«الحياة الجديدة» الحقيقية
نشأت عادة جديدة في بيت نوغوتشي. يأتي رجل يُسمَّى سوئتشي يامازاكي كل يوم اثنين ويعطي محاضرة لمدة ساعتين مُركِّزًا على المشاكل السياسية التي تعاني منها إدارة محافظة طوكيو. وكذلك كان نوغوتشي وكأنه عاد تلميذًا في المرحلة المتوسِّطة يفتح الكراس ويُصغي بأذنيه بِجدِّية وهو يُسجِّل ذلك بعناية بقلم مونبلان الحبر الذي اشتراه من عشرين عامًا. كان يدرس بِجدِّية وحماس كل أسبوع، ويراجع ما قيل، ولا يفعل خلال الأسبوع غير ذلك.
كان سوئتشي يامازاكي مَوضِع إعجاب كوساكاري رئيس اللجنة المركزية للحزب، وهو الذي أرسله إلى بيت نوغوتشي. كان عبقريًّا في الحملات الانتخابية، وهو رجل لا يُفضِّل أن يتولَّى منصبًا في الحزب يجعله يظهر علانية، وكان أحد الشيوعيِّين القدامى الذين تحرَّرُوا من وَهْم الشيوعية، وهو الآن يدير ظَهْرَه لكل أنواع الجدل، وانتهى الآن إلى أن يكون إنسانًا واقعيًّا بوجه أحمر جسور ألمَعِي.
مع بداية زيارات يامازاكي، كانت كازو من المؤكَّد أن تغلق المطعم يوم الاثنين، بمعنى أنها تطيل الإقامة في بيتها يومًا آخر بعد عطلة نهاية الأسبوع. وبمجرَّد أن رأت كازو وجه يامازاكي، عرفَت فيه وجه رجل من ذلك النوع الذي تستطيع القسَم بصداقته صداقة طويلة بدون تدخُّل لجانب الحب بين الرجل والمرأة. كان من نفس النوع العاطفي المفعَم بالقوة المعنوية الذي عليه غينكي ناغاياما، ولأول مرة تجد كازو هذا النوع داخل حزب الإصلاح.
نشأَت اللمسة العاطفية الإنسانية التي يملكها يامازاكي من خيبة أمله في السياسة، ومن الصُّدف العجيبة أنها كانت عاطفية تشبه كثيرًا التفاؤلية التي يصعب علاجها لسياسيِّي حزب المحافظِين. ومن حدسها المباشر أدركَت كازو على الفور أن ذلك هو المؤهَّل الذي لا يمكن للشخص الواقعي أن يتخلَّى عنها في المستقبل. وعلى الفور وثَّقَت كازو علاقتها الحميمة مع يامازاكي.
كان معرفة كازو لعزم زوجها على الترشح في الانتخابات من خلال مكالمة هاتفية جاءتها من غينكي ناغاياما.
قال لها غينكي ما يلي فجأة في الهاتف وهو يضحك:
«لقد قرَّر قرارًا غبيًّا. ألا ترين أن السيد زوجك قد أخذ قرارًا غبيًّا؟»
بحدس مباشر فهِمَت كازو على الفور أن ذلك يعني الترشيح لانتخابات حاكم العاصمة طوكيو، ولكنها جُرحت عندما عرفت أن صديقها السابق اللحوح وعدوَّهما السياسي الحالي قد عرف ذلك الخبر الذي لم تسمعه من زوجها بَعْد. وعلى الفور تظاهرَت كازو بالجهل، ولكنها تعمَّدَت أن تمثل ذلك الدور تمثيلًا رديئًا. مثلت كازو حتى السعادة والفخر والجهل بطريقة عبثية. وهكذا حوَّلت بمهارة سياسية غضبها تجاه زوجها الذي يفضل مجاملة الغرباء.
«ماذا تقصد بالقرار الحاسم؟ إن كُنتَ تقصد خيانة زوجي أرجوك أن تتجاهلها؛ لأنني أنوي أن أغمض عيني عنها لأقصى ما يمكنني من إغماض العين.»
قال لها غينكي الخبر فقط بدون أي نوع من الزينة أو البهرجة. ومثل ذلك الأمر كان بعيدًا عن غينكي المعتاد، ويوضح موقفه الجديد الذي سيكون عليه.
«على كل حال إنه قرار غبي. بهذا ستضيع حياة زوجك السياسية. وأنت! ما هذا الذي تفعلين؟ أرجو منك أن تنصحيه بشكل مبدئي كزوجة تضحي بحياتها من أجله. هل تسمعين؟ إن هذه هي نصيحتي لك كصديق لزمن طويل.»
وعند هذا الحد انتهَت المكالمة.
وفي ذلك الوقت جاء كوساكاري رئيس اللجنة المركزية لزيارة بيت نوغوتشي، وكرر الأمين العام للحزب زياراته للبيت. وحتى مع وجود كازو في ستسوغوان كانت قائمة زيارات بيت نوغوتشي اليومية تصل إلى أذنها بالتفصيل من السكرتير المقرب منها. وقت المجيء والمغادرة وطبيعة الهدف من الزيارة وحالة زوجها المزاجية أثناء الزيارة … إلخ.
ظهر خبر ترشح يوكِن نوغوتشي في الصحف بعد ثلاثة أيام من مكالمة غينكي.
كان ذلك يدل على شخصية نوغوتشي بالضبط ففي الليلة التي ظهر فيها الخبر استدعى كازو من ستسوغوان وانفرد بها في غرفة المعيشة وأخبرها بالنبأ وكأنه يبوح لها بسر في غاية الأهمية لا يعلمه أحد. لقد قرر بنفسه أن زوجته لا تقرأ الصحف مُطلقًا. وما من سبب لمثل ذلك النوع من اليقين الذي يملكه نوغوتشي، فمع أن كازو لا تكره الكلاب مثلًا إلا أنه لديه يقين أنها تَكره الكلاب، ومع أنها لا تحب فول الصويا المخمَّر إلا أنه لديه يقين من أنها تحبه. كانت تلك عادته في الوقت الطبيعي. وربما كان نوغوتشي قد خُدع بوهم اعتقاده الخاطئ في وقت ما فظن أن زوجته امرأة ليس لديها أي اهتمام بالسياسة مطلقًا.
اتَّخذَت كازو وضع أنها تسمع الخبر لأول مرة، وسمعت ذلك الإعلان الحربي، وعلى عكس نصيحة غينكي تمامًا، قالت ردًّا مستحسَنًا:
«بما أنك قَبلتَ العرض فليس أمامنا إلا بذل أقصى ما نستطيع عمله.»
ولكن منذ ذلك الصباح الذي جاءت فيه مكالمة غينكي، كانت كازو أسيرة أحلامها وخيالاتها. اشتعلت قوة النشاط في جسدها، واختفَت حياتها المعيشية التي تشبه الموت تمامًا ولم يَعُد لها أثَر، وفكَّرَت أن ذلك بداية الأيام التي تستمر فيها المعارك والأفعال العشوائية.
كان ذلك اليوم يومًا شتويًّا في منتهى الدفء، تأمَّلَت فيه كازو حي غينزا في وقت الغروب من نافذة الطابق الخامس. وقد خرجت لسماع حفل موسيقي فردي البيانو أقامته ابنة أحد رجال الأعمال من زبائن ستسوغوان الدائمِين في قاعة غينزا الموسيقية. وعندها كانت تلك المدينة التي انكشفَت جانب أَسطُحِها الخلفية ذات التعرجات، يمكن تأملها بحميمية وأُلفة غير معتادة دائمًا.
بدأت أضواء النيون هنا وهناك في البريق، وبدَا منظر الرافعة والهيكل الحديدي اللذين يمتدَّان بميل تجاه سماء الغروب ذات اللون المائي في موقع بناء عمارة بعيدة، مع وجود الكثير من المصابيح الصغيرة المنارة، كأنه منظر ليلي لميناء عجيب يطفو فوق الأرض. بدأ مِنطاد إعلانات أحمر كان يستريح بعد إنجازه مهمة النهار، بدأ يرتفع مرة أخرى من سطح المبنى القديم القريب وهو يهتز في سماء الغروب ويشد خلفه الراية المطوِيَّة المكوَّنة من النيون.
شاهدت كازو ظلال العديد من البشر الذين يتحرَّكون في الفراغ تحت الغسق. تصعد امرأتان ترتديان نفس المعطف الثقيل الأحمر سُلَّم الطوارئ في أحد مباني الشوارع الخلفية. وتخرج إحدى الأمهات التي تضع رضيعها خلف ظهرها إلى منصة نشر الغسيل خلف إحدى اللوحات الإعلانية لمحل تجاري لتجمَع القمصان البيضاء الباقية على الحبال. ويصعد ثلاثة طباخِين بقبعات بيضاء إلى سطح المبنى القذر ويشعلون لبعضهم البعض نار سجائرهم. ويُرى للحظة سريعة قدم فتاة ترتدي فيها جوربًا أحمر تمر بعرض سجادة في عمق غرفة المكتب في وجود مقعد خالٍ مجاور للنافذة في الطابق الرابع لمبنى جديد يطل على الطريق الرئيسة. كانت الحياة اليومية لهؤلاء البشر هادئة هدوءًا مريبًا … ثم يرتفع دخان رفيع أو ثخين من مداخن متنوعة عالية ومنخفِضة مباشرة إلى السماء التي انعدمت فيها الرياح تمامًا.
فكَّرت كازو وهي تسكر في أوهامها: «سيكون أمرًا رائعًا أن أخترق قلوب هؤلاء الناس واحدًا بعد آخَر من أجْل أن يختاروا اسم يوكِن نوغوتشي في الانتخابات. آه … يا له من شعور جيد إن استطعت أن أقبِض بيدي من هذا المكان العالي على هؤلاء الناس قبضة متحكِّمة مثل قبضة النسر المتوحِّش! يجب عليَّ أن أنقش اسم يوكِن نوغوتشي نقشًا مؤكَّدًا في ركن قلب كل فرد منهم الذي يمتلئ برغباتهم الحسِّيَّة وقلقِهم على المال، وتفكيرهم فيما يريدون أكله، وتواعدهم لمشاهدة السينما … إلخ! سأفعل أي شيء من أجل ذلك. ولن أبالي بالمجتمع ولا بالقوانين. فزبائن ستسوغوان العظماء كلهم حقَّقوا نجاحاتهم بدون مبالاة بمثل تلك الأشياء.»
انتفخ صدرها تحت حزام كيمونو ناغويا الصلد، وأصبحت عيناها مُغمضَتَين وكأنهما في سُكْر من تلك الأوهام، وتمدَّد جسد كازو الساخن في عتمة الليلة، وشعرت كأنه احتوى هذه المدينة العملاقة بأكملها.
•••
بعد الزواج أُدخِل سرير مزدَوَج جديد في غرفة نوم بيت نوغوتشي، وهي غرفة قديمة بمساحة عشر حصيرات تاتامي. ثم بعد وضعِه فوق السجادة الفارسية العتيقة، وعند النوم على الظَّهر عليه، تشعر كازو أن السقف قريب قُربًا شديدًا وأن الحيطان والأبواب المحيطة تطبق على أنفاسها بغرابة.
يسبقها نوغوتشي للنوم كالمعتاد، فتضيء كازو المصباح المجاوِر للسرير مجددًا، وتظل تحدِّق بعينيها في شيء ما تنتظر قدوم النعاس دون أن تحاول قراءة كتاب أو مجلة. تظل على سبيل المثال تنظر بثبات في مقبضَي الباب اللَّذَين على شكل هلالين ومنقوش عليهما زخارف ذهبية دقيقة تشبه زخارف مقبض السيف. ومنقوش على كلا المقبضين زهرات أربع، وكان المقبض الذي أمام عينيها عليه نقش زهرة السحلبية. كانت زهرة السحلبية الذهبية المعدنية التي اسودت في وسط الظلام الخافِت، على النقيض تمامًا من عينَي كازو الصافية الذهن اللَّتَين لا تريدان النعاس.
ولأنها أطفأت منذ قليل مدفئة الغاز التي داخل الغرفة، بدأ الهواء الدافئ ينسحب مغادرًا الغرفة مثل جذر البحر. لم تستطع زوجته مطلقًا التعرُّف على الطريقة التي أخذ بها نوغوتشي قرار ترشيح نفسه في الانتخابات أثناء عطلة نهاية الأسبوع الهادئة كمثيلاتها دائمًا. فهو لم يتغيَّر فيه أي شيء عمَّا كان عليه قبل قبول طلب الترشح وأثناء التفكير في الأمر وبعد اتخاذه قرار الترشح. فلا شك أن حتى نوغوتشي نفسه فَرِح مع القرار، وعانى من التفكير ثم أعاد التفكير ثم رجع للتفكير من لنقطة البداية. ولكنه لم يُظهر أي لمحة من ذلك لزوجته، فلم يزد على نفس السعال القليل قبل النوم، ونفس طريقة المداعَبة المتردِّدة والاقتراب الغامض، ثم نفس اليأس والتوقف، وفي النهاية نفس طريقة النوم منكمشًا حول نفسه مثل الشرنقة. ثمة شعور أن فراش نوغوتشي يشبه رصيفًا تعصف فيه الرياح، ولكن رغم ذلك فهو سريع النعاس عن كازو.
وعند المقارَنة بذلك، ففِراش كازو المكون من النصف الآخر للسرير المزدَوَج، يبدو وكأنه مشتعل بالنيران. يتدفأ جسدها بالخيال قبل الرغبة الجنسية، وتشعر بانتعاش بارد عندما تمد يدها تجاه زهرة السحلبية المعدنية المظلِمة الباردة وتلمسها. تعطي الطَّيَّات الدقيقة لزهرة السحلبية المعدنية لأنامل كازو في الظلام الخافت شعورًا وكأنها تُمسِّد وجهًا صغيرًا صلدًا وصعب المراس بلا ملامح.
فكَّرت كازو:
«حقًّا! إن غدًا هو الاثنين. غدًا يجب بحقٍّ أن ينكمش يامازاكي وأبدأ أنا التحرك.»
•••
تقابلت كازو مع يامازاكي سرًّا في مِيزانِين بنك «شيسيدو» في الساعة الثالثة من بعد ظهر الثلاثاء.
وفيما بعد كتب يامازاكي في يومياته أثناء الانتخابات عن هذا اللقاء ما يلي:
«… حتى ذلك الوقت، كنتُ قد زرتها في بيتها عدة مرات، وكنتُ أحمل ودًّا تجاه شخصية السيدة كازو الصريحة والمفعمة بالنشاط والحيوية. ولكن عندما تقابلنا خارج البيت وجهًا لوجه بمفردنا لأول مرة، بدت السيدة كازو وهي تصعد إلى مِيزانِين بنك «شيسيدو» سيدة تعاني من وحدة شديدة رغم طاقاتها الحيوية المعتادة دائمًا. وكان من العجيب، أن تعطي السيدة التي ينشغل رأسها بالكامل بأمر انتخابات زوجها ذلك الانطباع بالوحدة. وعندما بدأ الحديث (لم نتكلم في أي أمر خارج نطاق الانتخابات) كانت السيدة كازو تتحدث بطريقتها المعروفة ذات الحيوية والحماس وعلى الفور اكتسحتني تمامًا.»
ولأن كازو كانت قد سجلت في ورقة كل ما يجب عليها أن تسأله ليامازاكي، توالت أسئلتها عليه كالسِّهام. كان من المفترَض أن ثمة براحًا حتى موعد الانتخابات يتراوح بين ستة أشهر وعشرة أشهر، ولكن على حسب قرار حاكم طوكيو الحالي لا يمكن تحديد متى يستقيل. كانت كازو تنوي أن تقوم هي بالدعاية الانتخابية الممنوعة قانونًا حتى موعد الإعلان عن الانتخابات، على أن يكون ذلك بدون علم نوغوتشي. وقد أعدَّت كمية من المال، وإذا نقص المال كانت قد حسمت أمرها على أن تضع ستسوغوان رهنًا لقرض. وتحديدًا حملة الدعاية المسبقة التي تخترق بمهارة شبكة الحماية القانونية، إلى أي درجة لها فاعلية وتأثير؟ وغيرها من الأسئلة.
أعطاها يامازاكي إرشاداته على تلك الأسئلة واحدًا بعد آخر.
«في البداية يجب طباعة بطاقة اسم. ويجب أن يكون اسم السيد زوجك بحجم كبير وواضح قدر الإمكان، أي الحجم الضخم إياه.»
•••
«فهمتُ. سأطبع البطاقة. ستأتي معي في طريق عودتنا لنذهب إلى محل طباعة البطاقات، أليس كذلك؟»
قالت كازو ذلك وأنفاسها تتقطع.
قال يامازاكي:
«انتخابات حاكم إلى أي مدًى ضخمة؟ على سبيل المثال يتم لصق بوستر على أعمدة الكهرباء في كل أنحاء طوكيو. ثمة في طوكيو ما بين المائة وخمسين ألفًا والمائة وستين ألف عمود، لنقل ثلاثمائة ألف بوستر، وثمن البوستر الواحد ثلاثة ينات، يكون المجموع تسعمائة ألف ين، ثمن للصق كل بوستر ين يصبح التكلفة مليون ومائتي ألف ين. بهذا فقط يمكن تغطية كامل مصاريف انتخابات صغيرة.»
كان من صفات يامازاكي أنه في أي أمر، يعطي أرقامًا دقيقة ويقنع الناس بسهولة.
كانت كازو تتحدث بصوت عالٍ بكلمات مثل «دعاية ممنوعة»، و«خداع القانون» دون أن تعطي أي اعتبار لوجود أشخاص في الطاولة المواجهة؛ ولذا نظر إليها يامازاكي في قلق. وعندما أحس يامازاكي بالخطر أظهر شروطًا متبادَلة. فلأن الزوجة صمتت تمامًا عن إبلاغ نوغوتشي بأي شيء عن الحملة بداية من مشكلة التمويل، ولكن مقابل ذلك يجب أن تناقش يامازاكي في أي فعل حتى ولو بدا بسيطًا وتافهًا. هكذا طلب منها ووافقت كازو على ذلك.
«لقد ارتاحت مشاعري بالحديث معك بصراحة مُطلَقة.»
قالت كازو ذلك وهي تطرق بوضوح على حزام الكيمونو، ثم أضافت:
«إن ما يجب قوله إن زوجي لا يعلم مطلقًا «قلب شعب» اليابان. فهو قد وُلد وتربى في أسرة مُرفَّهة يقرأ الكتب الغربية ويدرس في غرفة مكتبه. ولا يفهم حتى مشاعر خادمته. ألستم أنتم مَن تفهمون كل الأمور بعقولكم؟ إذا اعتبرنا ذلك، فأنا أستطيع بسهولة شديدة التطرُّق إلى قلوب جموع الشعب واقتحامها. ثم الإمساك بها بقوة. حتى أنا عندما ضاق بي الحال كنتُ أدور في الشوارع لأبيع مقليات من عجين البطاطا. حتى أنت يا يامازاكي لم يسبق لك هذا الفعل أليس كذلك؟»
ابتسم يامازاكي في صمت.
«النطاق الذي يصل إليه النقاش ضيق. من أجل الإمساك بقلوب خمسة ملايين ممن لهم حق التصويت نحتاج لسلاح العواطف، وأنتِ يا سيدتي تملكين ذلك بكل تأكيد. ونحن أيضًا قلوبنا متينة.»
– «يا سيد يامازاكي لا يجب أن تقول مجاملات مملة.»
قالت كازو ذلك بصوت مثير للغرائز وهي ترفع ردن الكيمونو، ثم أضافت بفم يتحدث بسرعة كبيرة:
«السياسة يجب أن تكون في المرتبة الثانية؛ إن الأكثر أهمية في الانتخابات المال والعواطف فقط؛ ولأنني امرأة بلا تعليم أنوي أن أصطدم بهذين السلاحَيْن فقط. بالإضافة إلى ذلك إن عواطفي حتى لو شاركت فيها الخمسة ملايين ناخب لن تنضب وسيتبقَّى منها الكثير.»
«أفهم جيدًا. إذن عليكِ يا سيدتي أن تتقدمي في طريقك بهذه المشاعر بكل عنفوان.»
كان من الجيد بالنسبة إلى كازو معرفة أن يامازاكي رجل ناضج يتسامح مع النساء وعلى وجهه علامات التسليم بالأمر الواقع.
قالت كازو وكأنها تُجهِز عليه تمامًا:
«استغلني إلى أقصى درجات الاستغلال فأنا امرأة ثمة فائدة من استغلالها.»
شرب يامازاكي قهوته وأكل كعكة الفواكه الكبيرة الحجم دون أن يبقي منها شيئًا. أعطى ذلك الرجل الضخم الذي يربط رابطة عنق بحسم وبوجه أحمر يأكل كعكة فواكه كبيرة الحجم الطمأنينة إلى كازو.
ثم بعد ذلك، بدأَت كازو تقول إنها تريد منه أن يعرف سيرتها الذاتية، فظلَّت تتحدث بمفردها مستغرِقة ما يقرب من ساعة تحكي طرائف من المعاناة العديدة التي لاقتها منذ ميلادها. وكانت نتيجة ذلك جيدة؛ لأنها كانت السبب الذي جعل يامازاكي فيما بعد يميل إلى كِفَّتها هي.
يصل صدق كازو وصراحتها، إلى درجة أن تميل إلى الكشف عن مكنوناتها أمام رجل لا تحبه بصفة خاصة. إنها تجتهد في ذلك لكي تدمر أوهام الناس عنها، ولكن الناس من البداية لم يكن لديهم أية أوهام تجاه كازو. بل ثمة مذاق عادي للدفء تجاه جمال جسدها الممتلئ، الذي ليس به أقل القليل من الضعف، وأيًّا كانت الجواهر أو الملابس التي تتزين بها، كان يفوح منها رائحة الأرض السوداء التي تظهر بعد تركها قريتها التي وُلِدت بها. في الواقع هذا الانطباع الخصب لا يجعل المرء يراها مزعجة في حديثها بل على العكس يجعله يبدو محببًا.
كان يامازاكي يُحسِن الاستماع. كانت كازو عندما تتكلم إليه، تحمل شعورًا أن كلماتها لا تمر عَبْر وجه المتلقِّي مثل شبكة، بل يبدو وكأنها تترسب بيقين فوق ذلك الوجه سميك اللحم ذي الابتسامة التي لا تنقطع.
قالت له كازو:
«أرجو أن تتحدث معي في أي شيء بكل حرية وصراحة.»
أثناء فترة زواجها التي لم تَدُم طويلًا، كانت كازو متعطِّشة بالفعل إلى الصراحة بينها وبين الآخَرِين.
•••
لم يعرف نوغوتشي أي شيء. فلم يكن يحاول بصفة خاصة أن يعرف بنفسه أي شيء إلا ما يصل إلى أذنيه وعينيه بشكل مباشر؛ ولذا بقي لا يعلم أي شيء. بفضل عادة الإقطاعِيِّين وكبار موظَّفِي الدولة تلك، لن تحتاج كازو إلى جهد كبير من أجل أن تحافظ على أسرار نشاطها تجاه نوغوتشي. علاوة على ذلك إنها كانت تقضي خمسة أيام من الأسبوع في ستسوغوان.
ولكن مع مرور تلك الأيام الخمس في الأسبوع لم تعد ملك ستسوغوان. كانت كازو تدور بالسيارة كثيرًا، وكانت أيضًا تُكثِر من لقاء يامازاكي. ولم يكن من النادر أن يفزع يامازاكي من نومه بسبب جرس هاتف يجيء من كازو في منتصف الليل تسأل عن أمر خطر عليها فجأة.
وإذا تحدثنا عن نوغوتشي، بدون تغيير، كان يستمع بجدية إلى محاضَرة من يامازاكي لمدة ساعتين مرة كل أسبوع، ولم يفعل أي شيء آخر بخلاف ذلك. قام يامازاكي بكل تلك الأمور الخاصة بوضع السياسات والتمويل وتعيين موظَّفِي الحملة الانتخابية، وكذلك كان يامازاكي في موقف يستطيع فيه إعطاء النصيحة في كل شيء. لم يكن في نية نوغوتشي الممتلئ بروح احترام القانون، أن يبدأ الحملة الانتخابية حتى موعدها بعد الإعلان القانوني عن إجراء الانتخابات. كانت لقاءات كازو ويامازاكي السِّرِّية معروفة لدى قادة حزب الإصلاح. أصدر القادة أوامرهم إلى يامازاكي، وكانت سياستهم أن يَدَعوا كازو تفعل ما يَحلُو لها ما دامت لا تخرج عن الخط المرسوم. فلم يسبق لحزب الإصلاح حتى الآن، أن امتلك رفيقًا به كل قدرات تلك السيدة الكريمة بأموالها وحماسها. وظن نوغوتشي أن ما يبدو أنه تحركات ما قبل الحملة الانتخابية التي تصل إلى إذنيه أحيانًا، تتم كلها من خلال أموال الحزب. فلقد عاش نصف عمره يعيش من ميزانية الدولة، فإذا ذكرت الأموال العامة لا يطفو على خياله إلا ميزانية الدولة التي لا تنضب.
•••
صُنعت بطاقة الاسم على الفور، ووزعتها كازو حتى على بائعي السجائر وعاملات المطاعم. في أحد الأيام كان يامازاكي يجلس في السيارة مع كازو فجعل السائق يوقف السيارة، وذهب برفقة كازو التي دخلت لشراء خبز من أحد أكبر المخابز العريقة؛ ولأنها اشترت أقراص خبز محشو بمعجون اللوبيا الحمراء بالسُّكَّر بما قيمته ثلاثة آلاف ين فلم تكن تقدر على حمله بمفردها. عندما تقدَّم يامازاكي لحمل تلك الأكياس بيديه الاثنتين اندهش كثيرًا عندما رأي كازو تقدم تلك البطاقة الكبيرة لمالكة المحل وهي تقول لها:
«أنا من تحمل اسمها هذه البطاقة. أرجو تعاونك.»
فقال لها عندما عادا إلى السيارة:
«أنا في غاية الاندهاش. سيدتي، أتعلمين أن زوجها عضو في مجلس بلدية العاصمة عن حزب المحافظين المنافس؟»
«أحقًّا ما تقول؟! لم أكن أعلم. ولكن ألا ترى أنها كانت طريقة فعالة لجعل المنافس يندهش ويخاف.»
«ما الذي ستفعلينه بهذه الكمية الكبيرة من الخبز؟»
– «دعنا نذهب بها إلى ملجأ أيتام حي كوتو.»
– «إن الأيتام ليس لهم حق التصويت.»
– «ولكن يحيط بهم الكثير من الراشدين العاطِفيِّين الذين لهم حق التصويت.»
صمت يامازاكي ورافقها إلى ملجأ الأيتام. واضطر إلى رؤية البطاقة العملاقة مجددًا.
•••
أصبحت كازو تظهر في جميع المناسبات التي يَتجمَّع فيها عدد كبير من الناس داخل العاصمة، من الاحتفالات حتى مسابقات اختيار مَلكات الجمال. تتبرَّع وتوزِّع بطاقة الاسم وتغنِّي أيضًا إذا طُلب منها. وفي تجمعات ربَّات البيوت تذهب مرتدية مريول الطبخ المنزلي، وحصلت على شعبية هائلة بين الناس المنعدِمي الحساسية تجاه التكلُّف.
كانت كازو تقف موقف الانتقاد الشديد أن شعبية حزب الإصلاح غير متغلغلة إلا في طبقات المثقَّفِين. وعندما سمعت أن شعبية الحزب ضعيفة في حي كوتو الشعبي والقرى الريفية في منطقة سانتاما، شعرت أن هناك قلوبًا كثيرة تنبض في أركان محافظة طوكيو الواسعة لا يمكن التأثير عليها لو لم تكن كازو موجودة.
وكانت كثيرًا ما تقول ليامازاكي:
«ألا تحتاجون مساعدة جيدة في منطقة سانتاما؟»
وفي يوم من أيام أواخر الربيع حمل إليها يامازاكي بمعلومة هامة.
«لقد سمعت أنه وُضع حجر أساس نصب تذكاري للأسلاف العظام في منطقة أوميه. وسوف يقام مهرجان للفنون الشعبية احتفالًا بتلك الحديقة، ولكن معلم الرقص الشعبي من نفس بلدتك قال إنه يريد دعوتك للمهرجان.»
– «إنها فرصة لم نكن نحلم بها. سأذهب مرتدية مريول الطبخ.»
– «حسنًا، تُرى هل مريول الطبخ يناسب مهرجان فنون شعبية؟ سأبحث أنا هذا الأمر.»
كانت نية كازو أن تقف موقف الحساب الهادئ غير المنفعل تجاه تلك النشاطات المتعدِّدة، وطريقة توزيع المال، والأمور التي تبدو استثارة للعواطف، لم يكن ثمة سبيل آخر للفوز بالانتخابات إلا الاستعانة بالناس. ومع ظنها هذا، لم تكن تضع في حسابها التأثير العاطفي التلقائي الذي يعطيه حماسها في التضحية بنفسها للناس، وعندما نستمع إلى حديث الناس الذين ذاقوا هذا التأثير في الواقع، فبالرغم أنهم يضحكون من داخلهم، ولكن من جهة أخرى، نقابل نقد محتواه أن الظاهر فقط من نشاطها أنه لا يحمل حماسًا صادقًا ولا يظهر إلا حساباتها النفعية فقط، عندها تغضب هذه المرة بانفعال لما يشوب ذلك من «سوء فهم». وهذه النقطة حصريًّا، كانت الحالة النفسية لكازو في غاية التعقيد.
إنه أمر كازو نفسها لا يمكن لها أن تعرفه بأي حال، وسيلتها المنافقة البسيطة في محاولة استغلال جماهير الشعب على الدوام، كان سببًا في أن تحبها تلك الجماهير. وهو أمر يدعو للتعجب. كانت الحسابات التي تفكر فيها كازو هي نوع من أنواع الإخلاص، وبصفة خاصة الإخلاص الجماهيري، مَهما كانت الدوافع، فإن التضحية بالنفس والحماس هي صفات تحبها الجماهير. ثم في الواقع لم يكن لدى كازو ثمة ثقة كبيرة بالنفس تجاه هدوئها وعدم انفعالها. كانت مؤامرتها المفتوحة الرحبة وطريقتها في محاوَلة خداع الناس بتعصب، وتكرار ذلك مرارًا دون خجل على العكس قد فكَّ عن الناس البسطاء إحساس الحذر. وكلَّما اندفعت في محاولة استغلال الجماهير، كلما أحبَّتها تلك الجماهير. في كل مكان تذهب إليه كازو، حتى لو سمعت نميمة عنها، ولكن يتبقى لها فيما بَعدُ شعبية كبيرة. وعندما ذهبت كازو إلى جمعية ربَّات بيوت حي كوتو مرتدية مريول المطبخ، كانت مشاعرها، أنها ترتدي مريول المطبخ من أجل ألا تلفِت عيون الناس وتذوب هيئتها في جموع النسوة. ولكن الناس عيونهم ترى الصحيح. فلقد كانت مريول المطبخ مناسبة تمامًا لكازو!
في وقت العصر من يوم صَحوٍ بدرجة ممتعة من أواخر الربيع، رافقَت كازو يامازاكي إلى مدينة أوميه على بُعد ساعتين بالسيارة.
في السيارة أخرجَت كازو كالعادة مظروف التبرع وقالت ليامازاكي:
«هل يناسب مبلغ مائة ألف ين تبرعًا للنصب التذكاري للشهداء؟»
– «ألا ترين أنه أكثر من اللازم.»
– «إنه ليس لمدينة أوميه فقط بل لكل أسر الشهداء في إقليم سانتاما، ربما كان أقل من اللازم إلا أنه لن يكون أكثر من اللازم مطلقًا.»
– «هي أموالك وأنت حرة فيها.»
– «مرة أخرى تقول هذا الكلام البارد. إن أموالي الآن أصبحَت بالفعل أموال الحزب.»
لم يكن أمام يامازاكي دائمًا إلا أن يخلع لها القبعة احترامًا لتلك المشاعر النزيهة والمخلِصة. ورغم ذلك ففي ذلك الوقت قال ما يلي بسخرية متطفلًا:
«من المؤكد أنك عندما تقفين أمام حجر أساس النصب التذكاري، ستنهمر منك الدموع الطبيعية أنهارًا، أليس كذلك؟»
– «بالتأكيد. دموع طبيعية. فلا يؤثر في قلوب البشر إلا الدموع الطبيعية.»
مع التقدم في السَّير على طريق أوميه السريع، تكثر المساحات الخضراء على جانبَي الطريق، ويُرى بصفة خاصة غابات أشجار الدردار الجميلة هنا وهناك. مدت أشجار الدردار أفرعها الرقيقة تجاه السماء الزرقاء كما يحلو لها، في بهرجة وكأن تلك الأفرع هي شِباك صيد تُلقي بها الغابات بكامل طاقتها في بحور السماوات.
استمتع قلب كازو بالخروج إلى رحلة بعيدة بعد غياب طويل، وكانت من وقت لآخر تعرض على يامازاكي أن يأكل من السندويتشات التي جلبتها معها، وأكلت منها هي أيضًا. وسبب عدم إحساسها بأي شعور بالوحدة من عدم وجود زوجها معها، أن هذا العمل هو من أجل زوجها ذاته بلا أي ريب، وعلى العكس عندما لا يكون معها تكون الرابطة الروحية أقوى مما هي عليه وهو معها، هكذا كانت كازو تُفكِّر، ولكن الرابطة الروحية كما هي في الفترة الأخيرة هي من أوهام كازو نفسها، وأصبحت كازو لا تتسامح إلا مع تفسيرها هي نفسها لتلك الرابطة.
إن مدينة أوميه مدينة هادئة عتيقة الطراز نجت من التدمير في الحرب. أوقفت كازو السيارة أمام مقر بلدية المدينة، وكان يامازاكي قد تَواصَل معهم من قبلها، أحاط بها محرِّرُو الصحف وهي تصعد إلى مكتب عمدة المدينة، فقابلَته، وسلَّمَته مبلغ التبرُّع للنُّصب التذكاري. ثم بعد ذلك تقرر أن يرافقها في السيارة نائب العمدة ومعلِّم الرقص الذي من نفس بلدة كازو، ليقوما بإرشادها حتى النصب التذكاري بحديقة ناغاياما. كانت الطريق إليها من خلال اختراق طرقات المدينة ثم عبور جسر بري صغير في اتجاه الشَّمال، ثم صعود طريق للسيارات بزاوية طفيفة قُطعت من سفح الجبل الخلفي للمدينة.
ارتفعت تنهُّدَات كازو كلما رأت جمال أوراق الأشجار اليانعة الرائعة الجمال بمحاذاة الطريق. لم تنسَ كازو الإفراط في مدح المناظر الطبيعية في أي مكان تذهب إليه؛ وذلك لأنها تعتقد أن ذلك هامٌّ من الناحية السياسية. ينبغي على عين السياسي أن ترى كل مناظر الطبيعة في دائرته الانتخابية جميلة، وكذلك يجب أن يكون السياسي هو من يتأمل الطبيعة بجمال. ويفترض أن يحصد من ذلك ثمارًا تمتلئ بالنضارة والافتنان.
وفي النهاية فَتن منظر الحديقة أعلى الجبل لُب كازو. بَكت قليلًا أمام حجر أساس النُّصب التذكاري، ثم ابتسمَت قليلًا لسيدات اتحاد الفنون الشعبية اللاتي تجمَّعن في دائرة حول المنصة المنصوبة في منتصف ساحة الحديقة، ولكن المنظر من السقيفة التي أُرشدت إليها فوق التلة، كان رائعًا لدرجة تنسيها كل هموم وانشغال الحياة اليومية.
كان منظرًا مفتوحًا على الجهة الجنوبية الشرقية، في الأطراف الشرقية للمدينة، نهر تاماغاوا الذي يرتدُّ عائدًا بتياره الوئيد وضفافه الواسعة، تظهر على الجهة الأخرى ظلال الغابات هنا وهناك، وقد أخفت أفرع أشجار الصنوبر الحمراء الكثيفة العدد، ذلك المنظر الطبيعي الهائل الحجم.
بَرزَت للعيان أوراق الأشجار اليانعة بلون كموني في الجبال الجنوبية التي على الجانب الآخر مباشرة تفصلها الوديان عن المدينة. ومع أن شمس الظهيرة كانت واضحة، إلا أن الضباب غطَّى سطح السماء فبدَت تلك الأوراق الناضرة وهي مغلَّفة بتلك الأشعة المبهَمة فاجرة ومثيرة وكأنها شعر امرأة مُشعَّث استيقظت لِتوِّها من النوم. وفي المدينة تحت العين مباشرة يمرق من وقت لآخر باص بلون مبهرج متسللًا من بين الإفريز.
«منظر جميل. يا له من منظر رائع!»
قال نائب العمدة:
«على الأرجح ما من حديقة في ضواحي طوكيو تفوق مناظرها جمال حديقة ناغاياما.»
ثم أبعد بالخريطة المطبقة في يده قليلًا القناديل التذكارية التي عُلِّقت متراصَّة من إفريز العريشة هذا وحتى تصل إلى أفرع أشجار الصنوبر بطول المكان، ثم أضاف:
«إن الذي يبدو هناك في الأفق ناحية الشرق هي مدينة تاتشيكاوا. إذا نظرتِ من هنا تبدو جميلة وهي بعيدة.»
حوَّلَت كازو نظَرَها في ذلك الاتجاه. نهر تاماغاوا الذي أظهر ضفافه أحيانًا من بين الفينة والفينة اختفى في نهاية الشرق، وعلى خط الأفق، تبرق مدينة بيضاء مثل جبال الملح. ومن هناك الذي يبدو كقطع شظايا بيضاء ترتفع عاليًا في السماء هي طائرة وبَعد ارتفاعها تنخفض متوازية مع الأرض لتقطع ظل الهضبة الجنوبية؛ ولأن المنظر هناك في شدة البياض ظَنَّت كازو أنها منطقة مقابر.
لا تعطي قاعدة تاتشيكاوا العسكرية التي تُرى من هنا، أي شعور بطيف المدينة الإنسانية، فقط يُظن أنها تجمُّع عملاق لمعادن باردة تلتصق بخط الأفق. ثم بعد ذلك ثمة غيوم متنوِّعة في السماء الرحبة. وكلما علَت الغيوم الأقرب للأفق مركَّزة وصلدة، صارت حوافُّها مبهَمة، وتبدو وكأنها دخان لا شكل له ولا هيئة. ثَمَّة قطيع من الغيوم، وفي المكان المتوسط بينهما يظهر الجزء العلوي مظلَّلًا بالأشعة الحافَّة المضطربة، ويظهر الجزء السفلي ظلالًا محددة تُشبه المنحوتات. تبدو تلك الغيوم فقط، على العكس، وقد فقدَت الإحساس بالواقع وبدَت وكأنها أوهام غيوم تنعكس ببراعة في السماء.
وهكذا أنتجَت أشعة لحظة من ظهيرة نهاية الربيع، بمهارة منظرًا مؤكَّدًا بدقة مُرِيبة لا يمكن أن تراه العين مَرَّة أخرى. لم يَتحلحل منظر خط الأفق هذا وكأنه مُوثَق بوثاق حتى عندما أظلمت فجأة غابة أشجار الأرْز القريبة التي حجبتها الغيوم.
… من خلال تلك المناظر بالطبع لم تتلقَّ كازو أي انطباع إنساني. بل شعرَت بشيء غير مادي وغير عضوي جميل عملاق يواجهها. إنها طبيعة تختلف تمام الاختلاف عن حديقة ستسوغوان، ولم تكن لوحة دقيقة وجميلة وتنتمي للبشر يمكن أن تحتويها يد الإنسان. ورغم ذلك كان من المفترض أن النظر إلى تلك المناظر من عَلٍ عمل سياسي. إن عمل السياسي هو النظر من أعلى وتلخيص الأمر والسيطرة عليه.
لم يكن قلب كازو يتناسب مع التحليلات، ولكن على عكس الحلم السياسي الذي أَودعَته جسدها المكتنز الذي يفيض بالشغف والدموع، سَخِر الجمال الذي أسكنه ذلك المنظر في عيون كازو في لحظة، سخرية شديدة وكأنه يُلمح إلى عدم مناسبتها للعمل السياسي.
وقتها خَرَق أذن كازو صدى الطبلة خَلْفَها وصوت المسَجِّل الصارخ بصوت الغناء، ثم الكورس بأصوات الناس المتعدِّدة للفولكلور الشعبي الياباني ليوقظها من الحلم. ثم انعكست في عينيها لأول مرة ألوان بهرجة قناديل الظهيرة التي عُلِّقت في كل مكان. التفتَت أوجه تلك القناديل حول أغصان شجر القيقب المتراصَّة التي قد زينها الكثير من الزهور الرقيقة بلون عنابي في أطراف الأوراق اليانعة اللينة.
فجأة جذبت كازو يد يامازاكي ثم قالت وهي تدخل:
«حسنًا هيا بنا ندخل من هنا. هيا ندخل ونرقص معًا.»
قال نائب العمدة:
«هذا أمر مدهش! يا سيدتي!»
لم تَعُد عين كازو ترى المنظر. أرشدها مدرِّب الرقصات فتسلَّلَت ودخلَت من بين جماعة الرقصات الشعبية. فتيات الحي وربَّات البيوت اللائي شكَّلن المحور الرئيس لنقابات الفن الشعبي رَقَصن وغَنَّين أغنية «ميتاكيسوما» وهُنَّ يَلبَسن جميعهن المعطف النصفي الموحَّد. وتعلَّمت يدَا وقدمَا كازو طريقة الرقص تلقائيًّا من هؤلاء النسوة.
قالت كازو ذلك وهي تضرب بيدها كتف بذلة يامازاكي الذي كانت حركات يديه وقدميه مخطئة من البداية للنهاية في جميع الاتجاهات:
«أنت مريع حقًّا. سأقفُ أمامك فتعلَّم مني.»
قال مدرِّب الرقصات وهو يرقص:
«أنتِ عبقرية يا سيدتي، لا حاجة لكِ بأي تعليم مني.»
وقف نائب العمدة خارج حلقة الرقص، يشاهد الأمر في ذهول.
وفي النهاية كان الاثنان الجدد اللَّذان لا يرتديان المعطف النصفي ويبدوان من المدينة مَحطَّ اهتمام الراقصِين. كانت كازو قد سَكِرت بالفعل. نسيت كازو على الفور نفسها واستطاعت الانغماس تمامًا في الرقص وقد ذابت داخل تلك الأشياء الإنسانية، عندما تلامسَت مع أجساد أولئك النسوة اللائي يرقُصن وشمَّت رائحة ذلك العرَق الذي يرشح منهن تحت أشعة الشمس. لم تشعر هنا بأي حاجز بينها وبين هؤلاء الغرباء في تلك الأرض التي تجيئها للمرة الأولى، وعلى المنصة العالية تتوالى ضربات الطبلة العنيفة، وصوت صرخات أغاني المسجل، بهذا فقط توحَّد جسد كازو مع الراقصِين في ذلك المكان، العرق الذي رشح في لمح البصر على خدودها، لم يَعُد عَرَقها وحدها.
بعدما انتهت إحدى الأغنيات ذهبت كازو إلى نائب العمدة مسرعةً وقالت له:
«إنني في غاية السعادة، لدرجة أنني سأُغنِّي أغنية سادو أوكسا. هناك ميكروفون على المنصة أليس كذلك؟»
تجمَّعَت وجوه ربَّات البيوت الريفيات بكثرة حول كازو. الأغلبية منهن تخطَّين منتصف العمر، ووجوههن توحي براحة امتلاك القليل من المال، ولكن العَرَق قد جعل مساحيق تجميل الاحتفال تنهار، فظهرت البشرة التي تشبه الجلود التي لفحتها أشعة الشمس أثناء عملهن في بداية عمرهن. العيون الصغيرة التي ملأها الفضول، والابتسامات الودودة من الأسنان الذهبية، شعر القفا الذي تَجعَّد، كانت كازو تملك ثقة مُطلَقة في نفسها تجاه تلك الوجوه.
اندس نائب العمدة من بين زحام الناس، ورافق كازو في الصعود إلى المسرح، كان السُّلم شديد الانحدار ولكن كانت مثل هذه الكمية من الخطورة تسبب لكازو السعادة.
نادى نائب العمدة على الناس من خلال الميكروفون قائلًا:
«أيها السيدات والسادة، تَزورُنا اليوم السيدة زوجة السياسي الشهير يوكن نوغوتشي من حزب الإصلاح التي جاءت خصوصًا من طوكيو لمشاهدة احتفال الفن الشعبي. ويسعدنا أن تغني لنا أغنية سادو أوكسا.»
تقدمت كازو لتقف أمام الميكروفون وقامت بتحية الجمهور.
«أنا زوجة يوكِن نوغوتشي. لقد سعدتُ كثيرًا أثناء ما كنت أشاهدكم تستمتعون، ورغبت في الغناء لكم وإن كان صوتي ليس جيدًا. هيا جميعًا ارقصوا على غنائي.»
صَفَّقَت كازو بيدها لتعلم عازف الطبلة الشاب إيقاع الأغنية، وعندما شاهد الجمهور في الأسفل ذلك ارتفع صياحهم، ولكن عندما بدأت الغناء عاد الهدوء وبدءُوا في الرقص كأنهم في حالة استرخاء.
ظلَّت كازو حتى غروب الشمس، تنزل من فوق المنصة لترقص، ثم تصعد للمنصة لتغني. وصعد عدد من أعضاء نقابة الفنون الشعبية المنصة مع كازو لتعليمها أغنية أوتاما المحلية التي كانت تغنيها للمرة الأولى في حياتها.
مع غروب الشمس أُشعلت في وقت واحد كل القناديل المعلَّقَة على أفرع الأشجار في جميع أنحاء الحديقة. طُلب من كازو غناء سادو أوكسا للمرة الثالثة، فصعدت للمنصة بمفردها مرة أخرى. ومع إضاءة القناديل، بدت الجبال السوداء المحيطة أكثر قربًا. بعد انتهائها من أغنية أوكسا للمرة الثالثة، انطلق تصفيق حارٌّ يَندُر حدوثه في مثل هذه الاحتفالات لِيتردَّد صداه في سفح الجبال المحيطة. صعد يامازاكي إلى المنصة في عجلة وهمس في أذن كازو بما يلي:
«إنه نجاح ساحق. إن أعضاء القسم النسائي من نقابة الفنون الشعبية يقولون إنهن لم يدعنك تذهبين الليلة. لقد نلتِ إقليم سانتاما أخيرًا.»
– «حقًّا!»
قالت كازو ذلك وهي تمسح عرقها بمنديلها ناظرة إلى الجبل البعيد.
«من المؤكَّد أن الإرهاق نال منكِ.»
– «لا، ليس إلى هذه الدرجة.»
أثناء غنائها كان سفح الجبل البعيد هو الذي يشد انتباهها. فقد كان به نقطة نيران تظهر ثم تختفي في جسد الجبل الأسود الذي يبدو على مَقرُبة أكثر من الحقيقة. إنها رفيعة على وصفها بلهب، ومن وقت لآخر يهب هباب رماد عاليًا، من إحدى طيَّات الجبل الذي لم يكن يظهر به أي بيوت سكنية عندما نظرت إليه في الظهيرة، تلك النيران المبهرجة، تنير المنطقة حولها قليلًا ثم تنطفئ مرة أخرى. عند النظر بانتباه، رأت دخانًا يصعد من هناك في اتجاه مائل، ويصنع طبقات من الدخان حتى يصل إلى قمة الجبل.
«ما هذه النيران؟»
سألَت كازو عازف الطبلة الذي كان قد خلع رداءه الأعلى وأخذ يسمح عرقه.
«تقصدين تلك، ترى ما هذه النيران؟»
توجَّه العازف بالسؤال لشاب آخر.
«تلك؟ إنها مدخنة محرقة الجثث التابعة لبلدية المدينة.»
هكذا أجاب ذلك الشاب الذي يحمل وجهًا وقحًا بلحم عريض بلا مبالاة. تذكرت كازو بشيء من مشاعر الحلاوة زوجها نوغوتشي، وكذلك مقبرة عائلة نوغوتشي.