فصل من كتاب الشيطان في الإلهام الشعري
١
الشاعر ليس له شيطان كالرجل لا ظل له …
قد يكون ثمة عالم آخر، غير عالمنا المادي المنظور، مأهول بالأرواح الخيرة والشريرة، لا يطلع عليه الناس جميعهم. ليس ما يمنع وجود ذلك العالم وقواه العجيبة، فإن ثبات البشر على الإيمان به في صوره المختلفة لدليل قاطع، لا أقول على وجوده، بل على الحاجة إليه، وشيء يؤمن المرء به ويحس إلى الإيمان به حاجة؛ لهو — وإن يكن غير موجود فعلًا — أعظم خطرًا وأكبر أثرًا في حياته، من موجود لكنه يجهله ولا يؤمن به، ولا يجد من جراء الكفر به نقصًا، ولعمري هل للأشياء في ذاتها وجود أم هي ظلال الفكر الإنساني في هذا الفضاء؟ وهل للأشياء في ذاتها قيمة أم هو الفكر الإنساني يعطي القيم ويحرم منها، كما يشاء؟
وسواء أصح وجود ذلك العالم العجيب أم لم يصح، فليس أجدر من الشعراء أن يكونوا به على اتصال، وهم في كل عصر وجيل، حملة الإلهام العلوي الناطقون باللغة القدسية، الذين يسترقون السمع من عالم الغيب استراقًا ليعودوا منه بأنغامهم الساحرة، ويملئون من محاسنه أعينهم؛ ليخلعوا على الكون، كلما أبلى من حلل الجمال حلة، جمالًا طريفًا، فلو لم يكن ذلك العالم موجودًا لأوجده الشعراء.
•••
سألت ذات يوم: كيف صرنا لا نرى الجن والشياطين بعد أن كانوا على اتصال دائم بآبائنا وأجدادنا؟
فقيل لي: لقد رأوا الإنس في هذا الزمن «أشطن» منهم فلاذوا بالفرار، وهالهم ما في عالمنا من الشرور والآثام فهجروه … وعلى كلٍّ فإن الجن ما زالوا «يظهرون» لكنكم لا ترونهم أنتم!
هذا جواب امرئ متشائم يريد أن يبدي أسفه على العهود الخالية وحنينه إليها. والحقيقة أن العرب كانوا أسعد منا في فلواتهم حظًّا، وآنس في خلواتهم بصحبة تلك المخلوقات العجيبة. فإن أحدنا ليجد أحيانًا، من شدة الشوق إلى سماع أحاديث غير هذه الأحاديث اليومية، التي تعوَّد سماعها من هؤلاء الأناسي؛ ما يرضى معه النزول:
وليس أكبر فضلًا ومنة على الناس من المفاجآت التي تقطع هذا السياق المملول في حوادث الحياة العادية، فتذكرهم بأنهم أحياء، بل إن هذه المفاجآت هي التي تغلي ثمن الحياة.
ألا إن هذا الرجل الذي طرقته الجن، وقد أوقد نارًا لطعامه، لسعيد! بوركت الجن الذين آنسوه في وحشته! هو سمير بن الحارث الضبي، أعني أنه ليس صديقنا السيد حليم دموس (مثلًا) الذي لم يطرقه الجن مرة واحدة، ولن يطرقوه، لا إذا أوقد نارًا لطعامه، ولا إذا أشعل مصباحًا لنظم قصائده، فإن المسألة مسألة مزاج.
كان لكل شاعر من العرب شيطان يلقي إليه الشعر، يسمونه «التابع» أو «الرئي». فكان لحسان بن ثابت صاحب من بني الشيصبان (وهم قبيلة من الجن) فكانا يتناوبان قول الشعر:
ولا مراء في أن أجود شعر حسان ما كان يلقيه إليه تابعه الشيصباني، ولكن أنَّى لنا اليوم بعلامة في الشيطانيات يميز بعض القولين من بعض؟
كذلك «أبو النجم»، فإن سألتني: من أبو النجم هذا؟ أجبتك: لا أدري سوى أنه الرجاز القائل مفتخرًا:
– ألك أيها الشاعر شيطان؟ إذن فقل ثم قل! وإلا فانقلب طاحونًا على ضفاف العاصي …
دعوة مستجابة، في ليلة القدر، التي هي خير من ألف شهر!
٢
نظر رسول الله إلى زهير بن أبي سلمى فقال: اللهمَّ، أعذني من شيطانه …
وليس في شياطين الشعراء أعظم شأنًا من «مسحل بن أثاثة» هاجس الأعشى صنَّاجة العرب الذي كان — على رأي بعض نقدة الشعر — أغزل الناس في بيت، وأشجعهم في بيت، وأخنثهم في بيت.
ولقد اجتمع الشاعر وشيطانه ذات يوم، وجهًا لوجه، فتحدثا كما يتحدث الرجل إلى خياله في المرآة.
قال الشيطان ولم يعرف الأعشى بنفسه: من أنت، وأين تقصد؟
قال الشاعر: أنا الأعشى، أقصد قيس بن معديكرب.
– حيَّاك الله! أظنك امتدحته بشعر، فأنشدنيه.
فأنشد الأعشى مطلع القصيدة:
قال الشيطان: حسبك! أهذه القصيدة لك؟
– نعم.
– من «سمية» التي تنسِب بها؟
– لا أعرفها، وإنما هو اسم أُلقي في روعي.
فنادى الشيطان: يا سمية، اخرجي! فإذا جارية خماسية خرجت، فقالت: ما تريد يا أبت؟
– أنشدي عمك قصيدتي التي مدحت بها قيس بن معديكرب ونسبت بك في أولها.
فاندفعت تنشد القصيدة حتى أتت على آخرها، لم تخرم منها حرفًا، ثم انصرفت، فقال الشيطان للشاعر: هل قلت شيئًا غير ذلك؟
– نعم، قلت أهجي يزيد بن مسهر:
– حسبك! من «هريرة» هذه التي نَسَبْت بها؟
– لا أعرفها، وسبيلها سبيل التي قبلها.
فنادى الشيطان: يا هريرة! فإذا جارية قريبة السن من الأولى. فقال لها: أنشدي عمك قصيدتي التي هجوت بها يزيد بن مسهر.
فأنشدتها من أولها إلى آخرها، لم تخرم منها حرفًا.
ويقول الأعشى، وهو راوي هذا الحديث الذي تجده في كتاب «الأغاني» بسنده المتصل: فسقط في يدي وتحيرت وتغشتني رعدة، ولكن الشيطان رَثَى لحاله، فقال له وهو يضحك: ليفرخ روعك يا أبا بصير! أنا هاجسك مسحل بن أثاثة الذي ألقى على لسانك الشعر.
وفي شعرائنا نفر لا يفتئون «ينفخوننا» بأحاديث مكذوبة عن «سميات» و«هريرات» لم يعرفوهن قط، لعلة بسيطة هي أنهن لم يوجدن إلا في الغزل العربي الذي يقلدونه تقليد القردة.
وممن اعترف من شعراء العرب بأن شيطانًا كان يلقي الشعر على لسانه جرير القائل:
فاستطاع جرير، بعون شيطانه، على مهاجاة مائة شاعر وشاعر، أسكتهم وأخزاهم جميعًا، وكذلك الفرزدق، أقر بأنه كان يستغيث بشيطانه كلما أعياه قول الشعر، فإذا أغاثه قال وأجاد.
أما «السنقناق» فهو شيطان بشار بن برد الأعمى. وهنا مسألة: كيف كان السنقناق يظهر لبشار؟ الجواب — إن كان لكل مسألة جواب — هو أن عيني الأعمى، لا سيما إذا كان بشارًا، تكونان مفتوحتين على باطنه، فكان بشار يرى شيطانه في نفسه.
ولم يختص بالجن الشعراء وحدهم، بل كان للمغنين منهم نصيب. وهذا «زرياب» إمامهم في الأندلس، الذي زاد في أوتار العود وترًا خامسًا، اختراعًا منه؛ يقول إن الجن كانت تعلمه، ولعل الوتر الخامس مما آتاه شيطانه ليزيد في سحر الفن، وهذا مصداق ما يذهب إليه بعضهم من أنَّ الفنون الجميلة، وخاصة الشعر والموسيقى، هي من صنع إبليس وكيده، إن كيده لعظيم!
٣
لم ينفرد العرب بمعرفة هذه الأرواح الخيرة التي تعين الخلق على احتمال آلام الحياة ودواعي السأم فيها، بما توحيه إلى هؤلاء الميامين الذين نسميهم بالموسيقيين والشعراء وأرباب الفنون. فقد كان للإغريق القدماء إله يُدعى «أبوللون» هو إله الموسيقى والرقص والشعر والإلهام، يعنو لعزته وجلاله شاعرهم ونبيهم على السواء، إذ كان يكشف للنبي عن المغيبات ويجري على لسان الشاعر أغاني الحماسة، وكان موطن أبوللون على الأكثر، جبل «البرناس» المكسوة جنباته بالغابات والرياض، الريانة مروجه بماء الينبوع الأقدس.
•••
ذكر لي الأستاذ الريحاني أن العرب في «عسير» الأعلى يقولون اليوم عن الشاعر: «هو رجل سقته الجن»، وإنه سأل أحدهم كيف يكون ذلك؟ فأجابه إن الشاعر إذا أراد نظم قصيدة، يصعد إلى قمة جبل هناك ومعه شاة يذبحها ويقربها قربانًا، ثم يضطجع في ظل شجرة، فإذا تُقبِّل قربانه أحس في نومه كأنه يسقى شيئًا، فينهض ويقول الشعر … في عسير الأعلى إذن «برناس» عربي تسرح فيه الجنيات الحسان اللواتي يرضعن الشعراء من لبانهن الزلال، لتعذب ألسنتهم …
•••
يروى أن الإله الإغريقي «ديونيزوس» كان يأتي الشاعر «أشيل» في منامه فيملي عليه قصصه التراجيدية. فإذا لم نصدق بهذا، فهل نكذب أيضًا سقراط الذي أقر، وهو الحكيم، بأن له شيطانًا؟
والشاعر الإيطالي «تاتسو» كان يزوره في ليالي الأرق روح عجيب، فيعطف على وسادته ويجاذبه أطراف الحديث. ويقول «فوربس» من معاصري شكسبير إن السحر كان في أسرة الشاعر الإنكليزي الأشهر، وإنه كان يتعاطى فنونه التي تلقاها عن أهله، فالجيد الذي في قصصه التمثيلية هو من وحي شيطانه.
أما الشاعر الفرنسي «بوالو» القائل في قصيدة هجاء باللاتيني الحديث: «شيطان الشعر! كيف تأمرني، وأنا الغريب المنبت، المولود وراء الألب، إن أعسف النظم اللاتيني لا أنفك أتخبط في معاميه؟» فهو صاحب أرجوزة في صناعة الشعر، فيها من الشعر بقدر ما في «ألفية ابن مالك»، ولهذا نقول إنه يكذب في زعمه أن شيطان الشعر أمرَه بشيء، إلا أن يكون أمره بأن يسكت؛ رحمة بالناس.
إني لأكاد أسمع القارئ يقاطعني وهو يبتسم، غير مصدق شيئًا من هذا الحديث، بقوله: وبعد؟ أكثر ما شئت من الشواهد النقلية، وعزز ما وجدت إلى ذلك سبيلًا، أقوال العرب بأقوال الإفرنج … فلن أؤمن قط بأن الشاعر يوحي إليه إله من آلهة البرناس، أو يلقي على لسانه الشعر شيطان من شياطين الفلوات، بل إيش تلك الآلهة الإغريقية وإيش هذه الشياطين العربية؟
فأنا أجيب بقولي: عفوًا يا سيدي القارئ … أما إذا أردتني على طرح هذه الأقوال والشواهد جميعًا، يقين أنها صرف كذب ومحض اختلاف أو ضرب من الهذيان لا يقوم على أساس، فلا. وأما إذا اعتبرتها «واقعًا» لا يسعنا إنكاره على الصورة القطعية، بل ينبغي النظر فيه وتأويله علميًّا إذا أمكن؛ لأن الهذيان نفسه «حقيقة» تقوم على أساس ويستطاع تأويله علميًّا، فأنا معك. ولكن هذا بحث تضيق به مقالة اليوم وسأعقد له مقالة أخيرة تكون ختام الكلام في الشعر وشياطينه. وأحب — قبل ذلك — أن أنقل إليك نادرة طريفة من نوادر الميثولوجيا العربية، على رجاء أن تجد فيها لذة وفائدة: نشأ بسجستان في أواخر القرن الثاني للهجرة رجل يدعى سهل بن أبي غالب الخزرجي ويلقب بأبي السري، ادعى رضاع الجن (مثل شاعر جبل عسير الأعلى)، وأن صلته بهم محكمة، ثم وضع كتابًا ذكر فيه كثيرًا من أخبارهم ووقائعهم وحكمتهم وأنسابهم وأشعارهم، وزعم أنه بايعهم للأمين بن هارون الرشيد بولاية العهد، فقربه الرشيد وزبيدة وابنهما الأمين، وأجازوه جوائز سنية، ثم أخذ ينقل إليهم، حينًا بعد حين، شعرًا جيدًا من نظم الجن والشياطين والسعالى …
– وهل صدَّق الرشيد هذه الخرافة؟
– إن الرشيد لم يصدق ولم يكذب، بل قال له: «إن كنت رأيت ما ذكرت فقد رأيت عجبًا، وإن كنت ما رأيته فقد وضعت أدبًا»، ولست أسأل القارئ الآن، إلَّا أن يقول بقول الخليفة العباسي، فهو حسبي.
٤
يقول أبو إسحق المتكلم من أصحاب الجاحظ ما خلاصته: «إذا استوحش الإنسان مَثُل له الشيء الصغير في صورة الكبير، وارتاب وتفرق ذهنه، فيرى ما لا يُرى ويسمع ما لا يُسمع … فإذا توسط الفيافي واشتلمت عليه الغيطان في الليالي الحنادس، تجده عند أول وحشة أو فزعة وعند صياح بوم ومجاوبة صدى، وقد رأى كل باطل وتوهم كل زور …» على هذه الصورة يشرح الاعتقاد بالكائنات الخارقة، كالجن والشياطين والسعالى، التي آمن العرب بها وآمن بمثلها أقوام آخرون، ولعل أبا إسحق لم يجد في شرحه هذا مقنعًا، فلم يلبث أن زاد عليه قوله: «وربما كان في الأصل كذابًا صاحب تشنيع وتهويل، فيقول في ذلك من الشعر على حسب هذه الصفة: رأيت الغيلان وكلمت السعلاة، ثم يتجاوزه إلى أن يقول: رافقتها، ثم يقول: تزوجتها …» وهكذا؛ أي إنه — رغم إجادته في تصوير الظرف المادي الذي قد يكون له بعض الأثر في تلك الظاهرة السيكولوجية — انتهى بشرح إحدى العقائد العامة التي عاش عليها البشر وما زالوا، أوهن شرح بأهون حجة، نعني حجة الكذب، فهو إذن لم يشرح شيئًا. وليس أيسر على المرء الذي يحدث حديثًا لا يفهمه، ولا يجد تأويله من أن يَجْبَهَ محدثه بهذه الكلمة الموجزة التي تغني عن كل تطويل، وتدفع كل هم إنك لكاذب!
ولا يلتبس الأمر على القارئ! فلست بالناعي على أبي إسحق إنكاره الجن والشياطين وسواها، كما أني لم أرم إلى إثبات أن لهذه العجائب وجودًا حقيقيًّا فعليًّا مستقلًّا عن الأناسي الذين رأوها أو «توهموها»، ولكني أسأل نفسي، إذ لم أجد مقنعًا في ذلك «التكذيب»: كيف يرى الإنسان (كما يقول هو) ما لا يُرى، ويسمع ما لا يُسمع؟ أليس هذا أمرًا عجيبًا جديرًا بأن نعرف تأويله؟ هل للعلم الحديث كلمة يقولها، في هذا الباب، غير كلمة «كذبت»؟ فأما وقد ذكرت «العلم الحديث» فإني أعتذر إلى أبي إسحق المتكلم الذي عاش في القرن الثالث للهجرة، عن مطالبته بما لم يُعلم إلا بعد ألف سنة، وحسبه أنه طرح — في صورة الجواب — ذلك السؤال.
•••
•••
سموا الشاعر الملهم نبيًّا، اعتقاد أنه ليس بشرًا مثلهم بل هو بشر وزيادة، وهذه الزيادة إنما تأتيه من الشيطان العربي الذي يلقي الشعر على لسانه، أو من «الموز» اليونانية التي توحيه إليه، أو من الإله الروماني الذي يُنَزِّل الآيات عليه تنزيلًا، وهذه الزيادة هي أنه يرى ما لا يُرى ويسمع ما لا يُسمع، كما قال أبو إسحق المتكلم. ولا يندر في الشعراء والفنانين — الفحول العبقريين — من يعتقد مثل هذا الاعتقاد، فإن الشاعر العبقري الذي يبهر عامة الناس ببديع معناه ويسحرهم برائع قوله حتى يسمعوا كالصوت الهابط من الملكوت الأعلى، يكبر هو أيضًا هذا الإعجاز، ويعجب من أنه هو مستودعه ومظهره، ويتساءل مشدوهًا: من أين، ممن هذه الأمانة العظيمة؟ ذلك أن العبقرية شذوذ، شذوذ بلا مراء، لكنه أدى ببعضهم إلى اعتبارها مرضًا أو عاهة في الجهاز العصبي، ويذهب «لومبروزو» إلى أنها صورة ملطفة من داء الصرع، تصحبها نوبات مفاجئة عنيفة، يتبعها خور جسماني شديد.
أجل، إن كثيرًا من العلماء يَردُّون اليوم هذا الرأي قائلين: إن أغلب العبقريين المرضى كانوا أولي عبقرية رغم الأمراض التي أصيبوا بها، لا بسبب تلك الأمراض، سواء أكانت عصبية أم غير ذلك، فالمرض في الرجل العبقري ليس قاعدة عامة بل حالة استثنائية. ولكن هؤلاء العلماء — على كل — ليسوا بمنكرين أن العبقرية بحد ذاتها، سواء الصحيحة والعليلة، شذوذ كما سبق القول، شذوذ يراه صاحبه في نفسه ويراه فيه عامة الناس، فيشدههم ويبهرهم، ثم تعييهم الحيلة ولا يجدون تأويله، فيحيلونه على عالم غير عالمنا الظاهر ويعزونه إلى قوى غير قواه المعروفة: الجن وموحية الشعر والآله، وهي رموز سننظر فيما وراءها أو أسماء لعلنا نوفق إلى معرفة مسمياتها.
٥
وهناك في أرض الجن، لم يجتمع الأديب الأندلسي بخطباء العرب وشعرائهم (وفي هذا أحد الفروق بين رسالته ورسالة أبي العلاء)، بل بأصحابهم الذين كانوا يلقون رائع الشعر وبديع القول على لسانهم، من شيطان امرئ القيس إلى شيطان أبي نواس، كأن هؤلاء الشعراء ليسوا شيئًا مذكورًا، لكنهم ظلال أولئك التوابع والزوابع في عالم الغيب؛ ظلال تُلقى على عالمنا هذا: الشاعر هو ظل شيطانه على الأرض.
فهذه الديباجة إذا تطلبت لها أصلًا من غريب معنى لم تجده، ولكن لها من التعلق بالنفس والاستيلاء على القلب ما ترى.»
ويقول الدكتور أحمد ضيف في كتابه «بلاغة العرب في الأندلس»: «وهو — أي ابن شهيد — يميل إلى أن الافتنان في الكلام أو البراعة في النظم والنثر، أو ما يسمونه بالبلاغة، نوع من الإلهام أو شيء من الغيبيات أو سر من أسرار النفوس …»
فكل فاعلية فنية أو شعرية عظيمة — في الفنانين والشعراء العبقريين على الأخص — لها جذور تستشري فيما وراء الإدراك؛ أي في المنطقة اللاوجدانية من النفس الإنسانية، ومن هذا اللاوجداني مادة الإبداع في الفن والشعر، وفيه تأويل ما كان القدماء لا يعرفون تأويله من حالات الوجد والكشف، والوحي والإلهام، فيرمزون عنه بالموز والإله والشيطان؛ ولذلك كان كثير من الفنانين يتوسلون لإيجاد تلك الحالات في أنفسهم، بضروب من المهيجات: كقهوة فلتير وبلزاك، وكحول بوو وهوفمان وموسه، وكوكايين موبسمان، وغيرهم، وهي مهيجات لما في أعماق اللاوجداني من العناصر الكامنة التي تثور حينئذ، وتطفو على سطح الوجدان، فتتألف منها آيات الفن والشعر؛ كما تبدو أحيانًا في عرض البحر، بين بكرة وضحاها، جزيرات لم يرها الرحالون من قبل، ولكنها برزت فجأة بفعل النشاط الخفي العظيم في بطن الأرض، فهم ينظرون إليها مشدوهين ولا يكادون يصدقون.
وليس يعني هذا أن العبقرية، لاستمدادها من اللاوجداني وهي المنطقة التي لا سلطان للإدراك عليها، تكون فوضى بلا نظام، أجل إنها تصعد من تلك الأعماق البعيدة خليطًا من شتى العناصر، إلا أنها لا تلبث أن تدخلها في الوجداني، وهي المنطقة التي يسيطر العقل عليها، وفيها تعمل بعناء أو من غير عناء، بجهد أو من غير جهد، على تحقيق أجمل نظام وحدة في أكثر العناصر اختلافًا، وهذه هي معجزة العبقري.