البرامكة والدولة
وكان جعفر يتكلم والعرق يتصبب من جبينه وإسماعيل يصغي إلى قوله، وربما كان رأيه في هذا الأمر مثل رأيه، ولكنه لم يكن يرى أن يشجعه عليه؛ لاعتقاده أن ذلك ليس في صالح الدولة؛ إذ قد يئول الانقسام إلى فسادها، فعمد إلى الاعتراض قائلًا: «أراك سيئ الظن بالبرامكة كأنك توافق أعداءهم في الطعن على أعمالهم، وأنت تعلم أن للبرامكة فضلًا على هذه الدولة لا يضارعه فضل. وأنا هاشمي — كما تعلم — والخليفة من لحمي ودمي، يسوءني ما يسوءه، ويسرني ما يسره، ولكنني أراكم ظلمتم هؤلاء الموالي، ونسيتم آثارهم في تنظيم هذه الدولة من عهد جدهم خالد. ألم يكن خالد من أكبر أعوان أبي مسلم في نقل هذه الدولة من الأمويين إلينا، فلما قتل أبو جعفر المنصور أبا مسلم وثار الفرس والأكراد عليه كادت تخرج الدولة من يديه لو لم ينجده خالد، ويضمن له التغلب عليهم بالرأي دون الجنود؟ ناهيك بما كان من تدبير شئون الحكومة، وتنظيم دواوينها على يده ويد ابنه يحيى، وحفيديه الفضل وجعفر.
إن البرامكة — يا ولدي — هم عماد هذه الدولة وقوام أبهتها. وهذه بغداد كيفما تلفتَّ رأيت آثار تدبيرهم في معاهدها؛ فقد أقاموا فيها المكتبات، والحلقات، ومنازل الجند، ومآوي المرضى، ومجالس القضاة، وغرف الشرطة. وإن ما تراه من رواج العلم والفلسفة وتهافت أهل الذمة وغيرهم على ترجمة كتب اليونان والفرس إنما أصله ترغيب البرامكة فيه بالبذل والعطاء. أليس يحيى بن خالد أول من عني بنقل المجسطي من اليونانية إلى العربية؟ وهل تنكر أنه هو الذي سعى في جمع الكتب من الهند وغيرها؟ أليس البرامكة هم الذين استقدموا أطباء الهند لترويج صناعة الطب. إن هؤلاء الأطباء بين ظهرانينا الآن، وخاصة منكة الهندي الذي أشار يحيى على الرشيد باستقدامه لما اشتدت وطأة المرض عليه، حتى كِدْنا نيأس من حياته فعالجه وشُفي.
أليس هم الذين رغبوا الرشيد في إنشاء المارستان، وولَّوا عليه طبيبًا هنديًّا من هؤلاء، وأنشئوا مارستانًا لأنفسهم وأسندوا إدارته للطبيب الهندي ابن دهن؟ وهل خفي عليك ما للفضل بن يحيى من الأثر الجميل في استخدام الكاغد؛ فإني لن أنسى ضيق أصحاب الدواوين من استعمال الجلود والرقوق للدفاتر والأروج والسجلات، حتى أشار الفضل المذكور بالكاغد، فأنشأنا له المعامل في بغداد كما ترى. وأراني لو أردت تعداد مآثر هؤلاء البرامكة لتعبت قبل الإتيان على آخرها، وأنت تعلم عصبيتي في بني هاشم، وغيرتي على هذه الدولة، ورغبتي في سلامتها (قال ذلك وتنهَّد) فلا يعقل أن أقول ذلك عن تهوس أو غرض، وإنما أقول الحق الصراح، فلا يغرنك ما تراه من نقمة ابن الربيع وأمثاله عليهم، وطعنهم فيهم؛ فإنهم يفعلون ذلك حسدًا لعجزهم عن مجاراتهم.»
وكان جعفر في أثناء تلك الخطبة مُطرقًا ينظر في حركة الماء المُلامس لجدران السفينة وهي سائرة الهوينى، وكأنه استغرق في هواجسه فلم يفهم كل ما سمعه، فلما فرغ إسماعيل من كلامه انتبه جعفر وقد ضاقت نفسه من سماع مدح البرامكة وهو يكرههم كرهًا شديدًا، ولا يرى سبيلًا لدفع أدلة إسماعيل، فلم يرَ خيرًا من استئناف الكلام عنهم فقال: «هبْ أنهم ملائكة نزلوا من السماء، ألم يقتلوا والدي ويُخرجوا الحكم من يدي؟»
قال: «إن دعواك منقوضة أو هي غير ثابتة على الأقل؛ إذ لم يقل أحد إن يحيى بن خالد قتل والدك، أو سعى في قتله لإخراج الأمر من يدك.»
قال: «أما أنه قتله فلا ريب عندي فيه، وإن خفي على الكثيرين، وأما أنه فعل ذلك لإخراج الحكم من يدي، فيدلك عليه أنه بعد أن وافقه والدي على أن يبايع الرشيد قبلي عجل فقتله قبل أن يتمكن من البيعة لي، ولمَّا تمَّ الأمر للرشيد، بدلًا من أن يبايع لي بايع لابنه هذا المتهتك، وأظنه كان عازمًا على أن يجعل الخلافة لي بعد الأمين، فأغراه وزيره البرمكي على مبايعة ابنه الآخر المأمون، فأصبحت صفر اليدين، ووالله لو …» وتململ.
فابتسم إسماعيل وقطع كلامه قائلًا: «إني لأعجب من تبايُن أعمالك وتناقُض أقوالك؛ كيف تكون ناقمًا على هذا الغلام وتجالسه في مجلس المدام، وتعاشره في أحوال الغرام؟ ثم إني لا أفهم معنًى لهذه النقمة، ولا كيف يمكن لك أن تنال بغيتك وهذا الرشيد على كرسي الخلافة وحوله الجند والأعوان، وبنو هاشم ينصرونه ويؤيدونه، وقد بايع بالخلافة لولديه الواحد بعد الآخر، وهم سيتولون الخلافة بعده؛ فلا أرى لنقمتك محلًّا، ولا إلى غرضك سبيلًا؛ فأقلع عما يجول في خاطرك من الأفكار الصبيانية وأنت تعلم غضب الرشيد إذا اطَّلع على شيء مما في نفسك؛ فإن لحمك يتناثر نتفًا بين السماء والأرض، ولكني كتمتُ أمرك وأكتمه لأني أرجو صلاحك ورجوعك، وأما إذا تحققت من بقائك على عزمك؛ فحرصي على سلامة الدولة يبعثني على التفريط فيك، إلا إذا رأيت في أعمالك سدادًا؛ فأخبرني كيف ترجو الوصول إلى الخلافة؟»