غريبان
فهرول أبو العتاهية من ساعته يتلمس دار ذلك التاجر، والمسافة بينهما بعيدة؛ لأن قصر الأمين في جنوب المخرم في الجانب الشرقي من بغداد، ودار فنحاس في أعالي الجانب الغربي، بقرب دار الرقيق التي أنشأها المنصور؛ لما كان يبتاعه من الجواري والغلمان المجلوبين. وكان أبو العتاهية أبيض اللون، أسود الشعر، نظيف الثياب، له هيئة حسنة. وقد عرف باللباقة والحصافة. وكان تلك الليلة في ملبس بسيط غير ما تعوَّد لبسه في مجلس الخليفة أو ابنه أيام كان ينظم الشعر، وكان منذ عاهد نفسه على الزهد يلبس ثياب الفقراء. ولعل بخله حفزه إلى ذلك. وكان يلبس فوق ثيابه عباءة بسيطة، ويعتم بعمامة بسيطة كأنه من عامة الناس، فالتف تلك الليلة بالعباءة وغيَّر شكل عمامته إخفاءً لحقيقة أمره؛ لأنه ذاهب في شأن يحتاج إلى التستُّر.
فمشى على شاطئ دجلة وهو يتردد بين أن يصعد في إحدى السفن التي تسير في دجلة حتى يصل إلى الجسر، وينزل من هناك ماشيًا إلى دار الرقيق، أو يجعل طريقه كله برًّا. وكان يفضل الذهاب ماشيًا فرارًا من نفقة الانتقال بالسفينة، أو على دابة من دواب الأجرة، فلما أطل على دجلة رأى بالقرب من الشاطئ شراعًا منشورًا وسفينة تخترق عباب الماء على عجل، فاستبشر وعزم على الركوب بها. وكان الليل قد أسدل ستاره وسكنت الطبيعة لبُعد ذلك المكان عن الشوارع المزدحمة في الكرخ؛ لأن أكثر الأبنية القائمة على ضفاف دجلة من القصور الشماء، والحدائق الغناء، للخليفة أو وزيره أو بعض أولاده أو أهله، فصاح أبو العتاهية بالسفينة أن تقف فلم يُجدِ صياحه نفعًا، فأعاد النداء، فأجابه ربانها بأنه لا يستطيع الوقوف، فأعاد الصياح قائلًا: «قف. ناشدتك المروءة.»
فسمع أبو العتاهية عند ذلك لغطًا، ورأى النوتية في حركة عند الشراع فأرخوه بحيث تبطئ السفينة في سيرها، ورأى حركة المجاذيف فعلم أن أهلها في عجلة لأمر ما، وليس لمجرد النزهة في مياه النهر على جاري عادة أهل بغداد. ولم تكن الليلة مقمرة تشجع على النزهة. وبرز رجل حتى وقف على حافة السفينة ونادى: «من أنت؟»
فقال أبو العتاهية: «إني غريب أمسى عليَّ المساء، وأحب الطلوع إلى الحربية، ولا أعرف الطريق.»
فلما سمع الربان قوله تحول عن حافة السفينة حتى توارى، والسفينة تتباطأ في سيرها. ولبث أبو العتاهية في انتظاره، وبعد هنيهة عاد الربان وهو يقول: «مرحبًا بك؛ تفضل.» وأدنى السفينة من الشاطئ ثم أمر أحد النوتية فألقى خشبة بينها وبين الشاطئ، مشى عليها أبو العتاهية حتى دخل السفينة، وحيَّا الربان فرد التحية وأشار إليه أن يجلس على مقعد بجانب الشراع، فجلس وأجال نظره فلم يجد هناك غير النوتية؛ وهم أربعة، يستعينون على سرعة المسير بالتجذيف. وحانت منه التفاتة إلى مؤخر السفينة فرأى على نور القبس رجلًا وامرأة عليهما ثياب أهل البادية، وقد جلسا وأحنيا رأسيهما من النعاس، وبجانب الرجل نعال غليظة من نعال أهل الحجاز.
ورأى بين أيديهما غلامين قد توسدا ظهر السفينة، وجعلا رأسيهما على حجر المرأة، كل واحد من ناحية، وعليهما ثياب أهل البادية، وقد غطتهما المرأة بمطرف من الخز الموشَّى، فاستغرب ذلك ودفعه حب الاطلاع إلى معرفة خبرهما.
وكانت السفينة تخترق النهر والجو هادئ لا يُسمع فيه غير مسير السفينة تشق عباب الماء، وأصوات المجاذيف تنقر سطحه بانتظام. وما لبثوا بعد برهة أن أطلُّوا على أبنية بغداد وقد أُنيرت القصور على الضفتين، ثم سمعوا أصوات المؤذنين يدعون الناس إلى صلاة العشاء، فوجد أبو العتاهية بذلك حيلةً لمخاطبة الربان فقال: «أليس عندك طنفسة أُصلي عليها العِشاء؟»
فنهض الربان وجاءه بطنفسة فرشها على ظهر السفينة بالقرب من أولئك الغرباء، فنهض أبو العتاهية وأخذ في الصلاة وعيناه لا تتحولان عن الغريبين والغلامين وهو يتفرس الوجوه، فعلم أن الرجل والمرأة من أهل الحجاز، وهما كهلان، وخشونة البادية ظاهرة في ملبسهما. أما الغلامان فكان نور القبس قد وقع على وجهيهما، فعرف أبو العتاهية من خلال خفقان نور القبس أنهما أخوان؛ أحدهما في الخامسة من العمر، والآخر في نحو الرابعة، وفي وجهيهما جمال أهل المدن بلون أبيض مُشرب بحمرة، ولهما عيون طويلة الأهداب كأنها مكحولة بالأثمد، وقد زادهما دفء الغطاء إشراقًا وحُمرة وهما مستغرقان في النوم، ورآهما أصغر سنًّا من أن يكونا ابنَيْ هذين البدويين، فازداد رغبة في معرفة الحقيقة عنهما. وما إن فرغ من الصلاة حتى اقترب من الربان وسأله قائلًا: «لم أعرف رفاقنا الليلة، فهل هم غرباء مثلي؟»
فقال: «نعم.»
قال أبو العتاهية: «من أين أتوا؟»
فقال الربان: «مالك ولهذا السؤال؟»
قال: «لأن الغرباء أنسباء.»
فضحك الربان ضحكة مصطنعة وقال: «لا يهمك الاطلاع على أخبار الناس، دع عنك الفضول؛ فإني لم أسألك من أين أتيت، أو إلى أين أنت ذاهب، ولا ما هو اسمك ونسبك.» قال ذلك وتركه وتحول إلى حافة السفينة. وكانت السفينة قد تجاوزت الجسر السفلي. وكان مفتوحًا، وفتحه سهل؛ لأنه مؤلَّف من السفن السابحة متصلة بعضها ببعض بالسلاسل، وفوقها ألواح من الخشب لمرور الناس والدواب. وبعد أن تجاوزت السفينة الجسر أطلَّتْ على مدينة المنصور، واقتربت من الجسر الأوسط. ويندر أن يكون مفتوحًا، فقال الربان: «قد اقتربنا من الجسر، وهذا آخر شوطنا؛ فتفضَّل وانزل.»
وكان أبو العتاهية قد استاء من خشونة الربان، وهمَّ بأن يُطلعه على حقيقة حاله؛ لأنه لو عرفه لاحترمه؛ وذلك لما كان للشعراء من النفوذ في دولة الخلفاء، ولكنه فضَّل الكتمان. ولما سمعه يناديه وقف وأسرع إلى حافة السفينة، فإذا هو بقرب قصر الخلد؛ حيث يقيم الرشيد، وقد أُضِيء القصر بالشموع الملونة، وانبعثت الأنوار من النوافذ على أزهار الحديقة، وتضوَّعت الروائح الزكية، فاختلطت رائحة البخور والطيب بشذا الأزهار والرياحين. وتذكر أبو العتاهية المهمة التي هو ذاهب إليها وما يتوقعه من وراء نجاحها من الكسب المالي، فأغضَى عما كان يبعثه عليه حب الاستطلاع وقال للربَّان وهو يضحك: «هل ننزل في قصر أمير المؤمنين؟»
قال: «سنُنزلك وراءه بالقرب من الجسر.»
قال: «حسنًا.» وعاد إلى التفكير في تدبير ما ينبغي أن يقوله لفنحاس؛ صاحب دار الرقيق، إذا لقيه، وأخذ يعدُّ نفسه للمسير على قدميه المسافة الباقية — وما هي بقليلة — وودَّ لو أن هذا الجسر مفتوح مثل الجسر السفلي ليُتمَّ سفره بالسفينة، فأصلح عمامته، وشدَّ منطقته فوق القباء، وتزمل بالعباءة، حتى إذا دنت السفينة من الشاطئ الغربي ألقوا له خشبة يعبر عليها، وهو يثني على الربَّان لحُسن وفادته، وذهنه لا يزال عالقًا بما شاهده هناك. ولكن سروره بما كان يأمل فيه من الكسب أنساه كل شيء.