الطرب بالطعن
فأعجب الأمين برغبته في الشراب، وضحك حتى استلقى على ظهره وفي يده تفاحة بأكملها، وقال له وفي فمه قطعة منها: «اطربنا يا ابن الأهوازية.»
فأجابه والمجون ظاهر على وجهه: «أيريد مولاي أن أطربه بالمدح أو بالطعن؟»
فابتدره الفضل بن الربيع قائلًا: «ألا تكف عن مزاحك؟ كيف يُسأل الأمير هذا السؤال؟ وهل يطرب أحد بالطعن؟ وهو إنما سألك أن تلقي على هؤلاء القيان أبياتًا يطرب لها مولانا.»
فنظر أبو نواس إلى الفضل شزرًا وهو يظهر المجون أيضًا وقال: «وما أدراك ماذا يُطرب الأمير؟ أتريد أن تحترف صناعة المنادمة فضلًا عن الوزارة؟ إني أخاطب سيدي وهو يفهم مرادي.»
فاستغرب الفضل جرأته وأراد أن يجيبه فسمع الأمين يقول: «لقد فهمت مراده.» ثم التفت إلى أبي نواس وقال: «أطربنا بالطعن ليرى الفضل أن الطعن قد يطرب ما لا يطربه المدح. ألقِ على الجارية بيتًا أو بيتين من هذا القبيل.»
فأصغى الحضور وقد ظهر الاستغراب في وجوههم، وحامت أبصارهم حول أبي نواس فإذا هو قد أدنى رأسه من الجارية التي بيدها العود وأسرَّ إليها أبياتًا، فسوَّت العود والكل سكوت حتى الأمين، ثم أخذت تغني:
وكانت الجارية تغني وتجيد في غنائها، والأمين يهتف طربًا عند كل مقطع، وفطن الفضل لسر ذلك منذ بدأت الجارية في غناء البيت الأول، فأدرك أن أبا نواس يعرِّض بجعفر بن يحيى البرمكي عدوه، فكان طربه أكثر من طرب الأمين. وكان أكثرهم طربًا جعفر بن الهادي، فلم يتمالك أن صاح في أبي نواس: «لله درُّك! ولا فضَّ فوك!» وكان في يده عقد من الجوهر يلاعبه بين أنامله همَّ أن يرميه إليه، فتذكر أنه في حضرة ولي العهد ولا يُستحسن أن يسبقه إلى إجازة الشاعر، فالتفت إلى الأمين واستأذنه بالإشارة، فأذن له، فرمى بالعقد إلى أبي نواس فوقع في حجره، فتناوله ونظر إلى الأمين كأنه يستشيره في أمره، فضحك الأمين وقال: «أراك تبحث عن مكان تضع فيه هذا العقد. ضعه هنا.» وأشار إلى الجارية الواقفة على رأس الفضل وقال: «وهي لك أيضًا، ولكن بعد انقضاء هذا المجلس، وإذا زِدْتنا زدناك.»
فوقف أبو نواس ليشكره لذلك الصنيع، فأومأ إليه الأمين أن يجلس ويعود إلى ما كان فيه، وأشار إلى الساقي فأدار الأقداح وهو يبدل ألوان الأنبذة من نبيذ التفاح إلى نبيذ التمر فنبيذ العنب، وهي تتلألأ في الأقداح بين الصفرة والحمرة والشهبة والصهبة. وأشار الأمين إلى صاحب الشراب إشارةً فَهِم مراده منها، فأمر أحد الخصيان أن يقدِّم القدح إلى أبي نواس بيده، وكان الغلام جميلًا عبلًا، جعد الشعر، وقد صففه على جبينه بشكل بديع، فأخذت أبا نواس نشوة الخمر، فنظر إلى الغلام ثم إلى الأمين، فابتدره الأمين قائلًا: «صِفْه وهو لك.» فتناول أبو نواس القدح من يده وقال:
فلما سمع الأمين شعره صاح فيه: «ويلك! كفى. هو لك.»
أما الفضل فلما رأى الخمر قد دارت برأس الأمين أراد أن يغتنم الفرصة فقال له: «هل نسي مولاي القيان البيض؟»
فقال: «ويحك! كيف أنساهن؟! هل أتين؟» ونظر إلى قيِّم الدار مستفهمًا، فقال: «نعم يا مولاي، قد جئن منذ ساعة.»
فقال: «إليَّ بهن الساعة!»
فخرج وما لبث أن عاد مهرولًا مذعورًا، وفي أثره رجل قصير قد اكتسى جلد قرد، وعلى رأسه قبعة هرمية الشكل في أعلاها جلاجل وهو يقهقه قهقهة القردة، ووثب حتى توسط المصطبة وأخذ في الرقص، فقهقه الأمين وأغرق في الضحك حتى استلقى على ظهره، ولم يبق أحد لم يضحك. وعلا الضجيج فقال الأمين: «أليس هذا أبا الحسين الخليع؟»
فانتبه القيِّم وقال: «بلى يا مولاي هو بعينه — قبَّحه الله — إنه ذهب بعقلي.» فقال الأمين: «دعه وامض إلى الجواري.»
فعاد وتشاغل الحضور بالضحك ريثما يعود الرجل بالمغنية قرنفلة وبيدها العود تضرب عليه ضربًا رخيمًا، وقد تكحلت وتبرجت وأرخت شعرها على كتفيها. ودخلت الجاريتان الأُخريان في أثرها وبيد كلٍّ منهما عود، فوقفت قرنفلة بين يدي الأمين وهي تضرب على عودها نغمًا لم يسمع مثله من قبل، فأومأ إليها الأمين فجلست وأخذت تغني هذين البيتين:
وكان الفضل في أثناء ذلك يراقب حركات الأمين، فإذا هو يرفس الأرض برجليه طربًا ويصيح: «صدقتِ، صدقتِ. قبِّحك الله.»