زبيدة بنت جعفر
وهي أول من اتخذ الآلة من الذهب والفضة المكللة بالجواهر، وصنع لها الوشي الرفيع، حتى بلغ ثمن الثوب من الوشي الذي اتخذ لها ٥٠٠٠٠ دينار. وهي أول من اتخذ الشاكرية من الخدم والجواري، وأول من اصطنع القباب من الفضة والأبنوس والصندل، وكلاليبها من الذهب والفضة ملبَّسة بالوشي والسمور والديباج، وأنواع الحرير من الأحمر والأصفر والأخضر والأزرق.
وكان لها قصر في بغداد على شاطئ دجلة الغربي يسمى قصر زبيدة، ويلقب «دار القرار»، يقع جنوبي قصر الخلد شرقي مدينة المنصور، وحوله الحدائق والبساتين مما لم يكن له شبيه في تلك الحضارة الزاهرة.
وكانت زبيدة شديدة العصبية لبني هاشم، وفي صدرها حقد على البرامكة، وخاصة جعفر بن يحيى الوزير؛ لأنه كان يحطُّ من قدر ابنها الأمين، ويرفع من شأن أخيه المأمون، مع أن أمه جارية. وآخر ما زاد من نقمتها عليه أنه حمل الرشيد على أن يبايع للمأمون بولاية العهد مع ابنها الأمين، وكانت تحب أن تكون البيعة له وحده. وزد على ذلك أن الرشيد سار سنة ١٨٦ﻫ إلى الكعبة حاجًّا، ومعه أبناؤه ووزراؤه وقواده وقضاته، وفي جملتهم ابناه الأمين والمأمون؛ ليعهد لهما بولاية العهد، وجعفر البرمكي؛ ليَشهد العقد، فكتبوا الكتابين وعلقوهما في الكعبة، وحلف كل منهما على الثبات — وكانت زبيدة حاضرة — فلما حلف الأمين وأراد الخروج من الكعبة، ردَّه جعفر وقال له: «فإن غدرت بأخيك خذلك الله.» وطلب منه أن يحلف على ذلك ثلاث مرات، ففعل. فحقدت زبيدة عليه، وما برحت منذ ذلك الحين تترقب الفرص للإيقاع به. وربما كانت أكثر أعداء البرامكة حقدًا عليهم، لا تدخر وسعًا في استطلاع أخبارهم؛ لعلها تجد فرصة تتمكن بها منهم. وكانت تعلم أن جعفر يتردد على العباسة، ولكنها لم تكن مُطَّلعة على خبر الطفلين، ولو علمت ما أحجمت عن كشف أمرهما لزوجها؛ لأنها لم تكن تتهيب منه لما تعلمه من منزلتها عنده.
فلما كان صباح ذلك اليوم وحدث ما حدث من الغوغاء عند دار الرقيق، اطلع على خبر الطفلين أحد جواسيسها عند العباسة، فنقل الخبر إليها، فرأت أن تغتنم أول فرصة لاطلاع الرشيد عليه، ولكنها أحبت أن تفاوض ابنها الأمين في ذلك، فأرسلت في طلبه، كما تقدم.
وكانت زبيدة تنتظر مجيئه، وقد استبطأته مع علمها بطول المسافة بين قصرها وقصره، ولكن مدة الانتظار تطول على المُنتظِر وإن قصرت. وكانت قد أعدَّت له كل أسباب الراحة والأنس والترحاب؛ لشدة تعلقها به؛ لأنه وحيدها، وقد تركَّزت كل آمالها فيه، فأمرت جواريها ففرشن طرقات الحديقة بالأزهار والرياحين، وأعدت له مجلسًا تضوَّعت فيه رائحة الطيب من المسك والعنبر في غرفة من قصرها سقفها قبَّة مصنوعة من خشب الصندل، ومكسوة بالوشي والسمور وأنواع الحرير بألوانه الزاهية، وقد أسدلوا من جوانب القبة على جدران المجلس ستائر من الديباج طرزوا عليها بالقصب أبياتًا من الشعر، أو حكمًا مأثورة، وعلَّقوها في مواضعها بكلاليب من الذهب، وفي أرض الغرفة بساط واحد من السجاد الثمين عليه رسوم أحد ملوك الفرس يصطاد السباع، توهم الناظر من إتقان صنعها أنه يرى منظرًا حقيقيًّا، وعلى حواشي البساط أبيات من الشعر مطرزة بالذهب. وفي وسطه صورة طاووس ألوانه منسوجة بالحرير، وخيوط الذهب والفضة، وعيناه من ياقوت؛ مما يبهر النظر.