رأي السيدة تاماكي
لم يسبق لكازو أن واجهَت مثل هذا الموقف بعد أن أصبحت مالكة مطعم ستسوغوان. استدعت الناس بصوتٍ عالٍ. وتجمَّع حولها العاملات. فأمرتهن بتجميع كل الرجال في المطعم على الفور. وفي ذلك الوقت تجمَّع أعضاء جماعة كاغِن في الممر مُقترِبِين منها.
استمعت كازو بجانب أذنها نوغوتشي يتحدَّث بصوت رابط الجأش إلى أحد الأعضاء:
«لا بد وأنه نزيف في المخ. سيكون ذلك مزعجًا لهذا المطعم ولكن أعتقد أنه يجب عدم تحريكه، واستدعاء طبيب هنا ليراه. دعوا الأمر لي جميعكم لديكم أسر في انتظاركم؛ ولأنني الوحيد الذي ليس له عائلة وأستطيع الحركة بحرية.»
ومن العجيب أن كلمة نوغوتشي تلك هي التي ظلت باقية بوضوح في أذن كازو وسط تلك الحادثة الكبرى التي حدثت. من المؤكد أن نوغوتشي قال: «الوحيد الذي ليس له عائلة»، ومعنى تلك الجملة ظل يطلق شعاع ضوء داخل قلب كازو وكأنه بالضبط مثل سِلك فضي انقطع فظل يرتجف بلا نهاية.
بذلت كازو كل جهدها بإخلاص من أجل تاماكي الذي أصيب بالمرض فجأة، ولكن بين أوقات الانشغال تلك، كانت كلمة نوغوتشي فقط هي التي ظلت محفوظة في وعيها بألوان زاهية. أسرعت زوجة تاماكي بالحضور للمطعم فَبكَت كازو أمامها وهي تعتذِر لها لإحساسها العظيم بالمسئولية تجاه إهمالها. ومع أن مشاعرها لم يكن بها أي نوع من الكذب، إلا أن كلمة نوغوتشي كانت تحيا في عقلها الباطن بوضوح تام.
«إنك تُفرِطين في تحميل نفسك المسئولية. إن تاماكي يأتي لأول مرة، ولا تعرفين أنت أي شيء عن حالته الصحية، وتاماكي ذاته هو الذي اقترح التَّنزُّه في الحديقة الباردة.»
هكذا دافع نوغوتشي عن كازو وهو يقف بجوارها.
استمر تاماكي في إصدار شخير بصوت عالٍ.
كانت زوجة تاماكي سيدة متوسِّطة العمر ترتدي ملابس غربية جميلة أصغر من عمرها بكثير جدًّا. ولكنها كانت باردة المشاعر تجاه حالة زوجها. ثم عقدت حاجبيها بخفة تجاه صوت عزف الشاميسن المتألق الذي يأتي من وقت لآخر من القاعة الكبرى. ووصل قرار الزوجة إلى قمة الهدوء عندما رفضت بعناد رأي الطبيب بضرورة إبقائه بحالته تلك لمدة يوم كامل قائلة سببًا في منتهى الوجاهة للرفض.
«إن زوجي كان يُكرِّر دائمًا كلمة لا يجب إزعاج الآخرين. ولا أدري إلى أي مدى سيعنفني بعد شفائه إن أزعَجْنا ستسوغوان أكثر من ذلك. وعلاوة على ذلك فهذا مطعم يأتيه العديد من الزبائن. وإن كان لنا صداقة قوية منذ زمن طويل ربما يمكن تقبل ذلك، ولكنني لا أستطيع أن أجعل مالكة المكان تنزعج أكثر من ذلك. يجب نقله إلى المستشفى بأسرع وقت ممكن …»
كرَّرَت الزوجة نفس القول بنبرة كلام راقية، وكررت شكرها أكثر من مرة لكازو التي تقف بجوارها. وعلى العكس من ذلك كرَّرَت كازو رأيها قائلة: «لا داعي للتحفُّظ أو الخجل، سأتولى رعاية المريض هنا حتى يسمح الطبيب له بالحركة.» وظل الاثنان يتبادلان تلك المجاملات الجميلة بجوار رأس المريض الذي يصدر شخيرًا عاليًا ولا يعرف متى ينتهي ذلك التنازل المتبادَل. ثم مهما مضى من وقت لا تفقد الزوجة هدوءها وسَكينتها، وكازو كذلك لا تفقد دماثتها التي تفرضها بنقاء، مما جعل الطبيب السمين يضجر.
كان المكان الذي حُمل إليه المريض غرفة متوسطة الحجم معزولة لا تستخدم في المعتاد. وبمجرَّد وجود المريض ونوغوتشي والسيدة تاماكي والطبيب والممرضة وكازو فقط أصبحَت تلك الغرفة تعاني بالفعل من الازدحام والفوضى. غمز نوغوتشي بعينه إلى كازو لتخرج من الغرفة. أطاعته كازو وخرجت إلى الممر. مشى نوغوتشي أكثر وأكثر في الممر.
وأثناء رؤيتها لمنظر ظهره هذا، ولأن طريقة مشيه كانت تمتلئ بثقة بالغة بالنفس؛ شعرت كازو على العكس أن هذا هو بيت نوغوتشي وأنها مجرد ضيفة جاءته صُدفة.
ظل نوغوتشي يمشي بعشوائية ودون تخطيط. ويَعْبُر الممر المنحني للخلف قليلًا والذي يتخذ شكل الجسر. ثم مشى أكثر في الممر وانعطف يسارًا. وخرج إلى الحديقة الخلفية التي تمتلئ بزهور الأقحوان البيضاء. وبينما الحديقة الأمامية لا يُزرع بها زهور، كانت الحديقة الخلفية لا تنقطع عنها الزهور في الفصول الأربعة.
كانت الغرفتان الصغيرتان المتتابعتان اللتان تطلان على تلك الحديقة هما غرفتي كازو. كانت الإضاءة مطفأة في الغرف. من أجل المعيشة الشخصية لها عندما تغادر العمل، كانت كازو تحتاج إلى مثل تلك الحديقة الصغيرة التي يمكن أن نطلق عليها رَثَّة وغير مرتبة. وحتى الزهور والحشائش ليست مزروعة بطريقة نظامية في غاية الصرامة، ولم تضع بها أحجار الحدائق ولا حوض الماء للتطهُّر كما تقتضي الطريقة المثلى، بل بالضبط مثل مُنتَجع صيفي مُؤجَّر صغير، تريد حديقة مثل هذه مخطَّطة بأصداف القواقع حَوْل زهور رجلة الصنوبر؛ ولذلك فالأقحوان الأبيض لهذه الحديقة، غير متماثل، بعض الأقحوان طويل، وبعضه قصير وفقير. وتصبح هذه الحديقة في بداية الخريف عبارة عن حديقة زهور الكوزموس الفوضوي.
تعمدت كازو ألا تدعو نوغوتشي إلى غرفتها، ولم تظهر له أن تلك الغرفة هي محل إقامتها؛ لأنها كانت تَكْره أن تبدي له أُلفة بشكل ملحوظ. دَعَت نوغوتشي إلى الجلوس على المقاعد التي وُضعت بحيث تطل على منظر الحديقة بالكامل. وبعد أن جلس هناك تحدث نوغوتشي على الفور.
– «أنتِ عنيدة حقًّا! بهذا العناد لن يصبح الحنان الذي تُظهرينه حنانًا.»
– «أجل! حتى وإن كان زبونًا يأتي لأول مرة، لو فرضًا ظهر عليه مرض في مطعمي، يجب عليَّ أن أرعاه في مرضه.»
– «هذا ما تريدين أنتِ أن تنفذِّيه؟ إنك لستِ طفلة صغيرة، وتعرفين أن رفض زوجة تاماكي ليس مجرَّد الرفض المعتاد، ألا تفهمين ما تحاول قوله؟»
– «أفهم ذلك جيدًا.»
ابتسمت كازو وقد جمعت بعض التجاعيد الطفيفة حول حافة عينيها.
– «إذا كنتِ تفهمين فما تفعلينه يُسمى عنادًا.»
هذه المرة لم تضحك كازو.
«ألا ترين أن تلك الزوجة التي أُبلغت أن زوجها سقط مريضًا بشكل مفاجئ، لم تَظهَر إلا بعد أن أخذت وقتًا في التزين على أكمل وجه؟»
– «إذا كانت المرأة زوجة سفير، فهذا هو الأمر الطبيعي.»
– قال نوغوتشي: «لا يمكن القول إنه من الضروري فعل ذلك.»
وهذه المرة هو الذي صَمَت. استمتَعَت كازو بذلك الصمت متعة كبيرة.
يُسمع صوت أغاني الموسيقى الوترية في خفوت قادمًا من القاعة الكبرى. أحست كازو وقتها أنها أُنقذت من القلق والحيرة أخيرًا بعد تلك الحادثة. استند نوغوتشي بتُؤدة على مقعده وأخرج سجائره. فوقفت كازو وأشعلتها له.
فقال نوغوتشي لها بصوت حازم.
«شكرا لكِ.»
فهمت كازو جيدًا أن كلمة الشكر تلك كان لها صدى يَتردَّد من موقع يختلف عن علاقة مالكة مطعم بزبون.
«أحس بالاعتذار للسيد تاماكي ولكني الآن أشعر بحالة من البهجة. تُرى هل جاء أثر السُّكر من شرب الخمر بعد كل تلك المدة؟»
«حقًّا!» قال نوغوتشي ذلك بنبرة غير مَعْنية بالأمر ثم أضاف: «كنت أفكر الآن في حب المرأة للمظاهر الفارغة. سأدع نفسي أتكلم بصدق أمامك أنتِ بالذات، السيدة تاماكي ترى أنه إن حان أَجَل زوجها فهي تريد أن يموت على سرير المستشفى وليس في قاعة مطعم حتى إن أدى ذلك إلى التسريع بوفاته. إذا تحدثتُ عن مشاعري أنا، فأنا في أشد الحسرة على فقدان صديق قديم. وكانت مشاعري أنني أريد أن أطلب منكِ بقاءه هنا حتى تتحسن حالته ويمكننا نقله إلى المستشفى … ولكن أمام حب الْمَظاهر الفارغة التي تتمتع به زوجة صديقي لن يمكن أن أفرض مشاعر الصداقة مهما كانت قوة تلك الصداقة.»
«ذلك يعني أنك لا تمتلك فعلًا محبة صادقة له.»
قالت كازو ذلك وهي تشعر أنها أصبحت تستطيع قول أي شيء لنوغوتشي. ثم أضافت:
«أنا أنفذ ما أشعر به مهما كان قول الآخرين. ولقد فعلت ذلك في حياتي حتى الآن. حقًّا، لقد نفذت رغبتي بتلك الطريقة.»
«والليلة أيضًا تصرين على تنفيذ تلك الطريقة، أليس كذلك؟»
قال نوغوتشي ذلك بنبرة حديث جادة جدًّا. وأصبحت كازو التي أحست أنه يغار منها بقمة الابتهاج. ولكن المرأة ذات الفطنة أسرعت بالتفسير الجيد.
«كلا. فأنا اندهشتُ جدًّا وأحسستُ أيضًا بالمسئولية. فلست أحمل أية مشاعر تجاه السيد تاماكي.»
«هل كان ذلك مجرد عناد فقط؟ إذن يجب أن ننقل المريض بأسرع وقت.»
كانت كلمات نوغوتشي تلك التي قالها وهو ينهض من مقعده، باردة برودًا قاطعًا وغير ودودة مطلقًا، فقضت تمامًا على أوهام كازو. وخرج منها رد تلقائي بدون أن تختلط به أية مشاعر، وكان ذلك يوضح ثقة كازو الشديدة بنفسها:
«حاضر. لنفعل ذلك. كما تريد السيدة تاماكي.»
عاد الاثنان خلال الممر دون أن يَنبِسا بكلمة. وأخيرًا في منتصف الطريق كان نوغوتشي هو الذي بدأ الحديث قائلًا:
«إن أدخلناه المستشفى الليلة، فسأعود للبيت. وأذهب في ظهيرة الغد لزيارته. فعلى كل حال أنا لا عمل لدي.»
انتهت الضجة التي كانت تأتي من القاعة الكبرى ولذا يبدو أن زبائنها قد رحلوا. وسيطر ليل هادئ يشبه سكون الكهوف المميز لمطعم ستسوغوان بعد الولائم. أرشدت كازو نوغوتشي واخترقت معه القاعة الكبرى؛ لأن ذلك سيكون طريقًا أقصر. انحنت العاملات اللائي يقمن بترتيب القاعة عند مرور الاثنين. ومر الاثنان من أمام القاطع الذهبي الكبير المكون من ستة تواءم والذي يصنع خلفية لخشبة مسرح الرقص. ترسب اللون الذهبي للقاطع بعد الوليمة، محتفظًا ببعض السخونة، لدرجة الشعور بظلام كئيب.
سألت كازو إحدى العاملات قائلة:
«هل قال أشار أحد الزبائن في نهاية الحفل إلى عدم وجودي هنا؟»
رفعت تلك العاملة الماهرة متوسِّطة العمر وجْهَها في رِيبة. فقد كانت عادة كازو ألا تلقي مثل هذا السؤال الوظيفي أمام أحد الزبائن مطلقًا، ولأن نوغوتشي كان زبونًا بما لا شك فيه.
أجابت العاملة:
«كلا. فَوَقْت نهاية الحفل كان الجميع في حالة مزاجية جيدة.»
فتح نوغوتشي وكازو باب الغرفة بهدوء. نظرت السيدة تاماكي نظرات حادة إليهما. كانت حواجبها الرفيعة مرسومة في غاية الدقة، وكان الدبوس الذي يُثبت القبعة السوداء على وشك الخلع، وكان ذلك الدبوس البلاتيني يستقبل إضاءة الممر ويجعلها تهتز.