الصولجان والكرة
أما العريف ورجاله فإنهم عادوا إلى قصر العباسة. وكانت قد أرسلتهم للقبض على أبي العتاهية بمشورة عُتبة. وذلك أنهما لما رجعتا إلى القصر في أواخر الليل، كما تقدم، ظل خاطر عتبة مشغولًا بما علمتْه من أمر أبي العتاهية، وقد رجَّح في ذهنها اطِّلاعه على سر مولاتها، فلما وصلتا إلى القصر دخلت العباسة إلى غرفتها تلتمس النوم، واستولى القلق على عتبة فلم تتمالك عن الدخول عليها باكرًا، والتصريح لها بما لاحظته، وأشارت بالقبض على أبي العتاهية سريعًا لئلا يبوح بالسر، فأعظمت العباسة الخبر وخشيت منه، ولم ترَ حيلة للنجاة إلا بالقبض عليه وإخفاء خبره ريثما تتدبر في أمرها، فطلبتْ من عتبة أن ترسل شرذمة من الجند ممن كانوا في خدمة قصرها ليقبضوا عليه بأمر الخليفة، فذهبت عتبة معهم، حتى إذا وصلوا إلى دار فنحاس كان الفضل قد سبقهم إليها ودخل دار الرقيق، كما تقدم. وكان أبو العتاهية عازمًا على الخروج خلسة بحيث لا يشعر به الفضل ولا يعرف بوجوده هناك، مخافة أن يَلحَظ تواطُؤَه مع فنحاس، ولم يخطر بباله أنه مطلوب. وشعر حيَّان بذلك وأخذ يشاغله بالحديث ونحوه ريثما يعود سيده من دار الرقيق ليُطلعه على وصية عتبة، فلما أحسَّ أبو العتاهية بقرب خروج الفضل أسرع في الذهاب. وكان العريف قد جاء بجنده، فأشار حيَّان إليهم أن يقبضوا عليه، فهمُّوا به. ورأى أبو العتاهية عتبة فأدرك غرضهم، فأخذ يطاولهم حتى جاء الفضل فوجدهم على تلك الحال فأنقذه منهم.
فعاد العريف إلى العباسة. وكانت عتبة قد سبقته إلى هناك، وأخبرت مولاتها بتعرُّض الفضل لهم. فلما عاد العريف وأنبأها بما كان من نجاة أبي العتاهية على تلك الصورة عظم الأمر عليها، وتحققت أن سرها لا يلبث أن يصل إلى الفضل، فأخذت تندب حظها، وخلت بعتبة وشاورتها في الأمر، فقالت لها: «لم تبق لنا حيلة يا مولاتي إلا بالاستنجاد بمولاي الوزير.»
قالت العباسة: «وكيف نبلغه الخبر وهو اليوم مع أخي في الميدان يلعبان بالكرة والصولجان؟» وكان ذلك اليوم موعد تلك الألعاب على جاري العادة في الميدان بقرب قصر الخلد.
قالت عتبة: «لا بد من ذلك، وإذا شئت فإني أتولَّى نقل الخبر إليه.»
فأثنت عليها وقالت: «تدبري في الأمر كما تشائين؛ فإني لا أعي شيئًا.»
قالت عتبة: «هل أدعوه إليك إلى هنا؟»
قالت العباسة: «افعلي ما ترين؛ لأني أخشى افتضاح أمرنا قبل تدبير الحيلة للنجاة.»
قالت عتبة: «لك عليَّ ذلك بإذن الله» وهمَّت بالخروج فنادتها العباسة وقالت: «خذي إليه هذه البطاقة.» وكتبت إليه بطاقة قالت فيها: «أدْركِني في أول فرصة تتاح لك؛ لإنقاذنا من مخالب الأعداء.» ودفعت البطاقة إليها، فأخفتها بين ثيابها وخرجت للحال إلى غرفتها، وتزيَّت بزي رسول قادم من خراسان، وتلثمت بلثام السفر، وركبت فرسًا وأسرعت نحو الميدان، وكان قصر العباسة على مقربة منه.
فوصلت إلى الميدان وقد مالت الشمس عن خط الهاجرة، فرأت تلك الساحة غاصَّة برجال الدولة على خيولهم في ساحة كبيرة قد أحاطوها بسور من حبال مزدوجة منصوبة على أعمدة، وقام الجند حول السور بالأسلحة يمنعون الناس من الدخول، فوقفت بجوادها بحيث تشرف على اللاعبين حتى تتحقق من موقف جعفر، ثم تسعى في الوصول إليه، فرأت في أحد جوانب الساحة فسطاطًا كبيرًا خرج منه الرشيد على فرسه، وقد اعتمَّ بعمامة خفيفة خاصة باللعب، وبيده صولجان هو عبارة عن عصًا طويلة طرفها أعقف، ورجال الدولة على أفراسهم متأهبين للعب، وفي أيديهم الصوالجة وقد اصطفوا صفين: أحدهما مع الرشيد، ورأت الرشيد يجول على فرسه والعصا مشهرة بيده، ثم لقف بها الكرة من على الأرض وأرسلها في الهواء، فتسابق اللاعبون لملاقاتها بصوالجهم.
وأخذوا يستحثون أفراسهم وراءها، وفي جملتهم جعفر الوزير على فرس أدهم، وعليه دراعة تمنطق فوقها بمنطقة عريضة من الخز، وعلى رأسه طاقية فوقها عمامة خفيفة. ولاحظت أنه لم يكن أحد غيره يجرؤ على الدنو من الخليفة. وأما سائر اللاعبين من رجال الدولة فكانوا يجولون في الميدان مسايرة للخليفة، ولا يجرءون على سباقه خشية أن يغلبه أحد منهم — والمجاملة تقضي بأن يكون هو الغالب — إلا جعفر؛ فقد كان يسابق الرشيد في الكرة ويلاعبه بها، والرشيد يجامله، فإذا أخطأ ضحك وصاح بجعفر ومازحه، وجعفر يتعاجز عن غلبته.
وكان جعفر قد قضى ليلته الماضية في قلق على أثر مشاهدته ولديه؛ إذ جاء بهما إليه رياش قبل ذهابه إلى دار فنحاس، فقبَّلهما جعفر واستنشق ريحهما ولاعبهما مدة، فثارت عواطفه وأصابه ما أصاب أمهما تلك الليلة من يقظة الحنان الأبوي على ولدين كأنهما الفرقدان، مع ما ذكرناه من جمالهما ولطفهما. وقد قضت إرادة الخليفة بإبعادهما عن حجر والديهما؛ خوفًا من الموت، فبات جعفر تلك الليلة وهو يتصور العباسة معانقة ولديها، مع ما قد يجيش بين جنبيها من عوامل الحنان يخالطها خوف الفراق، ناهيك بما يعترض ذلك من الهواجس والمخاوف، فعظم عليه الأمر وهجره النوم. وقد كان على موعد للذهاب إلى الميدان لملاعبة الرشيد بالكرة والصولجان في صباح الغد، فجاء بموكبه وحاشيته وهو يظهر الارتياح؛ لعلمه بما يحدق به من الحساد والوشاة، على أنه كان مطمئن الخاطر من ناحية الرشيد، واثقًا بحسن ظنِّه به، لا يخاف حسد الحاسدين، ولا وشاية الواشين.
على أن جعفرًا لم يكن يعدُّ زواجه بالعباسة إلا شرعيًّا، وإنما عمد إلى التستر خوفًا من غضب الرشيد، ولم يخطر بباله انكشاف ذلك السر لأحد، وكأنَّ إقبال الزمان غرَّه فأعمى بصيرته عمَّن يحيط به من الحاسدين. ولعل له عذرًا في غروره بما كان يحسُّه من تزلفهم إليه، وتظاهرهم باحترامه ورعاية جانبه. ولا نظن أنه كان غافلًا إلى هذا الحد، ولكنه سكر بما ظهر له من حب الرشيد له وإجلال مقامه، وما كان يُبديه من إكرامه والرجوع إليه في معظم شئونه.