طارق
نام أبو العتاهية، ولكنه لم ينم كثيرًا حتى سمع جلبة في ذلك الزقاق يتخللها قرقعة اللُّجم وصهيل الخيل، فذعر ووثب من فراشه إلى النافذة ففتحها بخفة، فرأى الصباح قد لاح، فأطل فرأى عدة رجال على أفراس جياد، عرف من سروجها وما عليها من أكسية الديباج أنها من إصطبل الأمين، فخفق قلبه وتفرَّس في الراكبين فرأى بينهم الفضل بن الربيع وحوله جماعة من حاشية الأمين عرف أكثرهم، ورأى في ركابهم جماعة من الخدم، وسمع الفضل يقول: «أظن أن القوم لا يزالون نيامًا؟»
فأجابه أحد الفرسان: «لا بأس من إيقاظهم؛ فإن المعلم فنحاس لا يهمه إلا كسب المال ولا يبالي بالنوم.»
فقهقه الفضل ثم قال: «إلا إذا ظن أننا قادمون لمصادرة ممتلكاته أو لأمر يذهب بحياته.»
فقال الفارس: «لا خوف من المصادرة في ظل أمير المؤمنين، والذهب يتدفق من بيت ماله، ولا خوف من نكبته وأهل الدولة في حاجة إلى جواريه وغلمانه حتى أمير المؤمنين.»
وفي أثناء ذلك تقدَّم أحد الخدم وقرع الباب، وأخذ الفرسان في التحول عن الخيول، وأول من نزل الفضل. وكان طويل القامة، رقيق العضل، خفيف شعر اللحية، أسمر اللون، يخالطه صفرة، ولا يزال في عنفوان الشباب، وقد غلب عليه المزاج الصفراوي — على اصطلاحهم — فساعده على كتمان عواطفه والظهور بما يريده من التظاهر بالصداقة لأعدائه، والسعي في الوشاية لهم. وأهل هذا المزاج من أقدر الناس على الكظم، والتظاهر بما يشاءون من الأحوال، وكتمان ما تكنُّه ضمائرهم؛ فهم لذلك يصبرون على الضيم ريثما ينتهزون الفرص لتحقيق مآربهم، فلا يخرجهم الغضب عن طور العقل كما يفعل بأهل المزاج العصبي أو الدموي، الذين إذا غضبوا ظهرت أمارات الغضب في عيونهم وجباههم؛ ولذلك ندرت فيهم رباطة الجأش والصبر على المكاره.
فلما تحقق أبو العتاهية من مجيء الفضل قال في نفسه: «لا بد من أمر بعث على تعجله في المجيء، ولا بد أن يكون الأمين قد حمله على ذلك؛ تشوقًا لما وعد به نفسه من أمر أولئك الجواري؛ لاهتمامه بأسباب القصف والترف، ورغبته في الغناء.» وخشي أبو العتاهية أن يحول مجيء الفضل في تلك الساعة دون ما يتوقعه من الكسب وهو لم يقابل فنحاس بعدُ، فتحول عن النافذة وهو يطلب غرفة فنحاس، فرأى أهل الدار في هرج يتقدمهم حيان وقد أسرع إلى الدهليز لاستقبال القادمين. وكان البواب قد أنبأه بمجيئهم فلم ينتبه لأبي العتاهية. أما هذا فظل سائرًا إلى غرفة المعلم فنحاس، وكان بابها مقفلًا، فدقَّه وهو يناديه قائلًا: «لعل المعلم فنحاس لا يزال نائمًا؟»
فلم تمض لحظة حتى سمع وقع خطواته داخل الغرفة، ثم فتح الباب وأطل منه المعلم فنحاس وهو لا يزال بملابس النوم، ليس عليه سوى السراويل والدراعة فوق القميص، وفي عينيه رمص من ضعفهما وطول النوم، وقد تشعث شعر رأسه وانتفش، واختل نظام سالفيه ولحيته. وكانت لحيته شمطاء يخالطها شيب قليل مع ميل إلى الطول والاسترسال، وهي منقسمة إلى شطرين، وأنفه كبير مستدق قد ذهب طوله بإحديدابه. وكان لدهشته في تلك الساعة قد نهض وقميصه مفتوح من أعلاه، فظهر أسفل عنقه وأعلى صدره وفيهما تجعد يتخلله شعر أجعد لو رأيته في تلك الحالة لحسبته من المتشردين.
أقبل المعلم فنحاس وهو يفرك عينيه ويمسح الرمص عنهما ببطن كفه، وحالما وقع نظره على أبي العتاهية عرفه فصاح فيه: «ما وراءك يا أبا العتاهية؟»
فدخل أبو العتاهية وأغلق الباب وراءه وهو يقول: «لقد جئتُك مساء أمس بمهمة وكنتَ نائمًا؛ فانتظرتك إلى هذه الساعة، ولما استبطأتُك جئت لإيقاظك، فأرجو ألا أكون قد أزعجتك.»
فقال فنحاس وهو يصلح لحيته وشاربيه ويقفل قميصه: «ليس ثمة إزعاج. قل: ما الخبر؟!»
قال: «لا تخف؛ فإن المسألة رابحة. قد حرضت مولانا وليَّ العهد على اقتناء بعض الجواري، وألا يبتاعهن إلا من عندك، وأنت تعلم نفوذ الشعراء عند الخلفاء وأهل الدولة، فأطاعني، فجئتُ لأخبرك بذلك على ألا تضيع تعبي.»
فقطع فنحاس كلامه قائلًا: «فهمت المطلوب. كن مرتاحًا؛ فمتى أتى رسوله بهذا الشأن أضفت نصيبك إلى هذا الثمن. بارك الله فيك. أليس هذا الذي تريده؟ إنك رجل غيور على مصلحتي، وإذا شئت جعلت نصيبك من الصفقة جارية جميلة.»
قال: «لا حاجة بي إلى الجواري كما تعلم.»
فضحك وهو يفتش عن قبائه وجبته وقال: «حسنًا. إني أفهم بالإشارة، فافهم أنت. ولن يتم الشرط إلا بعد وقوع البيع.»
قال: «البيع يتم في هذه الساعة؛ لأن الأمين أرسل الفضل بن الربيع، وقد وصل إلى دارك، وأظنهم أدخلوه إلى دار الرقيق الآن. واحذرْ أن تُطلع أحدًا على ما دار بيننا.»
فوضع فنحاس يده على فم أبي العتاهية وقال: «لله ما أكثر سذاجتك! كنت أظن أنك أذكى من ذلك.» ثم عاد إلى تسريح شعره وإصلاح شأنه، فمشط لحيته، وفتل شاربه، وشدَّ على خصره منطقة فوق القباء، ولبس الجبة وخرج وأبو العتاهية في أثره، وإذا بحيان يسرع نحوهما، فلما وقع نظره على أبي العتاهية أجفل وتذكر وصية عتبة، فأراد أن يوقف مولاه ليخبره بالقادمين، ويبلغه تلك الوصية، فابتدره فنحاس قائلًا: «فهمت مرادك. ها أنا ذاهب إليهم. أين هم؟» وهو يحسبه قادمًا ليخبره عن الفضل فقط، فبغت حيان ولم يجرؤ أن يخبره بغرضه، وخاصة بين يدي أبي العتاهية فسايره وقال: «قد جاء مولانا الفضل بن الربيع فأدخلناه دار الرقيق، وهو في انتظارك هناك.» وأجَّل الخبر الآخر إلى فرصة أخرى.
أما أبو العتاهية فإنه نظر إلى حيان وتبسم على جاري العادة وهو لا يعلم ما في ضميره، فحيَّاه حيان متأدبًا ومشى في أثره.