أبو العتاهية
وكان في جملة المرتزقين بالشعر على أبواب الخلفاء أبو العتاهية، وأصله من الموالي مثل أكثر شعراء ذلك العصر.
وكان أبو العتاهية في أول أمره يصنع الجرار، ويحملها في قفص على ظهره، ويتجول في الكوفة ليبيعها، وكان ذا قريحة شعرية فنزل بغداد، وما لبث أن ارتقى بشعره إلى مجالسة الخلفاء. وأول من قرَّبه منهم المهدي بن المنصور، وقد فُتن به وبشعره حتى كان المهدي يصحبه في الصيد أو النزهة ويُكرمه ويُجيزه. وكان ذلك شأنه مع الهادي بن المهدي، ولم تطل مدة حكم الهادي، ولكنها على قِصرها أثَّرت في قلب أبي العتاهية، فلما مات الهادي عاهد أبو العتاهية نفسه ألا يقول شعرًا بعده.
فلما تولى هارون الرشيد طلب إليه أن يقول شعرًا فأبى، فغضب عليه، وأمر بحبسه في مكان مساحته خمسة أشبار في خمسة، فاستعطفه وقال شعرًا غنَّى به الموصلي؛ المغني المشهور، فأمر له الرشيد بخمسين ألف درهم، وأصبحت له عند الرشيد منزلة كبيرة، حتى كان لا يفارقه في حَضَر ولا سَفَر إلا في طريق الحج، وعين له الرشيد راتبًا سنويًّا غير الجوائز، وغير ما كان يناله من رجال الدولة وجوائزهم يومئذٍ بألوف الدراهم، فجمع مالًا كثيرًا، لكنه كان مع ذلك طمَّاعًا شديد البخل يجمع المال ولا ينفقه، ولا يدخر وسعًا في حشده بأية طريقة كانت، وخاصة بعد أن نذر الزهد وعاهد نفسه ألا ينظم شعرًا، فقلَّ تكسُّبه من الشعر، فأخذ يغتنم الفرص للاكتساب من أبواب أخرى.
وكان أبو العتاهية في خلافة الرشيد حوالي سنة ١٧٨ﻫ يحضر مجلس محمد الأمين بن الرشيد، وهو يومئذ في السابعة عشرة من عمره. وكان الأمين ميالًا إلى القصف واللهو منذ نعومة أظفاره لا يخلو مجلسه من المغنين، وأهل الخلاعة، والجواري، والغلمان، وهو أول من استكثر من الغلمان والخدم، وتفنن في انتقائهم وتزيينهم. وكان يشهد مجلسه كثيرون من الشعراء، ولا سيما أهل القصف والمجون منهم؛ كالحسن بن هانئ المُلقَّب بأبي نواس. وكان أبو العتاهية مقربًا من زبيدة أم الأمين، فكان يحضر مجلس الأمين لعله يصيب كسبًا أو جائزة بسبيل من السبل. وكان الأمين كريمًا مسرفًا لا يعرف للمال قيمة.
وكان لا يشهد مجلس الأمير من أهل الجد والدهاء إلا من كان له غرض سياسي لا يرى الوصول إليه إلا على يد الأمين، أو تقربًا به إلى أمه زبيدة، وهي أحب نساء الرشيد إليه؛ لأنها ابنة عمه، ولها كلمة نافذة عليه.
وكان أكثر نساء الخليفة يومئذ من الجواري المعتقات؛ ولذلك لم يكن بين العباسيين خليفة أمه وأبوه هاشميان إلا الأمين، فكان الذين يحبون التقرُّب من الرشيد بالدالة أو الوساطة أو الدسائس يتزلفون إليها بالثناء على ابنها، مع اعتقادهم أنه ليس أهلًا للخلافة، ويطعنون على أخيه المأمون؛ لأن أمه جارية فارسية، ويحطون من قدره عندها … وهو في الحقيقة أفضل من ابنها عقلًا وأدبًا.
وكان أكثر الناس سعيًا في هذا السبيل الفضل بن الربيع؛ لأن أباه كان وزيرًا للمنصور والمهدي، وكان هو يرشح نفسه للوزارة. فلما تولى الرشيد الخلافة قرَّب يحيى بن خالد البرمكي، وفوض إلى ابنه جعفر بن يحيى الوزارة بكل معانيها؛ لأن أباه يحيى كان سببًا في توليه الخلافة، فشقَّ ذلك على الفضل بن الربيع، وثارت في نفسه عوامل الحسد، ولم يدخر وسعًا في خلق الأسباب للإيقاع به، ولم يجد سبيلًا إلى ذلك إلا بالتزلف إلى زبيدة وابنها؛ لعلمه أنها تكره الفرس جملة والبرامكة خاصة، ولا سيما جعفر بن يحيى؛ لأنه حمل الرشيد على مبايعة المأمون «ابن جاريتها» بولاية العهد بعد ابنها الأمين، فكانت تقرِّب كل من ينصر ابنها ويطعن على المأمون؛ ولذلك كان الفضل يحضر مجلس الأمين في لهوه، ويسايره في قصفه، ويتملقه للغرض الذي قدمناه.
فاتفق في مجلس حضره أبو العتاهية تلك السنة أن ذكر الأمين عزمه على ابتياع بعض الجواري البيض ممن يُحسنَّ الغناء، يضمهن إلى اللواتي في قصره. وأكثر المغنيات يومئذ من الجواري الصفر.
وكانوا يقتنون الجواري البيض للترفيه فقط. وأول من علم الجواري البيض الغناء إبراهيم الموصلي مغني الرشيد، فأحب الأمين أن يتخذ مغنيات من البيض، فأخبره الفضل بن الربيع أن كبير النخاسين أتى بعدد من الجواري الحسان أنزلهن عند كبير من تجار الرقيق في بغداد، وهو يهودي واسمه فنحاس، وأن الناس معجبون بجَمَالهن الفتَّان، فيمكنه ابتياع بعضهن، ويعهد إلى الموصلي أن يعلمهن الغناء. وأخذ الفضل على نفسه أن يذهب في الغد إلى ذلك التاجر، فينتقي له أحسنهن طلعة، وأطربهن صوتًا، فلما سمع أبو العتاهية ذلك، توقع منه ربحًا كبيرًا بالتواطؤ مع فنحاس؛ لعلمه أن الأمين لا يهمه مقدار ما يدفعه من المال في هذا السبيل.
وكانت الشمس قد مالت إلى المغيب، فرأى أن يذهب في تلك الليلة إلى فنحاس يخبره بعزم الأمين، وأنه هو الذي حمله على ابتياع الجواري من عنده، ويغريه على زيادة مبالغ كبيرة على الثمن الذي يقدره هو، على أن تكون تلك الزيادة مقابل سعيه في ذلك.