محمد الأمين
فلما أبطأ الفضل قلق الأمين، فانصرف إلى شرفة في قصره تطل على دجلة، وجلس وعيناه شائعتان لعله يرى الفضل عائدًا في الزورق. فلما انقضى وقت الظهيرة ولم يَعُد ملَّ الأمين الانتظار، فخرج إلى الحديقة ومعه ابن عمه جعفر بن الهادي يتفرَّجان على ما فيها من الأقفاص الكبيرة كأنها البيوت، وفيها أصناف الطير الملون المستورد من بلاد الهند وأواسط أفريقيا، والأقفاص المتينة المصنوعة من شبك الحديد الغليظ، في بعضها أُسُود، وفي البعض الآخر فيلة أو نمور. ولما فرغا من التفرُّج والفضل لم يأتِ، أمَر الأمينُ صاحبَ كِباش المناطحة أن يأتي بها للمناطحة بين يديه، ومضى إلى مجلس في وسط الحديقة يظلله عريش عال. وبينما هو يهمُّ بالدخول إليه مع ابن عمه إذ جاءه أحد الخدم وأخبره أن الفضل قادم، فأمر باستقدامه إلى العريش وهو يظن أن الجواري معه.
أما الفضل فإنه دخل البستان ماشيًا، وقد شاهد الأمين وابن عمه يتحولان إلى العريش وهما بملابس المنادمة. والبستان ينقسم إلى مغارس بينها طرقات مفروشة بالحصباء الملونة، يتخللها أغراس من الأشجار المتنوعة ذات المناظر الجميلة، ومنها المولَّد في بغداد، والمستورد من بلاد الهند وخراسان وتركستان، وما بين ذلك من أصناف الرياحين وأزهارها البديعة الألوان، وكلها في مغارسها على أحسن نظام يتعهدها البستاني بالمقراض يقلِّد بها أشكال الحيوانات، فيجعل بعضها بشكل الطاووس أو غيره من الطيور الجميلة، والبعض الآخر بشكل الحيتان، أو بعض الوحوش الكاسرة كالأسد والنمر، فيمر الرجل وحوله الأشجار والأزهار والأعشاب من كل صنف ولون ورائحة، وهو يحسب بعضها أسودًا رابضة، أو طيورًا دارجة مما يسحر الألباب. وبين تلك المغارس أحواض يصل إليها الماء من قنوات مستترة، وفيها من الأسماك أجملها لونًا، وألطفها شكلًا، يتعهدها البستاني بفتات الخبز أو بقايا الطعام مما يكثر في مطابخ الأمراء في أيام الرغد والرخاء. ناهيك بما رسموه في طرق الحديقة من أشكال الكائنات الحية وغير الحية بترصيف الحصى على اختلاف ألوانها، فيُصوِّرون بذلك زهورًا بألوانها، وأسودًا أو فيلة بأشكالها على نحو ما يفعلون بالفسيفساء. وكانوا يحضرون لكل من هذه الفنون صناعًا من الفرس أو الروم أو الهند ممن أتقنوا طرق الزراعة، وتفننوا في أساليب التنسيق.
وكان الأمين ورفيقه قد جلسا في العريش ينتظران مجيء صاحب الكباش، والأمين أكثر رغبة في مقابلة الفضل إذا كانت الجواري معه، وإذا هو يسمع وقع خطواته على الحصى بقرب العريش، فصاح فيه: «ما وراؤك يا فضل؟»
فأجاب وهو داخل: «ما ورائي إلا الخير يا مولاي.»
قال: «وأين الجارية أو الجواري المغنيات؟»
قال: «هن آتيات عن قريب.» ولما أطل الفضل على الأمين ورأى ملابسه وحاله ابتسم رغم إرادته، فابتدره الأمين قائلًا: «كيف تراني بهذا الإكليل وهذه الثياب؟»
ولما دخل الفضل صاح فيه الأمين: «عليك بثياب المنادمة، واخلع هذا الثوب؛ فإن إبطاءك إلى هذه الساعة لا ينبغي أن يفسد علينا ما دبَّرناه من وسائل السرور، وإن كان الصبوح قد انقضى، فنقضي بقية النهار في الطرب والأنس.» ثم صفَّق فأتاه غلام تركي جميل الصورة لم يبدُ عذاره بعدُ، وعليه دراعة حمراء اللون تمنطق فوقها بمنطقة عريضة من حرير موشاة بالقصب، وأرسل شعره ضفيرة طويلة وراء ظهره، وعلى رأسه شبه طاقية هرمية الشكل، مزركشة بالقصب، منحرفة إلى جانب واحد، في قمتها هلال من فضة أثقل رأسها فتدلَّى، فأصبح الغلام أشبه بالبنات منه بالفتيان لفرط جماله. ولو سمعته يتكلم لثبت عندك أنه فتاة لبُعده عن خشونة أصوات الرجال؛ لأنه خصي. وكان في قصر الأمين كثير من أمثاله، عُني بإحضارهم من أقصى بلاد الترك والجركس، وجعلهم طوائف لخدمته ولمجالس أنسه.
فلما جاء الغلام وقف متأدبًا، فقال له الأمين: «من ترى في بابنا من الشعراء؟»
فقال الغلام: «الحسن بن هانئ «أبو نواس» وأبو العتاهية و…»
فقطع الأمين خطابه قائلًا: «ما لنا ولأبي العتاهية وهو من أهل الزهد؟! فلا ينفعنا زهده في مجلسنا هذا. وأما الحسن بن هانئ؛ فإنه شاعر ظريف.» قال ذلك وضحك، ثم التفت إلى الغلام وقال: «اصرف الشعراء إلا ابن هانئ، وقل لصاحب الشراب أن يعدَّ لنا مجلسًا كاملًا.»
فقال الفضل: «وأبو العتاهية لا بأس به يا مولاي؛ فإنه شاعر ظريف، ولا يهمك ما يقولون عن زهده.»
فصاح بالغلام: «وأبو العتاهية أيضًا.» فمضى الخصي لإعداد ما يلزم.