المشهد الأول
(عندما يرتفع الستار نرى جانبًا من أحد أحياء القاهرة القديمة،
مقهى في المنتصف وفي وسطه يجلس الشاعر ممسكًا بربابته وحوله حشدٌ من أولاد البلد وبعض
الأطفال. وإلى اليسار ثلاثة دكاكين مفتوحة فارغة، أحدهما لخياطٍ (عبيد) والثاني لحدادٍ
(فرج) والثالث لنجارٍ (محمود). عندما يبدأ الشاعر في الإنشاد يخرج الثلاثة فيجلسون على
كراسي أمام الدكاكين ثم يندمج عبيد في الإنشاد. على أقصى اليمين رجل يرتدي ملابس أهل
البلد ولكنه يمسك ورقةً وقلمًا ويسجل ملاحظاتٍ متفرقة طول الوقت. منظره يوحي بأنه جاسوس.
سنسمِّيه الرجل الغامض.)
الشاعر
(ينشد)
:
هجم الأميرُ على التتار كأنه الليثُ الهصورْ.
الجمهور
:
ليث هصور!
الشاعر
:
من عَينه انطلق الشرار كأنه سهمٌ جسورْ.
الجمهور
:
سهم جسور.
الشاعر
:
وسهام جيش الله نافذة وتسكن في الصدورْ!
الجمهور
:
في الصدور!
الشاعر
:
والجند تزحف مثل موج البحر يجتاح الجسورْ.
الجمهور
:
يجتاح الجسور.
الشاعر
:
وتؤزُّهم أزًّا فنار الحق حارقةٌ تمورْ.
الجمهور
:
حارقة تمورْ.
الشاعر
:
وعلى الأباطح سالت الأنوار وانهزم الغرورْ.
الجمهور
:
انهزم الغرور.
الشاعر
:
فاليوم يوم الحق يوم النصر ريان السرورْ.
الجمهور
:
ريان السرور.
الشاعر
:
وغدًا يفيض الخير في الدنيا وتنصلح الأمورْ.
الجمهور
:
تنصلح الأمور.
(الرجل الغامض ينتقل من اليمين إلى اليسار.)
عبيد
(يشترك في الإنشاد)
:
وأنا المقاتل أرهب الفرسان
أُدخلها الجحورْ.
الجمهور
:
أُدخلها الجحور.
عبيد
:
وأنا أنا … سبع البرمبة لي جناح كالنسور.
(لا يرد أحد.)
لم لا يرد الناس … هيا … ردِّدوا.
فرج
:
عُبَيد أنت خياطٌ ولستَ مقاتلًا فاسكُتْ.
محمود
:
بل يهوى مثل الشاعر هذا الهذَر الكاذب.
عبيد
:
اليوم يوم الانتصار الفذ هذا يومُنا.
الشاعر
:
غنوا أهازيج الهنا
فاليوم قد نِلْنا المنى
وغرَّدَت أطيارنا
وزغردَت ألحاننا
(إلى فتاة) زغردي يا منى!
(تزغرد الفتاة.)
فرَّ التتار من السيوف والحِراب والقَنا!
دُكَّت حصون الشرك وانكسر المُهين لعِزِّنا.
من ذا يدين له الزمان بكل مجدٍ مثلنا؟
(إلى الفتاة) زغردي يا منى!
(تزغرد الفتاة.)
عاد الأمير باللواء الحر مجلوَّ السَّنا.
نصرُ الأمير نصرُنا وعزُّه من عزِّنا.
(إلى الفتاة) زغردي يا منى!
(تزغرد الفتاة.)
اليوم قد نِلْنا المنى.
محمود
(صائحًا)
:
بل لم تكن تلك المنى.
(هرج ومرج ولغط بين الجمهور.)
الشاعر
(في دهشة)
:
ماذا ماذا؟
محمود
:
أقول هيا من هنا.
(الرجل الغامض يعود إلى مكانه ويتظاهر بشرب الشاي بينما يدس
الأوراق في جيبه.)
(ينهض الشاعر وينصرف ومن خلفه بعض الأفراد ويظل بعضهم على
القهوة.)
عبيد
:
هل كنت ترجو الانكسار إذَن؟
فرج
:
بل كان ينتظر الخشبْ.
محمود نجارٌ سجين الشك يحيا يا عبيد في الكتبْ!
عبيد
:
بل ليس في دماغه سوى الخشبْ!
أَوَلَا تُحسُّ يا محمود بالفَخار لانتصارنا على التتارْ؟
أوَلستَ تحفِل بالقضايا الوطنية؟
إني شهِدتُ ذات يومٍ موقعة
كانت ضرامًا ولهبْ.
فرج
:
عاد عبيدٌ للخيالْ.
محمود
:
صمتًا عبيدُ لا تزِدْ.
عبيد
:
لم لا تفرح مثلي بالنصر الأكبر؟
محمود
:
النصر عبيدٌ؟ أين النصر؟
كم قيل لنا قد جاء النصر
وبخير الشام امتلأ البر،
كم قيل لنا صفَت الدنيا
وسلِمْنا شر الزمن الأغبرْ
(يُخرج الغامض الأوراق ويسجِّل بحماسٍ وعيناه لا تبعد عن محمود وأذنه
مفتوحة لكلامه بالذات.)
كم قيل لنا غاب التتر ببطن الزمن وولُّوا،
لم تَعُد التتر تحارب … يئسوا،
لو كان النصر حليف الأمراء اليومْ
أو كان حليفهمُ بالأمسْ،
أو كان حليفهمُ يومًا ما،
ما عانينا هذي الضائقة القصوى
وقطفْنا بعض ثمار النصر،
لكنَّ الكذب صريحٌ
وقحٌ وصريح ومباشرْ
(يتحمس الرجل الغامض في الكتابة.)
إذ يُعلن هذا المملوك السافل عن غزوة،
قد يخرج حقًّا للحرب وقد لا يخرج … لا ندري،
لكنَّ الشاعر يأتي كي يُنشد نفس الأشعار المصنوعة
نفسَ الألفاظ المسجوعة،
يدعو فيها للفرح يُبشِّر بزوال الغمة،
بينا يسغب هذا الشعب ولا يجد اللقمة.
فرج
:
إنا حقًّا في ضائقة يا محمود ولكنْ …
عبيد
:
لكنَّ الحرب تكلفنا بعضًا من قوتْ،
لا بد لنا أن نتحملْ … أن ندفع ثمن النصرْ.
محمود
:
النصر الموهوم … الكاذبْ؟
فرج
:
لن يقنع محمود إلا إن جاءت سفن الأخشابْ
(يضحك) لا تُرضيه إلا الأخشابْ،
عقلٌ خشبي من طول معاشرة الأخشابْ،
ولماذا يا أحبابْ؟
حتى يجمع شمل الأحبابْ،
فعليَّة تنتظر جهازًا من خشب الزانْ،
لا يُرضيها خشب الموسكي الأبيضْ!
(الغامض يسجل بحماس في الدفتر.)
عبيد
:
ما عيب الموسكي يا محمودْ؟
محمود
:
بل ليتَ الموسكي موجودْ،
السوق بمصر يا أصحابي فارغْ
لا يوجد نجارٌ يعملْ،
وقريبًا — إن لم تأتِ الأخشابْ —
لن تجد فتاةٌ من يتزوجها،
أنا لا أحزن لوقوف الحالْ؛
فقد اعتدتُ الشدة،
لكني أحزن للكذب الفاضح.
عبيد
:
أفلا يمكن أن تَصدُق أخبار النصرْ؟
اسألني … فأنا حاربتُ مع الأمراءِ
وأعرف كيف تكون الحربْ.
محمود
:
الكذب ذميمٌ يا خياطُ،
فأنت تردد ما تسمع من شاعرك الأبلهْ،
تتصور أنك قاتلتَ وخُضتَ الأهوالْ
بينا لم تبرحْ هذا الدكان المعتمْ،
وكذلك فرج الحدادْ.
فرج
:
أنا لا أحيا إلا في الواقعْ
أعرف أحوال الدنيا … لا أخدع نفسي البتة،
هي كالمطرقة على السندانْ
تضرب فينا حين نلين بنيران الجوع!
محمود
:
هل المماليك قدرْ؟
مطرقةٌ فوق رءوس البشر؟
تشبيهك الأصيل غير صادقْ
حتى وإن صدَقْ
لا تنسَ أننا … فيه الحديدُ الساخن.
عبيد
:
إن المماليك لنا درع الحياة
يحمون أرضنا وعِرضنا.
محمود
:
بل يملكوننا.
فرج
:
حرٌّ يا محمودُ أنا،
وكذلك أنتَ وأنتَ … نحن جميعًا أحرارْ.
محمود
:
حرٌّ في أن أصنع منضدةً أو كرسيًّا
من غير خشبْ؟
أن أشتريَ القوت بلا مال؟
أن أتزوَّج من أهوى؟
(بمرارةٍ) أو من لا أهوى؟
يا أصحابي إنْ عزَّ القوت وجفَّ الضرع فلا حرية.
عبيد
:
فلسفةٌ خرقاء.
فرج
:
وشيوعيةْ!
عبيد
:
بل أنتَ لا تعرف التتار،
(يسجل الرجل الغامض ويتابع النقاش.)
لا تعرف الرقيق والجواري والإسارْ.
فرج
:
محمودٌ لا يعرف إلا الأخشاب.
عبيد
:
إن جاءته الأخشابُ اليوم
أصبح حرًّا،
أما إذا وصل التترْ …
محمود
:
يا صاحبيَّ إنَّ ساعدي قوي،
وأستطيع أن أذود عن حياضي إن أتى الخطرْ،
أما الحياة في ظلال القهر فهي الموت والفناءْ.
فرج
:
قالوا تصلُ الأخشابُ غدًا أو بعد غدٍ فاصبرْ!
عبيد
:
من عادتها أن تتأخرْ.
محمود
:
أصبر شهرًا أو شهرَين،
لكني لم أرَ أخشابًا من أعوام،
ووعود الحكَّام الظلمة لا تخدع إلا الجهلة
بالقصر الأكبر أخشابٌ لا يحصيها العد،
(ينهض الرجل الغامض ويقترب من محمود.)
بل لا يعرف من في القصرْ
(محمود ينظر إليه من طرف عينه ويتظاهر بأنه لا يراه.)
ماذا يبنون بها؟!
(تدخل أم علية ومعهما شاب.)
أم علية
:
صباح الخير.
عبيد
:
أم عليةَ هلَّت!
محمود
:
وعريس ابنتها الموعودْ.
أم علية
:
الموكب أخَّرني لكن نقودي جاهزةٌ.
عبيد
:
أي نقود يا أم علية؟
أم علية
:
ثمن الأشياء.
عبيد
:
(ساخرًا) أية أشياء؟
أم علية
:
ثمن جهاز علية طبعًا.
(الغامض يخفي الأوراق في جيبه.)
فرج
:
أهلًا أهلًا.
أم علية
:
البنت المسكينة تنتظر شهورًا
والمنكود يوفِّر مهرهْ؛
إذْ لا يملك ملِّيمًا أحمرْ،
لُكَعي متعوسْ
حجته في التأخير جهاز عروسْ،
ها هي ذي الأموالْ.
(يدخل المنادي ويتجمع بعض الرجال ويندسُّ بينهم الغامض.)
المنادي
:
يا أهل البَر انتبهوا!
غرقَت سفن الأخشابْ،
أغرقها سلطان التتر بعُرْض البحرْ.
محمود
(ساخرًا)
:
في يوم النصر الأكبرْ؟
رجل ١
:
ضاعت أخشاب العامْ.
رجل ٢
:
لن يجد النجار الخشب اللازم للأعراسْ.
مسعود
:
غرقَت سفن الأخشابْ … أسمعتم؟
لن يتزوج إنسانٌ هذا العام.
أم علية
:
ماذا ماذا؟ لن تتزوج بنتي.
مسعود
:
أتزوجها لكنْ …
لا توجد أخشاب للعفشْ.
أم علية
:
تتزوجها فوق السطح
في العِشة … في الحوشْ.
(يخرج المنادي.)
عبيد
:
غرقَت سفن الأخشابْ؟
فرج
:
أهلًا أهلًا.
مسعود
:
لا توجد ألواح تصلح للعفش.
أم علية
:
لا يوجد لوحٌ غيرك،
تخطبها عامًا أسود
وتكلفني ما لا أحتمل ولا أقدرْ،
ثم تريد الهرب الآن؟
مسعود
:
هذا محمود النجارْ … ليس لدَيه خشبْ.
محمود
:
لا تقلق يا مسعود سآتي بالأخشاب من القصر الأكبرْ!
(فجأةً يُخرج الغامض الأوراق ويسجِّل ما يدور.)
القلعة يحرسها ألف كريهٍ أصفرْ،
وأنا مهما أتخفَّى نجارٌ أسمرْ،
كلا لن أذهب للقلعة
سأوافي أهل القصر على غفلة
وأطالب بالحق الثابت لي … ولكم
بعض الأخشابْ … لن أطلب أكثر من هذا،
أعرف أن السلطان الليلة يعصره الهم
بعد هزيمته النكراء بعُرْض البحرْ،
ولذلك لا بد له أن يسمع صوت المنطقْ،
الخشب المخزون بحوش القصر كثيرْ،
وإذا أعطاني بعضه
زُفَّ المسعود إلى بنتكِ يا أم علية،
سأوافي أهل القصر غدًا.
عبيد
(في ذهول)
:
مجنونٌ يا محمود.
فرج
:
ماذا تنوي أن تفعلْ؟
عبيد
:
هل تذهب للموت برِجلكْ؟
اصبر يا محمودُ تعقَّلْ.
(الغامض يقترب منهم ويتسمَّع ما يدور.)
فرج
:
لن يسمح لك أحدٌ بدخول القصرْ،
إن كنت تريد مقابلة السلطان فهذا أمرٌ يحتاج لترتيبْ.
مسعود
:
أعرِف رجلًا يعمل كنَّاسًا في حرس القصرْ.
أم علية
:
ما لكَ أنت وهذا؟
هل طاش صوابكْ؟
محمودٌ رجلٌ مجنونْ.
محمود
:
لا تخشَوا شيئًا يا أصحابُ من السلطانْ،
فأنا أعرف كيف أخاطبه،
سأقول له الحقَّ بلا زخرفْ.
مسعود
:
لمَ لا آتي معكَ إذنْ؟
أم علية
:
اسمع يا مسعود!
إنك تعمل عندي في المشغلْ
وعليك ديونٌ باهظةٌ لا تحتمل التأجيلْ،
هيا نحن الآن ويكفينا ما حلَّ بنا.
عبيد
:
لكن أظلمَت الدنيا والليل على الأبوابْ.
محمود
:
لا تخشَوا شيئًا قلتُ لكم،
سأوافي السلطان غدًا عند طلوع الشمسْ،
أما الآن …
(يتظاهر بالسير على غير هدًى لكنه يقترب من الرجل الغامض ثم يقبض
عليه فجأة.)
فلنحبِس هذا الجاسوس المتعوسَ بدكان عُبَيدْ.
الغامض
:
لا لا … إني أنا … لستُ أنا.
(يقبض الثلاثة عليه، فرج ومحمود وعبيد.)
محمود
:
لن تقضي إلا ساعاتٍ محدودةْ … في دكان الخياط،
راجِع فيها ما سجَّلتَ من الأخبار ومن أسرار الناسْ،
حتى إن أشرق صُبح الغدْ … أخرجناكَ سليمًا ومعافًى،
أما إنْ حاولتَ الهرب فويلٌ لك مني،
(يُدخلون الغامض الدكان ويغلقونه عليه.)
موعدنا في الغد بعد صلاة الظهرْ.
(إظلام)