مقتل الهادي
فتنهد جعفر وحوَّل بصره إلى مقدم السفينة يتشاغل بما يراه من سبر النوتية قاع النهر بالعمد ليسيروا بالسفينة إلى مأمن، فلما رأى إسماعيل سكوته وتشاغله، أدرك ما يضمره وقال: «يخيل إليَّ أنك لا تزال على سوء نيتك في هؤلاء، وكأنك لا تزال طامعًا؟»
فلم يتمالك جعفر عن قطع الحديث قائلًا: «لا تقل طامعًا يا سيدي، فإني غير طامع وإنما أنا أطلب حقي.»
قال: «وأي حق تعني؟»
قال: «أعني.» وخفَّض صوته وهو يلتفت حوله مخافة أن يسمعه أحد ثم قال: «أعني أن هؤلاء الموالي سلبوني حقي بعد أن قتلوا والدي وأخرجوا الخلافة من يدي، وأنت أعلم أني أولى الناس بها.»
فتظاهر إسماعيل بالاستخفاف وقال: «لا أجادلك فيما تدعيه من الحق، ولكنني لا أرى علاقة بين ما تطلبه وما تفعله. ما هي العلاقة بين طلبك الخلافة وجلوسك هذا المجلس؟ وقد طالما دافعتني بمثل هذا القول. فأخبرني ما هو حقك وممن تطلبه؟»
فقال جعفر وقد تجلى الغضب بين حاجبيه: «أتسمح لي أن أصرَّح بما في نفسي. إني أتهيب ذلك بين يديك.»
قال إسماعيل: «قل. لا تخف؛ فإني إذا رأيت طلبك صوابًا أعنتك عليه، وإلا فإني أنصحك وأكتم أمرك.»
قال: «أنت تعرف والدي الهادي — رحمه الله — وتعلم أنه تولى الخلافة بوصية جدي المهدي، وأن والدي أوصى لي بالخلافة من بعده.»
قال إسماعيل: «أظنك تطمع في تنفيذ وصيته، وأنت تعلم أنه ارتكب بهذه الوصية شططًا؛ لأن المهدي — رحمه الله — إنما أوصى بالخلافة لأبيك، ثم لعمك الرشيد بعده، فلما تمَّ له الأمر أراد إخراج الخلافة من الرشيد ومبايعتك بها، فهل تعدُّ هذا حقًّا؟»
قال: «لا أنكر عليك أنه خرج بذلك عن وصية المهدي، ولكنهم راجعوه فرجع وأعاد البيعة إلى الرشيد على أن تكون لي الخلافة بعده. ألا تذكر ذلك؟»
قال: «بلى، أذكره.»
قال: «فما بالهم فتكوا على أثر ذلك بوالدي وقتلوه ولم يجلس على عرش الخلافة إلا سنة وبعض السنة؟»
فقال وهو يظهر الدهشة: «قتلوه؟ ومَن قتله؟ لا أعلم أنه مات مقتولًا، وإنما توفي من مرض. ولو زعمت أن أمه الخيزران ساعدت على قتله لرأيت مسوغًا لهذا الزعم، وأما غيره فلا.»
فتضاحك جعفر وقال: «لا يبعد أن تكون الخيزران قد ارتكبت هذا الجرم، كما يقولون؛ لأن والدي أغضبها حين كفَّ يدها عن التدخل في شئون الدولة، ولكنها فعلت ذلك مدفوعة بإغراء ذلك الفارسي.» قال ذلك وصرَّ على أسنانه.
فقال إسماعيل: «أظنك تعني يحيى بن خالد؟»
قال: «إياه أعني، نعم إياه أعني. والدليل على ذلك أنه هو الذي وقف في سبيل والدي وعارضه في أمر البيعة. وكان الرشيد قد أذعن للخلع ورضي بتحويل البيعة إليَّ، ولكن يحيى هذا حرض الرشيد على رفض هذه البيعة، ولم يستقر حتى وافقه والدي على أن يُرجع البيعة إليه، على أن أكون أنا الخليفة بعده. فلما وافقه على ذلك أسرع إلى الغدر به، ولم تمض ليالٍ قليلة حتى قيل إن الهادي مات، وزعموا أن جدتي الخيزران قتلته، ولكنني أعتقد أنها إذا كانت قد فعلت ذلك فإنما فعلته بإغرائه. ألا تذكر أنه كان أول مَن عرف بالوفاة فهرول ليلًا إلى الرشيد وبشره بذلك؟ وقد عرف الرشيد فضله وألقى مقاليد الحكومة إليه، كما تعلم، ثم أفضت الأمور إلى ابنه جعفر؛ الوزير الحالي، وهو فيما تعلمه من نفوذ الكلمة حتى يصح أن يقال إنه هو الخليفة وليس الرشيد.»