ألوان من الرقيق
فتحفز الفضل للقيام، فنهض المعلم فنحاس ونهض سائر الحاشية، ومشى هو بين أيديهم حتى خرجوا من الغرفة إلى فناء الدار، فأسرع الخدم إلى الانزواء وفتحوا الطريق للفضل، فمشى والمعلم فنحاس يمشي بين يديه متأدبًا، وفي أثر الفضل رجال حاشيته، حتى إذا قطعوا الفناء وصلوا إلى الغرفة الأولى من جهة اليمين، وكان بابها مفتوحًا قليلًا، ففتحه فنحاس بيده، فرأى الفضل جماعة من الفتيات البيض صغيرات لا تتجاوز أكبرهن العاشرة من العمر، وكلهن عاريات لا يكسو أبدانهن إلا ما يستر العورة من الأطمار البالية، وخُشونة البادية ظاهرة عليهن؛ بإرسال شعورهن ساذجة لم يمسُّها المشط منذ خلقنَ، ولكنه رأى الجمال الطبيعي يتجلى في إشراق وجوههن بالبياض المُشرب بحمرة يدل على صحة البدن.
ناهيك بجمال العيون … وفيهن شقراء الشعر، زرقاء العينين، وسوداء الشعر والعينين، وما بين ذلك. أما هن فحالما فُتح الباب ورأين الفضل ورجاله نفرن نفور الظباء من الصيادين، وظهر الخوف على وجوههن، ولكن الحجرة أضيق من أن تتسع لفرارهن، فجعلن يتسترن بعضهن وراء بعض وعيونهن شاخصات، وبعضهن أخذن في البكاء، واستغثن بلغة لم يفهمها أحد من الوقوف، فدهش الفضل لذلك المشهد الغريب ونظر إلى فنحاس، فابتدره فنحاس قائلًا: «لا تعجب يا مولاي لما تراه في هؤلاء من الوحشة؛ فإن معظم اللواتي في قصور الخليفة وسائر الأمراء من الجواري الحسان والقيان والمطربات … كنَّ في بادئ الأمر مثل هؤلاء، وقد أتيت بكم إلى هذه الحجرة أولًا لأريكم حال الجواري عند أول حضورهن؛ لتعلموا كم نُقاسي في تربيتهن حتى تَنْبغَ منهن الجارية التي تباع بألف دينار، أو عشرة آلاف، أو عشرين ألفًا.»
فقال الفضل: «في الحقيقة إنه عمل شاق. هل كانت فريدة ومنة ودينار وأم الخال وغيرهن من الجواري الفاتنات في مثل هذه الخشونة؟»
قال فنحاس: «نعم. إن أكثرهن حضرن بهذه الصورة.»
قال الفضل: «ومن أين تأتي بهن؟»
قال فنحاس: «إن النخاسين يتجولون في بلاد الترك والصقالبة والروم، ويتحملون المشاق والأخطار حتى يأتوا بهن.»
قال الفضل: «وكيف يجدونهن هناك؟»
قال فنحاس: «يأخذون البعض بالغزو، والبعض الآخر بالشراء من والديهن، أو بعض أقاربهن، بثمن بخس، ويبيعونهن لنا بأغلى الأثمان.»
فقال الفضل: «أليس حرامًا أن يفصل هؤلاء عن آبائهن ويُحملن إلى ديار الغربة وهن صغيرات بهذه الصورة؟»
فضحك فنحاس وهو يحتشم في ضحكه وقال: «كلا، يا مولاي؛ فإن استرقاقهن من أكبر أسباب سعادتهن؛ لأنهن ينتقلن به من خشونة البداوة وشظف العيش إلى المدنية والترف، وقد يبلغن من رخاء العيش ما لا يبلغه بنات الأمراء، وخاصة من كانت منهن جميلة الوجه رخيمة الصوت. وليس كل واحدة منهن تبلغ إلى ذلك النعيم إلا اللواتي ينبغن ويبرعن، فهؤلاء نبيعهن بثمن غالٍ. فربما نبغت واحدة من كل خمسين أو ثمانين؛ فمن نبغت وكانت تتصف بالذكاء ولها صوت رخيم، علمناها الغناء وحفَّظناها الأشعار، ونعلِّم الباقيات بعض الصناعات المنزلية وغيرها على قدر الطاقة. وسترى فيما تمر به من الغرف أصنافًا من الجواري على اختلاف الطبقات.»
فاستغرب الفضل مما سمعه، وأظهر الاكتفاء من رؤية تلك الحجرة وحوَّل وجهه، فسبقه فنحاس إلى الغرفة التالية وفتحها، فرأى فيها فتيات سود البشرة، جعد الشعور، فطس الأنوف، فعرف الفضل أنهن من بنات الزنوج؛ وهن أقرب إلى القذارة والوحشية من أهل الحجرة الأولى، والسواد أقبح الألوان؛ يندر اجتماعه مع الجمال. ولاحظ فنحاس أن الفضل ميال إلى سرعة الانتقال من هناك، فمشى أمامه وهو يقول: «هؤلاء صغار الزنوج يحملهن إلينا النخاسون من أقاصي السودان. والغالب في أخذهن على سبيل السبي بلا ثمن، ونحن نبتاعهن بثمن بخس، وأكثرهن يتعلمن الخدمة الشاقة، ويغلب أن نجعلهن في خدمة الجواري البيض.»
وقبل أن يصلوا إلى الحجرة الثالثة قال فنحاس: «وفي هذه الحجرة بنات من البربر يحملهن النخَّاسون من بادية أفريقيا. وأكثر هذا الصنف من الجواري يُنقلن إلى بغداد بدلًا من الجزية كما لا يخفى على مولاي. وفي الغرفة التي تليها جوار صُفر من بلاد السِّند، وفي الغرفة التي بعدها جوار حُمر من بلاد الروم، وفي الغرف الأخرى طبقات من أولئك الجواري بين سَرَاريٍّ ومواشط وحواضن وطبَّاخات وخبَّازات ونحو ذلك من ضروب الخدمة. وفي بعض هذه الغرف طبقات من أصناف المماليك البيض والسود، وقد تدربوا على الصناعات المنزلية بين طاهٍ وخبَّاز وفرَّاش وسائس. وفيهم من أتقن الأدب وحفِظ الشعر والعربية، ومنهم المغنون والندماء والمضحكون وغيرهم بين بيض وسود على اختلاف الأعمار.»