قصر الأمين
أما الفضل بن الربيع فقد تركناه عائدًا بحاشيته من دار الرقيق ومعه أبو العتاهية، وكان أبو العتاهية قد امتلأ غيظًا من عتبة وسيدتها. ولو لم تتعمد أذاه على هذه الصورة، فلربما قام في نفسه ما يوبِّخه على إفشاء ذلك السر برغم ما يطمع فيه من الكسب المالي بإفشائه؛ إذ قد تأخذه الشفقة على الغلامين، أو الحياء من العباسة، أو الخوف من جعفر أو الرشيد، أو ربما توقف عن الإفشاء حينًا من الزمن ريثما يجد سبيلًا يتقدم به إلى الفضل أو غيره بإعلان ذلك السر إليه، ولكن تلك الإساءة كانت مسوغًا له على الإفشاء، وقد مهد السبيل إليه وجود ابن الربيع واطلاعه على تلك المعاملة. فلما ركب الفضل ورجاله أمر لأبي العتاهية بدابَّة يركبها، وقد تاقت نفسه لاستطلاع السر فيما حدث، فركب أبو العتاهية وهو أكثر ميلًا منه إلى اطِّلاعه عليه.
سار الركب على خيولهم إلى قصر الأمين مباشرة، فلم يكن لهم بد من المرور على جسر بغداد، فبعد أن تجاوزوا شارع دار الرقيق مرُّوا بالميدان من شماله، ورأوا أهل الدولة يتوافدون لحضور لعب الكرة والصولجان، فتحولوا من وراء الإصطبل في الشارع المؤدي إلى الجسر. وكانت الشمس قد تكبدت السماء، وتزاحمت الأقدام على ذلك الجسر، وهو مصنوع من السفن متحاذية متلاصقة، وقد شدت جوانبها بعضًا إلى بعض بأمراس أو سلاسل من حديد، وألقيت فوقها ألواح الخشب يمر فوقها الناس والدوابُّ. وعلم الفضل أن الجسر لا يخلو من حرس سري يرقب حركات المارين من أهل الدولة، والناس يومئذ يتجسس بعضهم على بعض من كل سبيل؛ فقبل مغادرته دار الرقيق تلثَّم، وتلثَّم بعض الخاصة من أتباعه، فمروا على الجسر شمالًا إلى الرصافة، ونزلوا من هناك نحو الجنوب الشرقي إلى المخرم، وجعلوا أكثر طريقهم قرب الشاطئ حتى أتوا القصر.
وكان الغرض من تبكير الفضل إلى دار الرقيق في ذلك الصباح التعجيل في تلك المهمة، والرجوع إلى الأمين حوالي الضحى حتى لا يفوته الصبوح. وكان الأمين قد وعد نفسه بسماع غناء الجواري البيض في ذلك اليوم، والفضل وعده بذلك حرصًا على رضاه، وتقربًا إليه بكل ما يسرُّه؛ لعلمه أنه ولي العهد، وهو لا يرجو لنفسه سبيلًا لقهر البرامكة إلا به؛ لأن الأمين يكره الفرس؛ لأنهم من غير العرب، ويكره البرامكة على الخصوص، وجعفرًا الوزير على الأخص؛ لأنه ساعد أخاه المأمون على ولاية العهد رغم أن أمَّه جارية، وأم الأمين هاشمية؛ هي زبيدة الشهيرة.
فالفضل لم يكن يرى في نفسه القدرة على سبق البرامكة في إدارة شئون الدولة، أو سياسة الأعمال، وتسهيل استيفاء الخراج، وإرضاء الرشيد، فسلَّم الرشيد مقاليد الدولة إلى جعفر، وأطلق يده فيها، فعمد الفضل إلى الحيلة وهو ذو دهاء وصبر، فرأى الأمين يكره الفرس للأسباب التي قدَّمناها فانحاز إليه، وجعل يتقرَّب إليه بكل وسيلة يرضاها، وإن لم يكن من شأنه قضاؤها، حتى مسألة الجواري؛ فقد كان الفضل في غنًى عن الذهاب بنفسه إلى دار الرقيق، ولكنه أراد أن يبرهن للأمين أنه يحبَّه ويتفانَى في خدمته، على أن انشغاله بمشاهدة أنواع الرقيق، ثم ما عاقه من أمر أبي العتاهية والقبض عليه أخَّراه عن الوقت المعين، فوصل إلى القصر وقد مالت الشمس عن خط الهاجرة. ومع ذلك فقد رأى أن يطلع على سر أبي العتاهية قبل الدخول على الأمين، وإن كان مزاجه لا يبعثه على التسرُّع في الاستطلاع؛ لأنه — كما قدمنا — من أهل المزاج الصفراوي الذين يصبرون على الأمور، ولا يقلقون من موعد، أو يتعجلون في استطلاع سرٍّ، بخلاف أهل المزاج العصبي؛ فإنك إذا وعدت أحدهم بسرٍّ تطلعه عليه، أو خبر تلقيه إليه، لا يبرح في قلق واضطراب حتى يبلغ ذلك الوعد؛ ولذلك فأهل هذا المزاج لا يصلحون للدهاء السياسي، أو الإقدام على المشروعات الشاقة التي تفتقر إلى سعي وكظم ومطاولة.
فالفضل بن الربيع لم يكن يتعجَّل في استطلاع السر رغبة في سرعة الاطلاع، ولكنه توسَّم من وراء ذلك سببًا يساعده على تحقيق غرضه، فلما أطلَّ على قصر الأمير أمر رجاله أن يتحولوا بأفراسهم إلى أماكنهم حتى خلا بأبي العتاهية، فترجلا في شارع عريض تظلله الأشجار الملتفة من الجانبين ينتهي بساحة كبيرة في صدرها باب القصر. وما هو باب القصر في الحقيقة، وإنما هو باب الحديقة، والقصر في أحد جوانبها من جهة دجلة له سور خاص به. وكانت عادتهم في بناء هذه القصور أن يجعلوا أسوارها الخارجية متينة عالية أشبه بأسوار الحصون، وربما جعلوا في أعلى السور مرامي للنبال، أو نوافذ لحجارة المجانيق؛ لما كانوا يتوقعونه من تقلب الأحوال، وانتقال السلطة من حزب إلى حزب. وباب الحديقة كبير متين يقفل ويوصد حتى لا يستطاع فتحه إلا بقوة الرجال. وكان الحرس لا يبرحون المكان وقوفًا والباب مقفل. فإذا قدم أحد فتحوه له، فإذا كان فارسًا ترجل خارجًا، وترك دابته وسائسها أو خادمه يرعاها، أو يذهب بها إلى الإصطبل بجانب ذلك السور، وفيه المرابط تشد إليها الدواب. وهي كثيرة، وخاصة بباب ولي العهد. والناس يومئذ يتزلفون إليه ويكثرون من التردد عليه؛ تمهيدًا لما يرجونه من نفوذ الكلمة عنده بعد أن تسند أمور الدولة إليه.
فلما ترجل الفضل وأبو العتاهية تنحيا إلى جانب الطريق، وأخذ الفضل يستطلع الخبر وأبو العتاهية يقصه عليه، والفضل مستغرب حتى شكَّ في صدقه، ولكنه ما إن جاء أبو العتاهية على آخر الحديث حتى ترجحت صحته عنده، ولكنه أعظمه، ولبث مطرقًا لا يحير جوابًا، ثم نظر إلى أبي العتاهية وأراد أن يغالطه فقال: «احذر أن تكون قد اختلقت هذا الخبر؛ فإني لا أصدقه، وربما كنت مخدوعًا فيه؛ لأن مولاتنا العباسة من أبعد الناس عن مثل هذه الشبهة؛ فاحذر أن تذكر ذلك لأحد لئلا تقع في شر أعمالك.»
فأدرك أبو العتاهية غرض الفضل من هذه المغالطة، فقال له: «إني أجلُّ مولاتنا عن هذا، ولكنني قصصت ما رأيته، ولم أكن لأبوح به لك لو لم يحدث ما تمَّ من نجاتي على يدك، ولا أدري مع ذلك إذا كانت عيناي قد خدعتاني، فإنهما كثيرًا ما تخدعان البصير فيقع في حفرة لا يقع فيها الأعمى.» وهزَّ كتفيه وهو مطرق كأنه يقول: «وماذا يعنيني من ذلك كله؟»