العالية بنت الرشيد
فأعجب إسماعيل بتفكير جعفر، ولعله رأى في قوله صوابًا، ولكنه لم يكن يؤمن بفائدة مثل هذا التدبير للدولة، فأخذ يعارضه قائلًا: «أما ثروة البرامكة فلا أنكر عليك ضخامتها، ولكن ما يدخل من ريعها إنما ينفقه البرامكة على الناس بسخاء في الإحسان أو الرواتب. فمن منا لا يستولي على راتب أو هدية من جعفر أو غيره؟ وقد علمت عن ثقة من صاحب بيت مالهم أن ١٢٠٠٠٠٠٠ دينار من هذه الجباية؛ أي أكثر من نصفها، يُجعَل بدرًا عليها صكوك مختومة، وعلى كل بدرة اسم صاحبها من أهل الدولة أو غيرهم على سبيل الهدية؛ فالمال راجع إلى الدولة وأهلها، ولا أظن الخليفة يفعل أكثر من ذلك، ثم إن مقتل هذا الرجل خطر على الخلافة، حتى الرشيد نفسه لو أراد قتله لم يستطع إليه سبيلًا؛ لأن أكثر رجال الدولة من مريديه، وقد غمرهم بالعطاء والمعروف، فأقلع عن هذا وذاك، وأصغِ لنصحي؛ فإني ضنين بشبابك، حريص على حياتك. والرأي عندي أن تتقرب إلى الرشيد؛ فذلك خير لك وأبقى، وأنا أضمن ما تبتغيه من القربى، بل أنا أسعى في ذلك بنفسي.»
فلما رأى إصراره على مقاومته، تظاهر بالقبول مخافة أن يُفشي أمره إذا أغضبه فقال: «وما هي وسائل القربى؟»
فآنس إسماعيل قرب رضائه، فسرَّ لزوال تلك العقبة من طريق الدولة فقال: «ما هو أقصى ما يطمع فيه الناس للتقرب من الخلفاء أكثر من أن يتزوجوا بناتهم؟ إنني أعدك أن الرشيد يزوجك ابنته العالية؛ فما قولك؟»
فرأى جعفر أن ذلك الزواج إذا تم لا يقف في سبيل بغيته، بل هو قد يساعده على تنفيذها، فأظهر الاستحسان ولكنه قال: «إنها قربى عزيزة، ولكن الرشيد قد يشاور وزيره فلا يقبل!» وضحك.
فقال: «لا تكن سيئ الظن بالرشيد إلى هذا الحدِّ؛ فإنه أقوى عزيمة وأشد بأسًا مما تظن، وأنا أضمن لك ذلك في كل حال. إنما أرغب أن ترجع إلى البصرة ريثما أوافيك بالخبر.»
قال جعفر: «سأذهب حسب أمرك، ولكنني لا أرى ضررًا من بقائي هنا حتى تنقضي هذه المهمة.»
قال: «حسنًا. اذهب أنت الآن إلى قصري، وأنا أمضي غدًا إلى الرشيد في هذا الشأن.»
فقال: «ولكن ألا تأذن لي أن أعود إلى الأمين فأودعه وآتي ببعض الأمتعة التي تركتها عنده، فأبيت الليلة هناك؟»
قال إسماعيل: «اذهب في حراسة الله.»
وكانت الشمس قد دنت من المغيب، فطلب جعفر إلى إسماعيل أن يأذن بإنزاله من السفينة ليركب زورقًا يعود به إلى قصر الأمين.
فأمر إسماعيل بإيقاف الحراقة بجانب الشاطئ، ورأى جعفر هناك زورقًا ركب فيه حتى عاد إلى قصر الأمين وقد أقبل العشاء وأظلم الليل، فوقف عند المصطبة، فنبحت الكلاب — وكانت كبيرة هائلة — فخاف أذاها ولبث واقفًا عن بُعدٍ يتردد بين النزول من هناك أو الدخول من الباب الآخر وراء البستان، ولاحظ في أثناء وقوفه أن المصطبة خالية من الناس؛ إذ لم يسمع فيها غناء ولا رأى نورًا، فعزم على المسير في الزورق إلى الباب الآخر، والطريق إليه بعيد.
وبينما هو يفكر في ذلك إذ رأى نورًا يظهر في المصطبة ويدنو من السور، ثم سمع لغطًا خفيفًا، وإذا بيد امتدت فوق الحائط والمصباح في قبضتها، فلما رأت الكلابُ المصباح سكتت، ثم أطل رجل عرف جعفر من مظهره أنه قيِّم الغلمان فناداه، فقال الرجل: «سيدي جعفر؟»
قال: «نعم. هل أدخُل من هنا؟»
فقال بصوت ضعيف: «تمهَّل قليلًا ريثما أعود إليك!» وتركه وعاد بمصباحه وجعفر واقف في الزورق ينتظر رجوعه، ويفكر في سبب هذا التستُّر. وبعد قليل ظهر النور وسمع صوت القيِّم يقول: «تفضل على مهل.»
فاستغرب جعفر هذا التخوُّف وصعد من الزورق ومشى حتى دنا من الباب السري، فقابله الرجل بالمصباح وقال: «تفضَّل يا مولاي أدخل.»
فدخل والرجل يمشي بين يديه بالمصباح، فمرَّا بالمصطبة فرأى آثار الشراب والطعام لا تزال فيها كأن الجلوس غادروها من عهد غير بعيد، فتحيَّر في أمره وحدثته نفسه أن يستفهم عن سبب ذلك التغيير، ولكنه عدل عن ذلك. وظل الرجل يسير أمامه حتى بلغ القاعة الوسطى في دار النساء، فرأى المنائر في زواياها وجدرانها قد أُضيئت شموعها، وليس هناك أحد، فلم يتمالك أن سأل الرجل: «أين هو مولانا ولي العهد؟»
قال: «إننا ذاهبان إليه يا سيدي، تعال معي ولا تضجر.»