خبر جديد
فمشى جعفر في أثر القيِّم وهو يدخل من قاعة إلى قاعة، وكلها مضيئة بالشموع على المنائر، وفيها الرياش الفاخر يختلف في كل قاعة لونًا وشكلًا عمَّا هو في القاعات الأُخَر، حتى وصل إلى باب مقفل وقف عنده القيِّم ونقر عليه نقرًا خفيفًا، فسمع جعفر حركة ثم فتح الباب وأطل منه الفضل بن الربيع وهو لا يزال بثوب المنادمة كما فارقه، وأمسك بيده وأدخله وهو صامت، فدخل جعفر إلى غرفة لم يجد فيها إلا الأمين جالسًا على طنفسة، وهو أيضًا بملابس المنادمة، وبجانبه امرأة قد تزملت بعباءة ووجهها مكشوف، فعرف أنها جارية، ورأى على وجهها آثار الاهتمام، فحيَّاهم ووقف، فأمره الأمين بالجلوس قائلًا: «اجلس واسمع هذا الحديث الغريب.»
فجلس وجلس الفضل إلى جانبه، فقال الأمين: «قد جاءتنا هذه الجارية بخبر يهمك ويهمنا. إنها من جوارينا وقد كلَّفناها بالتجسس لنا على ذلك الوزير، فاسمع ما جاءتنا به عن خيانته.»
فاستبشر جعفر بما سمعه، وتطاول بعنقه نحو الجارية، ولبث صامتًا، فإذا هي توجِّه كلامها للأمين وتقول: «أنت تعلم يا مولاي أن يحيى بن عبد الله بن الحسن العلوي كان قد خرج على الدولة في الديلم، واجتمع حوله جماعة الشيعة، وكلهم ناقم على بني العباس، يريدون إخراج الخلافة من أيديهم على ما يزعمون. وبعث أمير المؤمنين الرشيد لحربهم غير واحد، وهم يزدادون تمردًا حتى أنفذ إليهم الفضل بن يحيى؛ أخا الوزير جعفر، فلما وصل بجنده إلى الطالقان وعلم أن الرجل متحصن في جبال الديلم، احتال في إنزاله واستقدامه ووعده خيرًا، فوثق يحيى بمواعيده؛ لأنه من الشيعة مثله، فجاءه فتلطَّف في معاملته وطلب إليه أن يصحبه إلى بغداد ويسلِّم نفسه لأمير المؤمنين فأبَى، فاستحثَّه على الذهاب على أن يشترط ما أراده، ويكتب له الرشيد ذلك بخطه. فتمَّ الوفاق بينهما على عهد أمانٍ كتبه الفضل وبعثه إلى مولانا الرشيد، فوقَّعه للرجل — كما تعلمون — حتى أتى إلى بغداد فاستقبله أمير المؤمنين أحسن استقبال، وأجرى له أرزاقًا سنية، ثم بلغ مولانا الرشيد من بعض العارفين أن الرجل لا يزال عازمًا على الخروج.»
فقطع الأمين كلامها وقال وهو يهز رأسه: «نعم، إنه ما يزال على سوء قصده، وهل تصفو قلوب أولئك العلويين لنا بعد أن بلغ العداء بيننا وبينهم إلى هذا الحد؟ ولا قلوبنا تصفو لهم.»
فقال جعفر: «ومن أدرانا أن الفضل لم يتواطأ مع صاحبه يحيى العلوي سرًّا على أمور تقضي بالتريُّث حينًا إلى أن يخرجوا علينا جميعًا؟»
فقال الفضل: «وهذا الذي فكر فيه أمير المؤمنين على ما يظهر؛ لأنه بعد أن أعطاه العهد عاد فأفسده كما ستسمعون.»
فأتمت الجارية كلامها وهي تنظر إلى الأمين: «نعم. إن مولانا الرشيد أفسد ذلك العهد — لا أدري لأي سبب — ولكنني علمت أن آل الزبير وشَوْا بذلك العلوي، فأمر أمير المؤمنين بالقبض عليه وحبسه. وأنتم تعتقدون الآن أنه في الحبس.»
فاستغرب الأمين قولها وقال: «لا بد من أن يكون هناك.»
قالت وهي تبتسم: «كلا يا مولاي. إنه الآن في طريقه إلى أهله.»
فصاح الأمين: «ماذا تقولين؟ ومن أطلقه؟»
قالت: «أطلقه الوزير جعفر.»
فقال: «وكيف ذلك؟ ما هذه الجرأة؟»
قالت: «دعني أقص عليك ما رأيته رأي العين في غروب هذا النهار.»
فتطاول لسماع حديثها فقالت: «كان الوزير جالسًا عصر هذا النهار في غرفته الخاصة من قصره، والخدم والجواري يشتغلون بشئونهم إلا أنا؛ فقد كنت حريصة على مراقبة من يدخل أو يخرج، فرأيت يحيى بن عبد الله العلوي المذكور داخلًا وحده دخول المتلصصين، وليس معه أحد من الحاشية، فعلمت أنه جاء خلسة، فراقبت طريقه فرأيته قد دخل على الوزير، وجلسا في الغرفة وليس معهما ثالث، فعلمت أنهما لأمرٍ ما اختليا هناك، فدُرت من ناحية أخرى إلى غرفة، بينها وبين هذه باب مقفل، يمكن مشاهدة الذين بداخلها من بعض ثقوبه، فوقفت هناك فرأيت العلوي لما دخل وقف له الوزير، ورحب به، وأجلسه إلى جانبه، وبشَّ له، وأمر الخادم أن يقفل الباب عليهما. فلما استقر بهما الجلوس سأله الوزير عن حاله في الحبس، فبكى وشكا إلى أن قال: «اتق الله يا جعفر في أمري، ودبِّر طريقة لإطلاق سراحي، فوالله ما أحدثت حدثًا يوجب الحبس.» فما فرغ العلوي من قوله حتى رأيت الوزير يلاطفه ويخفف عنه بكلام لم أفهمه، ولكنني فهمت أخيرًا قوله: «اذهب حيث شئت من البلاد.»
فلما قالت الجارية ذلك بدتِ الدهشة على وجه الأمين وقال: «قبَّحه الله على هذه الجرأة، بل على هذه الخيانة. كيف يطلق أسيرًا أمر والدي بحبسه؟ وبعد ذلك ماذا فعل؟»
قالت: «فأجابه الرجل: كيف أذهب وأنا أخاف أن يُقبض عليَّ فأردَّ.»
قال الفضل: «صدق والله.»
فقال ابن الهادي: «وكيف أطلقه إذن؟»
قالت: «إنه طمأنه وبعث معه رجالًا من حاشيته ليُوصلوه إلى مأمنه. وقد رأيته خارجًا وهو يثني على الوزير، والوزير يشجعه ويطمئنه.»
فصاح الأمين: «قد نجا العلوي إذن!»
قالت: «نعم يا مولاي. فعزمت منذ تلك الساعة أن أسرع إليك لأقصَّ هذا الخبر عليك، فلم أستطع الخروج قبل الآن.»
فنظر الأمين إلى ابن الهادي كأنه يستطلع رأيه في ذلك، فأومأ إليه أن يصرف الجارية، فأدرك أنه لا يريد الكلام في حضورها، فأشار إليها أن تمضي إلى قيِّمة الجواري وهي تقوم بمكافأتها، فنهضت وقبَّلت ثوب الأمين وخرجت.
فلما خلا جعفر بالأمين والفضل، أخذ في التهويل فيما سمعوه ليغريهما على الفتك بالبرمكي، فقال: «إن الصبر على هذا التطاول ضعف.» ولبث ينتظر ما يبدو من الأمين، فإذا هو يضحك ويقهقه، فاستغرب ضحكه فقال: «وما الذي يضحك مولاي؟ أظنه يرى أن شر البلية ما يضحك!»
قال: «كلا، ولكنني أضحك لما أتوقعه من استغرابك إذا سمعت ما قصَّه عليَّ الفضل قبل مجيئك.» والتفت إلى الفضل كأنه يأمره بأن يروي الخبر.
فالتفت جعفر إلى الفضل فرآه يقول للأمين: «أظن مولاي يعني خبر مولاتي العباسة؟»
فأومأ برأسه أن: «نعم.»
فازداد جعفر شوقًا لسماع الخبر، فأخذ الفضل يقص عليه ما جرى له في فجر ذلك اليوم في دار الرقيق، وما قصَّه عليه أبو العتاهية من تلصصه، وما رآه وما سمعه، وجعفر مصغٍ وقد تولته الدهشة. فلما فرغ الفضل من حديثه لم يتمالك جعفر أن وقف وصاح: «يا للخيانة! كيف تصبرون على ذلك؟ لماذا لا يعلم أمير المؤمنين بهذه الخيانة؟»
فقال الفضل: «أما خبر العباسة فلا يجرؤ أحد على نقله إلى الرشيد ما لم يعرض حياته لخطر؛ لما نتوقعه من غضبه، والعياذ بالله.»
فقال جعفر: «كيف نطَّلع على هذه الخيانة ونخفيها؟ إن إخفاءها خيانة أخرى.»
قال الفضل: «لا بد من الاحتيال في إبلاغه ذلك على يد مغنية بالإشارة أو التلميح أو التعريض. أما خبر فرار العلوي فيسهل نقله.»
فاقتنع جعفر بذلك لعلمه أن خبر العلوي وحده يكفي للفتك بجعفر. وهذا ما يتمناه ويرضيه. فأخذ يشجعه على الإسراع في نقله، ثم التفت إلى الفضل وكأنه قد فطن لأمر هام وقال: «وأين ذهب الطفلان ابنا العباسة؟ أرجو ألا يكون قد فاتكم إدراكهما، والقبض عليهما، والاحتفاظ بهما لحين الحاجة؛ لأن نقل الخبر إذا لم يكن مؤيدًا بوجودهما فيا لشقاء ناقله!»
فقال الفضل: «لست ساذجًا إلى هذا الحد. إنني حالما سمعت القصة، أنفذت جماعة من رجالي — وأبا العتاهية معهم — للقبض على الغلامين، ولم يرجعوا إليَّ بالخبر بعدُ، على أنني لستُ أخشى أن يعجزوا عن القبض عليهما.»
وبينما هم فيما تقدم من الحديث إذ سمعوا وقع أقدام في الغرفة المجاورة، ثم قُرع الباب قرعًا تعوَّد الأمين سماعه من غلامه إذا جاء لمسارَّته في شأن، فنهض الفضل لفتح الباب، فأطل الغلام وظل واقفًا بالباب، ففهم الأمين أنه يريد أن يلقي إليه بسرٍّ، وفهم جعفر والفضل ذلك.
قال الغلام: «جاء ليدعوك إلى مولاتنا السيدة زبيدة؛ لأنها تحب أن تراك في صباح الغد لأمر هام.»
فقال: «قل له إني مصبح إليها باكرًا إن شاء الله.»
فخرج الغلام. وكان الليل قد أسدَل نقابه، فذهب كلٌّ إلى فراشه.