المشهد السابع
(المنظر هو قاعة توحي بالسجن، نافذة حديدية عليها قضبان وحراس في ملابس سوداء، ومحمود جالس في الظلام، يقوم ويتقدم من مقدمة المسرح.)
محمود
:
هذا هو الليل الذي لا صبح له؛
ليل الرزايا والبلايا المرسلة،
هل جئتَ يا محمود هذا القصر طوعًا
وهْو عرين الأسَدِ؟
هل جئتَ هذا الجحر تسعى
بين أفاعي البلدِ؟
لم يبقَ إلا أن تشد رباط قلبك
حتى يعود الصمت في جنبات نفسك.
(تدخل غازية ملثمة.)
غازية
(ترفع اللثام)
:
هيا يا محمود بنا.
محمود
:
بل أنا صِمْغار يا سيدتي.
غازية
:
إني غازية يا محمود ألا تعرفني؟
غازية المصرية … كيف نسيت؟
محمود
:
أنا لا أنسى يا مولاتي … لكني لا أعرفك البتة.
غازية
:
من ساعات معدودة
كنا نتكلم عن أحوال الدنيا،
بل إني أوحيتُ إليك بأن تزعم أنك صِمْغار
الجاسوس التتري … انظر وجهي … أنا غازية.
محمود
:
آه! غازية بنت الباشقَردي!
أهلًا بك يا مولاتي … هذا شرف جِد عظيم،
لا أملك أن أكرمكِ بهذا الخان المتواضع.
غازية
:
هذا هزْل في غير أوانه،
انهض يا محمود.
محمود
:
لكني صِمْغار يا سيدتي.
غازية
:
عاد الجاسوس وأكد لي أنك محمود،
لا يعني ذلك أني كذبتك!
لكنا نحيا في زمن منكود
يصعب أن نعرف فيه الحق من البهتان.
محمود
:
إلا إن عاد الجاسوس!
غازية
:
هيا يا محمود بنا.
محمود
:
ماذا تبغي بنت السلطان؟
غازية
:
إنك تعلم أني مصرية
أفضيت إليك صباح اليوم بهذا السر،
بل بحت به أيضًا لأمير من أمراء الحكم،
ينسبني الناس إلى عمه
ركن الدين الباشقَردي.
محمود
:
ماذا يعنيني إن كنت بحقٍّ بنت الباشقَردي؟
أو كنت من البسطاء … مثلي … مثل عبيد وفرج،
أو مسعود أو أم علية.
غازية
:
أنا يا محمودٌ مصرية!
محمود
:
مولاتي … إنك تحيين بهذا القصر،
ولديك مماليك وجنود وخدم،
هل يعني هذا أنك مصرية؟
غازية
:
لكني عشت بقلبي طول الزمن مع البسطاء،
لم أتزوج مملوكًا أو قائد جند،
بل عشت أمني النفس بيوم موعود.
محمود
:
بالثأر من الأعداء؟
في دهليز القصر المظلم.
غازية
:
بل بالعودة للدنيا يا محمود.
محمود
:
ولهذا كنتِ تودين محالفة الجاسوس التتري … صِمْغار؟
لا يا غازية الحلوة،
إن المصري الحق … (تنهار غازية وتبدأ البكاء)
لا يضع يدًا في يد تتري
حتى ينتقم لقتل فرد مهما كان،
قد كنت مفيدًا لك في ثوب التتري
وأنا الآن مفيد في ثوب المصري.
غازية
(وهي تنهنه)
:
اغفر لي يا محمود،
لم أك أدري ما أفعل!
مثل غريق يتعلق في اليم بقشة
(تتماسك) ضيعت حياتي أقرأ حتى شابت رأسي،
خِفت ضياع العمر وأحلامي كالطيف السارب،
لم أك أتصور أن يأتي قصر السلطان شجاع صنديد مثلك.
محمود
:
بل لستُ سوى نجار يطلب بعض الأخشاب.
دنيانا يعزلها عن دنياكم ألف حجاب.
غازية
:
لا تخذلني يا محمود الآن،
قف بجواري أنت وأهل البر،
لم يعد الحلم هو الثأر،
بل أصبح هدمَ الظالم ونهايةَ هذا العصر.
محمود
(ساخرًا)
:
ويكون على رأس الحكم الموعود فتاةٌ تدعى غازية
يتزوجها رجل يدعى محمود؟
غازية
:
قف بجواري يا محمود وحسب،
فلديَّ جنود وعتاد لا حد له،
ولسوف إذا خرج الناس على السلطان.
محمود
:
نخلع سيف الدين القشقار؟
(يضحك ضحكًا شديدًا) ونولي مَن يا غازية بربك؟
غازية
:
لا أدري ماذا حل بنا!
محمود
:
ماذا حل بمحمود النجار؟
محمود لا يجد الأخشاب
فأتى يطلب بعض الأخشاب الشاميَّة
من قصر السلطان الأعظم،
محمود لا يأبه لشئون الدولة والحكم الأدرم
وكما تعلم مولاتي … محمود في السجن اليوم وقد يُشنق،
أم هل مولاتي لا تعلم؟
(صوت نفير في الخارج والحارس يعلن: مولاي السلطان سيف الدين.)
والأن أتى السلطان بنفسه.
غازية
:
لا بأس سأختبئ هنا.
(تخرج من بابٍ خفي، وعندها يدخل سيف الدين.)
سيف الدين
(إلى الحراس)
:
فليخرج الجميع … هيا
(يخرج الحراس.)
والآن أجبني … من أنت؟
محمود
:
مولاي عَجول.
سيف الدين
:
هيا … لا تُضع الوقت،
انطق من أنت تكلم.
محمود
:
مولاي على عجل ولديه مشاغل؟
سيف الدين
(في نفاد صبر)
:
اسمع يا صِمْغار … أنا لست بهازل،
إن لم تفصح عن نفسك فورًا حطمتُ عظامك.
محمود
:
لكنك تعرف — فيما يبدو — أني صِمْغار.
سيف الدين
(تتغير لهجته)
:
أنت الذي أرسله التتار؟
قل لي فإنني أؤمِّنك!
محمود
:
فإذا قلت بأني صِمْغار؟
سيف الدين
(يهمس)
:
مبلغ علمي أن الرجل رسول لا جاسوس،
وكما تعلم نحن نجل الرسل ونكرمهم
(يضحك) لا تغضب من وضعك في المحبس ساعات محدودة،
فأنا أرجو أن أصرف عنك الأنظار
حتى تهدأ فتنة قتل السلطان.
محمود
:
لا أفهم شيئًا يا مولاي.
سيف الدين
:
بل تعرف كل الأسرار،
وتأكد أنك إن حققت مرامي
فلسوف تنال نصيبًا من ذاك السعد القادم.
محمود
:
مولاي إن ما تقوله لبالغ الغرابة،
فلست أعرف الذي ترمي إليه؛
إذ اتهمتني بقتل سلطان البلاد
حبستني …
سيف الدين
(مقاطعًا)
:
لا تكترث بتهمة يسيرة كهذه.
محمود
:
بتهمة يسيرة عقابها الهلاك؟
سيف الدين
:
بل سوف يبرئك القاضي … لا تقلق،
قل لي … ماذا قال لك السلطان؟
محمود
:
وإذا لم يقتنع القاضي؟
سيف الدين
:
بل إن القاضي مقتنع وسعيد … اسمع!
ماذا قال لك السلطان؟
هل أخبرك بما ينويه؟
محمود
:
لم يخبرني السلطان بشيء.
سيف الدين
:
قل لي أنت إذن … هل تنوون الحرب؟
قل لي حقًّا ولنتصارح.
محمود
:
بل قل لي أنت إذا كنتم أعددتم عدتكم للسلم.
سيف الدين
(فرحًا)
:
بل نحن نؤكد أنا نبغي السلم،
قل للقوم لدَيكم إن السلطان القائم لا يبغي الحرب تمامًا،
مثل السلطان الراحل،
فحياة القوم هنا أثمن عندي من شن الغزوات المشئومة
وبمصر الآن صراعات لا بد لها من حسم.
محمود
:
فإذا حُسمَت أطلقتم ما في جعبتكم؟
سيف الدين
:
كلا يا صِمْغار الأكرم!
فأنا لا أبغي الحرب على أي الأحوال،
ومرامي أن تبقى مصر بلاد هناء واستقرار.
محمود
:
تقصد أن تبقى أحوال الدنيا والناس
وتظل على ما هي فيه الآن؟
هل هذا معنى الاستقرار؟
سيف الدين
:
لا شأن لسلطان البلد بأحوال الناس،
فلقد ظلت آلاف السنوات على ما هي فيه،
لكني أقصد أحوال الحكم،
هذا ما يشغلني الآن،
وإذا أكملنا خطوات السلم … وتعاهدنا
ونبذنا أفكار الحرب
ساد السعد بمصر وانتشر الحب.
محمود
:
في سوق القلعة يا مولاي
بنتٌ تُدعى أم علية.
سيف الدين
(غاضبًا)
:
ما لي ولأم علية؟
محمود
:
صبرًا يا مولاي اسمعني،
أم علية يا مولاي … ليست أمًّا لأحد،
تتصور أن لدَيها بنتًا،
وتريد لمسعود أن يتزوجها.
سيف الدين
:
ما شأني يا صِمْغار بهذا؟
محمود
:
البنت تعيش بأحلام ملتاثة،
لا يجرؤ أحد أن يوقظها منها،
وكذلك لا يجرؤ مسعود؛
إذ يعمل نسَّاجًا في مشغل أم علية،
ويخاف إذا صارحها أو رفض الخطبة
أن يفقد مصدر رزقه.
سيف الدين
:
هل هذا ما تشغل نفسك به؟
محمود
:
وبقصر السلطان الراحل يا مولاي …
سيف الدين
:
هو قصري الآن!
محمود
:
فاتنة لا حد لفتنتها تُدعى خاتون.
سيف الدين
:
مهلًا يا صِمْغار تريَّث،
لا تذكرها بالسوء
فلسوف تُزَف إليَّ غدًا
في حفل تهتز له جنبات الوادي.
محمود
:
واهًا لكِ يا خاتون المسكينة،
عاشت تحلم بالفارس ذي اللون الأسمر،
وتعيش خيالات نسجَتها من أطياف الشفق الوردي.
سيف الدين
:
يا صاحبي أنت غريب
لا تعرف الأحوال في بلادنا،
حذارِ أن تشغل بالك
بكل ما تقوله النساء أو يفعلنه.
محمود
:
لكن عبيدًا رجل يا مولاي!
وله أحلام وخيالات لا حد لها.
سيف الدين
:
لا تشغل نفسك يا صِمْغار بهذا وبتلك،
أنت رسول ولديك رسالة،
عد لحظة أن يبرئك القاضي للقوم لدَيكم،
اشرح للقادة أنا سنمد حبال الود،
ونعاهدكم عهدًا لا يتزعزع
إن أنتم أخلصتم وصدقتم
فلسوف نصون العهد ونحمي السلم.
محمود
:
لكني لا أعرف ما تنوي أن تفعل
بالقائد عز الدين … والقائد علم الدين
وبغازية بنت الباشقَردي.
سيف الدين
:
أتظن بأنهمُ سوف يشنون الحرب عليكم؟
لا يا صِمْغار تأكد أنهم لا وزن لهم.
محمود
:
أستقتلهم؟
سيف الدين
:
أقتلهم؟ حاشا لله!
بل كل منهم سوف يدمر صاحبه.
محمود
:
يقتله؟
سيف الدين
:
يذبحه مثل كباش الأضحى!
محمود
:
حتى غازية؟
سيف الدين
(مفكرًا بعض الشيء)
:
من غازية تلك؟
(متذكرًا) غازية! آه! ليست تلك بذات أهمية،
إن شئت طحنت عظام البنت المسكينة في لحظة،
آهٍ يا صِمْغارٌ لو تدري …
(يضحك.)
محمود
:
سمعت أنها ليست من المماليك الكبار.
سيف الدين
:
ولا من الصغار يا صِمْغار
بل إنها يا صاحبي … مصرية (يضحك ضحكًا شديدًا).
محمود
(في سخريةٍ شديدة)
:
لا أستطيع أن أصدق
وما الذي أتى بها إلى قصر الأمير؟
سيف الدين
:
تصاريف الزمن (يضحك)
لسوف يأتي زمن المكاشفة،
والآن سوف أعود للقاضي لنعقد المحاكمة.
محمود
:
وإذا نجحنا … أي مغنم أنال؟
سيف الدين
:
خذ ما تريد،
ستكون مصر غنيمة مفتوحة،
أرسل إلي بما تريد وحسب.
محمود
(ساخرًا)
:
وهكذا يسود السلم والهناء
(يضحك ويمسك به) وتلتقي الأيادي ويُنشر الرخاء.
(يُسمع ضجيج من خارج المسرح، يدخل علم الدين ثائرًا.)
علم الدين
:
هذا الخائن ليس بصِمْغار.
سيف الدين
(ذاهلًا)
:
ليس بصِمْغار.
علم الدين
:
بل هو محمود النجار،
جاء رجال الصنعة من أصحابه
يسعون لإنقاذه.
سيف الدين
:
ذاك محال يا علم الدين.
علم الدين
:
بل هو ما أحكي … والحق أقول،
واجتمع وراءهمُ حشد من آلاف
لا أدري من أين أتوا!
سيف الدين
:
فرقهم يا علم الدين … هدئهم!
علم الدين
:
لا أقدر أن أفعل شيئًا ما دام الملعون هنا!
سيف الدين
:
فرقهم … هدئهم قلت!
علم الدين
:
بل فاجمع كل مماليك القلعة؛
لتصد الهجمة بالحذق المعهود.
سيف الدين
:
ماذا تعني؟
علم الدين
:
اخطب فيهم … قل لهمُ إن المسئول هو الكرجي
أو غازية … ونكون ضربنا عصفورين … أعني …
(تخرج غازية من وراء الستار تدخل فيتسمر الجميع.)
غازية
:
عصفورين؟ أحدهما غازية يا علم الدين؟
سيف الدين
:
غازية هنا؟ من أين أتت؟
غازية
:
سري يعرفه الكل الآن!
ولسوف أواجه أهل البر!
اذهب يا سيف الدين وقل لهمُ إني قادمة مع محمود … ومعي الجاسوس الآخر.
علم الدين
:
الجاسوس الآخر؟
غازية
:
هيا يا سيف الدين!
هيا يا علم الدين!
اليوم سنشهد آخر حلقات المأساة،
وسيعرف كل الناس … من هي غازية المصرية!
سيف الدين
(هائجًا)
:
حقًّا؟ عشنا حتى تأمرنا امرأة مصرية،
ماذا أفعل بك؟ الموت عقاب هين،
يا حراس! ألقوا بالملعونة في جب القلعة؛
إذ إن حسابك عندي لم يأت أوانه.
غازية
:
بل إن حسابك مع أهل البر،
ها هم قدموا للثأر،
ولسوف أذيع السر،
بل لن أحفظ أي الأسرار.
سيف الدين
:
صمتًا يا حمقاء.
غازية
:
لم يعد الصمت يفيد،
إن كنتَ عقدتَ السلم مع الأشرار
فأمامك حرب لا تهدأ مع من خادعت وضلَّلَت.
سيف الدين
:
فلتخرس هذا الصوت على الفور.
علم الدين
:
بل دعني يا مولاي أحادثها؛
فهناك أمور أرجو أن أعرفها منها،
اخرج أنت ومحمود للناس … ولسوف نوافيكم في الحال.
(يدخل حارس ويصيح.)
الحارس
:
مولاي … دخل المصريون القصر.
علم الدين
:
هيا يا مولاي … هيا يا محمود.
(يخرج سيف الدين ومحمود.)
غازية
:
من يضرب في الصحراء يُمنِّي النفس بواحة
وظلالٍ وارفة في حر الهاجرة المرة،
من يركب متن البحر يُمنِّي النفس بساحل
بالشط الممدود وبالنخل الباسق
وظباءٍ لاهية في زمنٍ غافل،
قد يصل الضارب في الصحراء
وقد يرسو من يركب متن البحر،
أما من يحيا في مصر
وهي الواحة والزمن الغافل
فبماذا تُشرق نفسه؟
وبماذا ينطق حسه؟
إلا بأمانيَ يرتعد لها القلب
أو يجفل من مَقدَمها اللب.
علم الدين
:
أوَتلك أمانيكِ إذن يا غازية الحمقاء؟
أن يهجم أهل البر على القصر
ليهدوا درع الدولة والبر؟
غازية
:
بل هذا يوم الثأر،
وسأكشف فيه لأهل البر
ما عاشوا زمنًا لا يدرونه؛
حتى أضع نهاية هذا العصر.
علم الدين
:
هذا عبث يا غازية كفَى،
ما زلتُ على عهدي … أنسيتِ العهد؟
غازية
:
الخائن لا عهد له.
علم الدين
:
أنسيتِ الخطر المحدق بك؟
غازية
:
أنسيتَ المصريين بساح القصر.
علم الدين
:
أوَلست من القصر إذن؟
غازية
:
بل أنا غازية المصرية.
علم الدين
:
ولديكِ فؤادٌ مصري خائن
لا حق له أن يخفق بعد اليوم.
(يطعنها فتتهاوى.)
غازية
:
أهلي في الساحة ينتظرون،
إن يُقتَل مصريٌّ يحيا في موقعه ألف،
هيهات إذن يا علم الدين،
سرِّي يعرفه غيري،
يعرفه محمودُ وشهبندر
يعرفه فرجٌ وعُبيدُ وحُسْنة.
(الحارس يدخل صائحًا.)
الحارس
:
سد المصريون منافذ قصر السلطان،
القصر مُحاصَر … أدرِكْنا يا مولاي!
القصر مُحاصَر.
غازية
:
إن فؤادي يخفق في كل فؤاد يخفق في الساحة،
ولسوف ترى بعيونك ما عجزَت روحك عن إدراكه.
(تقع وتلفظ أنفاسها.)
(إظلام)