المرأة المَجْلُوَّة والمرآة الصدئة
١
في ذات يوم من أيام الصبى علمت أن الشاعر قد يُغِير على الشعراء المتقدمين، فيأخذ أبكار معانيهم ومبانيهم «سبايا» بلا قتال. ولعل أول شعرة بيضاء نبتت في رأسي هي التي أرَّخت هذه المعرفة الرائعة، فإني رأيت يومئذ في الحلم، لص الدواوين يتسلل خفية في الليل بين الأضرحة الموحشة، ثم يعود بغنيمته سرقة من أمتعة الموتى، ويا للهول! لا أذكر من قال لي بعد ذلك: إن أمر هذا الشاعر — الشاعر اصطلاحًا — هين جدًّا، يكفي أن تقول إنه ليس بشاعر، حقيقةً! وما هذا بنقد، بل هو حكم بالإعدام.
وما لبثت أن خُبِّرت ذات يوم آخر، خبر الأديب الذي لا يسرق قاصدًا متعمدًا، ولكن لا ذاتية له واضحة، فليس يبرز من ذاتيته شيء في شعره أو نثره، وليس شعره أو نثره إذن إلا كالأمواج التي لا تفور حتى تغور زبدًا وتذهب جفاء.
وأجل شأنًا من هذه الحوادث المفردة حادث الجيل الأدبي الذي يقتل التقليدُ والصنعةُ والبيانياتُ روحَ الصدق والبراعة والطبع فيه، فإنه تَأتِي على آداب الأقوام أزمنةٌ لا تُخرج إلا الزائف، ويصح فيها القانون الاقتصادي القائل: إن النقد الرديء يطرد النقد الجيد من السوق، بل يلاشيه.
قرأت في كتيب قديم عن الأدب الروسي ما خلاصته: تأثرت أوربة في عصر الانبعاث؛ أي في القرنين الخامس عشر والسادس عشر، بأدبين عظيمين هما أدبا الإغريق واللاتين، فبعثت النماذجُ والأنماط الجليلة التي خلَّفها هذان الأدبان؛ شعورًا في النفوس بسلطان الشعر الحي والصناعة الدقيقة، شعورًا قويًّا هاج في الأمم الغربية رغبة التوليد والابتكار. وكانت لهذه الأقوام شروط في المعيشة وآراء وعقائد خاصة، ومثل عليا في الحياة تختلف عما كان للإغريق واللاتين في عصورهم؛ لذلك لم يكن نتاج الأمم التي ورثت كنوز اليونان والرومان تقليدًا محضًا، بل أصبحت لها آداب حيَّة طريفة ذات معانٍ ومناحٍ خاصة.
وتأثرت روسية في القرن التاسع عشر بآداب أوربة الغربية، وخاصة بأدبي الفرنسيس والإنكليز، لكن شروط الحياة الروسية تختلف بالكلية عما في فرنسة وإنكلترة من ذلك، فلم تر مسحة التقليد على ثمار قرائح المؤلفين الروس، بل إنهم كانوا يلاحظون ويختبرون، ملاحظة خاصة واختبارًا صادقًا مطبوعًا جعلا نتاجهم الأدبي مستقلًّا متميزًا قائمًا بذاته، حتى قيل إنه أثر كرد الفعل، في ذات تلك الآداب التي بعثت فيه الحياة من قبل.
فرنسة وإنكلترة قطران عريقان في المدنية التالدة، وبقدر عراقتهما ابتعدا عن الفطرة الخالصة، ومن ثمار المدنية فيهما تعدد الطبقات الاجتماعية وكثرة المصطلحات أو المواضعات، ولهذين العاملين أكبر الأثر في موقف الأديب وفي مناحي أدبه، فهو منفعل الذهن بهما، خاضع لسلطانهما، لا يمكن أن يصدق الصدق كله وأن يصدر شعره ونثره عن طبعه، خاصة. هذا هو شأن الكاتب في فرنسة رغم اعتقاده أن الصدق والطبع من العناصر الجوهرية في الأدب الحي الخالد، ورغم الحرية الواسعة التي ينعم بها الناس في دائرتي الأخلاق والعادات. فإنه لا يصدق خيفة السخرية، وأكبر همه أن تستر الصنعة والكلفة أدبه. كذلك هو الكاتب الإنكليزي الذي يراعي، ما وجد إلى ذلك سبيلًا، جانب الأحكام المقررة في الأخلاق والعادات فلا يتعرض لها بسوء. أما الكاتب في روسية فهو يتحرى الصدق جهده، وما يكتبه يتحدر عن طبعه، وطبعه سليم لا يشوبه كدر المواضعات الاجتماعية، أو رياء الأخلاق السائدة والعادات المستحكمة. وهذه الخاصة — خاصة الصدق — في الأدب الروسي ناشئة عن كون طبقات الناس أقل في البيئة الروسية منها في أوربة الغربية، وعن ضعف أثر المواضعات فيها، ثم عن حسٍّ أخلاقي صارم دقيق لا يحجم عن إظهار المساوئ، وعن كشف عورات الاجتماع، وليس أدل على هذا مما يذهب إليه تولستوي من أن السكوت عن رذيلة كتمان لها ونصح وإغراء بها.
٢
ليس بهين ولا يسير وصف الأثر الذي تؤثِّره المواضعات الاجتماعية والأخلاقية في أدبنا الحديث. واترك الأدب القديم جانبًا، فليس في نيتي أن أعرض هنا للأدب العربي في مجموعه؛ لئلا تضيع هذه الخواطر الضئيلة في رحاب ذلك الأفق العظيم، ولكن قبل الكلام عن المتعارفات الاجتماعية والمواضعات الأخلاقية التي تقوم حياتنا عليها والتي تفعل، عن هذه السبيل، فعلها في حياة أدبنا، أحب أن أمهِّد لذلك بكلمة وجيزة في ما أسميه المواضعات البيانية، أو «العرف والعادة» في الشعر نفسه.
من آثار هذا العرف الأدبي التغزل في مطلع القصيدة ثم التخلص الحسن أو السيِّئ، إلى المديح أو الرثاء، والغلو في توهم صلات «هوائية» بين حادثات طبيعية لا يد لأحد فيها وبين شئون لا يضيق بها صدر الطبيعة، لكنها قد تهم شاعرًا أو شويعرًا، وقد لا تهمه، في الأحزان والمسرات، وحينًا تصور كهذيان المحموم أنه كان يجب أن تقع حادثات كونية جسيمة لا تقع عادة، أو يمتنع وقوعها فعلًا، مشاركة في حادث بسيط أو مركب هو موضوع تلك القصيدة، والشكوى من الزمان الخصيم ومن صروفه «المتعمدة» في مواضع معينة من قصائد معينة … إلخ.
صورة الكمال في تاريخ الأدب كما يفهمه أكثر رجاله صورة غابرة في الأدب القديم؛ لذلك كانت خلائق أدباء العصر، في الغالب على تلك الصورة. وما أدري أمن حسن حظ الأدب أم من سوء طالعه أن يكون — أو أن يُرى — أفضله نتاج طفولته، بمعنى أنه إذا صح هذا الرأي كان الأدب العربي في مجموعه كالهرم قاعدته ضخمة، دق ودق حتى صار رأسه كالمسلة، يضؤل ويضؤل حتى يضمحل! وفي تاريخ أدبنا، هذا العصري ربيب ذلك القديم، ويكاد يكون هو، لولا الفواعل الطبيعية التي لا حيلة للناس في دفعها، ألست ترى الشعراء يتزاحمون بالمناكب في الطريق الموطَّأة الرود التي يمشي فيها العميان بلا أدلة ولا عكاكيز؟ ما أكثر المقولات المكررة والأكاذيب المقررة في أدب لا يفتأ يرجع ترجيع الطير الوحيدة النغم، أو يجتر اجترار الإبل ذوات المعدتين!
إذا كنا في حجرة حبيسة الهواء لا ينفذ إليها النور، أو إذا كنا لا نعطي إلا المتماثل من مصنوعات مصنع أدبي واحد، فليس السبب أن سلطان الأنماط والنماذج الأولى كبير، ولا أن الشخصيات الأدبية القادرة الواضحة تكاد لا توجد في ظهرانينا؛ ليس هذا ناتجًا عن هذين السببين فحسب، فإن ثمة عاملًا جليل الأثر، وليست تعدله العوامل الأخرى، هو الاعتقاد بأن في حياتنا ما لا يصح نقله بالصورة الفنية، أو إذا قُدِّر ونقل فلا يصح نقله على حقيقته، ولعل في أدبائنا من تحدثه نفسه بتصوير وقائع الحياة دون تَوْشِية، أو زخرف أو «تمويه» ولكن لا جرأة له على ذلك، وهنا يبدو سلطان المواضعات الاجتماعية والأخلاقية على الأدب العصري، فإن أدبنا لا يصور حياتنا إلا كما تصور المرآة الصدئة العروس أو المرأة المجلوة.
وعلى ذكر المرأة المجلوة وما تنقله من محاسنها صفحة المرآة الصدئة، نضرب في هذه السياق مثلًا: المرأة في أدبنا العصري وكيف أن الحلال والحرام، وما يقال وما لا يقال، هي وحدها هموم الأديب، في الغرفة الحبيسة الهواء التي لا ينفذ إليها النور، أو في الطريق الموطأة الرود التي يتخبط فيها العميان من غير أدلة أو عكاكيز.
٣
قلت يومًا في سياق الكلام: «المرأة «محجوبة» عن أدبنا بقدر ما هي محجوبة عن حياتنا»، وأنا الآن أقر بخطئي وأقول: كلا، ليس من العدل أن يقاس حجاب المرأة في الحياة بحجابها في الأدب، هو هنا أكثف منه هنالك ببضعةَ عشرَ سنتمترًا. إن أحسنت التقدير. فإذا كنت تحسب المرأة في دنيانا الشرقية الفانية «مرتين»، ظلًّا خفيفًا لا تحسه يقظاتنا، أو خيالًا فرارًا لا تعيه أحلامنا، فهي في هذا الأدب «المذكر» ظل الظل وخيال الخيال.
لا نزعم أن المرأة في مجتمعنا قد أُحلت في المحل الأرفع الذي يقول النساء كلهن والرجال بعضهن إنها جديرة به، فهي لا تزال بعيدة عنه جدًّا، وإذا كنت لا تكاد تفقد المرأة في ديار الغرب طرفة عين، أو إذا كانت آثارها لا تغيب عنك، حتى كأن المدنية بكل ما فيها من جليل فخم ومن دقيق لطيف لم توجد إلا لها، وإلا موسومة بطابعها، فإنك تكاد لا تلقاها أو تعثر على آثارها هنا، في «مدنيتنا»، وفي كل ما فيها أيضًا من لطيف دقيق ومن فخم جليل، لكنك على كلٍّ، واجِدٌ في حياتنا من ذلك شيئًا، واجد بالأقل «الشيء الحيواني»، بل أنا على يقين من أنك قد تعثر بهمامات من أشياء منزهة عن تلك الحيوانية التي لا نذهب إلى وجوب استئصالها من الطبيعة الإنسانية، وإنما نجرؤ على القول: إن في هذه الحياة الدنيا «غيرها» أيضًا.
فهذه الصلة الأولية بين الرجل والمرأة، لا مراء، موجودة في حياتنا، ولسنا نجد لها في أدبنا أثرًا. وإذن فهذه المرآة الصدئة لا تنقل من محاسن المرأة المجلوة ولا المحجوبة قليلًا أو كثيرًا، بل يخيل إليَّ أن أدبنا هو من تلك المرائي الخبيثة الخداعة التي تمسخ الوجوه وتشوهها، فتقصر وتطول ما شاءت من رقة وضخامة، حتى لتنكر الوجوه المسكينة صورها الكاذبة، حانقة متسائلة في حيرتها، قائلة: من الشيطان الذي لعب علينا هذه اللعبة؟
وبعد، فأية صورة من المرأة تتجلى على مرآة أدبنا؟ يخطر ببالي الآن أن أسأل أحد الرسامة المُجَّان الظرفاء تمثيل تلك الصورة التقليدية التي حفظها الشعر العربي، ونقلها إلينا «دون تصرف» كأنها أثمن الكنوز وأغلاها: من «الوجه كالقمر» إلى «القامة كغصن البان»، المركز في «كثيب الرمل»، ثم اطْرَح على الصدر المرمر ما شئت من «رمان النهود» أو اثبت ما طاب لك من «حقاق العنبر» … إلخ، ما أنا بمنكر من الغزلين هذه التشابيه الجاهزة، فما كان أحسنها وأبلغها — على ما نتصور — لأول عهد اللغة بها! ولقد قال أول من قالها شيئًا جديدًا أثر في نفوس السامعيه أبلغ الأثر.
كانت قوالب، وكان كل شاعر يأخذها على سبيل العارية، فيصب فيها استعارات وتشابيه أخذها بالدين أيضًا: هذه هي القصة من فاتحتها إلى خاتمتها.
صورة المرأة في أدبنا: مي ودعد وهند أو (سعاد التي بانت) كل هؤلاء أو إحداهن أو لا أحد؛ صورة غامضة مبهمة ضائعة، لا ذاتية ولا ميزة ولا شيء تعرفها به، أو هو ذلك «الشيء» الذي لا شكل له يوصف: تراه ليلًا في أزقتنا الملتوية الضيقة كصدر المغموم في ملاءة سوداء، فتحس لأول وهلة أنه يهم أن يتضاءل ويتصاغر ويتخبأ متسلِّلًا في ظلال الجدران القاتمة الموحشة، ويقولون إنه «امرأة!»
أما الجمال وما يوحيه إلى النفس من معاني السمو، الجمال بلطفه وأنوثته ونعومته … وأما الحب وما يبعثه من متعة ونعيم لا يحدان، الحب بذُلِّه وكِبْره، وقوته وضعفه، وطمأنينته وقلقه، وبرده ولذعه، بل بكل متناسباته ومتناقضاته، فلست واجدًا بعض ذلك. ولعمري إذا ما قضي على عنصر الجمال في الأدب ونَضَب معين الحب، إذا فقدت ذائقة الجمال وخبرة الحب، فهل يظل الأدب حيًّا طليًّا ممتعًا؟ لن يكون ذلك «الصدر المرمز» إذن إلَّا قبرية كتب عليها: (هو الحي الباقي!)
المرأة: الأم والأخت والزوج والعشيقة، والقوادة سفيرة الحب التي يدعوها الترك: دلالة الهوى. هل رأيتها وهل عرفتها؟ إن أدبنا لم يرها ولم يعرفها. كتب الجاحظ عن لصوص الليل ولصوص النهار، ووصف جماعة الشحاذين في عصره، الذين نبغوا في الشحاذة. طبقة من الناس على حدة، لها مراسم ومصطلحات ولهجات وعادات وأخلاق خاصة. ارجِعْ إلى كتاب البخلاء يبدُ لك الهدف الذي نرمي إليه، لقد وصف الجاحظ الشحاذين في عصره بدقة وبراعة، وأنطقهم وأحياهم، فماذا علينا أن يكون هو الإمام الذي به نأتمُّ، إن كان لا بد من إمام؟
ماذا عليَّ إذا حدَّثتْني نفسي يومًا: النفس الأمارة، بأن أصف دلالات الهوى … ماذا علي إذا طمُعتُ أو أطْمعْتُ إخواني بأن نصف المرأة كما هي في الحياة على أنواعها، وفي جميع أحوالها، وفي المباح والمنكر على السواء من صِلاتها بالرجل؟
تغضب «الأخلاق» ويتميز «الحلال والحرام» من الغيظ، ويخاف فلان مثلًا سطو حماة المجتمع وآدابه عليه، إذا هو نوى صقل المرآة الصدئة لتنقل محاسن المرأة المجلوة كلها، فيُحْجِم عن وضع قصة «دلالة الهوى» وإذاعتها بين الناس.
٤
رحم الله امرأ القيس قائد الشعراء إلى النار، كما في الحديث. سأهتدي في هذه النقلة من فصل المواضعات إلى فصل الأخلاق بهدي الملك الضليل، الشاعر المغامر المقامر، الشارب الخمر واللاعب بالنرد، صاحب دارة جُلْجُل، بنفسي دارة جُلْجُل! والملهي المرضع عن محولها ذي التمائم: حياة وثنية جاهلية «لا أخلاقية». لو كانت رواية موضوعة لعدت في الطرف القصصية أو في الصور الفنية الجميلة. وإني لأتساءل أيهما أحسن: شعره الذي نظمه أم حياته التي بددها؟ ولست على يقين من أن شعره يفضل حياته، كيف؟ وهو جزء منها، ليس إلا: من يستطيع أن يفصل بينهما أم من يستطيع أن يجد في حياته عناصر لم توجد في شعره، وعكس ذلك أيضًا؟ لعل الأصح أن تقول: كانت حياته شعرًا في «حالة العمل» وكان شعره حياة «منظومة». هنا أقِفُ القلم هنيهة لأعتذر عما سبق به من رد العجز على الصدر، فبرغمي أن الحياة والشعر والشعر والحياة، لعبا على حبل امرئ القيس.
محا الغلوُّ في إظهار فضائل الإسلام كثيرًا من فضائل الجاهلية، وطمست المبالغة في الإشادة بمحاسن الدين الجديد على كثير من محاسن الوثنية، إذ صور ذلك العصر البائد بأشد الألوان سوادًا؛ ليطلع منها العهد المحدث بأشرق وجه وأصبحه. ويغلب على الظن أنهم لم يفكروا في الرجوع إلى ذلك التراث المهجور إلا بعد أن انفرجت الأزمة الدينية قليلًا، ومرت السنون على الوهلة النبوية الأولى، فاضطروا بقيام الشعوبية واستفحالها إلى النبش عن تلك الدفائن، ويخيل إليَّ أنهم وجدوا عصرئذ ما كان موجودًا، وما لم يكن له وجود، فغالوا أيضًا وأفرطوا من بعد، كما فرَّطوا من قبل.
فضائل الجاهلية ومحاسن الوثنية! أتقول: كَبُرَتْ كَلِمَةً؟ لا، فلست أعني: دينيًّا أو أخلاقيًّا، وليس هنا موضع معارضة ذلك القديم الماثل في الحجارة بهذا الجديد الحي في القلوب، ولا مقايسة ذلك الأول الأقرب إلى الفوضى بهذا الآخر الأدنى من النظام، إنما عنيت المادة الأدبية أو الفنية التي استمدتها المعلقات مثلًا. وأعيد القول دفعًا للالتباس وزيادة في التأكيد: لا يذهب الفكر إلى القيم الدينية والأخلاقية، فإني قصرت وأقصر الكلام على القيم الأدبية والفنية الصِّرف.
إذا ذكرنا الآن ما سبق ذكره من فعل المواضعات البيانية والاجتماعية والأخلاقية والتقاليد والأحكام السابقة، وخوف السخرية وتعدد طبقات الناس في سلم الاجتماع — أي العوامل المختلفة التي وصفنا آثارها في الآداب، وضربنا لها الأمثلة — كان أول ما يتبادر إلى الذهن أن العهد الجاهلي من وجهة نظرنا في هذا البحث هو العهد الأدبي الأمثل، لضعف أثر تلك العوامل جميعًا فيه، وإذ كانت حياة امرئ القيس صورة مصغرة لذلك المجتمع العربي، فإن شعره هو النموذج الأعلى لأدبه، الأدب الجاهلي الوثني الطليق، لم تغمَّ عليه المواضعات والتقاليد والبيانيات، فتقصيه عن الفطرة السليمة والطبع الصادق، ولم يوقر بالهموم والمقاصد الأخلاقية التي تحول سياقه من الفن الخالص إلى الوعظ المشوب، والوعظ إن جاز إدخاله في الأدب فأحر به أن يعتبر أبعد الأنواع عن حقيقة الأدب وطبيعته.
نجد في كتب الأدب القديمة أن امرأ القيس أول من صنع في شعره كذا وكذا، وهو أول من شبه كذا بكذا … إلخ. فإن لم نأخذ هذا القول على حقيقته أو لم نؤمن بصحته «تاريخيًّا»، فلا أقل من حسبانه رمزًا أو اتخاذه مثلًا لما يستطيع الشاعر العبقري أن يؤثل من ذاته المعنوية في لغة قومه وأدبهم، وهو المراد بالطابع الذي يقال: إنه خاص ولا يعفى أثره، بيد أنه لا يكاد «يقع في الملكية الشائعة» حتى يتهافت عليه فقراء الشعراء، يستعيرونه كما يستعير فقراء التجار «توقيع» ذي الاعتماد الموثوق يفتحون به لسندهم باب السوق، ثم يشيع استعمال ذلك الطابع ويكثر تداوله، منافسًا العملة الدارجة، فيتألف من ذلك ما يسمونه المواضعات البيانية، أو العرف الأدبي أو «كليشه» الكلام. ثم تختم هذه الفترة الفاترة بنبوغ شاعر عبقري آخر يكون هواه في أن يحكم بطلاق تلك الألفاظ بعضها من بعض، مفسدًا موقعًا البَيْنَ هادمًا «البيوت» المتداعية ناقمًا من طول العشرة الألفة المخدرة، ثم يتحول هواه إلى عقد زواجات بين تلك الألفاظ جديدة عجيبة، غير مُحْتذٍ مثالًا، بل موقعًا توقيعه طابعًا بطابعه، ويقولون في ترجمته: هو أول من فعل في شعره كذا وأول من شبه كذا بكذا، وهكذا …
ابتدع امرؤ القيس ووضع، وتواطأ الشعراء من بعده وتواضعوا؛ ابتدع لأنه — ولست أعلم هل عمَّر طويلًا — عاش كثيرًا وشقي ونعم، هو «العيَّاش» صاحب عفراء والعذارى والحبلى والمرضع. فجع بأبيه فلما «أتاه الحديث» لم يشأ أن يفجع بدست النرد الذي كان بدأ به، وقال كلمته المأثورة: اليوم خمر وغدًا أمر! هوى تاج الملك عن رأسه المزهو المتخايل عجبًا، فهو شريد طريد. لقي حتفه بحلة قيصرية مسمومة؛ لأنه رفع عينه إلى ثريا الروم فقتلته الشهوة. لقب «ذا القروح» وقبل كانت له كبد مقروحة دلل عليها، فأباها عليه الناس لا يشترونها، حياة فيها عناصر التراجيديا جميعًا، وكانت زهرة الأرستقراطية العربية في ذلك العمران الوثني. كذلك في شعره مذهب فلسفي في الحياة: النزعة الأبيقورية، وتقوم أبيقوريته على أربعة أركان، مثل كل بيت: الصيد والخمر والمرأة والحرب. لعله الآن يدور مع الشعراء في أحد بروج الجحيم — رحم الله قومًا يقودهم الضليل — وهو ينشد وهم ينشدون:
فإذن لم يعرف امرؤ القيس، سواء في حياته أم في شعره، الواضعات الأخلاقية التي تورث صفات الجبن والمداجاة والرياء في حياة الناس وفي أدب الأدباء، أو فلنقل إنه كانت في عصر امرئ القيس «أخلاقية» خاصة طوتها الأخلاقية الإسلامية الجديدة.
لنا صديق زعم أنه يهم بتمجيد تلك الجاهلية الوثنية، ويميل إلى الإشادة بمحاسنها؛ لا لأنها شطر من تاريخ العرب وعنصر في قوميتهم — شطر جليل وعنصر نفيس أقصيا عن التاريخ والقومية — بل لأنه حرج الصدر جدًّا بتلك «الطفرة» الإسلامية كما يقول، يؤلم نفسَه غلوُّها في النعي على ذلك الطور أخلاقه وعاداته وأوضاعه وعباداته. زعم أنه سيعمل على «إحلال الشيطان في صدر الإنسان» وسيعين على إرجاع إبليس الذي أخرج — كما يقول — من جنة الأساطير الدينية، إلى جنة الآداب الرفيعة، يريد أنهم أفرطوا في تنفير الخلق من طيبات العيش حلالها وحرامها، وبالغوا في تزهيدهم في ملذات هذه الدنيا العاجلة، وغلوا في الحث على قتل الشهوات الطامحة، وإخماد الأطماع المضطرمة، يقول: إن إبليس عنصر لازم في الأدب وعنصر لازم في الحياة، فإذا أخرج منهما طردًا بالسياط أو رجمًا باللعنات، كانت الحياة ثُؤْباءَ ممتدة بين القطبين تصل الأزل بالأبد، وكان الأدب أنشودة السآمة.
هذا رأي فتًى متطرف مولع بالأغراب في الرأي. ولست أدري ما نصيبه من صحة الحكم، ولا ما سيكون حظه من إنجاز الوعد، ولكن أحب أن أشرح في هذا الصدد ما أعنيه هنا بكلمة «لا أخلاقية»، لست أعني ما كان منافيًا للأخلاق المصطلح على أنها فاضلة أو ما كان داعيًا إلى نقيضها، حاثًّا عليه، كلا، فأنا أعني ما كان خلوًّا من الهموم الأخلاقية مجردًا من نية الوعظ وقصد العبرة، وأعني هذا ليس غير. قد تأتي العبرة الواعظة عفوًا، وقد تكون أبلغ كذلك، لكنها إذا لم تأت، فيا للقرد! ليس هذا بضار الأدب من جهة أنه أدب صرف، كثيرًا ما سمعت إخوانًا لي يتساءلون منكرين: ما المغزى من ذلك كله؟ وماذا يريد هذا المؤلف؟ وأين العظة والعبرة … إلخ؟ فما يدريهم، لعل الشرط الذي تقتضيه طبيعة الأدب هو أن لا يكون مثقلًا بالهموم الأخلاقية، وعسانا إن مدَّ الله في عمر هذا البحث فبعد المدى، نلتقي في منعطف الطريق، بين الدخول فحومل، بأولئك الحكماء الذين لا يرون في الأدب إلا لهوًا ولعبًا ولذة ومتاعًا، ولا يحبون الأدب إلا كذلك، وقد نلتقي في منعطف آخر بمن يقولون: إن الأدب لا يناقض الدين والأخلاق فحسب، بل يناقض الحياة أيضًا، والمشهور أنه مرآتها وصورتها وترجمانها.
كلمة أخيرة يضعها القارئ في الحاشية: هذه امرأة قبيحة غاية في القبح، وهذا رسام فنان، نسخت الريشة الحاذقة الصناع تلك الصورة «القبيحة» — نقول: يا لها صورة فنية «جميلة»! وهذا القصاص الجهبذ الألمعي وصف رجلًا من شذاذ الناس، الخوارج على النظم والشرائع، الذين يحيون ويموتون على هامش المجتمع وتقاليده الدينية والأخلاقية، وصفه بدقة ومثله لنا ببراعة — نقول: تالله لقد أجاد وأحسن!
في الفنون والأدب إذن غير قيم وغير أحكام.
٥
الله، ما أجمل هذا الحجاب!
كان أول التفاتي إلى صديقي الذي همس بهذه «الصرخة»، قال كلمته بلهجة تضمنت معاني الإعجاب والتلذذ والشوق، وكنا بانتظار الترام في عرنوس، ظهر يوم وضاح يشعثه الغبار، متردد بين الشتاء والصيف لكنه إلى لذع الحر أميل. رأيت الدهشة في عينه، وبصرت به وهو يكاد ينجذب إلى حيث ينظر، مأخوذًا. أتبعت نظري نظره فتسابقا خلف ذلك الطيف الذي مر معجلًا، على بضع خطوات منا، وكأن بيننا وبينه لج بحر خضم، كنا في مثل اليقظة الخائبة التي تعقب حلمًا هانئًا رغيدًا انقطع فجأة. حقًّا، ما كان أجمل ذلك الحجاب!
وأخذ صديقي المفتون يصف تلك القامة الهيفاء في ملاءة لا تكاد تحجب من خطوطها شيئًا، بل تزيدها دقة ووضوحًا: الجسم مفرغ فيها كأنها منه وكأنه منها لجلدها جلد، وهي في إزارها السماوي كحورية استعارت في هبوطها إلى الأرض، زرقة الجو الصافي، على أحدث زيٍّ وأرشقه وألطفه.
وأخذ يصف ذلك البرقع الأسود الذي يكاد يشتعل بنور ما تحته، لا يكتم من الحسن إلا بمقدار، ولا يشف عنه إلا بمقدار، ليس هذا بشرًا، إن هو إلا لغز جميل يفتنك منه ما ترى، ويغريك بما لا ترى؛ بما ترجوه وتتخيله.
من لي بعلم ما أصاب يومئذ صديقي؟ خيل إلي ونحن واقفان عند عمود الترام أنه انقلب بفعل السحر المبين شجرة من أشجار الربيع، مزهرة، أوت إليها صغار الطير ليلًا، ونامت قريرة مطمئنة سكرى بعبير الأزهار، لكن راميًا رمى الشجرة بحجر عابثًا، ففزع الطير وتناوحوا، فهم ذاهبون صعدًا في الجو بينما الأزهار منثورة على الثرى أشتاتًا، وكأنه سلك من الطيوب والأنغام انفرط في يد الطبيعة. لقد أخذت الخواطر والعواطف تتزاحم في صدر صديقي، وتتوارد على لسانه متتابعة متدافعة، فمنها ما كانت الأماني تحمله على أجنحتها فيحوم في الفضاء الطلق المشرق، ومنها ما كان يسقط على الأرض بثقل الخيبة والقنوط والعياء كأوراق الخريف الصفراء. هكذا بسم صديقي في برهة وعبس، وأزهر وصوح، و«عاش ومات». لكنه على كل، أفاض في حديث عذب شائق مستحب ملأ انتظارنا ذلك الترام الذي لا أراه مقبلًا إلا أحسبه يتلكأ، ويهم بالقفول (هذا من عبث الخيال؛ لأن الترام بطيء ليس إلا، ويزيد في بطئه انتظاري إياه، أما أنه أخيرًا يأتي فمما لا ريب فيه).
وأخذ صديقي يحدثني عن فلسفة الملابس والأزياء، ملمًّا بوجهتي الفن والأخلاق أو الجمال والنفع، قائلًا: إنهما على طرفي نقيض والغلبة ليست في النهاية للأخلاق أو للأخلاقية السائدة في هذا العصر على هذا المجتمع. ومما أشار إليه إشارة خفية أن الحجاب لا «يؤدي وظيفته» في الحاضر أو يؤديها معكوسة: أصبحنا فإذا بالحجاب الذي وضع لدرء الفتنة لا يحجب شيئًا، بل يكشف عما قد لا يكون لو لم يكن حجاب. يقول دون جوان زير الغرب أو تقول أسطورته: «إن النصرانية إذا حرَّمت العشق أضافت إلى ملذاته لذة جديدة وضاعفت المتعة به»، ومَن ينكر غواية الأعراض الذي ترجو إقباله، وإغراء المنع الذي تطمع بقبوله، ونعيم الحرمان الذي يمني بالعطاء؟ وهمَّ صديقي أن يزيد: كذلك فتنة هذه الأحجية التي مرت بنا معجلة مغمورة بالأسرار كالطيف الشارد من حلم. لكن الترام أتى — ألم أقل إنه آت لا ريب فيه وإن أبطأ؟ … العجلة من الشيطان لا من الترام — فاكتفى بأن قال، خاتمًا الحديث: عن ذلك عزاء أيها الصديق، هو أن الحجاب الذي يفتن العالمين ليس أول وضع اجتماعي أخلاقي انتهى إلى غير غايته … وبعدُ؟ إنه لجميل، والطبيعة لن تغلب، والناس إلا قليلًا مراءون، ثم سقطت بيننا هذه الكلمة: «الله، ما أجمل هذا الحجاب!» مترددة وجلة كورقة من أوراق الخريف. فإذا بصديقي المفتون، أمامي في مقدم «الحافلة» كشجرة تعرت من زينتها، يحدث صامتًا عن كآبة الحرمان المقلق، وألم الشوق المذيب وعذاب النفس والحواس.
أحسست أن صديقي في تلك الظهيرة لا فيء له أتفيؤه فانصرفت عنه، لكن ظللت زمنًا أسمع في نفسي صدى تلك الأنغام التي انبعثت من الشجرة المزهرة، تحت طالع مسعود.