!
أما المرحومة فجمدت في مكانها معقودة اللسان، وأما البقرة فقد نادتها ثلاثًا، ثم انصرفت كالمستكبرة، آنفة من هذا الجبن الشديد الذي ما عليه مزيد! ولكنها انتقمت منَّا بأن تركت على إحدى درجات السلم نعلًا من نعالها الذهب، دليلًا على الثروة التي لم تمتدَّ يد لأخذها، وباعثًا على الحسرة الدائمة، ويروى أن جدتنا قالت إذ نطق لسانها هذه الكلمة المأثورة: «الشحادة، ولا السعادة!» وهكذا كنا ولم نزل فقراء، عزاؤنا الوحيد، بل عزائي أنا وحدي هو أني كدت في النصف الأخير من القرن الثاني عشر للهجرة أكون، في ظهر الغيب، غنيًّا، فإذا لم أكنه؛ فذلك لأن جدتي السيدة صفية، عليها رحمة الله، ما أرادت …
بهذا وأمثاله كنا نتسامر في إحدى ليالي الشتاء ونحن، كبارًا وصغارًا، جلوس حول الكانون صديقي المؤنس المحيي الأمين، وبغتة شهدت في هذه الغرفة الصغيرة، كيف تخلق دنيا غير دنيانا يقطنها أقوام غير أقوامنا، دنيا عجيبة ملأى بالأرواح الخيرة والشريرة، تفيض منها على دنيانا الأعاجيب، وفيها يجد العامة تأويل كل الأسرار، وأحسست كأن هذا الجو الذي كنت أحسبة مهجورًا هو على الضد من ذلك مأهول لا تكاد تجد فيه، من شدة الزحام، شبرًا واحدًا لم يحله جني أو عفريت.
وليس أعجب ولا أبلغ دلالة من الصلة التي جعلها العامة بين عالمنا وذلك العالم، أأقص عليك قصة «الداية» التي دُعيت ليلًا إلى امرأة في الوضع، فاعترضت سبيلها سيدة محجبة سألتها أن تشعل لها شمعتها المطفأة، فلما تناولتِ الشمعة من يدها اختفت السيدة بين الأرض والسماء، ونظرت الداية فإذا الشمعة «إصبع مخضوبة بالحناء»!
أم أقص عليك قصة الرجل الصالح الذي التقى ذات ليلة بالجنية العروس، المحلَّاة بالذهب من قمة رأسها إلى قدميها، فقالت له: عرِّني من ثيابي وهي لك! فلما ذكر أنه ينبغي أن يخلع عنها كل ثيابها وينظر إليها وهي عارية؛ حول بصره لأنه لم يكن امرأ سوء، وقال لها: استتري يا أختي … استتري! ثم انصرف، لم يغنم ولم يأثم!
أم ماذا أقص عليك؟ لقد انتقلنا من أسطورة عجيبة إلى أسطورة أعجب، ومن أقصوصة جميلة إلى أقصوصة أجمل، حتى خيل إليَّ أن ليلتنا هذه ليلة «شاردة» من طرفة الشرق الكبرى، أعني كتاب ألف ليلة وليلة … وأخذت أفكر فيما فكرت فيه من قبل إذ كتبت «الباب المرصود».
ليس خلق عالم على هامش عالمنا هذا، أو تصور وجود غير هذا لوجود العادي، وقفًا على وحي الأنبياء وخيال الشعراء، فإن للعامة في هذا الخلق والإبداع اليد الطولى، بل لعل الأنبياء والشعراء يستقون من هذه الينابيع التي لا تفتأ تفيض في كل عصر ومصر، ولا يغيض ماؤها أبدًا: الآداب العامية. فإذا كان في الأمر بعض الشك فإن الشعوب، بالأقل، تلتقي مع أنبيائها وشعرائها في صعيد واحد لكفاية الحاجة الإنسانية العامة الدائمة إلى الخوارق والأعاجيب؛ أي إلى كل ما هو «في خارج» هذا العالم ونواميسه المعروفة وحقائقه المألوفة، وإن في الآداب العامية أو «الفكلور» كما يسميها الإفرنج لطرائف شائقة ممتعة غزيرة المعاني، سواء الأقاصيص والأمثال أم الأساطير والعقائد، تَوفَّر على العناية بها، جمعًا وترتيبًا وتأويلًا، كثير من اختصاصيي الغرب، اعتقاد أنها فنون غير الفنانين وآداب غير المتأدبين ودواوين غير الشعراء، لا يتجلى فيها الروح القومي فحسب، بل تترجم من جهة ثانية عن النفس الإنسانية على إطلاقها، فهي كالبقرة المسرجة بالذهب تحمل كنوز الفقراء.
… وأسرَّتْ إلى أكبرهن سنًّا قولها: هل تعلم لماذا أورثتْ فلانةٌ بنيها (وذكرت أُسْرة معروفة في البلد) سُوقًا برمتها هي السوق الفلانية؟ ذلك لأن البقرة زارتها فأخذت منها نصيبها … وإلا فمن أين لهم هذه الثروة الطائلة؟
وقالت أصغرهن سنًّا وفي عينيها الخوف والرجاء: إذا جاءتني البقرة، هذه الليلة، ونادتني: يا سلوى، قومي وخذي نصيبك! فسأقول لها من تحت اللحاف: يا بقرة، أنا أخاف؛ لأني صغيرة، فضعي نصيبي على عتبة الباب، أرجوك!
ولكنَّ أم سلوى ضمت صغيرتها، وعوَّذتها قائلة: بسم الله الرحمن الرحيم!