مدينة بغداد
كانت عاصمة الإسلام في أيام الراشدين يثرب (المدينة) تبركًا بقبر النبي ﷺ، فجعلها بنو أمية في دمشق مقر أحزابهم من قبائل العرب. فلما أفضتِ الخلافة إلى بني العباس، وقد ساعدهم عليها مواليهم الفرس، جعلوا عاصمة ملكهم على حدود بلاد الفرس. وكانوا أولًا في الكوفة؛ إذ بايعهم أهلها، ثم انتقلوا إلى الأنبار على الفرات، وفيها توفي السفاح؛ أول الخلفاء العباسيين، وخلَفه المنصور. وأول شيء قام به قتْلُ أبي مسلم خوفًا منه على منصبه. فقتَله غيلة كما تقدم في رواية «أبي مسلم الخراساني»، فأصبح المنصور بعد قتْله يخشى على نفسه من أصحاب أبي مسلم وأشياعه، وخاصة بعد أن ثار عليه منهم جماعة الراوندية، وكادوا يفتكون به لو لم يدافع عنه معن بن زائدة. وقد فتك رجال المنصور بالراوندية وقتلوهم، لكنه ظل خائفًا من مثل هذه الثورة، فعمد إلى بناء حصن يأوي إليه بأهله ورجال حكومته، فبنى بغداد بشكل مستدير سُمِّي مدينة المنصور، وجعل قصره في منتصفها وسمَّاه قصر الذهب، وجعل قصور الأمراء ورجال الدولة وأبنية مصالح الدولة حوله، وبينها الأسواق للبيع والشراء، وبنى حول المدينة سورًا في ثلاثة أسوار الواحد داخل الآخر: الأول أو الداخلي يحيط بالأبنية، ووراءه فراغ فيه أبنية كالقلاع ونحوها، ووراء الأبنية سور ثانٍ متين وراءه فراغ للمرور حوله، ووراء هذا الفراغ سور ثالث، ووراء هذا السور خندق فيه الماء، وجعل للمدينة أربعة أبواب سمَّاها بأسماء المدن التي تتجه نحوها؛ وهي أبواب: البصرة، والكوفة، والشام، وخراسان، وافتتح فيها أربعة شوارع كبرى تمتد من الأبواب إلى مركز المدينة.
وكان المنصور يقيم أولًا في قصر الذهب في منتصف مدينته، ثم اطمأن باله وازدحمت المدينة، فشيد قصرًا خارج المدينة على شاطئ دجلة سمَّاه قصر الخلد. وظلَّ القصران مقر الخلفاء بعد المنصور إلى أيام الرشيد. وكان الرشيد يفضِّل الإقامة في قصر الخلد وأكثر إقامته فيه.
على أن مدينة المنصور لم تكن وحدها كافية لإقامة الجند ومن يلحق بهم من الباعة والأهل وغيرهم، ناهيك بمن تقاطر إلى تلك العاصمة من المسلمين وغير المسلمين، فابتنوا المنازل خارج المدينة، ورأى المنصور أن يقلل الازدحام، فرغب الناس في السكنى على البر الشرقي في مكان سمي الرصافة، وأنشأ فيه مسجدًا وقصرًا، فابتنى الناس حولهما المنازل. واتفق أن ابنه المهدي جاء بجيشه من خراسان فنزلوا في الرصافة؛ لأنها آخر طريقهم برًّا من خراسان، فأمرهم المنصور أن يبقوا هناك، وأقطعهم القطائع، فبنوا المنازل، وأصبحت الرصافة بلدًا كبيرًا. وكانت في بادئ الأمر معسكرًا يُعرف بمعسكر المهدي، ثم امتدت جنوبًا وشمالًا فتولدت أحياء المخرم والشماسية. وأقام الخلفاء الدور على ضفاف دجلة شرقًا وغربًا. يهمنا منها في هذا المقام قصر الخلد، وقصر زبيدة، وكلاهما على الضفة الغربية، وقصر جعفر البرمكي، ووراءه قصر الأمين على الضفة الشرقية.
ونشأت حول مدينة المنصور أحياء أخرى على الجانب الغربي، أهمها الكرخ، وفيه كان يقيم التجار من الأجانب وخاصة الفرس، وحي الحربية في الشمال، وأكثر سكانه من العرب، فكانت بغداد في أيام الرشيد قسمين: قسمًا شرقيًّا، وقسمًا غربيًّا، بينهما ثلاثة جسور أهمها الأوسط، ويعرف بالجسر أو جسر بغداد، وهو يوصل بين مدينة المنصور والرصافة رأسًا. وكان في بغداد على عهد الرشيد وما بعده أنهارٌ تنبع من دجلة والفرات وتخترق أحياء المدينة. وقد بنى الناس قصورهم على ضفافها أو فيما بينها، أشهرها: نهر عيسى، ونهر طابق، ونهر الدجاج، ونهر البزازين، ونهر الصراة، ونهر جعفر، وغيرها.
وكانت بغداد في أيام الرشيد آهلة بالقصور والحدائق، وأهلها في رغد ورخاء، والأموال تنصب في خزائنها بالملايين، والخليفة يهب ويجيز، والناس يتقاطرون إلى بغداد التماسًا للتكسب بما يرضي الخليفة أو رجاله من أسباب الارتزاق، وفيهم العربي، والفارسي، والرومي، والتركي، والكردي، والأرمني، والكرجي، والسندي، والهندي، والصيني، والزنجي، والحبشي … على اختلاف الأجناس، بين صانع، وتاجر، ونخَّاس، وشاعر، ومغنٍّ، وأديب، ونحوي، وراو … وفيهم المسلم، والذمي، والحر، والمولى، والعبد، والغلام، والجارية. وكلهم يحومون حول دار الخلافة أو دُور الأمراء يبيعونهم السلع، أو يتملَّقونهم بالمديح، أو يدسُّون إليهم أسباب الزُّلفى استنزافًا للأموال. وهؤلاء يبذلون الأموال بسخاء، يأنفون أن تعدَّ عطاياهم بمئات الدراهم، وإنما يعدونها بالألوف وألوف الألوف. وكيف يقدرون قيمة المال وهو ينصب في خزائنهم انصباب السيل … إذ كانوا يشاطرون أهل الأرض غلَّاتهم فضلًا عن الجزية والغنيمة، فإذا صار ذلك إلى الخليفة وأمرائه استكثروه فأنفقوه على مَن يحوم حولهم من المقربين.