الجواري المولدات
فرأى الفضل أن التنقل بين جميع هذه الغرف يطول أمره، فقال: «أرنا أمثلة من أغرب ما عندك ودعنا من هذا التفصيل؛ فإن الوقت لا يساعدنا على رؤية كل مَن في هذه الغرف.»
فقال: «هل تريد أن أُريك الغلمان الصغار من البيض والسود؛ فإنهم في مثل ما رأيته؟»
قال: «أجل. أرنا الجواري الصبيات.»
فتجاوز فنحاس عدة غرف حتى وصل إلى حجرة فتح بابها، فإذا فيها فتيات بيض بين الخامسة عشرة والعشرين من العمر، وهن مع ذلك في حال السذاجة، عليهن أكسية من الأثواب البسيطة، وشعورهن مرسلة أو مجدولة، وفي آذانهن الأقراط، وفي أعناقهن عقود من الخرز الملون، وفيهن جمال النساء وحياؤهن. ولما رأين الفضل ورجاله غلب عليهن الحياء وتولاهن الخوف، فوقع نظر الفضل على واحدة منهن، رأى في عينيها سحرًا وفي قامتها رشاقة، وقد زادتها السذاجة جمالًا وهيبة، فوقعت من نفسه موقعًا حسنًا، فناداها بالعربية فلم تفهم مراده، ولكنها أدركت أنه يناديها فنفرتْ واختبأت وراء جارتها، وحوَّلت وجهها وغطَّته بذراعها، فأعجبه ذلك النفور فقال: «أين أبو العتاهية أو أبو نواس يصف لنا هذا المنظر ببيت من الشعر؟!»
فتذكر فنحاس أبو العتاهية والتفت وهو يتوقع أن يراه إلى جانبه فلم يجده، وأوشك أن ينطق باسمه لو لم يتذكر نصيحته بتكتُّم أمره، فقال: «صدق مولاي بإعجابه، فإن هذه الجارية من طبرستان، اشتريتها في جملة جوارٍ من نوعها. وليس فيهن أجمل منها، ولكنك سترى ما هو أعجب من ذلك! فكيف لو رأيت الجواري المولدات من البصريات والكوفيات ذوات الألسن العذبة، والقدود المهفهفة، والأوساط المُخصَّرة، والأصداغ المُزَرفَنَة، والعيون المُكحَّلة، وحسن زيِّهن وزينتهن، وفيهن الطويلة البيضاء، والسمراء اللَّعْساء، والصفراء العجزاء، وبينهن مَن إذا صببتَ عليها جرة ماء وهي قائمة فلا يصيب ظاهر فخذيها شيء لعِظَم عجيزتها، مثلما يتحدثون عن عائشة بنت طلحة، التي كانت إذا همَّت بالنهوض يساعدها عليه اثنان.»
فضحك الفضل لمهارة فنحاس في وصف جمال النساء مع ما يظهر من شيخوخته وقال له: «أراك ماهرًا في وصف الحسان يا معلم فنحاس.»
فأجابه على الفور ويده على لحيته: «وأين قضيت هذه الشيبة يا مولاي؟»
فقال الفضل: «اذهب بنا إلى الجواري المولدات.»
فأشار إشارة الطاعة وتحوَّل إلى الجانب الآخر من الفناء، فتبعه الفضل ورجاله وفنحاس يقول: «يظهر أنكم تعبتم من الوقوف، فها أنا ذا ذاهبٌ بكم إلى الجواري المغنيات اللواتي حفظن الأشعار، وأتقن الضرب على العود وغيره من آلات الطرب.» حتى وصل بهم إلى غرفة فتح بابها ووسع للفضل مدخلها، فنظر الفضل فرأى الغرفة مفروشة بالبسط، وفيها الوسائد، وفي بعض جوانبها ثلاث من الجواري البيض جالسات وقد فاحت رائحة المسك منهن؛ على إحداهن ملحفة مُعَصْفَرة فوق غلالة حمراء، وعلى رأسها عصابة مزركشة. وقد أرختْ تحت العصابة سالفتين علَّقت في طرف كل سالفة ياقوتة حمراء، وأرخت شعرها كأنه الليل، وتبخَّرت بالعُود، وتعطَّرت بالمِسْك. وكانت مقدَّمةً على صاحبتيها لأنها أجملهن خِلْقة، على أن صاحبتيها كانتا في مثل مظهرها من حيث الملبس، ولكنها تفضلهما بجمالها ورشاقة قدِّها، وكانت عيناها سوداوين كأنهما مكحولتان، ولونها أبيض في صفاء البلُّور، وفي عنقها عقد من العقيق. وكانت جالسة بين رفيقتيها على وسادة، فلما فتح الباب ابتدرها فنحاس قائلًا: «قومي يا قرنفلة وقبِّلي يد مولانا الفضل بن الربيع.» وكانت تعرف هذا الاسم وعلاقته ببلاط الخليفة، فتحفزت للوقوف، وطال تحفُّزها لثقل فخذيها على حد قول الشاعر:
ثم نهضت ومشت وهي تتمايل وسراويلها تتثنى فوق قدميها، حتى إذا دنت من الفضل بن الربيع هشَّت له وابتسمت ابتسام التحية بلطف ورقة، وانحنت لتقبيل يده فمنعها والتفت إلى فنحاس لفتة الاستحسان، فقال فنحاس: «خاطبها يا مولاي؛ فإنها فصيحة اللسان.»
فحياها الفضل فأجابت بأفصح عبارة، فأدرك من لهجتها أنها بَصْريَّة، ولكنها تختلف عن أهل البصرة في لون الوجه وسائر الملامح، فنظر إلى فنحاس وقال له: «لعل هذه الجارية من أهل البصرة؟»
قال: «كلا، ولكنها ربِّيت في البصرة منذ طفولتها، وأصلها من بلاد الكرج، وقد ابتعتها صغيرة مثل الفتيات اللواتي شاهدتهن في الحجرة الأولى، فآنست فيها ذكاء وجمالًا فأرسلتها إلى عميل لي في البصرة علَّمها اللغة العربية والقرآن، وحفَّظها الأشعار، ولمَّا عادت إليَّ أعجبني منطقها ورخامة صوتها، ورأيت ما عَلِمتَه من رغبة رجال الدولة في الاقتداء بأمير المؤمنين بتعليم الجواري البيض الغناء، فرغبت إلى الموصلي؛ مغني الخليفة، في تعليمها، فلم يقبل إلا بعد أن بذلت له المال الكثير، وصرتُ أبعثها إليه كل صباح تأخذ عنه لحنًا بعد آخر حتى أتقنت هذه الصناعة، وأصبحت نادرة بين جواري بغداد؛ لا يوجد نظيرها ولا في بلاط الخليفة.»
وكان فنحاس يتكلم والفضل يتأمل جمال تلك الجارية، وكانت قد تشاغلت عن سماع إطناب فنحاس بإنزال عودٍ كان معلقًا على الحائط، فانحسر كمِّها عن يدها، فبانت غضاضة زندها وعليه الأساور والدمالج، وبان الخضاب في كفها. ورأى قرطيها يلمعان في أذنيها. فلما فرغ فنحاس من إطنابه قال له الفضل: «قلت إنها تحفظ الشعر وتجيد اللغة العربية.»
قال: «اسألها ما شئت واسمع حديثها، أو انظر إلى عصابتها واقرأْ ما زركشته عليها.»
فتقدم الفضل ونظر إلى العصابة، فرأى عليها بيتًا من الشعر بحروف من الذهب هو:
فأعجبه ذلك والتفت إلى فنحاس وهو يقول: «ما أجمل هذه العصائب! لله در مخترعتها!»
قال: «أظنك تعني مولاتنا عليَّة أخت الرشيد؛ فإنها ابتكرت للحسان — حقًّا — وسيلة فعَّالة من وسائل الجمال.»
قال الفضل: «هل تعلم السبب الذي من أجله اتخذت هذه العصائب؟»
قال: «كلا يا مولاي.»
فتحقق فنحاس من أن الفضل سيشتري هذه الجارية لا محالة، فأراد أن يرغِّبه في الأُخريينِ، فأشار إلى إحداهما إشارة فهمتْها فانزوتْ في أحد جوانب الغرفة، والتفتتْ إلى مرآةٍ معلقة بالحائط بحيث لا يظهر وجهها لأحد. وكان الفضل مشتغلًا عن ذلك بمراقبة الجارية الأولى وهي تتلهى بإصلاح العود، فلما علم فنحاس أن الجارية الثانية أتمَّتْ وصيته التفت إلى الفضل وقال: «وانظر إلى ما على وجه هذه. تقدمي يا سوسنة.» وأشار إليها، فأتت تتهادى بمشيتها وثوبها الأرجواني يتموج بلمعانه.
فتفرس الفضل في وجهها فرآها قد كتبت على خدها بالمسك: «الفضل بن الربيع.» فافتتن الفضل بذلك ورغب في هذه الجارية أيضًا.
فأدركت الثالثة رأيه وخشيت أن تبقى وحدها وهي تعد ذهابها مع الفضل نجاحًا كبيرًا لا تطمع في أحسن منه، فانزوت جانبًا وبيدها تفاحة عالجتها سرًّا، ثم عادت حتى أقبلت على الفضل وقدَّمت التفاحة له، فتناولها وإذا عليها بيت من الشعر مكتوب بالغالية؛ وهو:
فأدرك الفضل أنها تشير إلى ما يقوله ناظم هذا البيت «أبو دهبل الجمحي» بعده:
فكأنها تشير إلى رغبتها في الذهاب مع رفيقتيها، فاستحسن الفضل فطنتها، وعزم على ابتياع الجميع، وكان في عزمه سماع غنائهن قبل الشراء، ولكنه خشي التأخير — ولم يكن ميالًا للهو والقصف، وإنما طاوع الأمين لغرض له في سياسة الدولة — فعزم على المسير لوقته.