مجلس طرب
فلما مر الجميع أشاروا إلى القيِّم إشارة أخرى، وأشار إلى رفيقيه فنهضا وسارا بين أيديهم، وقد فتح لهم القيِّم بابًا في صدر القاعة خرجوا منه ونزلوا بضع درجات إلى دهليز في جانبيه أبواب مقفلة تؤدي إلى غرف وقاعات عديدة، وفي نهاية الدهليز وصلوا إلى المصطبة، وكأنهم خرجوا من الخباء إلى الخلاء، فوجدوا المكان على سعته قد فُرش بالنمارق والطنافس، وفي صدره فرش عالية فوق سرير من الأبنوس المطعَّم بالذهب لا يُرتقَى إليه إلا بكرسي، وحوله عدة مقاعد ووسائد فوق الطنافس وبجوار الأساطين أو الجدران. وقد نصبوا في وسط المصطبة سماطًا هو بساط من جلد جميل الصنع فوقه ملاءة من الحرير، وفوق البساط مائدة كبيرة الحجم، مستديرة الشكل، قصيرة، طولها شبر، وجاءوا بالأباريق البلور أو الفضة وفيها الأشربة والأنبذة، وبينها الأقداح على اختلاف أشكالها وألوانها. ويتخلل ذلك أطباق الفاكهة واللحوم الباردة ومزاهر الأزهار ونحوها، وقد فاحت رائحة المكان بالطيب العطر، فصعد الأمين إلى سريره، وأشار إلى ابن عمه فجلس، ثم التفت إلى الفضل وقال: «أراك لا تزال بثيابك؛ فاخلعها والبس ثياب المنادمة.» فأشار مطيعًا، فصاح: «يا غلام، أحضر ثياب المنادمة.»
فجاءوا بثوب معصفر، وأصرَّ الأمين إلا أن يجعل على رأسه إكليلًا من الزهر مثله، فأطاع، ثم صفَّق الأمين فدخل القيِّم، فقال: «إلينا بالمغنيات. هل أتانا من الجواري أحد جديد؟»
فقال: «كلا يا مولاي، ولكن عندنا من المغنيات غير واحدة ممن ليس في بغداد أحسن منهن، حتى ولا في دار أمير المؤمنين. فهل آتي بهن؟»
قال: «أحضر الوصيفات بالمراوح أولًا، ثم اختر لنا أحسن المغنيات نستمع لهن ريثما يأتي أولئك.»
فخرج، وبعد برهة أقبلت جارية تفتن الناظرين، يظهر من ملامحها أنها كرجية الأصل، دخلت المصطبة نافرةً كأنها الغزال انفلت من شبكة الصياد، عليها قميص إسكندراني شفاف يشفُّ عن أثوابها جميعًا، وفوقه قرطق مفروج، أو هو القباء المفرد، وقد أشرق بياضها إشراقًا باهرًا، وجعلت شعرها طرَّة أسبلتها على جبينها، وتعصَّبتْ بعصابة قد نقش عليها بصفائح الذهب هذا البيت:
وقد أدارت صدغيها وتقوس حاجباها، ولها عينان قد مُلِئتا سحرًا، وأنف كأنَّه قصبة درٍّ، وفم كأنه جرح يقطر دمًا، وبيدها مروحة عريضة من ريش النعام مغشاة بالحرير المزركش وقد طرز عليها بالذهب هذه الأبيات:
وقد قبضت على المروحة بأنامل منقوشة بالحناء، فيها خواتم، وفي معصمها الأساور والدمالج؛ إذا حرَّكت يدها للترويح سُمع لها شخشخة، وفي صدرها هلال من ذهب مرصَّع بالجوهر، وقد نقش عليه هذا البيت:
فلما دخلت افتتن جعفر والفضل برؤيتها، ولكنهما تهيبا لعلمهما أنها وصيفة الأمين الخاصة جاءت لتروِّح له. فمشتْ وهي تنتقل على رءوس أصابعها وتتمايل حتى دنت من الأمين، فوسَّع لها الفضل، فصعدت على مقعد بجانب سرير الأمين وأخذت تروِّح بالمروحة، وفي يدها الأخرى منديل إذا تندَّى جبينه بالعرق مسحته له.
ثم دخلت جارية أخرى يظهر من مجمل منظرها أنها رومية الجنس، عليها دراعة مصبوغة بلون الورد الأحمر، وقد وضعت على رأسها ضفائر شعر مسدلة كأنها العناقيد تتدلى إلى أسفل ظهرها. وفوق الشعر تاج مرصع، وفي عنقها عقد ثمين قد تعلق فيه صليب من الذهب المرصع، وعلى التاج بيتان من نظم الحسن بن هانئ (أبو نواس)؛ وهما:
وتمنطقت بمنطقة شدَّت بزنار، وعلقت المروحة بها، وعلى المروحة هذا البيت:
فلما دخلت هذه الوصيفة أشار الأمين إليها فوقفت بجانب ابن عمه جعفر وأخذت تروح له، ثم دخلت جارية ثالثة تختلف في شكل هندامها عن صاحبتيها، وقد جعلت شعرها على شكل الطرة السكينية، التي تُنسب إلى سكينة بنت الحسين؛ لأنها أول من صنعها في المدينة منذ قرن وبعض قرن، ولم تشد فوقها عصابة، ولكنها كتبت فوق جبينها بالغالية هذين البيتين:
وقد لبست درعًا من القطيفة أبيض اللون كُتب على جانبه الأيمن بالتطريز:
وعلى الجانب الأيسر:
فلما دخلت علم الفضل أنها ستقف بجانبه تروح له، فمشت وهي تلاحظ ما يبدو من الأمين، فإذا هو يشير إليها أن تذهب إلى الفضل، فوقفت إلى جانبه وأخذت تروح له.