قصر العباسة
أما عتبة فجعلت تتفرس في اللاعبين حتى عرفت مكان جعفر وهو بعيد عنها، ودون الوصول إليه رجال وحبال، فوقفت وهي تعمل فكرتها في طريقة لإيصال البطاقة إليه بغير أن يشعر بها أحد، فوقع بصرها وهي في تلك الحيرة على رجل من غلمان جعفر — كان يأتي إلى قصر العباسة لبعض المهام الخاصة، ولها ثقة به — فاستغفلت رفاقه وأشارت إليه، فجاء نحوها على انفراد فنادته: «حمدان.» وكان حمدان هذا من أقدم غلمان جعفر؛ نشأ في منزل أبيه يحيى منذ طفولته، وقد ربِّي جعفر على ذراعيه، وكان يحبه حبًّا يقرب من العبادة، وقد بلغ الخمسين من عمره وهو لا يزال نشيطًا، وكان فارسي الأصل، خراساني الموطن، وكان مفضلًا عند جعفر، يدخل عليه متى شاء ويعامله معاملة الأقرباء … فلما سمع حمدان عتبة تناديه باسمه عرفها، وأدرك أنها متنكرة لغرض هام، فقال لها: «ما وراءك؟»
قالت: «جئت برسالة إلى الوزير، فكيف أوصلها إليه؟»
قال: «إنهم لا يلبثون أن يفرغوا من اللعب ويعود الوزير إلى فسطاطه للراحة، فيسهل الاتصال به. أعطني الرسالة فأوصلها إليه.»
فسرَّت عتبة لذلك، ودفعت إليه البطاقة فأخفاها في ثيابه وقال لها: «اذهبي واطمئني؛ فإني سأسلمها له حالًا.»
فعادت عتبة إلى سيدتها فرأتها في انتظارها وقد فرغ صبرها، فقصت عليها ما كان، وجلستا على مثل الجمر تنتظران مجيء جعفر.
وكان قصر العباسة على ضفاف دجلة بالقرب من قصر زبيدة «دار القرار»؛ بينه وبين قصر الخلد «دار الرشيد». وكان لقصر العباسة شرفة مُطلة على دجلة، وأخرى تطل على طريق يؤدي إلى الميدان، وهو الطريق الذي عادت منه عتبة، فجلست العباسة في هذه الشرفة وأطلت من وراء حجاب فلم تر في الطريق أحدًا، وطال انتظارها وعيناها شاخصتان نحو الأفق، وبعد حينٍ رأت شبحًا ظنَّته وزير أخيها أو حبيبها وزوجها ومحط آمالها، حتى إذا مالت الشمس إلى المغيب واستطالت أظلال المآذن على سطوح قصور بغداد، وعلت أصوات المؤذنين؛ انزعجت العباسة لصوت الآذان على غير المعتاد؛ لأنها كانت تستأنس به وتطرب لسماعه. أما الآن فقد أزعجها؛ لأنه أنبأها بانقضاء النهار وحيلولة الظلام بينها وبين الأفق. وكانت عتبة واقفة إلى جانبها لا تقل عنها قلقًا، فلما سمعت أصوات المؤذنين لاحظت تذمر مولاتها، فابتدرتها قائلة: «أظنه قد تعمد أن يتأخر حتى يسود الظلام.»
قالت: «ولماذا؟»
قالت: «حتى يأتيك خلسة فلا يشعر به أمير المؤمنين أو غيره.»
قالت: «ومتى كان أخي يرقب ذهابه ومجيئه، وهو غير مُتَّهم عنده، ومفاتيح القصور في يد أبيه، ولكنني أخشى أن يكون لتأخُّره سبب مزعج، وقد أصبحت بعد اطِّلاع ذلك الشاعر بائع الجرار على سرِّنا أعدُّ حياتي في خطر.» قالت ذلك وغصَّت بريقها.
فقالت عتبة: «لا يزعجك هذا الوهم يا مولاتي؛ فإنني لست على يقين من اطِّلاع أبي العتاهية على سرِّنا، وإنما اتهمته فأحببتُ أن يُقبض عليه من باب الاحتياط، وهَبِي أنه اطَّلع عليه؛ فهل يجرؤ أن يذكره لأمير المؤمنين؟»
فلما تصورت العباسة ذلك اقشعر بدنها خوفًا من غضب أخيها؛ لعلمها أنه إذا غضب فتك واستبد ولا مرد لغضبه، وهي تعلم أيضًا أنه ما من أحد يجرؤ على ذكر شيء من ذلك بين يديه، ولكنها قالت: «إذا كنت لا أخاف أن ينطق أبو العتاهية بشيء من ذلك بين يدي أخي، ألا أخاف أن يبوح به لحُسَّاد جعفر فيتخذوه وسيلةً للإيقاع به، على أني لا أخاف أحدًا خوفي من تلك المرأة.»
فأدركت عتبة أنها تشير إلى زبيدة؛ زوجة أخيها؛ لعلمها بما بينهما من المنافسة مما يكون بين المرأة وبنت حماتها، لا سيما أن الرشيد كان يُظهر حبَّه للعباسة ولا يصبر على بعدها، وزبيدة تفاخر سائر نساء الخليفة بشَرَف نسبها الهاشمي؛ لأنها حفيدة المنصور وابنة عم الرشيد. وكان الرشيد يحبها أيضًا ويحترمها، ولا يرد لها طلبًا، فلم تقنع بذلك وأخذت تغارُ من حبه لأخته.
ولعل علو منزلتها عند الرشيد زاد من أسباب غيرتها، وخاصة بعد أن علمت بما بين العباسة وجعفر من تبادل العلاقات. ولم يكن ذلك كله يخفى على عتبة، بل كانت هي أعلم به من مولاتها — لأن الخبر يصل إلى أذن صاحبه ويقف — ولا سيما في ذلك العصر والناس يتقربون إلى أهل المناصب بالإطراء والإرضاء، ويتجنبون إبلاغهم ما يسوءهم ذكره. وربما ارتكب المرء جناية ظن نفسه مبالغًا في كتمانها، والناس يتحدثون عنها في مجالسهم وأنديتهم وهو يحسبهم غافلين، ولا يجرؤ أحد منهم أن يُطلعه على ذلك. فلما سمعت عتبة تصريح العباسة بخوفها من زبيدة قالت: «لا أرى مسوغًا لما تتخوفين منه الآن.»
قالت: «وكيف لا ترين مسوغًا وأنت تعلمين ما في نفس زبيدة مني؟ فكيف إذا اطلعت على هذا السر؟»
فابتسمت عتبة وقالت: «هل تظنين زبيدة لم تعلم بذلك إلى الآن؟»
فأجفلت العباسة وقالت: «وهل علمت؟ ومَن أطلعها عليه؟»
قالت: «إنك عاقلة حكيمة، ومثلك لا تأخذ بظواهر الأمور. كيف يخطر لك أن يبقى هذا الأمر مكتومًا عن الناس ومولاي الوزير يدخل هذا القصر متى شاء بلا حجاب ولا حساب؟»
فقطعت العباسة كلامها وقالت: «وهل أهل القصر يعلمون ذلك أيضًا؟»
فخافت عتبة على مولاتها فقالت: «كلا، ولكنني أظن أن زبيدة علمت به لما تعلمينه من تجسسها بوساطة الجواري والأعوان لما يهمها من أمرك، على أن اطلاعها على ذلك لا يقتضي أن تبوح به لزوجها؛ فإن أمير المؤمنين لا يجرؤ أحد أن يذكر له شيئًا مثل هذا، إن لم يكن خوفًا منه فخوفًا من سيدي الوزير، وهو صاحب العقد والحل في الدولة. فمن يجرؤ أن يتعرض لغضبه؟»
وكان الظلام قد تكاثف وهما جالستان في تلك الشرفة في الظلام، وسائر القصر مشعشع بالأنوار والشموع، وأهله لاهون عن حال مولاتهم لا يعلمون بما يُكنُّه ضميرها. ولم يكن أحد ممن في قصرها من الجواري والخصيان وغيرهم يجالسها أو يعلم ما في قلبها إلا عتبة؛ لأنها صحبتها منذ طفولتها وهي في قصر أبيها المهدي، ووثقت بها. وكانت العباسة تتحدث مع عتبة في ذلك المساء وعيناها لا تنتقلان عن الأفق وإن كان مظلمًا، على أن بصرها كان يتحول رغم إرادتها إلى الأنوار المتألقة في قصر الخلد إلى يمينها، ودار القرار إلى يسارها، وفي كل منهما رقيب تخشاه. فلما استبطأت جعفرًا انشغل خاطرها، وتحفزت للنهوض وهي تقول: «هلم بنا إلى الشرفة المطلة على دجلة لعله يجيء من هناك.» وإذا هما بخَفْق نعالٍ في الدهليز المؤدي إلى ذلك المكان. فلما سمعت العباسة ذلك الصوت خفق قلبها؛ لأنه يشبه وقع خطوات جعفر، فأسرعت وهي تقول: «أظنه جاء!» فمشت عتبة بين يديها وقالت لها: «اذهبي يا مولاتي إلى غرفتك البعيدة حتى آتي به إليك فلا يكون عليكما رقيب، ولا أنا.»
فأطاعتها العباسة وتحولت إلى تلك الغرفة. أما عتبة فأقبلت على الدهليز وفي جدرانه الشموع، فرأت جعفرًا داخلًا وعليه السواد «الجبة السوداء» والقلنسوة الطويلة، وهما ملابس العباسيين الرسمية، فتقدمت إليه وقبَّلت يده، فابتدرها قائلًا: «أين مولاتك؟»
قالت: «هي في غرفتها تنتظر مجيئك منذ عدة ساعات.»
فمشى وحده، ومشت عتبة في أثره، ريثما يصل إلى باب الغرفة فتساعده على خلع نعاله، ثم تعود إلى مكان بعيد على جاري العادة. وكان جعفر يومئذ في السابعة والثلاثين من عمره، وهو طلق المحيا، ظاهر البشر، جميل الطلعة، ربع القامة، كستنائي الشعر، خفيف اللحية والشارب، لم يخالط شعره الشيب إلا قليلًا، وفي عينيه ذكاء. وكان قد أرسل القلنسوة إلى الوراء فبان بياض جبينه، وظهرت على محياه أمارات الاهتمام. ومن كان دقيق الشعور، قوي العاطفة، ظهرت عواطفه في وجهه، فلا يقوى على الكظم، ولا يصبر على الضيم. وهذا الفرق راجع إلى طبيعة الأمزجة. فمن الناس من هو حاد المزاج، سريع الغضب، ومنهم من هو طويل الأناة، واسع الصدر، وما بين ذلك درجات كثيرة. أما جعفر فلم تكن تخفى انفعالاته على المتأمل خلافًا للفضل بن الربيع.