تفسير كازو للحب
افترقَت كازو عن نوغوتشي في تلك الظُّهرية وعادت إلى ستسوغوان، ثم خافت من تضييع وقت سعادة ذلك الغداء كما هي في خضم ساعات العمل الهام. أول ما أسعد كازو كان إبداء شخص غريب عنها اهتمامًا غير عادي بها. وبسبب تلك السعادة انتبهت كازو للمرة الأولى إلى الوحدة التي كانت تعيش فيها حتى الآن.
ومع أنه عندما كانت مع نوغوتشي لم يحدث شيء تقريبًا، ولكن بعد أن افتَرَقا حدثت على الفور مشاعر مُتنوِّعة وكأنها الريح التي نشأت من انفجار ضخم. فأولًا، غرقت بحماس في تخيل أنها تُلبس نوغوتشي قميصًا نظيفًا دائمًا غُسِل وكُوِي لِتَوِّه، وتُلبسه ملابس غربية جديدة صُنعت لِتَوِّها من أَجْله. وعندما تتدخل في تلك المشكلة، تصل المشكلة على الفور إلى ما هو مشاعر نوغوتشي تجاه كازو؟ فلا يمكن أن تتدخل كازو في رعاية شئون نوغوتشي من دون التأكد من مشاعره. ولكنها لا تعرف عن مشاعره تلك شيئًا. شَعرَت كازو بالدهشة من وقوعها في حالة عدم فهمها مُطلَقًا لمشاعر الطرف الآخر القلبية مرة أخرى في حياتها. ليس دهشة فقط بل كان أمرًا خارج نطاق تفكيرها.
وعندما تفكر كازو لِمَ يرتدي نوغوتشي مثل تلك الملابس البائسة حتى وإن كانت جيدة، قَلقَت كثيرًا بشأن حالة ذلك الرجل المادية. إنه على أي حال يعيش على مُرتَّب التقاعد، ولا يمكن مطلقًا القول عنه إنه دَخْل كافٍ. بالنسبة إلى شخص عمل في الماضي وزيرًا، يجب القول إن الظروف الحالية في غاية الانحطاط. أثناء الاختلاط بالزبائن ليلًا، كانت كازو لا تفكر إلا في هذا الأمر، وبحثَتْ عن طريقة لمعرفة ذلك الرقم بالتحديد.
وعندما اقتربت صدفة من مَقاعد جَمْع من موظَّفِي الدولة ولأن الجميع كانوا يتحدثون عن فترة التقاعد، سألتْ كازو السؤال التالي بدون أن تلفت الانتباه:
«لو قمتم أنتم في حكومة الدولة بِتولِّي إدارة المطاعم فعلى الأغلب أن عجوزًا مثلي ستتقاعد على الفور. ولكن بدلًا من هذا العمل الشاق، يا لها من حياة رائعة أن أحصل على مُرتَّب تقاعد وأعيش في لعب وَلَهْو. لو كنتُ أنا كم تعطونني مُرتَّب تقاعد؟»
– «مالكة مطعم بدرجة وزير؛ ولذا على الأرجح يكون مرتب التعاقد ثلاثين ألفًا شهريًّا.»
– «حقًّا! هل تعطونني كل هذا؟»
أجابت كازو تلك الإجابة الصارخة وأضحكَت الجميع.
وفي تلك الليلة عندما هجعَت في غرفتها الصغيرة، تَخيَّلت كازو العديد من الأمور في رأسها الذي لم يستطع النوم. كانت غرفة كازو غرفة متواضعة كئيبة لا يمكن أن يتخيلها زبائنها مقارنة بستسوغوان. وُضع بجوار وسادتها هاتف منزلي، وتتراكم حوله بعشوائية المجلات التي انتهت كازو من قراءتها. ولا تضع أية قطع فنية من أي نوع، وفي ركن الزينة وضعت عددًا من الأدراج الصغيرة الحجم. وتحس كازو عندما ترقد فوق الفراش المعد لها في تلك الغرفة أنها عادت أخيرًا إلى جسدها.
لقد عرفت أن دَخْل ذلك الرجل الشهري ثلاثون ألف ين. وإن كان الأمر كذلك فتكلفة دعوتها على غداء اليوم ليست هينة، ولكن لتلك الدرجة بقي الجميل في أعماق قلبها؛ ولأنها حصلت على معلومات محددة، حصل خيال كازو على أجنحة لأول مرة. مَرتبَة الرجل الاجتماعية السابقة، وفقره الحالي، ثم سلوكه العنيد، … تبدو تلك المعلومات نوعًا من الرومانسية في عالم لا تتعامل فيه إلا مع زبائن من نجوم العصر الزاهرة.
أُجِّل خبر في ركن من الجريدة التي فتحتها لقراءتها قبل القيام بالنزهة الصباحية اليومية المعتادة من عادتها تلك. كان الخبر هو موت تاماكي، لقد لفظ تاماكي أنفاسه الأخيرة في المستشفى في الساعة العاشرة ليلة أمس. وكُتِب أن الجنازة ستقام في الساعة الواحدة من بعد ظهر بعد غد في معبد تسوكيجي هونغانجي. أخرجت كازو ملابس الحِداد بِنيَّة الذهاب للتعزية على الفور، ولكنها أَحجمَت عن ذلك عندما فكَّرَت في سلوك زوجة تاماكي تلك الليلة. وكان استمرارها في الصبر والتحمل لمدة يومين منذ ذلك الوقت، يُشعل النار في قلب تلك المرأة المتَّقِدة المشاعر.
كان يجب على نوغوتشي أن يخبر كازو بموت تاماكي بغض النظر عن إعلان الخبر في الجرائد من عدمه. فهذا الاتصال الهاتفي منه يُعتَبر معيارًا لمشاعر الحب، أو على الأقل الصداقة التي يحملها تجاهها. ولكن مع ذلك لم يَأتِها منه أي اتصال. كلما تردَّد صدى دقات الهاتف في أنحاء المكان، تَرتعِد كازو وكأنها فتاة مراهِقة، وتبدو كأن أنفاسها تنقطع. فلقد كانت تخشى إن كان ذلك الاتصال من نوغوتشي، ألا تقدِر على إخفاء المرح من صوتها عندما يخبرها الرجل الحزين بموت صديقه الحميم.
لم يسبق لكازو أن انتظرَت مأتم عزاء شخص بمثل هذا الشوق. وفكَّرَت في الذهاب إلى الكوافير في اليوم السابق ولكنها قررت أن تؤجل ذلك إلى صباح اليوم نفسه. في النزهة الصباحية لليوم السابق ليوم الجنازة، جعلت عيون عمال الحديقة تَبْرُق من الدهشة. فقد دارت دورة كاملة تَتنزَّه في الحديقة بدون تحية الصباح وبلا توبيخ ورأسها متدلٍّ لأسفل، بل بدت هيئة المالكة وكأنها قد جُنَّت وهي تدور دورة أخرى حول الحديقة وهو الأمر الذي لم تفعله من قبل. قال البستاني العجوز الذي يعمل في المكان منذ عهد المالك السابق: إن هذه الهيئة تشبه هيئة جِنِّيَّة الجبال وهي تدور حول الجبال.
لم يأتِ اتصال من نوغوتشي حتى مع مجيء اليوم السابق للجنازة؛ ولذا تَذوَّقت كازو نوعًا من أنواع الإحساس بالهزيمة. ولكن حتى تَذوُّق إحساس الهزيمة ذلك أشعل مشاعرها؛ فهي لم تفكِّر مثلًا في أن الرجل تَولَّى مسئولية رئيس لجنة تنفيذ جنازة صديقه الحميم وليس لديه وقت فراغ لكي يَتَّصل بأحد. لا تنظر مُطلَقًا إلى مثل هذه التخمينات التي تجعلها تطمئِن. بل هي فقط تشتعل غضبًا لإحساسها أنها أُهملَت.
وجعل شعور الانتقام من كل من نوغوتشي والسيدة تاماكي كازو تجهِّز من الليلة السابقة مبلغَ التعزية بقيمة مائة ألف ين. وهي تُفكِّر أن المبلغ أكثر من ثلاثة أضعاف مُرتَّب تقاعد هؤلاء القوم. ومع أنه شخص ليس بينها وبينه معروف أو جميل، أَحسَّت كازو أنه ما من شيء يُعبِّر عن مشاعرها سوى مبلغ التعزية الضخم هذا.
كان طقس يوم الجنازة نفسه مشمسًا رائعًا ودافئًا بما يليق ببداية الشتاء وكانت الرياح خفيفة. وامتنعت كازو عن النزهة الصباحية، واستغرق ارتداء كيمونو الحِداد وقتًا طويلًا، وجَعلَت سائقها يَتَّجِه بها إلى الكوافير في غينزا.
كانت ترى الشباب يسيرون في طُرُقات المدينة من خلال زجاج النافذة التي تتسلط عليها أشعة الشمس. أَبعدَت كازو عينيها عن ملابس الحداد التي ارتدتها على عَلَّاقة الصدر ووجَّهَت عينها بحماس معروف السبب إلى هؤلاء الشباب. كانوا وكأنهم يسيرون بأجساد شفَّافة. رأت كازو بوضوح مشاعرهم وطموحاتهم وألاعيبهم الصغيرة ودموعهم وضحكاتهم.
مَرَّ طالبان وطالبَتَان معًا يحرِّكون أياديهم بمبالغة شديدة لا تتناسب مع طبيعة اليابانيين، ويضع طالِب منهم يرتدي الزِّيَّ الموحَّد مع قبعة موحدة يدَه على كتف طالبة منهما وظل بهذه الحالة على الدوام. كانت الطالبة ترتدي معطفًا نِصفِيًّا مُزغبًا بلون وردي. ولا تلتفت إلى يد الطالب الموضوعة على كتفها، بل تضيق من عينيها في ذلك اليوم المشمس الذي يُبشِّر ببداية الربيع، وتنظر شاردة إلى الطريق التي يسير فيها مترو البلدية.
في تلك اللحظة تَحوَّلت إشارة المرور إلى اللون الأخضر، وفي اللحظة التي أسرعت فيها السيارات بالتحرُّك رأت كازو شيئًا غريبًا، الفتاة التي بالمِعْطَف النِّصْفِي ذي اللون الوردي، خَطفَت فجأة قبعة الزِّيِّ الموحَّد للطالب، وألقَتْ بها في عرض الطريق. نظرت كازو بحركة لا إرادية إلى ذلك المشهد من زجاج السيارة الخلفي، وكانت تلك اللحظة التي دَهسَت فيها السيارات القادِمة تلك القُبَّعة، ورأت الطالب على الجانب الآخر من الطريق وهو يَركُل الأرض غضبًا.
وكان السائق كذلك يرى تلك الحادثة بعين جانبية.
قال السائق وهو ينظر إلى الخلف وعلى وجهه ابتسامة مريرة ورزينة:
«تبًّا! تبًّا لفتيات اليوم! لا أفهم ماذا يَفعَلْن؟ تُرى لِمَ فَعلَت ما فَعلَت؟ تبًّا لها.»
أجابت كازو بملابس الحداد:
«مجرد مزاح ثقيل.»
ولكن كان قَلبُها يخفق على غير المتوقَّع، وأُعجبت بفعل تلك الفتاة الطائش التي خطفت قبعة الفتى وجعلت السيارة تدهسها. كان ذلك فعلًا بلا أي معنى على الإطلاق. ولكنها تأثَّرت تأثُّرًا غريبًا من ذلك الفعل، لدرجة أنها رأت للحظة شعر الطالب المشعث بعد أن نُزِعَ من القبعة.
تركت تلك الحكاية ظلالها في قَلْب كازو لفترة طويلة أثناء وجودها في الكوافير حيث حَجَزت وقتًا طويلًا لكي يصفف لها شعرها بعناية بالغة. كان من عادتها الدائمة في الكوافير أن تكون مَرِحة كثيرة الحديث، ولكنها كانت في ذلك اليوم تميل إلى الصمت. وكان وجهها المنعكس في المرآة جميلًا غنيًّا، ولكن المجامَلَة التي تقولها مُصفِّفَة الشعر دائمًا لها كانت كذبًا. فلم يَكُن ذلك الوجه شابًّا بأية معايير.
كانت جنازة معبد تسوكيجي هونغانجي فخمة جدًّا. استمر طابور المعزِّين بمحاذاة باقات الورود الدائرية العملاقة. انضمَّت كازو إلى ذلك الطابور بعد أن سلَّمَت المائة ألف ين مبلغ التعزية لمكتب الاستقبال؛ ولأنها رأت وجوه عدد من زبائن ستسوغوان، ألْقَت عليهم كازو التحية بأدب بالغ. كانت رائحة دخان البخور الذي يتدفق داخل أشعة شمس بدايات الشتاء، مُنعِشة، وكان أغلب المعزِّين عجائز، ويُصْدِر عجوز أمام كازو مباشرة صوت احتكاك طقم أسنانه عند انطباق فَكَّيه بعضهما على بعض بلا انقطاع.
مع تقدم الطابور للأمام، وعندما تُفكِّر كازو في اقتراب لحظة لقائها مع نوغوتشي، يضطرب قلبها، ولا تستطيع التفكير في أي شيء. أخيرًا استطاعت كازو رؤية زوجة تاماكي. كانت عيناها بها شراسة أكثر منها حزنًا، ونظراتها التي تنظر بها أثناء رَفْع وجهها بعد الإيماء المؤدَّب الطويل وكأنها تعود إلى نقطة محددة في الهواء مجذوبة بخيط.
أخيرًا ظهر نوغوتشي. يرتدي بذلة سموكن صارمة الضيق، ويلف حول ذراعه قماش شاش أسود، يرفع فَكَّه لأعلى قليلًا، ووجهه بلا أي تعبير مُطلَقًا.
بعد أن انتهت كازو من طقس حَرْق البخور، نظرت كازو مباشرة إلى نوغوتشي من قريب. ولم تجفل عينا نوغوتشي ولو قليلًا، بل نظر إلى كازو بنفس الوجه بلا أي تعبير، ثم خفض رأسه لها في احترام.
•••
لا يمكن القول عن لحظة طقس حرق البخور تلك خارج توقُّعاتها تمامًا. بعد أن تَتبَّعَت السبب غير المنطقي؛ لأنه في اللحظة التي تلاقَت عَيْنَا كازو مع عَيْنَي نوغوتشي اللتين بلا تعبير هاتين، شعرت كازو أنها وَقَعَت في حب نوغوتشي.
بعد عودتها مباشرة إلى ستسوغوان، كَتبَت كازو الخطاب الطويل التالي على ورق الخطابات المطوي.
«تحية طيبة،
بعد رؤيتي لكَ اليوم في خير، وإن كانت نظرة واحدة، شعرت بمشاعر ملأَت فؤادي. لا يمكن لي نسيان دَعوتك لي على وجبة الغداء في تلك الظهيرة، والنزهة التي قَبْلَها وأتذكَّرُهما مِرارًا، فلم أتقبل مثل تلك الضيافة والكرم المسبِّب للسعادة من أحد في الفترة الماضية، وأنا عملي استضافة الناس، يجب عليَّ أن أقول إن استقبال كَرَم من الآخَرِين شيء يجلب السرور، فقط أريد إبلاغك أنني أشعر بالسرور من أجل رعايتك لي.
شيء واحد يدعو للأسف وهو أن خبر وفاة السيد تاماكي عَلِمتُ به من الصحف وأُصِبتُ بدهشة بالغة. وهو الأسف من أنك لم تَتصِل ولو باتصال هاتفي سريع. ولي كلمة لا بد أنك شعرت بها، يجب أن أقولها دون إخفاء، منذ ذلك الوقت وحتى اليوم، كنتُ في انتظار أن أسمع صوتك طوال ذلك اليوم، إن كنتَ أخبرتني بذلك الأمر، كان ذلك سيكون دليلًا على اهتمامِك بي، ولكن للأسف يظل الأسى مُتبقِّيًا من ذلك.
وسبب أنني أُكرِّر قولي المزعج هذا لك، حتى وإن كان بدون قصد أو نية، هو عبارة عن طيش واندفاع لفرط احترامي لك، أتمنى أن تَتخلَّص منه بإلقائه إن أردتَ، وأبلغك أن هدفي في الحياة هو أنني أتمنى أن ألتقي بك في أقرب فرصة ممكنة.»
في اليوم التالي، ذهبت كازو كواجب اجتماعي لها لمشاهدة حفل غنائي راقص، دَمعت عيناها عندما سمعت افتتاحية أغنية «ياسونا»:
«يا حُب أَيَا حب، يا حُب خُذني إلى السماء.»
وقرب ظهيرة اليوم التالي، جاء اتصال هاتفي من نوغوتشي. تحدث حديثًا عاديًّا، ولم يَتطرَّق مُطلَقًا إلى اللوم الذي وجَّهَته له في الخطاب.
كان صوته في الهاتف بلا مرح بل كانت كل كلمة مُفعَمة بالهيبة والجلال، واستمر في الحديث طويلًا وهو يَتوقَّف من حين لآخر. وتواعد الاثنان على اللقاء مجددًا.
وفي النهاية نفد صبر كازو فقالت بحقد وغل ضئيل:
«لماذا لم تخبرني بنفسك بالأمر؟»
سكت نوغوتشي على الجانب الآخر من الهاتف، ثم قال قولًا غامضًا اختلط فيه الضحك المحتوي على الارتباك الذي يُجرُّ شيئًا ما:
«في النهاية، ما من سبب لذلك. مجرد أنني استثقلت الأمر فقط.»
لم تستطع كازو مطلقًا فهم تلك الإجابة. «استثقل» كانت تلك الكلمة كلمة عجائز بوضوح تام.