الرأي الصواب
فابتسم جعفر والغضب ظاهر على شفتيه وفي عينيه وقال: «لا تظني أن محبَّك يرسل الكلام جزافًا، فإني قد أعددت العدَّة لكل احتمال. إن من أشرتِ إليهم من سادة بنو هاشم وسائر رجال الدولة ليس منهم مع الرشيد أحد؛ لأني غمرتهم بالعطايا وملَكتهم بالإحسان، وأنا لم أُكثِّر الجوائز عبثًا، ولا بالغت في الكرم والسخاء اعتباطًا، ولكنني جعلت ذلك ثمنًا لما أرجوه في مثل هذا المشكل وأعظم منه. وأما الجند فالقواد الفُرس كلهم ناقمون على أخيك لمبالغته في مطاردة العلويين، وعندي في خراسان ألوف من صناديد الرجال يأتمرون بأمري، وكلهم ناقمون على بني العباس منذ فتَك جدُّك أبو جعفر المنصور بقائده ومؤسس دولته أبي مسلم الخراساني. اعذريني إذا صرَّحت لك بذلك، وإن كنت لم أصرِّح به لأحد سواك بعدُ، ولا يُغضبك أن تسمعي ما سمعته عن جدِّك وأخيك، وإنما دفعني إلى التصريح بذلك ما رأيته من تخوُّفك.»
فلما سمعت مشروعه أعظمت الإقدام عليه، وأطرقت ولم تجبْ، فابتدرها قائلًا: «كأني بك تتخوفين مما سمعته، فإذا كنت تنكرين عليَّ مناهضة الخليفة وهو أخوك فأخبريني؟»
فرفعت العباسة نظرها إليه وقد بدا الاهتمام وإعمال الفكرة في عينيها وقالت: «إني لا أستحي أن أصرح لك بما في خاطري بعدما سمعتُه من تصريحك، فاعلم أنه لا يهمني في هذه الدنيا أحد سواك، وكل عدو لك فهو عدو لي، لا أستثني أحدًا، ولكنني أخشى إقدامك على أمر يمكننا الابتعاد عنه إلى أمر آخر أقل منه خطرًا. اعلم يا حبيبي أني لا مطمع لي في هذه الدنيا إلا أن أكون بجانبك هنا، ومعنا ولدانا وثمرة قلبينا — وبلعت ريقها تجنبًا للبكاء — ولا يهمني أن يكون ذلك الاجتماع في قصر أو كوخ؛ فقد سئمتْ نفسي القصور وما يحفُّ بها من أسباب المخاوف؛ فابحث عن سبيل تنجو به من هذه المدينة إلى مكان لا نخشى فيه بأسًا، ودعنا من الوزارة والخلافة والسلطة؛ فإنها محفوفة بالمكاره، والمرء مهما طال عمره أو اتَّسع سلطانه لا يبقى له مما يملكه إلا قيد باع يوارونه فيه.» وأخذت في البكاء ويداها بالمنديل على عينيها.
فلما سمع كلامها ورآها تبكي على هذه الصورة كاد يبكي معها، ثم تجلَّد، ولكنه تأثر مما ذكرته عن ولديهما، فأطرق وهو يزيح القلنسوة عن جبينه، ثم تشاغل بالقبض على لحيته، وأعمل فكرته فيما قد يجرُّه إليه تسرُّعه بإظهار العدوان، ورجع إلى صوابه، ورأى قولها أقرب إلى السلامة، فقال لها وهو يرد يديها عن عينيها: «لا تبكي يا حبيبتي، إني فاعل ما تريدين. صدقت؛ إن التؤدة أولى بأهل الحزم، وها أنا ذا أعرض عليك رأيًا أظن أنك ستوافقينني عليه.»
فابتسمت والدمع لا يزال في مآقيها، وقد ذبلت عيناها من البكاء وتكسرت أهدابها، ونظرت إليه ولسان حالها يستفهم عما يريد، فابتسم هو وقال: «إن خوفك من بلوغ الخبر إلى أخيك بعيد؛ إذ ليس بين رجال الدولة — لا الفضل ولا غيره — من يجرؤ على ذكر اسمك بين يديه، أو التعريض بما تخافينه، وأنا أعلم الناس بذلك؛ فلا خوف علينا من هذا الأمر إلا بعد زمن طويل ندبِّر في أثنائه وسيلة نبتعد بها عن بغداد ونكون في مأمن.»
فتطاولت نحوه وقالت: «وكيف ذلك؟»
قال: «قلت لك إن خراسان معي، وأهلها طوع إرادتي، فإذا كنت فيها لا يستطيع أخوك ولا غيره أن يناوئني. ناهيك بأحزاب الشيعة العلوية، فإنهم يحاربون إلى جانبي حتى آخر نسمة من حياتهم. أليس كذلك؟»
قالت: «بلى.»
قال: «وأنا ساعٍ من زمن بعيد في التخلُّص من الوزارة وإبدالها بولاية خراسان، وقد وعدني أخوك بها. ولو أردتُ الحصول عليها في الغد لأجابني.»
قالت العباسة: «أحقًّا ما تقول؟ أخشى أن ينطوي وعده على خداع؛ فإنه لا يمكن الاطمئنان على وعد مثل هذا من جانبه.»
قال جعفر: «لقد وعدني وأكد الوعد، والوشاة من حسادي يساعدونني على ذلك ليبعدوني عن بلاط الخليفة، ويتمتعوا بالنفوذ دوني، ولا أحتاج في تحقيق هذه الأمنية إلى أكثر من كلمة واحدة.»
فأبرقت أسِرَّتها وظهر البشر في وجهها وقالت: «بالله ألا أسرعت في تحقيقها؛ فإني لا أرى لنا خيرًا منها، فإذا كنتُ أنت في خراسان سرتُ أنا إليك على عجل، واستَقْدمنا وَلَدَينا وعِشْنا معًا في رغد وهناء، وأنا واثقة من أن الرشيد لا يطمع فينا هناك؛ لأنه يخشى على ملكه.»
قال: «إذن كوني مطمئنة؛ فإن الأمر لا يحتاج إلى صبر طويل.»
فقالت: «قد شعرت منذ الآن بذهاب القلق؛ لأني أعتقد — كما قلت — أنهم لا يجرءون على ذكر خبر الطفلين بين يدي أخي لما يعلمونه من غيرته على العِرض، وأنا على يقين أنه يقتل كل من عرف أنه اطَّلع على هذا السر.»
قال: «إذن فأنت مطمئنة لهذا الرأي؟»
قالت: «نعم، ونِعْم الرأي هو. آه! هل تتحقق هذه الأمنية وولدانا معنا، وتكون أنت زوجي على رءوس الأشهاد، كما إني أعتقد أنك كذلك ولو كره الحاسدون أو أنكره أخي علينا؟» قالت ذلك وصرَّت أسنانها.
فقال وهو يتحفز للقيام: «كم أحب أن أبقى هنا ولا أفارقك يا حبيبتي! ولكن لا بد من ذهابي على عجل؛ لأني جئت خلسة، وإذ قد صممنا على التستُّر؛ فينبغي لي أن أمضي سريعًا حتى لا ندع سبيلًا إلى الوشاية.»
فأمسكت بيده وأجلسته وهي تقول: «لا، لا تذهب فإني …» وغصَّت بريقها.
فقال: «أراك قد عُدتِ إلى المخاوف! لا تخافي؛ فإننا سنجتمع قريبًا، بإذن الله.»
فقالت: «لا بد من ذلك؛ لأننا لم نرتكب ذنبًا، وزواجنا شرعي، وإنما أراد أخي أن يستبد برأيه فمنعنا مما أحله الله. ألم يكن هو الذي عقد لك عليَّ؟»
قال وهو يهز رأسه استخفافًا: «بلى، ولكنه لا يرى لغيره حقًّا في أن يتمتع بذلك.»
ونهض فنهضت هي معه، فأمسك بيدها للوداع ونفسه لا تطاوعه عليه، فوقف هنيهة وهو ينظر إليها وهي تنظر إليه — والعيون تتفاهم بما تعجز الألسنة عن مثله — ثم أصلح قلنسوته بيده الأخرى ومشى وهي تسير معه حتى وصل إلى الباب، فلبس نعاله وودعها وهو يضغط على يدها ويقول: «امكثي مطمئنة حتى يأتيك مني رسول الخير.»
فأجابته ونفسها لا تطاوعها على إطلاق يده: «سرْ يا سيدي في حراسة الله. وفَّقك الله إلى ما تريد.»
فتراجع وهو ينظر إليها نظرة عتاب وقال: «لا تقولي يا سيدي؛ فإنما أنا مولاك، وأنت سيدتي بمقتضى شرعهم وعرفهم. أين أنا من أخت أمير المؤمنين؟»
فلما قال ذلك جذبت يدها من يده، ونظرت إليه شزرًا وقالت بلحن الدلال والعتاب: «دعنا من شرعهم وعُرفهم؛ فإنك سيدي بشرع الله وعرف المُنصفين.»
فضحك وأسرع إلى يدها فأمسكها وهو يقول: «أستودعك الله حتى نلتقي، وأرجو أن يكون لقاؤنا أبديًّا لا فراق بعده. والأفضل على ما أرى أن أكفَّ عن زيارتك في هذه الأيام ريثما أدبِّر الحيلة للاجتماع معًا في مكان أمين.»
فقالت: «يشقُّ عليَّ بُعدك عني، ولكنني أتحمله طمعًا فيما ذكرت.»
ثم صفقت تصفيقًا تعودت أن تعني به عتبة، فجاءت مسرعة، فقالت لها: «امشي بين يدي مولاك حتى يخرج من القصر ولا يشعر به أحد.»
فأشارت إشارة الطاعة ومشت بين يديه في الدهليز وقد أُطفئت شموعه، وسار هو في أثرها حتى خرج من القصر ووصل إلى مكان ترك فيه جواده مع غلامه حمدان، فركب وسار إلى منزله.
أما العباسة فلما خلت إلى نفسها مكثت حينًا وهي واقفة تسمع وقع خطوات جعفر حتى توارى وانقطع صوت وَقْعها، فعادت إلى هواجسها وأحسَّت باحتياجها إلى عتبة، فلما عادت قصَّت عليها بعض ما دار بينها وبين جعفر، وأسرَّت إليها بما يرمي إليه، فوافقتها على ذلك الرأي. ثم ذهبت العباسة إلى فراشها.