دار الرقيق
مشى المعلم فنحاس وهو يتعثر بأذيال جُبَّته حتى خرج من دهليز داره إلى باب بجانب الباب الكبير هو مدخل دار الرقيق، فأشرف منه على فناء واسع تحيط به غرف عديدة، ربما زاد عددها على ثلاثين غرفة. وكان الفناء مزدحمًا بالخدم من رجال الفضل وأنظارهم متجهة نحو تلك الغرف كأنهم يشاهدون فيها شيئًا غريبًا. وبجانب الباب من الداخل غرفة مفروشة بالطنافس، وفيها الوسائد مصفوفة بين الجدران وقد زخرفت تلك الجدران بالنقوش الملونة. وكان الفضل قد دخل هذه الغرفة مع بعض خاصته ولبث في انتظار المعلم فنحاس. أما هذا فحالما أقبل على الغرفة رأى الفضل في صدرها جالسًا وقد أسند كوعيه على ركبتيه، فهرع إليه مسرعًا وأكبَّ على يده ليُقبلها وهو يبتسم ويتأدب، فضحك له الفضل واجتذب يده منه وهو يقول: «أظننا أزعجناك بهذه الزيارة؟»
قال: «كلا، يا مولاي؛ فإن زيارتكم شرف كبير لنا.»
فأشار إليه بالجلوس وهو يقول: «إن مولانا وليَّ العهد رغب إلينا أن نأتيه ببعض الجواري الحسَّان ممن يُحسنَّ الغناء. وقد كان في الإمكان أن نبعث إليك ببعض خاصتنا في هذه المهمة، ولكننا أحببنا زيارتك لمشاهدة دار الرقيق والتفرُّج على ما حوته من أصناف الجواري والغلمان؛ فقد قيل لنا إنها تحوي من كل معنًى طرفًا.»
فقال وهو يتكمش ويتلملم تأدبًا: «لقد تحملتم المشقة بهذه الزيارة فأوليتموني شرفًا لا أستحقه، وكنتُم في غنًى عن ذلك بإشارة منكم، فننقل دار الرقيق بجملتها إلى ما بين يدي مولانا — حفظه الله — ولكن إقبال سعدنا حملكم على تكبُّد هذه المشقة. أما إذا شئتم أن تشاهدوا أصناف الرقيق التي في هذه الدار، فترون فيها ما لا يجتمع في سواها؛ لأني لم أدخر وسعًا في إحضار أحسن الرقيق: الأبيض، والأصفر، والأحمر، والأسود من الجواري والغلمان، على اختلاف القدود واللغات والأسنان؛ من المولد في العراق أو الحجاز، والمجلوب من أقاصي بلاد الترك، والروم، وطبرستان، وخراسان، والسند، والمغرب، وفيهم الصقلبي والصقلبيَّة، والرومي والروميَّة، والتركي والتركيَّة، والفارسي والفارسيَّة، والأرمني والأرمنيَّة، والسندي والسنديَّة، والبربري والبربريَّة …»
فقطع الفضل كلامه قائلًا: «هل عندك من الجواري المُغنِّيات؟»
قال: «كيف لا؟ وقد تعلمنَّ الغناء عند مغني مولانا أمير المؤمنين نفسه، وحفظن الأشعار المُطربة، وأتقنَّ الضرب على آلات الطرب، وفيهن العوَّادة، والطنبوريَّة، حتى صاحبة الدف والمزهر.»
فضحك الفضل وقال: «كأني بك تصف جواري أمير المؤمنين، ولكن أظن أن المغنيات اللواتي أشرت إليهن من الجواري الصفر والسود، ومولانا إنما يريد مغنيات من الجواري البيض.»
فقال: «كل ما يطلبه مولانا هو عندي.»
قال: «ولكن أهل بغداد لم يتعودوا تعليم الجواري البيض الغناء؛ فإنهم إنما يقتنونهن للتسلية كما لا يخفى عليك، ولم أعرف أحدًا علَّم الغناء للبيض إلا إبراهيم الموصلي؛ مغني أمير المؤمنين.»
قال: «ألم أقل لمولاي إنه يجد عندي كل ما يطلبه؟!»