إسماعيل بن يحيى
وعلا ضجيج الضحك وتعالت الضوضاء، وكانت الشمس قد مالت إلى الأصيل، فقطع ضجيجهم نباح كلاب كان الأمين قد جعلها على شاطئ دجلة وراء تلك المصطبة، حتى إذا رأت غريبًا نَبَحتْ نباحًا شديدًا، فلما سمعوا نباحها أمر الأمين أحد غلمانه أن يستطلع السبب، فخرج من باب سري يؤدي إلى الشاطئ، ثم عاد مسرعًا وهو يقول: «أرى سفينة تدنو من الشاطئ، أظنها حراقة إسماعيل بن يحيى الهاشمي.»
فلما سمعوا ذلك الاسم أُسقط في أيديهم، واقشعرت أبدانهم كأنك صببت عليهم ماء ساخنًا، ولا سيما جعفر بن الهادي؛ إذ امتقع لونه وظهرت البغتة على وجهه، وأشار الأمين إلى المغنيات فسكتن، وتحولت تلك الضوضاء إلى دهشة، واستولى السكوت على ذلك الجمع برهة سمعوا في أثنائها ربَّان السفينة ينادي بحَّارته أن يحلُّوا الشراع ويتقدموا نحو الشاطئ، فوجم الأمين وتجلَّد وقد ذهب أثر الخمر، وتذكَّر حاله فنزع الإكليل عن رأسه كأنه يريد أن يُخفي مجونه وتهتكه، واقتدى به غيره، ولكن أنَّى لهم أن يخفوا مجونهم والأقداح متناثرة بين أيديهم، والأباريق مملوءة، والمائدة منصوبة وعليهم ثياب المنادمة وما يتبعها من وسائل الخلاعة واللهو.
على أن الأمين تجلَّد ونهض من مجلسه، وصاح بغلامه أن يسأل أهل الحراقة عن صاحبها، فعاد وهو يقول: «إن إسماعيل بن يحيى يستأذن في الدخول.»
فقال: «يدخل. أهلًا به ومرحبًا.»
ولاحظ الحضور رغبة الأمين في إخفاء تهتُّكهم، فأخرجوا الخليع وأمروا الجواري بالسكوت، وجلسوا ينتظرون وصول إسماعيل وكأن على رءوسهم الطير. وما لبث أن رجع الغلام وفي أثره شيخ جليل المنظر، وسيم الطلعة، طويل القامة، عليه جُبة سوداء، وعلى رأسه قلنسوة طويلة حولها عمامة من خَزٍّ؛ وهي ملابس العباسيين الرسمية.
وكان إسماعيل بن يحيى من كبار بني هاشم رهطِ الخليفة، وكان من أهل التعقُّل والحزم، وقد زادته الشيخوخة وقارًا. وهو عالي الجبين، عريض المنكبين، مسترسل اللحية، وقد اشتعل رأسه شيبًا، ولم يستعمل الخضاب ترفعًا عن بهرج الدنيا؛ لأنه كان حكيمًا نيِّر البصيرة، يرى الأمور كما هي، ويقدِّر الناس بحسب مناقبهم ومواهبهم، لا بحسب أنسابهم ومظاهرهم؛ فرغم أنه هاشمي من أعمام الخليفة، فإنه لم يكن يرى في النسب الهاشمي فضلًا على سواه إلا إذا اقترن بالتقوى والصلاح. وكان مطلعًا على أمور الدولة، عالمًا بما تنطوي عليه شئون أهلها. ولم يكن يحب الرشيد لأنه هاشمي، ولا يكره جعفر البرمكي لأنه فارسي، وإنما كان ينظر إلى الأمور من حيث هي، وغرضه الأول سلامة الدولة العباسية من العلل، وخلاصها من أسباب الفشل، ولا يهمُّه على يد مَن تكون سلامتها.
فكان ينظر إلى ما يجري من الدسائس بين الرشيد ووزيره، أو بين الأمين وأخيه، أو بين غيرهما من الأحزاب المتناقضة، نظر الحكيم الناقد يشرف على أهواء الناس من سماء عقله وفلسفته، ويسعى جهده في تلافي ما يخشى وقوعه من مفاسد ذوي المطامع الدنيوية وأرباب الأهواء النفسانية. فلم يكن يهمه أن تفضي الخلافة إليه بقدر ما يهمه صلاحها، وتوطُّد دعائمها، وطول بقائها. وكان أعلم الناس بنواحي الضعف عند الرشيد ووزيره، ونواحي القوة عندهما، وله الدالة على كليهما، والكلمة النافذة عندهما، ولا سيما الرشيد؛ فقد كان يجلُّه ويحترمه ويعظم شأنه؛ لما تحققه من كبر نفسه ونزاهته وسلامة نيته، فضلًا عن ذكائه وسداد رأيه. وطبيعي فيمن كان هذا شأنه أن يهابه الناس ويحترموه حتى الملوك، فإنهم مهما بلغ من صلفهم وكبريائهم لا يحتقرون رجلًا لا يجتمعون به إلا لنصيحة، يتحققون بالاختبار أنها صادرة عن إخلاص تام، ولا يتباحثون معه إلا آنسوا منه حكمة فوق مستوى تفكيرهم. فكيف إذا أضيف إلى ذلك شرف النسب وعلو الهمة والشيخوخة؟! فلا غرو إذا نال إسماعيل هذه المنزلة عند الرشيد أو رجال دولته؛ لما عُرف به من الغيرة على سلامة الدولة والتفاني في سبيل مصلحتها، على أنه لم يكن يُقدم على نصيحة أو مشورة إلا إذا رأى النصح نافذًا، ولا يقول إلا كلامًا صريحًا، فإذا أحس أنه في حاجة إلى تلون أو رياء تباعد وتحاشَى؛ ولذلك لم يكن يعجبه الأمين، ولا يرى نصحه نافعًا، فكان يبتعد عنه ويحاذر أن يحضر مجلسه.