بعد الوليمة
جاء أكتوبر، وتلَقَّى نوغوتشي دعوة على العشاء من الأصدقاء القدامى الذين ذهب معهم في رحلة طقس تناوُل الماء المقدَّس في محافظة نارا. ولم تُوجَّه الدعوة إلى كازو.
تجمَّعَت الوجوه المعتادة في مطعم إيناسه الواسع على النهر في منطقة ياناغيباشي. ومن المتوقَّع أن التكاليف ستتحملها الجريدة. جلس العجوز ذو الثمانين عامًا مستندًا بظهره إلى أحد الأعمدة. وأحاط به نوغوتشي ومسئول كبير في الجريدة ومحلل اقتصادي.
استقبلتهم مالكة المكان القصيرة السمينة كالعادة استقبالًا مرحًا هزليًّا. تستغل تلك المرأة التي لها من الفطنة الذكاء القدر الكبير، دائمًا سمنتها وهيئتها المرحة لتصنع من نفسها وجودًا مرحًا لا مباليًا ولا يعلم شيئًا من أمور الحياة. وعندما يدور الحديث عن هوليوود تقول مثلًا:
«أليست هوليوود تلك تقع بالقرب من باريس.»
قالت غيشا الكبيرة السن: «ألا تعلمون حديث المالكة عن الخبز؟»
فتلقائيًّا استعدَّت المالكة، وقالت: إن تلك الحكاية غير ممتعة. ولكن الغيشا الكبيرة السن تابعت حديثها قائلة:
«كانت المالكة تريد إنقاص وزنها بأي شكل، فاستشارت طبيبًا فقال لها الطبيب لا بد من تناول الخبز ثلاث مرات في الوجبات الثلاث. ثم بعد أن فكَّرَت المالكة سألَت الطبيب: أتناول الخبز يا دكتور يكون قبل الأكل أم بعده؟»
وبهذا الشكل ضحك الجميع على مثل هذه المزحة التي يكثر وجودها، وكان حفل الليلة اسميًّا لمواساة نوغوتشي؛ ولذا حاول العجوز الثمانيني بشتَّى الطُّرق أن يجعل نوغوتشي الأبرز في الحفل.
وقف نوغوتشي للذهاب إلى المرحاض، فوقف العجوز الثمانيني أيضًا. وعندما حاولت فتاة الغيشا أن تجذب يده لإرشاده، لكنه دفعها بعيدًا بحزم. وقال لنوغوتشي في أحد أركان الممر ما يلي:
«أعتقد أنك أنت أيضًا سمعتَ ذلك يا نوغوتشي، ولكن إذا لم تكن تعرف أجد لزامًا عليَّ أن أخبرك، لقد ارتضيت ذلك الدور المقزِّز وأنا عجوز؛ لأنه طُلب مني القيام به. ولكنه أمر يصعب عليَّ قوله.»
تلجلج العجوز قليلًا في حديثه.
«إن زوجتك تدور في الآونة الأخيرة على مجلس الوزراء وعالَم الاقتصاد حاملة دفتر تبرُّعات لإعادة افتتاح مطعم ستسوغوان. في الأصل مَن فتح الموضوع هو السيد ساوامورا؛ لذا يبدو أنها جمعَت مبلغًا كبيرًا من المال، لا تقل إنك.»
– «لا، لم يكن لدي علم.»
قاطعه نوغوتشي على الفور.
… كانت المعاناة الذهنية التي أصابت نوغوتشي بعد عودته لمقعده واضحة لكل ذي عينين. فقد عرف باقي الضيوف الذين رأوا ذلك الوجه جيدًا ماذا قال العجوز الثمانيني له، وفهموا جيدًا أن نوغوتشي لم يكن يعلم شيئًا؛ ولذا أبدوا تجاه نوغوتشي تعاطفًا وشعورًا حميميًّا يفوق الوصف. لقد كانوا مهذَّبِين جدًّا في تلك المشاعر الحساسة والصعبة تجاه صديقهم، ولكن كان ذلك التهذيب على العكس سببًا في جرح نوغوتشي أكثر. مما جعَلَه يستأذن مبكرًا في مغادرة ذلك الحفل. كانت كازو قد تركت له رسالة أنها ستبيت تلك الليلة في ستسوغوان، فلم تعد إلى البيت في كوغانيه.
•••
أثناء ذهاب نوغوتشي إلى ياناغيباشي كانت كازو تقابل غينكي ناغاياما في أكاساكا.
عندما طلبَت من غينكي مقابلته، قال لها غينكي الذي يعلم كل شيء ببساطة: «آه من أجل دفتر التبرُّعات، أليس كذلك؟» ورغم أن كازو قالت له إنها تريد مقابلته في مكتبه، إلا أنه حدَّد مطعم شيراكاوا في حي أكاساكا. ولم يكن ممتعًا لكازو أن تقابل غينكي في مطعم يملكه أحد معارفها. ولكنها ذهبت في الموعد المحدَّد بالضبط. وانتظرَت أكثر من ثلاثين دقيقة حتى مجيء غينكي.
وأثناء ذلك كانت مالكة المطعم تحاول الترفيه عنها بالأحاديث المتنوِّعة مما جعل كازو تشعر بمعاناة أكثر. كانت المالكة العجوز قد سمعَت بالفعل شائعة إعادة افتتاح مطعم ستسوغوان، وأبدَت دعمها الكامل لكازو، وكانت راغبة في إعطائها النصح والمشورة.
«حصولك على ختم التأييد من السيد ساوامورا هو أمر في منتهى البراعة. بغير ذلك لم يكن الأمر لينجح. لقد عانيتِ طويلًا يا سيدتي ومن الآن ستحصدين ثمار تعبك.»
ثم عرضَت عليها المالكة بتكرار أن تُعرفها على شخص بارع في التنبؤ بالمستقبل لعل ذلك يساعدها في فيما هو قادم من أعمال، وقبلَت كازو ذلك الطلب على مَضض. فقد كانت خائفة أن يتنبأ لها بأمر سيئ في المستقبَل من البداية، وفي الواقع كانت كازو تؤمن فقط بقوتها الحيوية الكاملة.
سُمعت أصوات في نهاية الممر وبمجرد أن وقفت المالكة لاستطلاع الأمر تكلم صوت جهوري وكأنه انفجار.
«إنها في انتظارك. أمر سيئ أن تترك سيدة راقية تنتظر.»
ثم سُمع صوت غينكي الذي لا يبال بما حوله.
«إنها ليست سيدة راقية، بل هي عجوز رفيقة شرب الشاي.»
– «ما هذا القول؟»
ارتعش قليلًا جسد كازو التي كانت تجلس على طرف المكان. إنها تجلس مرة أخرى الآن في المنتصف تمامًا من هذا النوع من المزاح، هذا النوع من الألفة الزائدة عن الحد، هذا النوع من العشوائية المتسامحة. مَهما حاولت أن تنكر، إلا أنها تجلس في هذا المكان. لم يحاول غينكي ولو لمرة واحدة فقط أن يتعامل معها على أنها زوجة وزير سابق.
ولكن أحسَّت كازو أنها الآن أكثر قربًا من السياسة أكثر من وقت وجودها في دوامة الحملة الانتخابية العنيفة. عندما أحاط بها مثل هذا المزاح، والحديث الفكاهي المتبادَل، وصوت ضحك النساء، ورائحة البخور الشهير الذي يُحرق في ركن الزينة … أحسَّت كازو وقد أحاط بها كل ذلك أنها تشكو لحواسِّها الخمس لأول مرة بكل ذلك. ووقتها لأول مرة أظهرت السياسة وجهها بلا حياء وحققت المعجزة.
دخل غينكي ناغاياما قادمًا إلى الغرفة بزيه الياباني التقليدي.
«أهلًا.»
قام بتحية من رأسه بلا أي اهتمام بالرسميات، وجلس على ناحية الأخرى من الطاولة قدام كازو.
كانت كازو تجلس كما هي جلسة معتدلة، وتأمَّلت وجه ذلك العجوز الدميم غير مصدقة. ذلك الوجه الذي وكأنه تَكوَّن من تقطيع قطع صلصال ولصقها معًا، كان يمتلئ بتعرُّجات بلا معنى ولا انتظام. بل وتُظهر البشرة التي احمرت قوة وحيوية مقزِّزتَين وتعطي انطباعًا أن اللحم يتصارع بعضه مع بعض. كانت العين التي أحاطت بها التجاعيد السميكة المزدوجة تجحظ للخارج بلا أي اعتبار لتلك التجاعيد. وفي عمق الشفاه الكبيرة الغليظة تصيح بخفوت صفوف لطقم أسنان شديد البياض.
قالت كازو كلمة واحدة وهي تضع في اعتبارها ذلك الوجه.
«إنك لشيطان.»
قال غينكي وهو يبتسم في خبث:
«حقًّا! ألا تقولين أكثر من ذلك؟»
– «أنت وضيع، لا إنساني، أقذر شرير في الوجود. أنا أعرف أنه حتى كتابات «سيرة زوجة يوكِن نوغوتشي» المريبة أنت الذي كنتَ تموُّلها، فلا جدوى من إخفاء الأمر. فأنت لا تملك ولو شقفة من ضمير. تفوح منك رائحة أخبث من رائحة حشرة تزحف في مرحاض، أنت حثالة البشر. نفاية تجمعت فيها كل القاذورات التي لا يمكن أن تخطر على ذهن إنسان. من العجيب أنك تعيش مرتاح البال حتى الآن دون أن تُقتل. أنا بكل صراحة وصدق أعتقد أنه حتى لو مُزق جسدك لثمانية أجزاء فلن يشفي ذلك غليلي.»
أثناء حديثها انفعلَت كازو أكثر وأكثر وأصبحَت هي نفسها تلاحق كلماتها بصعوبة. واحمر وجهها بشدة وجَف حلْقها، ومع غضبها فاضَت دموعها بلا توقُّف، وظلَّت تسبُّه وهي مستمرة في البكاء. وضربت المائدة بعنف لدرجة أن الخاتم الذي به فص الفيروز كاد أن يتحطم. ولقد كان من الأفضل أن يتحطم ذلك الخاتم بالذات؛ لأن كازو لا ينبغي أن تضع في أصبعها أي أحجار كريمة مطلقًا أثناء تنقُّلها حاملة دفتر التبرعات.
«أحقًّا ما تقولين؟»
كان غينكي يسمع ما تقول وهو يهز رأسه موافقًا قليلًا، وبعد قليل ظهرت في عينيه دموع تستعصي على الفهم، وانسابت على خدوده مارَّة من التجاعيد السميكة.
«أنا أتفهم. قُولي. قُولي أكثر.»
قال غينكي ذلك بصوت باكٍ. ثم قبض كفه التي ينبت بها شعر أحمر غزير، ومسح بها دموعه. تسرَّب من فم هذا العجوز الدميم صدى صوت مسكر خامل وكأن يضعها فوق مهد طفل هزاز ليُسكتها.
«أنا أتفَهَّم. لقد بلغ بكِ الإرهاق مداه. لقد تعبتِ حقًّا.»
امتدَت يد غينكي بحنان من الجهة المقابلة من الطاولة، ولمست كتف كازو الذي يهتز ببكائها. وقتها كانت كازو قد غطت وجهها بمنديلها المفرود فوق راحتيها، ولكنها أحست بطيف يده فأبعدتها بكتفها.
«حسنًا. اهدئي قليلًا.»
كان سبب سماع صوت غينكي مغمغما، لأنه هذه المرة انحنى بجسده وأدخل وجهه تحت المائدة، ووضع يده داخل الحقيبة القماشية ذات اللون البنفسجي العتيق التي وضعت أمام ركبتي كازو.
فتح غينكي اللَّفَّة عند الركبة التي تجلس متربعة. وأخرج دفتر التبرعات وتصفح ببطء صفحات التبرعات السميكة التي رُبطت على الطريقة اليابانية. وحتى وهو يتصفح كان يمسح حواف عينيه بقبضة يده.
أخيرًا أَحسَّت كازو بطيف غينكي وهو يضغط على جرس استدعاء عاملة المطعم. عدلت كازو من جلستها لتعطي ظهرها لمدخل الغرفة حتى لا تراها العاملة التي يفترض أن تأتي، وأزالت المنديل الذي يغطي وجهها.
«إليَّ بأدوات الكتابة!»
هكذا أمر غينكي العاملة التي ظهرت.
جاءت العاملة وبدأت في إذابة فحم الكتابة، كانت كازو مضطرة إلى إخفاء الدموع من أجل كرامتها. فتحَت علبة التجميل الصغيرة وأصلَحَت وجهها. العاملة التي وَجِلَت من الدموع والصمت المريبَين للضيفَين، خرجت من الغرفة سريعًا بمجرد انتهائها من إذابة الفحم.
كتب غينكي بخط بارع:
«ثلاثمائة ألف ين نقدًا فقط لا غير من غينكي ناغاياما.»
أخرج من جَيْبِه شيكا قد تغضن قليلًا وقال لكازو وهو يدفعه في يدها مع دفتر التبرعات:
«إن تلك مشاعر ضئيلة للغاية، ومن أجل أن تُغفر لي جريمتي النكراء، في صباح غد سأعتصر لكِ مبلغًا معتبرًا من السيد ياماناشي من بنك إيتسوي. أنا من الأصل لم أفعل ذلك كرها فيكِ … صباح غدٍ سأستعلم عن ظروف السيد ياماناشي وأتصل بكِ هاتفيًّا، ولكن سيكون أمرًا سيئًا لو اتصلت بهاتف المنزل أليس كذلك؟»
– «من فضلك اتصل بي في ستسوغوان.»
– «أريد منك أن تكوني مستعدة للخروج بمجرد أن يصلك اتصالي.»
– «سأفعل.»
بعد قول ذلك لم يكن أمام كازو إلا أن تقرر المبيت هذه الليلة في مطعم ستسوغوان.
•••
في غروب اليوم التالي، قابلت كازو مَن يجب مقابلته، وفعلت بالضبط ما يجب فعله، ثم عادت إلى منزل كوغانيه. كانت مستعِدَّة لتلَقِّي تأنيب نوغوتشي، ولكن كان قلب كازو الآن في سلام وهدوء. فأخيرًا اتضحَت معالم إعادة افتتاح ستسوغوان، «وتحققت المعجزة.»
كان نبات الحَلفاء الأبيض في شفق غروب ضفة نهر كوغانيه، وكانت الطيور تطير في السماء التي ما زالت مضيئة. وتذكَّرت كازو عندما استيقظَت هذا الصباح مبكرًا جدًّا بسبب شدة انفعالها، وتنزَّهَت بعد فترة طويلة من الغياب في حديقة ستسوغوان التي عبثَت بها الفوضى، تذكَّرت بوضوح صوت أجنحة عدد لا يحصى من العصافير التي كانت هابطة تستريح في منحدر أعشاب عميقة لا يمكن التفريق بين الحشائش والنجيلة ثم تفاجأت بوجود كازو فهرعت للطيران مغادرة. وكأنها حطمت بضربة واحدة هواء الصباح النقي الصافي لقطع صغيرة متناثرة مثل الزجاج.
أمرَت كازو السائق، فأوقف السيارة عند حافة الجسر الذي يسبق البيت بمسافة بعيدة. فقد أحرجت أن تُوْقِف السيارة بعرض الطريق أمام البيت. فتح السائق الباب، وعندما وضعت خُفها الأبيض على الطريق التي تعكس أشعة الغروب في العين، انتبهت إلى ظل إنسان كان خارجًا بالصدفة من بوابة بيت نوغوتشي يأتي نحوها.
اقترب الظل منها وهو يترنح ممسكًا في إحدى يديه بحقيبة مطوية. لم تستطع رؤية وجهه لأن شمس المغيب كانت خلف ظهره. رجل بلغ من الكبر عتيًّا، ومع أن هيئة جسده متينة إلا أنه بدَا ضعيفًا وهو يسير ناظرًا إلى أسفل. تتوهَّج سماء الغرب في هدوء، لتعطي إحساسًا بنهاية المثالية. وتغيب الشمس في أقصى الأفق وهي تشعل العديد من الشموع مثل قنديل دوار عملاق للمثالية عديمة الفائدة. وكأن الإنسان الذي يمشي مولِّيًا ظهره لتلك الشمس مثل لوحة ظِل ملتصقة فوق حرير القنديل. لوحة ظِل تمثل ورقة نحيفة قُطعت من صفحة سوداء ترقص فوق الحرير. ولم يكن ثمة شَك أنه يامازاكي.
عادت كازو مرة أخرى إلى مقعد السيارة، ثم أغلقت الباب، وأنزلت زجاج النافذة وأخرجت منه وجْهَها. ارتطم هواء الغروب البارد بوجهها. وعندما جاء يامازاكي لمسافة لا تضطر معها للتحدث بصوت عالٍ، نادت على اسمه. ورغم أن صوتها كان بتلك الدرجة من الخفوت، إلا أنه رفع وجهه من المفاجأة.
– «ماذا؟ سيدتي؟»
– «ادخل السيارة، أريد أن أتحدث معك.»
دخل يامازاكي بجسده الذي مثل الدب إلى داخل السيارة، وجلس بجوار كازو.
«يا سيد يامازاكي، من الآن ستعود مباشرة إلى طوكيو، أليس كذلك؟»
– «بلى.»
– «إذا كان الأمر كذلك استخدم هذه السيارة. أنا سأنزل هنا، فعلى أي حال السيارة يجب أن تعود إلى بيت كويشيكاوا.»
– «أنا ممتن لكِ، حسنًا، سأفعل ذلك.»
استمَر الصمت لفترة داخل السيارة المظلمة.
ثم سألَته كازو وهي كما هي تنظر إليه من الأمام:
«عما تحدثتَ مع نوغوتشي؟»
– «اليوم، وضع الأستاذ يديه على حصير التاتامي واعتذر لي متأسفًا. هذه أول مرة أرى فيها الأستاذ بهذا الوضع. لدرجة أنه حتى أنا دمعَت عيناي.»
توجَّس قلب كازو خوفًا فتسارعت ضرباته.
«ما الذي اعتذر لك نوغوتشي عنه؟»
– «لقد قال الأستاذ ما يلي: لقد أتعَبَكِ كثيرًا بتسوية أوضاع ما بعد الهزيمة في الانتخابات، ولكن بعد أن وصلنا إلى هذا الحال تغيَّرت نية كازو. أعتذر لك بوضع يدي كما ترى. أرجو منك أن تعتبر ذلك الأمر كأن لم يكن.»
– «وماذا يقصد بذلك الأمر؟»
– «هل تتظاهرين بالجهل أنت أيضًا يا سيدتي؟ إنه أمر بيع ستسوغوان.»
– «ماذا يعني بِتغيُّر نيتي؟»
– «الأستاذ يعرف بالفعل موضوع دفتر التبرعات.»
– «حقًّا؟»
اخترقَت كازو بنظرها الظلام القابع بعيدًا خلف نافذة السيارة الأمامية. تسقط أشعة أضواء بوابة منزل نوغوتشي خافتة فوق الطريق. وتبقي السماء خطًّا ضئيلًا بلون أصفر باهت، وغرقت بالفعل ظلال أزهار الكرز الحالكة السواد فوق ضفة النهر.
«لقد أزعجناكَ يا سيد يامازاكي حقًّا.»
قالت كازو ذلك بشكل متقطع.
«أنتِ تقولين أشياء غريبة. أنا لا أتعقد ذلك بشكل خاص. بل إنني أتمنى أن تستمر علاقتنا من الآن فصاعدًا دون تغيير.»
– «يسعدني أن تقول ذلك لي … ماذا أقول؟ لقد حصل ذلك بسبب أنانيتي أنا.»
– «أنا أعرف ذلك منذ البداية.»
قال يامازاكي هذا القول الذكي لكي يمرر الموقف.
ومن أجل أن ترد كازو على حسن صداقة يامازاكي في فترة السنة تلك، وصل تفكيرها إلى أنه كان يجب عليها على الأقل أن تبوح بأمر دفتر التبرعات إلى يامازاكي قبل البدء فيه. ولكن كان ذلك سِرًّا ينتمي إلى نوعية تختلف عن العالم الذي يسكنه يامازاكي. من المؤكد أن كان يجب ألا تبوح له بذلك.
«حسنًا سأذهب أنا الآن.»
استندَت كازو بيدها على المقعد لتقف، ووقتها لمست يد يامازاكي الذي يجلس فوق المقعد المظلم بجانبها. كانت تلك اليد تستقر في الظلام باردة صامتة ويبدو عليها عدم الرضا.
وبسبب حدة مشاعرها، وكذلك بسبب رغبتها في مواساة وحدة يامازاكي الذي تُرك بمفرده، كانت كازو التي تعلم تمام العلم أن تعبير جسدها يدافع عنها أكثر بكثير من كلماتها، وهو أمر لم يحدث ولو مرة واحدة خلال علاقتهما الطويلة، قبضت بقوة على يد يامازاكي وكأنها تحيط بها من فوقها.
عيون يامازاكي المندهشة التي نظرت ناحيتها، كانت تتلألأ وهي تستقبل أشعة الطرقات التي تأتي من بعيد.
ولكن لم يكن يامازاكي من النوع الذي يخطئ مثل هذا التعبير المفاجئ. منذ أول مرة قابل فيها كازو في بيت نوغوتشي، محصلة هذا العام حتى اليوم، مجيئها في هذا الشكل، لم يكن شيئًا غير متوقَّع. إن ذلك لا هو بالصداقة ولا هو بالحب، هي علاقة أنانية بين اثنين من البشر، أمر يغفره يامازاكي بلا حدود؛ ولأنه حافَظ على حياده حتى الآن، فلم يكن الأمر أن كازو هي وحدها فقط التي تتصف بالأنانية. ثم في نهاية الأمر، مثلما يبدد الرسام لوحة رتب تشكيلها جيدًا باللمسة الأخير من الفرشاة، فلقد بدَّدَت كازو علاقتها بمسكة اليد المفاجئة وغير المتوافقة، تلك الفعلة التي تُعَد بالنسبة إلى الحب أمرًا ضحلًا تافهًا، وتُعد بالنسبة إلى الصداقة تدنيسًا، فقفز يامازاكي متقهقرًا من زاوية مختلفة وكان من السهل عليه إبداء الغضب.
وعوضًا عن ذلك كان ما أحس به يامازاكي هو قوة ضغط واحتواء عجيبة ليد كازو الدافئة الطرية مثل اللحاف المصنوع من ريش النعام. دفء مبهم بطريقة لا منطقية، لا يقول سلبًا أو إيجابًا، يُخْفِي داخله قوة تدميرية هائلة. دفء يمتلأ بلحم كثيف، كانت يدها تختزن دفئًا وثقلًا، ثم بعد ذلك ظلامًا لا يمكن حقًّا إيجاد بديل لها.
وأخيرًا أبعدت كازو يدها.
«حسنًا، الوداع … إنني أتفهم جيدًا برود مشاعرك الحالية بعد كل ذلك الإرهاق. كذلك أنا ونوغوتشي، سنعيش معًا ونحن نقاوم تلك المشاعر ذاتها، مَهما يحدث لنا فيما بعد.»
– «كلما مررتُ أمام أعمدة الهاتف أتذكر البوسترات التي كانت ملصقة عليها.»
– «حقًّا. لسوء الحظ حتى مع المجيء إلى منطقة ريفية مثل هذه ثمة عمود في كل ركن.»
هذه المرة رَبتَ يامازاكي قليلًا على ظهر يد كازو بحيادية.
ثم قال: «ما باليد حيلة. إن الزمن كفيل بإصلاح كل شيء. فأي شخص بعد الوليمة يستمر في الإحساس بذلك الشعور لوقت طويل.»
تذكَّرت كازو انعكاس الضوء عديم الفائدة من ساتر الزينة الذهبي بعد أن انتهت من الوليمة في القاعة الكبرى بمطعم ستسوغوان.
•••
بعدما ابتعدت الإضاءة الحمراء المشتعلة في ظهر السيارة التي استقَلَّها يامازاكي، مَشَت كازو باتجاه بيتها وحيدة في الطريق التي صارت مظلمة تمامًا. لم تستطع الولوج مباشرة من البوابة فأخذَت تتسكع لفترة من الوقت حول المكان.
ثم حسمَت أمْرَها ودخلَت البيت. وتعمَّدَت أن تسأل الخادمة بصوت عالٍ:
«هل تناول سيدك وجبة العشاء؟»
– «كلَّا. إنني أُعد العشاء حاليًّا. هل سيدتي ستتناول أيضًا العشاء؟»
– «إنني لست جائعة لتلك الدرجة.»
قالت كازو ذلك القول الغامض. فلقد كان لديها شك أتسمح الظروف أن يتناول الزوجان عشاءهما معًا الليلة أم لا؟
«… سأخبرك فيما بعد عندما أحتاج للعشاء.»
كان نوغوتشي في الغرفة الصغيرة المطِلَّة الحديقة. وتحدَّثت إليه كازو من خلف الباب المغلق:
«لقد عُدتُ إلى البيت.»
لم يَردَّ نوغوتشي عليها ومع ذلك دخلَت كازو الغرفة وجلست. كان نوغوتشي يقرأ في كتاب ما، ولم يحاول الالتفات ناحيتها. لاحظَت كازو رأسه التي ابْيَض شَعرُها كله تقريبًا بعد الانتخابات، وميل خياطة ظهر ردائه ناحية اليسار عند الكتف المنتصب النحيف بسبب طريقة لبسه المهمَلة كالمعتاد. ولكن كانت تلك الكتف بعيدة جدًّا عنها، وعرفت كازو أن يديها لا يمكنها أبدًا الوصول إليه من أجل إصلاح خط الخياطة له.
تكلم نوغوتشي أخيرًا بعد لحظات صمت مولِّيًا لها ظهره كما هو قائلًا:
«إنني أعرف كل ما تفعلينه. ربما الأمر بالنسبة إليك لا مَفرَّ منه، ولكنه بالنسبة إليَّ أمر لا يمكن السماح به. إن فعلك ذلك ليس فيه إخلاص لزوجك.»
– «تُرى ما الذي تُشير إليه؟»
اندهش نوغوتشي لقوة كازو تلك؛ لأن ردَّها بتوجيه ذلك السؤال بدَا له ديكتاتوريًّا بشدة، ولكنه انتبه على الفور إلى أن الأمر مجرَّد أنه أخطأ فهم كلماتها. ثم اتَّجه ناحية زوجته للمرة الأولى وشرح لها. ولم تكن نبرة صوت نوغوتشي عنيفة مطلقًا، بل كانت كلماته هادئة إلا أن بها إحساسًا بالتعب الشديد فكانت تَتبايَن مع محتواها المتعالي.
كان تفكير نوغوتشي يفترض أن أفعال البشر لا تختلف كثيرًا سواء في السياسة أو في الحب. ويرى أن أفعال الإنسان تعتمد على نفس المبادئ؛ ولذا يُفترض أن السياسة والحب والأخلاق، يجب أن تتبع قانونًا محكَمًا ومقرَّرًا سَلفًا مثل كل الأجرام السماوية؛ ولذلك لا خلاف أن أية خيانة في تلك الأفعال تُعَد خيانة للمبادئ العامة مثل كل الخيانات الأخرى. فلا تختلف عِفَّة الزانية السياسية عن خيانة العفيفة السياسية كلاهما فِعل غير أخلاقي، بل والأسوأ من ذلك، أن خيانة واحدة تنتقل مثل العدوى من مجال إلى آخر، لتشجع المبادئ العامة كلها على الانهيار. وطبقًا لتلك النظرية السياسية الصينية القديمة، يُعَد حمل كازو لدفتر التبرعات، واللَّف به على أعداء زوجها السياسِيِّين جريمة زِنا من كازو، وبهذا الفعل تكون كازو «نامت» مع كل رجل من هؤلاء الرجال.
كانت كازو شاردة أمام كلمات نوغوتشي؛ فقد كانت كازو لا تفهم مطلقًا الأفكار التي يريد نوغوتشي قولها. ولكن كانت كازو لا تقل عن نوغوتشي في إيمانها أنها في أعلى درجات الصحة.
كان الأمر هذه المرة مخيبًا لآمال نوغوتشي تجاه كازو تمامًا، وبلغ به اليأس من إمكانية إصلاح أفعال كازو واحدًا بعد آخر مداه. ولكن كان ذلك الاكتشاف متأخِّرًا جدًّا، ويُظهر أحد وجوه التفاؤل في شخصية ذلك الرجل الطيب. كانت عينا نوغوتشي ما زالت مخدوعة بسبب عدالته فلم تدرك بعد جوهر الأمر. لِمَ تزوج نوغوتشي من كازو؟ بقدر عمق إيمانه بالمبادئ، ألم يكن ما يطلبه نوغوتشي سرًّا في لاوعيه من تلك المرأة هو إلحاق العار بتلك المبادئ؟
غضب نوغوتشي من عدم رد فعل كازو بإخلاص تجاه حماسه وشغفه بالعلم والتعلم حتى الآن وإن كانت تتكيف معه تكيفًا سطحيًّا. لم تدرك مطلَقًا أن شغفه التعليمي يتدفَّق من مبادئه، ولم تستطع إلا التفكير أنه مجرد علامة على مشاعر حبه. فعلى الأرجح من المستحيل أن يُغير التعليم إنسانًا ناضجًا، ولا بأس من التفكير أن البريق اللامع في عين زوجها المنجذب نحو المستحيل هو علامة حبه لها. ثم لم يكن أمامها إلا التعامل باعتدال مع حماسه العقلاني تجاه تحقيق المستحيل، فأجابت بطاعة حقيقية سلسة لمشاعره.
ومن المحال ألا يكون نوغوتشي قد أدرك شغف كازو تجاه العمل باستمرار وشغفها تجاه الحيوية والنشاط، ذلك الشغف المولودة به تجاه العمل وتحريك كل أعضاء الجسم. فلقد كانت تلك هي جاذبية كازو بدون أدنى شك، وكانت تلك هي حقًّا ما يستثير رجلًا جادًّا ذا شغف تعليمي مثل نوغوتشي.
كان نوغوتشي يطلب بالطبع أن تلتزم كازو بمبادئه بإخلاص، ولكن كازو نفسها لم تحمل طموحًا أن يلتزم نوغوتشي بمبادئها. وعندها أدركت كازو نوعًا ما أنها فقط التي يمكنها التحرك طبقًا لأفكارها، مما جعلها تشعر بالوحدة أثناء نشاطها. ولم تكن كازو تملك أي نوع من الشغف العقلاني. إن المنطق يجعلها فقط باردة المشاعر. وكانت كازو دائمًا ما تخاف من وحدة ما بعد الموت، لمعرفتها بتلك الوحدة أثناء نشاطها.
وكان نوغوتشي يحاول بالتأكيد إشعال النار بمخاوفها تلك عندما قال ما يلي بتأنٍّ:
«ماذا ترين؟ إن تلك هي كلمتي الأخيرة. إن تركتِ فكرة إعادة تشغيل مطعم ستسوغوان وفكرتي في بيعه، فيمكنني تحمُّل ما لا يمكن تحمله وأفكر في أن نبدأ معًا بداية جديدة … إن قلتِ «نعم» الآن، يمكننا بصعوبة إنقاذ الموقف … ولكن إن قلتِ «لا» … فيجب أن تعتبري أن تلك هي آخِر علاقتنا معًا، وأعتقد أنك مستعِدَّة لذلك.»
برز أمام عيني كازو قبر موحش في مقابر مُقفرة، لا يأتي لزيارته أحد. كانت تلك الصورة المتوَهَّمة لقبر موحش ومنبوذ، متهالِك ومائل على جانبه تغطيه حشائش برية، تطعن قلب كازو بخوف مظلم بلا قاع كنهاية لحياتها المفعمة بالحيوية والوحدة. إذا تَركت كازو عائلة نوغوتشي، فليس أمامها إلا طريق واحدة تؤدي إلى هناك؛ ولذلك تصبح تلك إشارة خفيَّة مؤكَّدة بدرجة وقحة.
ولكن كان هناك من ينادي على كازو من بعيد. إنها الحياة المعيشية الحيوية النشطة، والانشغال اليومي، ودخول وخروج ذلك العدد الكبير من الناس، شيء ينادي على كازو يشبه نارًا مُزدهِرة ومستمِرَّة في الاشتعال. ليس هناك يأس ولا استسلام، وليس هناك مبادئ معقَّدة، والمجتمَع هناك كاذب مخادع، وكل البشر مُتقلِّبو المزاج، وبديلًا عن ذلك تفيض منهم الضحكات ونشوة السُّكْر الممتدَّة. وعند النظر إلى ذلك المكان من هنا، من فوق تلة بعيدة في مرعًى مظلم، تبدو وكأنها لبشر يرقُصون تحت أضواء نيران تحرق سماء الليل.
يجب على كازو أن تجري مُتوجِّهة إلى ذلك المكان مُطيعة على الفور لأمر حيويتها. حتى كازو نفسها لا تستطيع رفَض أوامر حيويتها تلك. وعلاوة على ذلك كانت حيوية كازو تلك ترشدها في نهاية المطاف للذهاب بشكل مؤكَّد تجاه قبر موحِش في أكَمة مائلة ليس فيه سواها ولا يزوره أحد.
أغمضت كازو عينيها.
شعر نوغوتشي باستياء شديد من منظر زوجته التي عدلت من وَضْع عنقها وهي تجلس جلسة صحيحة مغمضة العينين. كان نوغوتشي يعلم جيدًا أن في شخصية تلك المرأة جوانب غير مفهومة، وبسبب أن كان هذا العلم عائقًا، وأن الجانب غير المفهوم هذه المرة من نوع مختلف تمامًا عمَّا كان عليه في السابق، لم يفطن نوغوتشي أن كازو في مرحلة تغيير وهي على وشك أن تصبح امرأة مختلفة.
فكَّر نوغوتشي كما يلي:
«لا ريب أنها تفكِّر في أمر أناني. وربما تستخدم وسيلة أن تنهار باكية. على أي حال، لقد تعبتُ من تلك المرأة. حتى وإن عُد علامة على شيخوختي، إلا إن ذلك التعب بالنسبة إليَّ هو المشاعر المؤكَّدة الوحيدة التي أحس بها الآن.»
ومع تفكيره ذلك، كان يهزُّه القلق والأمل كطفل ينتظر مترَقبًا انفجار الألعاب النارية أمام عينيه.
وهكذا ورط نوغوتشي كازو في موقف ليس به ثغرة لكي تأخذ قرارًا نهائيًّا حاسمًا. ولكن كازو هي التي خلقَت في الأصل موقف الإجبار على الاختيار من خيارَين لا ثالث لهما. ويجب القول إنه عندما صنع لها قفصًا بلا ثغرات كان يريد الهرب من أحد أنواع الإزعاج أكثر منه أنه كان مجبرًا. وفي الحقيقة كان نوغوتشي سيتقَبَّل ردَّها على سؤاله أيًّا كان.
كان نوغوتشي يخاف تَغَيُّر قلب كازو المتوقَّع مجيئه في المرة القادمة وإزعاجها له بذلك التغيير. كان نوغوتشي يُظهر التردُّد والحيرة وكأنه مراهق لا يهدأ له بال حتى يتأكَّد بأسرع وقت من رسوخ الفترة القصيرة المتبقِّية له من حياته. كفى! لا مزيد من الإصلاح ولا من الترميم، لا إعادة كتابة لمسوَّدات ولا تعديل لخطط. لم يعد يحتمل بالفعل جسديًّا وذهنيًّا أي نوع من أنواع القلقَلة. مثل قطعة الفاكهة التي داخل جِيلِي الفواكه، تنتظر على أَحرَّ من الجمر تَجمُّد الجيلاتين وهي تهتز يمينًا ويسارًا. إن تحقق له عالم راسخ يطمئن لأول مرة، ويستطيع النظر عاليًا إلى السماء الزرقاء، فيستطيع تأمُّل شروق الشمس وغروبها وتأمُّل اهتزاز قِمم أغصان الأشجار مع الرياح حتى يتمتع القلب.
كان نوغوتشي مثله مثل الكثير من السياسيين المعتزلِين يريد الاحتفاظ «بالشِّعْر» من أَجْل أواخر سنوات عمره. فهو حتى الآن لم يكن لديه مُتَّسَع لكي يتذوَّق تلك الأطعمة المحفوظة الذابلة، وكذلك لم يكن يعتقد أنها تبدو لذيذة المذاق، ولكنها بالنسبة إلى الإنسان، ليس الشعر، ولكن الأكثر منه هو أن الشِّعر يكمن سرًّا في الرغبة المحمومة المطمئنة تجاه الشِّعر، ويصبح الشِّعر هو رمز الاستقرار الحق الذي لا يتزعزع في هذا العالم. لا خوف مِن تَغيُّر العالم مرة أخرى، وبعد أن عرف أنه لن يجتاحه مرة ثانية لا قلق ولا أمل ولا طموح، فيُفترض أن يظهر الشِّعر، بل يجب أن يظهر.
ويُفترض وقتها أن تَتفكَّك دروع المنطق ويَنحَلَّ القيد الأخلاقي الذي صاحَبه طوال عمره، فيتحوَّلَا إلى «شِعر» يصعد إلى سماء الخريف مثل خيط من الدخان الأبيض. ولكن كانت كازو أكثر معرفة وأسبق خبرة بمثل هذا الشِّعر الآمِن، وتعلم عدم جدواه تمام العلم.
ولم يكن نوغوتشي يعرف أنه لم يحب الطبيعة مطلقًا؛ لأنه إن أحب الطبيعة، لكان يستطيع بلا ريب أن يحب كازو بمهارة أكثر. كان نوغوتشي أثناء نزهته بمنطقة كوغانيه يتمتع بالآثار المتبقِّية من بلدة موساشينو وهو يفكر أنها جمال الطبيعة، ولكن لم تكن أشجار الكرز العتيقة والدردار العملاقة والغيوم وسماء الغروب إلا مجرد بورتريه مثالي رسمته شخصيته المستقيمة البلهاء.
… كانت كازو ما زالت مُغمضة العينَين.
في تلك اللحظة، شعر نوغوتشي أنه يجلس حائرًا على مقربة من حياته العائلية الممتلئة بقلَق لن يزول إلى الأبد. وشعر أن كازو قد تجمَّدَت في مكانها لدرجة أنه حتى إن وضع يده على كتفها وهزَّها بعنف فلن تتحرَّك قيد أنملة. وربما يتجمَّد العالم بغرابة لا يتخيلها نوغوتشي لتركد الشهور والسنون في مكانها آسنة حتى الموت.
وأخيرًا فتحَت كازو عينيها ببطء.
أثناء إغماضها عينيها، كان قلبها قد تخطَّى بعزم وتصميم منحدَر جبل عالٍ ووصل إلى الإجابة الوحيدة بالنسبة إليها.
استحمَّتْ كازو بظلام عينها المغمضة، وكأن تأثير زوجها صُب على كامل جسدها للمرة الأولى. فأجابت كازو مُتَّبِعة منطقًا رائعًا لم يسبق لها حتى الآن استعماله:
«ما باليد حيلة. سوف أعيد افتتاح ستسوغوان. وأعمل حتى تُطحن عظامي، وبالتأكيد سأردُّ الديون للجميع.»
لقد مَقت نوغوتشي كازو مقتًا شديدًا. لقد قضى طوال ليلة أمس غاضبًا، ولكن اليوم في الوقت الذي قابَل فيه يامازاكي ثم كازو، كان الغضب قد ذبل تمامًا، واستعدَّ نفسيًّا للتعامل بإذعان بارد فقط؛ ولذا لم يكن يتوقَّع تلك الكراهية التي نبعت من داخله فجأة بعد أن سمع كازو تجيب بلا تردُّد بأحد الردَّين اللذَين خيَّرها بينهما.
تُرى ما الرد الذي توقعه نوغوتشي؟ هل لو اختارت كازو الرد الآخر، لانتهى الأمر حقًّا دون أن يشعر بكراهية ضِدها؟
على أي حال، يبدو أن كازو أصبحت عدوًّا حقيقيًّا لنوغوتشي عندما اغتصبت سلاح المنطق منه. وهو ما لم يحدث عندما ضربَها بسبب أفعالها الأنانية أثناء الانتخابات.
ولم تذرِف كازو دمعة واحدة بخلاف ما حدث في السابق. بل على العكس كان وجهها الأبيض مشرقًا، وكانت جلستها غنِيَّة ومستقِرَّة مثل دِقة العرائس الخشبية التقليدية.
أدركت كازو من نظرة واحدة ألقَتها على عيني نوغوتشي، أن جسد ذلك العجوز النحيف النبيل يشتعل بالكراهية. ولم تكن نظرَتُه تلك نظرة رجل متعلِّم، بل لم تكن كذلك نظرة توبيخ أب يجمح بعواطفه … وعندما رأت كازو تلك النظرة، ارتجف جسدها من الفرحة.
•••
ساد الصمت خارج باب الغرفة المغلَق تمامًا. بدَا فجأة أن الإضاءة داخل الغرفة ازدادت وهجًا، فلمعَت رفوف مكتبة نوغوتشي المتواضِعة ومكتبه والمقص الذي فوق المكتب وصبغة الأثاث الفقير، وبرزَت بروزًا أكثر مما هي عليه في المعتاد. وكذلك فاحَت رائحة حصير التاتامي الجديد.
ظل الاثنان يُحدِّقان طويلًا بعضهما لبعض، وكانت تلك المرة الأولى التي استطاعت كازو أن تحدِّق حقًّا في وجه زوجها. وارتعد كتف نوغوتشي من الغضب وحقد على كازو بكل حواسه. وخافَت كازو من أن يقع نوغوتشي صريعًا في لحظته.
وعندها أصابها الرُّعب، وفكَّرَت في طرق مختلفة لإسعافه إن حدث ذلك. ولكن كانت يداها تعجزان عن الوصول إليه من مكانها، إن القوة الوحيدة التي تملكها كازو حاليًّا من أجل التسرية عن خيبة أمل نوغوتشي لم تعد من حقه.
وكان نوغوتشي أيضًا يعلم جيدًا أنه لا يملك وسيلة عاجلة لتهدئة مَقْته قليلًا. لم تَعُد يد الضرب تصل لجسد كازو بعد أن ردَّت بذلك الرد، وقد يبدو مضحكًا أن ما أوقف يده عن الضرب الآن هو أحد أنواع اللباقة. لباقة لها إحساس كَفَن رطب يلتصق بالجسد.
مر وقت طويل ثم نطق نوغوتشي أخيرًا.
«حسنًا؛ لنبدأ إذن في إجراءات الطلاق. ليس لديكِ اعتراض أليس كذلك؟»