الشاعر الشهيد
هذه كلمة صديق في صديقه:
كنا في المدرسة وبعدها، ثلاثة أو أربعة من الفتيان لا نكاد نفترق، وكان يجمع بيننا الصلة التي تجمع بين المسافرين أو رفاق السفر، وكانت رحلتنا إلى «المستقبل» في طريق سهل مهدته طيوف الخيال، وكان في «زوادتنا» كثير من الأماني والأحلام.
وكان عمر حمد أحد هؤلاء الثلاثة أو الأربعة؛ خير رفيق، يؤنسنا بشعره الذي لا يفتأ يترنم به كأنه يستحث عزائمنا، ويستفز قوانا، حتى نصل إلى الغاية التي كنا نتخيلها تخيلًا، بل نتوهمها، وها قد تصرمت الأعوام ولم ينته واحد منا حيث كان يرجو، ولله ما أطول الشقة! لقد انتقلنا من عالم الخيال إلى عالم الحقيقة.
أعدْتُ ذات يوم ذكرى ذلك العهد البعيد القريب، ذكرى الصبي، فقلت: إن أحد أصدقائنا، لما سئل: ماذا يطمع أن يكون في المستقبل؟ أجاب: الخليفة! وكان عمر حمد يرجو أن يكون شاعر الخليفة، أما «الخليفة» فقد استيقظ من هذا الحلم كما استيقظ من مثله الصياد، أحد أبطال «ألف ليلة وليلة»، وأما «شاعر الخليفة» فقد نام — رحمه الله — نومة لا تؤنس وحشتها طيوف الأحلام.
•••
وبعد، فهذا المختار من شعر عمر حمد نزفه إلى أبناء الضاد، إحياء لذكرى الشهيد وتكريمًا له، فهو ترجمان الروح التي كانت سائدة على النشء في تلك الأيام، وكان إذ يتلوه ناظمه، يثير في نفوس السامعين حماسة لا توصف، وإعجابًا ليس له حد، ولو مد الله في عمر صاحب الديوان لأصبح من فحول شعرائنا، فقد كان مطبوعًا على النظم، وكان منصرفًا إليه بكليته، وكان له كثير من المشجعين. لكن عمر حمد في حياته القصيرة، لم يكن سوى شهاب سطع بغتة في سماء الشعر ثم هوى، أو زهرة ما تفتحت عن نضرتها حتى ذوت.
•••
ولد عمر حمد في بيروت حوالي سنة ١٣١١ﻫ، وجده السيد حمد، مصري الأصل هاجر إلى هذه البلاد في زمن الأمير بشير الشهابي، وكان في الثامنة من عمره إذ ختم القرآن الكريم للمرة الرابعة متتلمذًا للشيخ شاتيلا المشهور في هذا البلد، وتوفي والده السيد مصطفى حمد قبل أن يجاوز الفقيد التاسعة من عمره، فاضطر إلى ترك المدرسة، واشتغل في السوق نحو أربع سنوات، ثم أدخل الكلية الإسلامية، فتلقى فيها دروسه على اختلاف أنواعها، وأخذ ينظم الشعر، وأكثر القصائد المجموعة في هذا الديوان هي مما ألقاه الفقيد في نادي تلك الكلية العزيزة، وإني لأتمثل الآن عمر حمد — رحمه الله — واقفًا على المنبر، يتغنى بمجد العرب الغابرين، ويندب سوء حالهم الحاضر، مستحثًّا العزائم، مستفزًّا الهمم، فأتمثل الحماسة متجسدة في ذلك الفتى الأسمر، الطويل القامة، الجهوري الصوت.
وفي سنة ١٩١٢م أتم الفقيد دروسه في الكلية الإسلامية، ونال شهادة «البكالوريا» فألقى في حفلة توزيع الشهادات عامئذٍ قصيدته القصصية «المروءة والوفاء» المنشورة في هذا الديوان. لكنه لم يترك المدرسة التي أنجبته وقضى فيها سني صباه العذبة، فقبلته معلمًا للعربية وتاريخ الإسلام في القسم الاستعدادي، وكان في الوقت نفسه يحرر في بعض الصحف المحلية.
ثم نشبت الحرب العامة، فحمَلَتْه عاصفتُها الهوجاء إلى دمشق ضابطًا احتياطيًّا، فمكث فيها نحو ثلاثة أشهر، وكان الطاغية جمال باشا قد بدأ بتنفيذ مشروعه الدموي الذي يرمي إلى القضاء على كل نزعة استقلالية في البلاد العربية قضاءً مبرمًا، وألقى القبض على نفر من أبناء الوطن الأحرار، وزجهم في سجن عالية، وكان عبد الغني العريسي والأمير عارف الشهابي وعمر حمد — رحمهم الله — متيقنين أن دورهم آت لا بد منه، ففروا من دمشق في بدء سنة ١٩١٥ مُرتَدِين ثياب البدو، سالكين سبل البادية العربية، وظلوا شريدين طريدين نحو ثمانية أشهر حتى قبض الترك عليهم في مداين صالح، إذ أوشكوا أن ينجو بأنفسهم، ويبلغوا «أم القرى» مهد الثورة.
وقضى صاحب هذا الديوان في غيابة السجن نحو أربعة أشهر، معذبًا مضطهدًا، لكن نفسه الأبية لم تَهن ولم تهُن، ولا يزال من عرفه في ذلك الجحيم السياسي يذكر جرأته، وصبره ورباطة جأشه وقوة إيمانه.
وفي السادس من أيار سنة ١٩١٦ جيء بالفقيد ورفاقه إلى بيروت، ثم قادتهم الزبانية إلى ساحة الشهداء، فمشوا يهتفون للعرب ولاستقلالهم، ويتغنون بأناشيد الحماسة، وفاضت روح المرحوم عمر حمد بين أرواح صحبه الطاهرة على أعواد المشانق، فكان ميتًا أبلغ منه حيًّا، ولعل شهادة عمر حمد لإعلاء كلمة أمته، أشجى قصيدة ينظمها شاعر، وأروع نشيد ترفعه الأرض إلى السماء، رحمه الله رحمة واسعة.